لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

صفات المؤمنين في القرآن الكريم
 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الاولى: شباط 2010م - صفر 1431هـ
 

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

 الدرس الحادي عشر: المؤمنون المطيعون هم اصحاب اليمين

78

 الدرس الثاني عشر: الايمان شرط الانتصار

83

 الدرس الثالث عشر: قصة مؤمن آل فرعون

89

 الدرس الرابع عشر: بعض ما تكلم به مؤمن آل فرعون

97

 


  الدرس الحادي عشر: المؤمنون المطيعون هم اصحاب اليمين


يتحدث المولى سبحانه وتعالى عن أصحاب اليمين فيقول:

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ (40) سورة الواقعة


اللغة:

السدر: شجر النبق

منضود: من مادة (نضد) بمعنى التراكم

أتراباً: جمع (تراب) على وزن (ذهن) بمعنى المثل والشبيه.


التّفسير

أصحاب اليمين وهباتهم:

في هذه الآيات الحديث عن (أصحاب اليمين) تلك الجماعة السعيدة التي تستلم صفحة أعمالها في (اليد اليمنى) إشارة لنيل الفوز والنجاح في الإمتحان الربّاني.

ويشير سبحانه إلى نعم ستّ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول عزّ وجلّ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}.

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف هؤلاء، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة حيث تقول: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ}. وفي الحقيقة أنّ هذا أنسب وأليق وصف توصف به أشجار الجنّة في دائرة ألفاظنا الدنيوية، لأنّ (السدر) كما يقول أئمّة اللغة: شجر قوي معمّر يصل طوله إلى أربعين متراً أحياناً وعمره يقرب من ألفي سنة، ولها ظلّ ظليل ولطيف، والسلبية الموجودة في هذا الشجر أنّه ذو شوك إلاّ أنّ وصفه بـ (مخضود) من مادّة (خضد) ـ على وزن (مجد) ـ بمعنى (إزالة الشوك) تنهي آثار هذه السلبية في شجر سدر الجنّة.

وجاء في حديث: كان أصحاب رسول الله (ص) يقولون: إنّ الله ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً، فقال: يارسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها؟

فقال رسول الله (ص): «وما هي» قال: السدر، فإنّ لها شوكاً.

قال رسول الله (ص): «أليس يقول الله: في سدر مخضود، يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة، إنّها تنبت ثمراً يفتق الثمر منها عن إثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».(43)

 

ثمّ يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ}.

«الطلح»: شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنّها شجرة الموز التي تتميّز بأوراق عريضة جدّاً وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

وممكن أن يشير هذا التعبير إلى تراكم الأوراق أو تراكم الفاكهة أو كليهما، حتّى أنّ البعض قال: إنّ هذه الأشجار مليئة بالفاكهة إلى حدّ أنّها تغطّي سيقان وأوراق الأشجار.

وقال بعض المفسّرين: بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر صغيرة جدّاً، وأوراق شجر الموز كبيرة جدّاً، فإنّ ذكر هاتين الشجرتين إشارة جميلة إلى جميع أشجار الجنّة التي تكون صفاتها بين صفات هاتين الشجرتين.(44)

ثمّ يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ}.

فسّر البعض هذا (الظلّ الواسع) بحالة شبيهة للظلّ الذي يكون بين الطلوعين من حيث إنتشاره في كلّ مكان، وقد نقل حديث للرسول (ص) بهذا المعنى في روضة الكافي.(45) والمقصود هنا أن لا حَرَّ في الجنّة، وأنّ أهلها في ظلال لطيفة واسعة تلطّف الروح.

وينتقل الحديث إلى مياه الجنّة حيث يقول سبحانه: {وَمَاء مَّسْكُوبٍ}.

«مسكوب» من مادّة (سكب) على وزن «حرب» وتعني في الأصل الصبّ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلاّل فإنّه بذلك يصوّر لنا مشهداً رائعاً حيث إنّ خرير المياه ينعش الروح. ويبهر العيون، وهذه هي إحدى الهبات التي منحها الله لأهل الجنّة، ومن الطبيعي أنّ هذه الجنّة المليئة بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ}.

نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور، أو يصعب قطفها بلحاظ الأشواك، أو العلو مثل النخيل، أو مانع ذاتي في نفس الإنسان، أو أنّ المضيف الأصلي الذي هو الله والملائكة الموكّلين بخدمة أهل الجنّة يبخلون عليهم.. كلاّ، لا يوجد شيء من هذا القبيل، فالمتقضي موجود بشكل كامل، والمانع بكلّ أشكاله مفقود.

ثمّ يشير سبحانه إلى نعمة اُخرى حيث يقول: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش»: جمع فراش وتعني في الأصل كلّ فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلا أو امرأة) لذا جاء في الحديث عن الرّسول (ص) أنّه قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفسّر البعض الفرش بمعناها الحقيقي وليس كناية، وإعتبرها إشارة إلى الفرش الثمينة والتي لها قيمة عظيمة في الجنّة. ولكن إذا فسّرت بهذه الصورة، فسيقطع إرتباط هذه الآية مع الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حوريات وزوجات الجنّة.

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنّة بقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء}.

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ الله سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة، ويدخلن الجنّة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنّة وخلوّها من كلّ نقص وعيب.

وإذا كان المقصود بذلك (الحوريات) فإنّ الله تعالى خلقهنّ بصورة لا يعتريهنّ فيها غبار العجز والضعف، ويمكن أن يكون التعبير بالإنشاء إشارة إلى المعنيين أيضاً.

 

ثمّ يضيف تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً}.

وإحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً، كما صرّح كثير من المفسّرين بذلك، واُشير له في الرّوايات الإسلامية أيضاً، حيث الزواج لا يغيّر وضعهنّ ويبقين أبكاراً.(46)

ويضيف في وصفهنّ بوصف آخر فيقول تعالى: {عُرُباً}.

 (عُرُباً) جمع (عروبة) على وزن (ضرورة) بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها، وعمّا تكنّه من المحبّة لزوجها، (إعراب): على وزن (إظهار) معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن {أَتْرَاباً} أي أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهنّ.

قال البعض: إنّ هذا المعنى أخذ من الترائب وهي عظام قفص الصدر، لأنّها تتشابه الواحدة مع الاُخرى.

إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهنّ، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهنّ كاملة، وبذلك تصبح الحياة أكثر سعادة وإنسجاماً، بالرغم من أنّ السعادة تحصل مع إختلاف العمر أحياناً، إلاّ أنّ الغالب ليس كذلك. كما يمكن أن يكون المقصود بالتشابه والتساوي في الصفات الجمالية والنفسية وحسن الظاهر والباطن.

ثمّ يضيف تعالى: {لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ}. وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهيّة بهم.

ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة مكمّلة لجملة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء}.

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ}.

«ثلّة»: في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثمّ اُطلقت على كلّ مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الاُمم السابقة، ومجموعة عظيمة من الاُمّة الإسلامية، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين. بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الاُمّة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الاُمم السابقة، وذلك لكثرة تلك الاُمم وكثرة أنبيائها.

وقال البعض: إنّ هاتين المجموعتين كلاهما من الاُمّة الإسلامية، قسم من أوّلهم وقسم من آخرهم، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصحّ.

 


  الدرس الثاني عشر: الايمان شرط الانتصار


يتحدث سبحانه وتعالى عن شرط الانتصار وهو الايمان والاستقامة فيقول:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) سورة الأحقاف


 اللغة:

قديم: القديم ما تقادم وجوده وفي عرف المتكلمين هو الموجود الذي لا أول لوجوده.


سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات:

إنّ هذه الآية نزلت في «أبي ذر الغفاري» الذي أسلم في مكّة، ثمّ تابعته في الإيمان قبيلته ـ بنو غفار ـ ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا فقراء، قال كفار قريش ـ وكانوا أثرياء من أهل المدن: لو كان الإسلام خيراً ما سبقنا إليه غفار الحلفاء، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.

