ثلاثة عظماء من القرآن الكريم

( عالم وحاكم وحكيم )

 

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى، ذو القعدة 1434هـ // 2013م

 

 

 الفصل الثالث: لقمان الحكيم

 لقمان الحكيم

 قصة لقمان وحكمته

 معنى الحكمة

 موعظة لقمان لابنه

 آداب المشي

 آداب الحديث

 آداب العِشرة

 قصته مع ولده وحماره

 من حكم لقمان

 من وصايا لقمان الحكيم

 المصادر

 

 

 

 

لقمان الحكيم

 

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) [1].


[1] - سورة لقمان: الآيات 12- 20.


 

قصة لقمان وحكمته

 

 

ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّا أم لا، كما أنّ أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّا، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة والمجتمع، وعدم المطالبة بالأجر والمكافأة، وكذلك بشارة الأمم وإنذارها، في حين أنّ أيّا من هذه الأمور لم يذكر في شأن لقمان، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها)، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيما وحسب [1]. ففي الحديث لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة [2].

روي أنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل، واختلف في صناعته، فقيل: كان نجارا وقيل: خياطا، وقيل: راعي غنم، وكان ابنه كافرا فما زال يوصيه حتى أسلم، وروي أن اسم ابنه ثاران [3]. وقيل هو لقمان بن باعور بن ناخور بن تارخ وهوازر. عاش حتى أدرك داود (عليه السلام) وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعثه ثم ترك الفتيا بعد مبعثه، وقال: ألا اكتفي إذا كفيت. وجاء في الدر المنثور عن ابن عباس: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وقال مجاهد: كان عبدا اسود عظيم الشفتين متشقق القدمين. وقال سعيد بن المسيب: كان خياطا وقيل كان راعي غنم والله اعلم.

والْحِكْمَةَ في القاموس وهي العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل. والمراد بالحكمة في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن من الشعر لحكمة، هو العلم. قال البغوي: اتفق العلماء على أنه كان حكيما أي فقيها عليما ولم يكن نبيّا، إلا عكرمة فإنه قال كان نبيّا وتفرد بهذا القول [4].

في مجمع البيان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: حقا أقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، ومنّ عليه بالحكمة, كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق، فأجاب الصوت: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم علي فسمعا وطاعة، فإني أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني, فقالت الملائكة بصوت لا يراهم لمَ يا لقمان، قال: لأن الحكم أشد المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان، إن وقى فبالحري أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يصيب الآخرة، فتعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها، ثم كان يؤازر داود بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى [5].

يقول المولى سبحانه وتعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [6].

في تفسير علي بن إبراهيم عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله عزَّ وجل، فقال: أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله، متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر، مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال، لشدة تستره وعموق نظره وتحفظه في أمره، ولم يضحك من شي‏ء قط مخافة الإثم، ولم يغضب قط ولم يمازح إنسانا قط، ولم يفرح بشي‏ء أتاه من أمر الدنيا ولا حزن منها على شي‏ء قط، وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير وقدم أكثرهم إفراطا فما بكى على موت أحد منهم، ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلا أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى تحابا، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان، وكان يداوي قلبه بالفكر ويداوي نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلا فيما يعنيه فبذلك أوتي الحكمة ومنح العصمة، وأن الله تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة [7] فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم، فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة، لأنه إن فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني، وإن هو خيرني قبلت العافية، فقالت الملائكة:

يا لقمان لم؟ قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل وأكثر فتنا وبلاء ما يخذل ولا يعان، ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه فيه بين أمرين إن أصاب فيه الحق فبالحري أن يسلم، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا [8] ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتاهما، تزول هذه ولا يدرك تلك، قال: فتعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه، فلما أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم، وغطاه بالحكمة غطاء، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيهم. قال: فلما أوتى الحكم بالخلافة ولم يقبلها أمر الله عزَّ وجل الملائكة فنادت داود (عليه السلام) بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان، فأعطاه الله عزَّ وجل الخلافة في الأرض وابتلى بها غير مرة كل ذلك يهوى في الخطاء، يقيله الله تعالى ويغفر له، وكان لقمان يكثر زيارة داود (عليه السلام) ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، وكان داود (عليه السلام) يقول له: طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية، وأعطى داود (عليه السلام) الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة [9].