كانت في مكّة جارية رومية يقال لها «زنيرة»، لبت دعوة النّبي (ص)إلى الإسلام، فقال زعماء قريش: لو كان ما جاء به محمّد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة.

إنّ جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكّة، فقال أشراف مكّة: لو كان الإسلام خيراً ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.

إنّ جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار، قد اعتنقوا الإسلام، فقال زعماء مكّة: أيمكن أن يكون دين محمّد خيراً ويسبقنا إليه هؤلاء؟

إنّ عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا، قال جماعة من اليهود: لو كان دين محمّد خيراً ما سبقونا إليه.(47)

ويمكن تلخيص أسباب النّزول الأربعة الأولى بالقول بأنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوداي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولاً ومعقولاً فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

والطريف أنّ نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجاً اليوم بين الأثرياء والمترفين فيما يتعلّق بالدين، حيث يقولون: إنّ الدين ينفع الفقراء والحفاة، وكلّ منهما ينفع صاحبه وينسجم معه، ونحن في مستوى أسمى منه وأعلى.

وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

أمّا سبب النّزول الخامس الذي ذكر أعلاه، والقائل بأنّ المراد هو عبد الله بن سلام وأصحابه، فمع أنّه نقل عن أكثر المفسّرين على قول الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، إلاّ أنّه يبدو بعيداً من جهتين:

الأولى: إنّ التعبير بـ (الذين كفروا) بصورة مطلقة يستعمل عادةً في مورد المشركين، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.

والأُخرى: إنّ عبد الله بن سلام لم يكن رجلاً مجهولاً أو ضعيف الشخصية بين اليهود ليقولوا فيه: إنّ الإسلام لو كان خيراً ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.


 التّفسير:

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة:

هذه الآيات في مقام تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثمّ تقريعهم وملامتهم بعد ذلك، فتشير أوّلاً إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبنيّ على أساس الكبر والغرور، فتقول: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}.

فما هؤلاء إلاّ حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلاّ القليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن ـ أعيان المجتمع وأشرافه ـ في غفلة عنه؟

لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام، فلو لا حجب الكبر والغرور الملقاة على قلوبهم ولولا أنّهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام، ولولا أنّ غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين، إذن لانجذبوا بسرعة الى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه.

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أن القصور في قابلية القرآن على الهداية.

والتعبير بـ «الإفك القديم» شبيه بتهمة أُخرى حكيت عنهم في آيات القرآن الأُخرى، إذ قالوا: (أساطير الأولين).

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته. وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك قديم؟

 

لقد أكّد القرآن في آياته مراراً على أنّه مصدق للتوراة والإنجيل، أي إنّه يتفق مع العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبيّ الإسلام (ص) وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم:

 {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} (48).

وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (17) من سورة هود: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.

والتعبير بـ (إماماً ورحمة) يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي أحياناً أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب، نتيجة الذكريات التي كانت لديهم عن أئمتهم، إلاّ أنّ ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث على الإطمئنان، فهو يقول: إنّ هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها، فحتى إذا أتاكم بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضاً، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس هؤلاء القوم؟!

ثمّ تضيف بعد ذلك: {لِّسَاناً عَرَبِياًّ} يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثمّ تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين، فتقول: {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الإستمرار والدوام، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم، ويبشر المحسنين على الدوام.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأنّ للظلم هنا معنى واسعاً يشمل كلّ إساءة ومخالفة، ومن الطبيعي أنّ الظلم إمّا بحق الآخرين أو بحق النفس.

 

والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد. كما أنّ الإستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة: «الصبر على الطاعة»، و«الصبر عن المعصية»، و«الصبر على المصيبة».

وبناءً على هذا، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (30) من سورة فصلت حيث تقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.

 

إنّ هذه الآية تضيف شيئين:

الأوّل: أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني: أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضاً في آية سورة فصلت، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال، فإنّ الآيتين تبحثان مطلباً واحداً، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلاً من الأُخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين (ع). وذلك أنّ إدامة خط أمير المؤمنين (ع) في جوانب العلم والعمل، والعدالة والتقوى، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة، أمر لا يمكن تحققه بدون الإستقامة، وبناءً على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث، لا أنّ معناها منحصر به، بحيث لا تشمل الإستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها، فتقول: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر، كما استفاد ذلك البعض، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والإستقامة فقط، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة، إلاّ أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجاناً، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدى، ويشير من جهة أُخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

 


  الدرس الثالث عشر: قصة مؤمن آل فرعون


يتحدث سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون بقوله:

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) سورة غافر


 اللغة:

مسرف كذّاب: مسرف على نفسه متجاوز عن الحد في المعصية كذاب على ربه.

ظاهرين: عالين في الأرض غالبين عليها قاهرين لأهلها.

اهديكم: ارشدكم


التّفسير:

أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!

مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى (ع) وفرعون، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّماتكتم عليه واعتبر نفسه.

من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفاً بحماية موسى (ع) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.

يقول تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}.

أتقتلوه في حين أنّه: {وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}.

هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى، وإله موسى... هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟

فكروا جيداً، لا تقوموا بعمل عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم.

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}.

إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب.

 

ثم تضيف الآيات: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.

فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.

والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله، وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى (ع) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.

و بالنسبة للتعبير الآنف الذكر (و إن يك كاذباً... ) فقد طرح المفسّرون سؤالين:

الأوّل: إذا كان موسى (ع) كاذباً، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه وحسب، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.

الثّاني: أما لو كان صادقاً، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟

بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟

وبالنسبة للسؤال الثّاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى (ع) من التهديد بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.

وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى (ع).

 

ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:

أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى (ع) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.

ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة، ويظهر أنّها أدلة معتبرة، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً.

والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا}.

ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (ع)، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور.

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثمّ إنني: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

و هذه هو حال كافة الطواغيت والجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا... وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.


فوائد

أوّلا: من هو مؤمن آل فرعون؟

نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى (ع)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه (ع).

لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكياً ولبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى (ع) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.

البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.

والبعض قال: إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل».(49)

فيما قال البعض الآخر: إنّه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية.(50)

 وينقل عن ابن عباس أنّه قال: إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى (ع)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}.(51)

لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسى (ع) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.

والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضاً نداء «يا قوم».

ولكن يبقى دوره مؤثراً في تأريخ موسى (ع) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.


ثانياً: التقية أداة مؤثّرة في الصراع

 (التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض، بل غالباً ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين والجبارين والطغاة، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلاّ عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.

وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو، لا تتمّ إلاّ عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.

لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسى (ع)، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو، ويحصل على المعلومات والأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته، ويخبر بها أصحابه وقد تقضي الضرورة النفوذ في ذهينة العدو أيضاً وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما أستطاع إلى ذلك سبيلا.

الآن نسأل: هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسى (ع) لو لم يستخدم أُسلوب التقية؟

لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قوله (ع): (التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل».(52)

إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.

إنّ الرّسول الأعظم (ص) إلتزم بنفسه هذا المبدأ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات، وحينما ازداد أتباعه وتشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدع (ص) بأمره تعالى أمام القوم.

ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيم (ع) الذي استخدم أُسلوب التقية، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام، وإلاّ فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبداً.

كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول (ص) من أسلوب التقية في حماية رسول الله (ص) ودعوته الناشئة، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلاّ في فترات ومواقف خاصّة، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول الله (ص) حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.

من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأُسلوب، تختص بالشيعة دون غيرهم، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء. 