 

معنى الحكمة

 

لقد ذكروا للحكمة معاني كثيرة، مثل: معرفة أسرار عالم الوجود، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن، والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل، ومعرفة الله.

إلّا أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن، والتي كان الله قد آتاها لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية [10]. ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية: «إنّ الحكمة هي الفهم والعقل» [11]. وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية، أنّه قال: «أوتي معرفة إمام زمانه» [12]. ومن الواضح أنّ كلّا من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع، ولا منافاة بينها.

إن لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة، وكيفيّة استغلالها والاستفادة منها، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، هي وضع كلّ شي‏ء في موضعه، وبناء على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة. فقد أعطاه ربنا الحكمة، وأوجزها في كلمة ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ ﴾ ويبدو أن الشكر يجمع فضائل عديدة أبرزها:

أ: الاعتراف بفقدان النعمة ذاتا، فلولا فضل الله علينا لما كنّا مخلوقين، ولما كانت لنا الأسماع والأبصار والأفئدة، ومن هذا الاعتراف تنبثق فضيلة التواضع، وتجنب الخيلاء والفخر، وعدم تحدي الناس استكبارا وسائر ما ذكر في الآيات.

ب: التصديق بفضل من أنعم علينا وهو الله سبحانه، ولا يتم التصديق إلا بتوحيده، والا نشرك به من لا فضل له علينا أنى كان حتى ولو كان واسطة وصول الفضل إلينا.

ج: احترام وسائط الفضل الذين قاموا بدور في وصول النعمة إلينا وأبرزهم الوالدان، إذ إن اتباع سبيل من أناب إلى الله يشير إلى احترام التجمع الإيماني.

د: السعي نحو تكريس النعمة، واتقاء ما يسبب زوالها. أولا: بمعرفة أن عمل الإنسان يؤثر في بقاء أو زوال النعمة. ثانيا: بإقامة الصلاة، التي هي مظهر الشكر لله. ثالثا: بالدعوة إلى الخير والنهي عن الشر والصبر عند المكاره. هكذا نعرف أن الشكر لله حقا هو أساس الحكمة الإلهية.

إن الإحسان إلى الناس ظاهرة تنبع من الشكر لله سبحانه، ذلك أنه يعني الرضا النفسي والعملي، الذي ينعكس على السلوك في صورة عطاء وتضحية وجهاد، مقابلة لجميل نعم الله، وإحساسا بالمسؤولية تجاهها. ولكل نعمة شكر يختص بها، تبعا لمعطياتها، فشكر نعمة العلم نشره وهداية الناس به: «زكاة العلم نشره» [13].

وشكر المال بذله للمحتاجين: «زكاة المال بذله» بينما شكر نعمة القوة السعي لتحقيق الأهداف السامية كإقامة حكم الله في الأرض من خلال الجهاد الشامل.

يقول المولى عزَّ وجل: ﴿ ولَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ... ﴾، فبذل الإنسان للنعمة في مجالها الذي حدده الله هو الشكر، وسنن الله في الحياة - التشريعية منها والتكوينية - تقتضي بذلك نماء النعمة، فمن حكمة الله أن تسقي السماء الأرض ذات الزرع أكثر من الجرداء، وأن من يستخدم عضلاته أكثر هو الذي تنمو العضلات لديه، بينما تضمر عند الخامل، وأن من يقرأ أكثر ينمو عقله وفكره، والذي لا يستفيد من النعم أو يستخدمها في غير مجالاتها المحددة لا تنمو لديه وتكون مضرة له، كما لو بذل العلم للتباهي أو المال في اللهو واللعب.

ثم يضيف : ﴿ ومَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾، لأن المحتاج للشكر هو الإنسان لا الله المتعالي عن الحاجة، والشكر هنا يشمل أيضا الناس، لكن ضمن هدف محدد هو أن يكون ذلك من أجل الله وحده، وطلبا لمرضاته، وذلك كله يعود على الإنسان نفسه، بما يسببه الشكر من إنماء النعمة: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾.

﴿ ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾، وليس غنى الله كغنى الناس، لأن الآخر غالبا ما يتأسس على النهب والاستغلال، أو يصرف في سحق الآخرين وابتزازهم حقوقهم - وهو غيري - بينما غنى الله ذاتي يتفضل به على الآخرين خيرا ونعمة، وهذا هو الغنى المحمود.