ثالثاً: من هم الصدّيقون؟

في الحديث عن رسول الله (ص) أنّه قال: «الصديقون ثلاثة: (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (يس-20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} و (حزقيل) مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم».

والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين.(53)

إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات، وكانوا في المقدمة، فاستحقوا لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصراً لرسول الله (ص) في حياته وبعد رحلته وذاباً عن الدعوة الجديدة، واستمرّ في كلّ المراحل والأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الاخلاص.

 


  الدرس الرابع عشر: بعض ما تكلم به مؤمن آل فرعون


 وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) سورة غافر


اللغة:

لا جرم: مركبة من (لا) و (جرم) على وزن ( حرم) وهي في الأصل تعني القطع واقتطاف الثمرة وهي كلمة مركبة تعني: لا يستطيع أي شيء أن يقطع هذا العمل أو يمنعه، لذلك تستخدم بشكل عام بمعنى (حتماً ) وتأتي أحياناً بمعنى القسم.

حاق: بمعنى أصاب ونزل

سوء: العذاب من قبيل إضافة الصفة الى الموصوف، إذ كانت في الأصل ( العذاب السوء)


التّفسير

اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد:

إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصب في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة، وقضية المعاد والحشر والنشر، إذ أنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.

يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

فرعون كان يقول: إنّ ما أقوله هو طريق الرشد والصلاح، إلاّ أنّ مؤمن آل فرعون أبطل هذا الادّعاء الفارغ، وأفهم الناس زوره، وحذرّهم أن يقعوا فريسة هذا الإدّعاء، إذ أنّ خططه ستفشل وسيصاب بسوء العاقبة ; فالطريق هو ما أقوله; إنّه طريق التقوى وعبادة الله.

ثم تضيف الآية: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.

يريد أن يقول لهم: لنفرض أنّنا انتصرنا ببذل الحيل والتوسّل بوسائل الخداع والمكر، وتركنا الحق وراء ظهورنا، وارتكبنا الظلم وتورطنا بدماء الأبرياء ; ترى ما مقدار عمرنا في هذا العالم؟ إنّ هذه الأيّام المعدودة ستنتهي وسنقع في قبضة الموت الذي يجرنا من القصور الفخمة إلى تحت التراب وتكون حياتنا في مكان آخر.

 

إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء، حيث يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

إنّ مؤمن آل فرعون ـ بكلامه هذاـ آثار أولا قضية عدالة الله تبارك وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً.

و من جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الالهي لذوي العمل الصالح، إنّه الجزاء الذي لا يخضع لموازين الحساب الكمية، إذ يهب الله تبارك وتعالى للمؤمنين بغير حساب، ممّا لم تره عين أو تسمعه أذن ولا يخطر على فكر إنسان.

ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.

ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى، وفي القيم الإنسانية.

 

لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعاً لا يغني شيئاً عن الحياة الأُخرى، إلاّ أنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي هي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا. إذن هل هناك تجارة أربح من هذا؟

كما ينبغي أن نقول: إنّ عبارة «مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا، متشابهة كاملة بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى

أمّا تعبير «غير حساب» فيمكن أن يكون إشارة إلى حساب العطايا يختص بالاشخاص من ذوي المواهب المحدودة، أمّا المطلق (جلّ وعلا) الذي لا تنقص خزائنه مهما بذل للآخرين (لأن كلّ ما يؤخذ من اللانهاية يبقى بلانهاية) لذلك فهو عطاء لا يحتاج إلى حساب.

وبقيت مسألة بحاجة إلى جواب، وهي: هل ثمّة تعارض بين هذه الآية وما جاء في الآية (160) من سورة الأنعام، حيث قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.

في الجواب على هذا التساؤل نقول: إنّ «عشر أمثالها» إشارة للحد الأدنى من العطاء الإلهي، إذ هناك الجزاء الذي يصل إلى (700) مرّة وأكثر، ثمّ قد يصل العطاء الإلهي إلى مستوى الجزاء بـ «غير حساب» وهو ممّا لا يعلم حدّه ولا يمكن تصوره.


 الكلام الأخير:

آخر مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كلّ ما هو ضروري، أمّا القوم من ملأ فرعون، فكان لهم ـ كما سنرى ذلك ـ قرارهم الخطير بشأنه!

يفهم من خلال القرائن أنّ أولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام.

لذا فقد صرخ قائلا: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.

إنني أطلب سعادتكم وأنتم تطلبون شقائي ; إنني أهديكم إلى الطريق الواضح الهادي وأنتم تدعونني إلى الإنحراف والضلال!

نعم، إنّكم: {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}.

نستفيد من الآيات القرآنية المختلفة، ومن تأريخ مصر، أنّ هؤلاء القوم لم يقتصروا في عبادتهم وشركهم وضلالهم على الفراعنة وحسب، وإنّما كانت لهم أصنام يعبدونها من دون الواحد القهار، كما نستفيد ذلك بشكل مباشر من قوله تعالى في الآية (127) من سورة «الأعراف» حيث قوله تعالى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} والآية تحكي خطاب أصحاب فرعون والملأ من قومه لفرعون.

وقد تكرّر نفس المضمون على لسان يوسف (ع)، إذ قال لرفاقه في سجن الفراعنة: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.(54)

لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على دليل صحيح، والشرك طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر وسوء العاقبة والمصير، بينما دعوته (مؤمن آل فرعون) دعوة للهدى والرشاد وسلوك طريق الله العزيز الغفّار.

إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن جانب ثان تشير إلى إلغاء ألوهية الأصنام والفراعنة، حيث لا يملكون العزة ولا العفو.

ينتقل الخطاب القرآني ـ على لسان مؤمن آل فرعون ـ إلى قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} فهذه الأصنام لم ترسل الرسل إلى الناس ليدعوهم إليهم، وهي لا تملك في الآخرة الحاكمية على أي شيء.

إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع، وإنّ عليكم أن تعلموا: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ}.

فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.

ويجب أن تعلموا أيضاً: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.

وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني التوحيدي، وانفصل علناً عن خط الشرك الملوث الذي يصبغ بآثامه وأوحاله الحكّام الفراعنة ومن يلف حولهم، لقد رفض الرجل دعوتهم ووقف لوحده إزاء باطلهم وانحرافهم.

في آخر كلامه ـ وبتهديد ذي مغزى ـ يقوله لهم: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}.

إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما تصيبكم المصائب، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان، فإن كان في الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو لا يتم إلاّ حين يحل بكم العذاب الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.

 

ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.

لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم، ولا أرهب كثرتكم وقوتكم، ولا تخيفني وحدتي بيّن أيديكم، لأني وضعت نفسي بين يدي المطلق ذي القدرة اللامتناهية، والمحيط علمه بكل شيء، وبأحوال عباده أينما كانوا وحلّوا.

إنّ هذا التعبير يستبطن في طياته دعاء مهذباً انطلق من الرجل المؤمن الذي وقع أسيراً في قبضة هؤلاء الأشقياء الظالمين.لذلك طلب بشكل مؤدب من خالقه (جلّ وعلا) أن يحميه بحمايته وينقذه ممّا هو فيه.

الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}.

إنّ التعبير بـ (سيئات ما مكروا) يفيد أنّهم وضعوا خططاً مختلفة ضدّه... ترى ما هي هذه الخطط؟

في الواقع، إنّ القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة، لكنّها ـ حتماً ـ لا تخرج عن ألوان العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام، إلاّ أنّ اللطف الإلهي أبطل مفعولها جميعأ وأنجاه منهم.

تفيد بعض التفاسير أنّ مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق بموسى (ع)، وعبّر البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضاً: أنّهُ هرب إلى الجبل عندما صدر عليه قرار الموت، وبقي هناك مختفياً عن الأنظار.(55)

ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين، إذ يمكن أن يكون قد هرب إلى الجبل أولا، ثمّ التحق ببني إسرائيل.

وقد يكون من مؤامراتهم عليه، محاولتهم فرض عبادة الأصنام عليه وإخراجه من خط التوحيد، إلاّ أن الله تبارك وتعالى أنجاه من مكرهم ورسخ قدمه في طريق الإيمان والهدى.

أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}.

إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلاّ أنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشد إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ثم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.

 

 

وهنا نلفت النظر إلى الملاحظات الثلاث الآتية:

أولا: استخدام تعبير (آل فرعون)إشارة إلى العائلة والأنصار والأصحاب الضالين، وعندما يكون هذا هو مصير الآل، ترى ماذا يكون مصير نفس فرعون؟

ثانياً: تقول الآية: إنهم يعرضون على النّار صباحاً ومساءً، ثمّ تقول: في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن. وهذا دليل على أنّ العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة... إنّ العرض على نار جهنّم يهز الانسان ويجعله يرتعد خوفاً وهلعاً.

ثالثاً: إن تعبير بـ (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب. أو قد يفيد انفطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

وينبغي أن لا نتعجب هنا من كلمتي (الغدو) و (العشي) فنسأل: وهل في البرزخ ثمّة صباح ومساء؟ لأنّ الصبح والليل موجودان حتى في يوم القيامة، كما نقرأ في قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً).(56)

وهذا الأمر لا يتعارض مع دوام نعم الجنّة واستمرارها، كما جاء في الآية (35) من سورة (الرعد) حيث قوله تعالى: (أكلها دائم وظلها) حيث يمكن أن تشمل الألطاف الإلهية أهل الجنّة في خصوص هذين الوقتين، بينماتكون نعم الجنّة دائمة باقية.


فوائد

أوّلا: مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت.

إنّ القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية الامر ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت، وإذا توجست هذا القلّة المخلصة خوفاً من أعدائها، أو أنّها شكت بأنّ كثرة دليل على حقانيتهم، فلن يكون بمقدور الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا.

إنّ الأساس الذي يتحكم في منطلق هذه البرامج الهادية والأطروحات الوضّاءة، هو قول أمير المؤمنين علي (ع): «أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله».(57)

لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجاً لهذه المدرسة، وكان من الأوائل في هذا الطريق، وأثبت أنّ الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية ـ النابعة من إيمانه بالله تعالى ـ التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة; بل وأن يوفّر سبل النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم.

إنّ تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي، يثبت ضرورة أن تكون خطوات أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر، إذ يجب أحياناً التكتم على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة; كما يجب في أحيان اُخرى الجهر بدعوة الحق وإظهار الإيمان.

إنّ التقية ليست سوى إخفاء اعتقاد الإنسان والتكتم عليه في فترة معينة في سبيل الأهداف المقدّسة.

وكما يعتبر التسلّح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب دحر العدو، كذلك فإنّ المنطق القوي والحجّة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل في تأثيره السلاح المادي عدة مرّات. لذا فإنّ العمل الذي قام به (مؤمن آل فرعون) بواسطة منطقه وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر.

ثم إنّ قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أنّ الله جلّ وعلا لا يترك عباده المؤمنين وحيدين، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار.

وأخيراً فإن من الضروري أن نشير إلى حياة مؤمن آل فرعون انتهت كما في بعض الروايات إلى الإستشهاد، وأنّ ما يقوله القرآن من حفظ الله له ووقايته له يمكن تأويله بإنقاذه من براثن خططهم الشيطانية في إغوائه وجرّه إلى ساحة الضلال والشرك، وأنّ الله أنجاه من سوء المنقلب وانحراف العقيدة.


 ثانياً: تفويض الأمور إلى الله

فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى يكفي أن نفتتح الحديث بقول لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، جاء فيه: «الإيمان له أربعة أركان: التوكل على الله، وتفويض الأمر إلى الله عزّوجلّ والرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه (ع)قال: «المفوض أمره إلى الله في راحة الأبد، والعيش الدائم الرغد، والمفوض حقّاً هو العالي عن كلّ همة دون الله».(58)

«التفويض» كما يقول الراغب في مفرداته، يعني «التوكل، لذا فإنّ تفويض الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الجد والجهد، إذ أنّ هذا السلوك ينطوي على فهم محرّف لمعنى التفويض، بل عليه أن يبذل كلّ جهده ولا يتخوّف الصعاب التي تواجهه، أو يترك العمل إذعاناً لها، بل عليه أن يسلّم أمره وعمله إلى الله، ويستمر في بذل الجهد بعزم راسخ وهمة عالية.

وبالرغم من أنّ «التفويض» يشبه «التوكل» إلى حد كبير، إلاّ أنّه يعتبر مرحلة أفضل منه. لأنّ حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه، لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى. وفي حياتنا العملية نرى أنّ الانسان الذي يتخذ لنفسه وكيلا يواصل إشرافه على عمله. إلاّ أنّه في حالة التفويض لا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع، بل تتر ك الأمور إلى من فوّضت إليه. 


ثالثاً: عالم البرزخ

«البرزخ» ـ كما يدل عليه اسمه ـ هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم الآخر. وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر، ولكنّه قليل عن عالم البرزخ. ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ، وبالتالي لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرّح القرآن بأصل وجوده.

إنّ الآيات أعلاه تعتبر من الآيات التي عبّرت بصراحة عن وجود هذا العالم، حينما قالت: إنّ آل فرعون يعرضون صباحاً ومساءً على النّار قبل القيامة، وذلك كنوع من العقاب البرزخي لهم.

من جانب آخر، فإنّ الآيات التي تتحدث عن حياة الشهداء الخالدة بعد الموت، والثواب العظيم الذي ينالهم، تدل هي الأُخرى على وجود (البرزخ).

وفي حديث عن رسول (ص) قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن النّار، يقال: هذا مقعدك حيث يبعثك الله يوم القيامة».

أما الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) فيقول عن البرزخ: «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدو وعشي» ثمّ قال: «إن كانوا يعذبون في النّار غدواً وعشياً ففيما بين ذلك هم من السعداء، لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله عزّوجلّ: ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب».(59)

الإمام (ع) لم يقل بعدم وجود الصباح والمساء في القيامة، بل يقول: إنّ نار جهنّم أبدية خالدة لا تعرف الصباح والمساء. أمّا العقاب الذي له مواقيت في الصباح والمساء فهو عالم البرزخ، ثمّ يدلل (ع) على الجملة التي بعدها والتي تتحدث عن القيامة; على أنّها قرينة بإختصاص الجملة السابقة بالبرزخ.

 

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المؤمنين المخلصين الصادقين المجاهدين يا رب العالمين.

 




 

(43)  روح المعاني: ج24 / ص120.

(44)  تفسير الرازي: ج26 / ص162.

(45)  مطابق نقل نور الثقلين: ج5 / ص216.

(46)  روح المعاني: ج 27 / ص123.

(47)  تفسير القرطبي: ج9 / ص6009.

(48)  سورة البقرة / 146.

(49)  رواية أمالي الصدوق كما نقل نور الثقلين ج 4 / ص519 (ضعيفة السند).

(50)  تفسير علي بن ابراهيم كما نقل نور الثقلين ج4 / ص518.

(51)  سورة القصص / 20.

(52)  مجمع البيان: ج8 / ص521.

(53)  الصدوق في الآمالي وابن حجر (الصواعق).

(54)  سورة يوسف / 39.

(55)  مجمع البيان: نهاية الآية.

(56)  سورة مريم / 62.

(57)  نهج البلاغة: الخطبة رقم 201.

(58)  بحار الانوار: ج68 / ص341.

(59)  مجمع البيان: ج8 / ص526.