ثم تتعرض الآيات لبعض وصايا لقمان (عليه السلام) لابنه، والتي تشكل أبعاد الحكمة، ومفردات الشكر لله.

وأول ما يفتتح وصاياه يبين له العلاقة الفاضلة التي يجب أن ينتهجها مع الآخرين، والتي تقوم على مبدأ التوحيد، فيحذره من الشرك، فالخضوع المطلق لا ينبغي إلا لله سبحانه، أما البشر فيتقبل توجيهاتهم الصائبة، ولكن بشرط المحافظة على استقلاليته تجاههم بالتوحيد. فالتوحيد هو الجوهر الذي يجب على الإنسان اعتماده في كل سلوك فردي أو اجتماعي، وهذا ما دعا إليه كل الأنبياء، ولعل هذا التأكيد على موضوع الشرك في القرآن يرجع إلى عامل مهم وهو أن مشكلة الإنسان في غالب الأحيان ليس الكفر المحض، فهو يؤمن بإله لهذا الكون، إنما مشكلته هي الشرك بالله [14].


 

موعظة لقمان لابنه

 

يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ وإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وهُو يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾.

إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شي‏ء إلى أهمّ المسائل الأساسية، وهي مسألة التوحيد... التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك، والذي يعتبر كلّ منها فرعا من الشرك.

كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله، وإطاعة أوامره، والابتعاد عن غيره، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه! وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك ظلم عظيم، وقد أحيط بالتأكيد من عدّة جهات، وأيّ ظلم أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والانحراف، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم، وهم يظلمون أنفسهم أيضا حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان، لكنّ هذا الاعتراض لا يعني عدم الاتّصال والارتباط، بل يعني الصلة الواضحة لكلام الله عزّ وجلّ بكلام لقمان، لأنّ في هاتين الآيتين بحثا عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله [15]. ﴿ ووَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ، وفِصالُهُ فِي عامَيْنِ، أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وإِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.

إن توصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه، فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة، كما يريدها الله، وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاية، فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولّي الذاهب في أدبار الحياة، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوّض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما.

هذه الصورة الموحية: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ﴾ ترسم ظلال هذا البذل النبيل، والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق. روي أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي - (صلى الله عليه وآله وسلم) سلّم - هل أديت حقها؟ قال: «لا، ولا بزفرة واحدة». هكذا.. ولا بزفرة... في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن. وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ويرتب الواجبات، فيجي‏ء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين [16].

هذه المسألة: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ‏... ﴾ قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الأمهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها، ولذلك فإنّ الأمهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة، وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الأم، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان، ﴿ وفِصالُهُ فِي عامَيْنِ ﴾ كما أشير إلى ذلك في موضع آخر من القرآن: ﴿ والْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [17]، والمراد فترة الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحيانا بفترة أقلّ.

إنّ الأم في هذه الثلاثة وثلاثين شهراً - فترة الحمل، وفترة الرضاع - تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي، أو الجسمي، أو من جهة الخدمة والرعاية.

والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معا، إلّا أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الأم، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.

ثمّ تقول: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ ﴾، فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك، فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه! ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: ﴿ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ نعم، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة، فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله، وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.

إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الاشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان، لكنّ الآية التالية تقول: ﴿ وإِنْ جاهَداكَ عَلى‏ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما... ﴾ فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بأمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقا، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبدا، وجملة: ﴿ جاهَداكَ ﴾ إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحيانا أنّهما يريدان سعادة الولد، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والأمهات. إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبدا أمام هذه الضغوط، ويجب أن يحافظوا على استقلالهم الفكري، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد، أو يبدّلوها بأيّ شي‏ء.

ثمّ إنّ جملة: ﴿ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ﴾ تشير ضمنا إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك، ولم نقم لها وزنا، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل، وإذا تجاوزنا ذلك، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.

ولمّا كان من الممكن أيضا أن يوجد هذا الأمر، توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أن: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾. فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة، ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة، وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين، ولذا يضيف بعد ذلك: ﴿ واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ﴾ لأنّ المصير إليه سبحانه: ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.

إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضا في أداء هذين الواجبين، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة [18].

كانت أولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: ﴿ يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّماواتِ أَوفِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله ﴾. و«الخردل»: نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّا يضرب المثل بصغرها، وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشرّ مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفيّة كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإنّ الله اللطيف الخبير المطّلع على كلّ الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيّع شيئا في هذا الحساب.

إن أفعال الإنسان من الخير أو الشر أو أفعاله بقرينة المقام، إن كانت في الصّغر مقدار خردلة فَتَكُنْ فِي أخفى المواضع كجوف صَخْرَةٍ أو في أعلاها فِي السَّماواتِ، أو في أسفلها فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ، أي يحضرها ليحاسب عليها، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ نافذ القدرة، بحيث يصل علمه إلى كلّ خفيّ، خَبِيرٌ عارف بكنه ذات الشي‏ء وحقيقته. روى العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: اتقوا المحقّرات من الذّنوب فإن لها طالبا [19].

ويتابع لقمان وصاياه لابنه فيقول: ﴿ يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، واصْبِرْ عَلى‏ ما أَصابَكَ. إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور ﴾.

نعم هذا هو طريق العقيدة، توحيد لله، وشعور برقابته، وتطلع إلى ما عنده، وثقة في عدله، وخشية من عقابه، ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر، بالزاد الأصيل، زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة، ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله، من التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها، ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي، ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء [20].

جاء في وصية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: يا بنيّ إقبل من الحكماء مواعظهم، وتدبر أحكامهم وكن آخذ الناس بما تأمر به، وأكف الناس عما تنهى عنه، وأمر بالمعروف تكن من أهله، فإن استتمام الأمور عند الله تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [21].

عن محمد بن عرفة قال: سمعت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) يقول: لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم. [22].

ثم يتابع لقمان الحكيم: ﴿ واصْبِرْ عَلى‏ ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾. من المسلّم به أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم به أيضا أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء واتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الانتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والاستقامة أبدا.

و«العزم» بمعنى الإرادة المحكمة القويّة، والتعبير بـ: ﴿ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمرا مؤكّدا، أو الأمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميما راسخا، وأيّا من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهميّة تلك الأعمال [23].

من المؤكد أن الصبر ليس مظهر ضعف ولا حالة هروب من الواقع، ولا ابتعاداً عن مواجهة التحدي، بل هو مظهر قوّة في انتصار الإنسان على طبيعة الانفعال في مشاعره، واهتزاز الاندفاع في خطواته، وحركة الارتجال في مواقفه، ليكون البديل عن ذلك عقلانية في التفكير، واتزانا في الخطوات، وتخطيطا في المواقف، ليحدّد طريقه على أساس الدراسة الواعية المنفتحة على كل آفاق الحاضر والمستقبل، وليواجه التحديات الطاغية، بالخطة الدقيقة المتوازنة الباحثة عن الوصول إلى الهدف من أقرب طريق، إنها العزيمة الثابتة القوية الصلبة التي تمنح الإنسان معنى الصلابة في شخصيته، ليواجه الحياة من هذا الموقع [24].

بعد ذلك يقول: ﴿ ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏ ﴾ أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، والمعنى: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، ولا تتكلم وأنت معرض، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه، مستهل البشر، كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله» [25]. فلقمان يوصي ولده بالقول: يا بني لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا، منبسط الوجه، مستهل البشر. ولا تسر في الأرض مختالا متبخترا، جبارا عنيدا.

جاء في التفاسير أن الصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر، حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار! [26].

و«المختال»: من مادّة (الخيال) و(الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيما وكبيرا، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام.

و«الفخور»: من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين، والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أنّ الأولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي.

وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّا وأساس توهين وقطع الروابط الاجتماعية الصميميّة: إحداهما التكبّر وعدم الاهتمام بالآخرين، والأخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ «صعّر» سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الانحراف في التشخيص والتفكير، وإلّا فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقا بمثل هذه الظنون والتخيّلات.

ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس، أو المشي بغرور وحسب، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة.

ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الاعتدال في مشيك: ﴿ واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ وابتغ الاعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عاليا: ﴿ واغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾.

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين:

النهي عن «التكبّر» و«العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين، وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالبا، ولهما أصل مشترك، إلّا أنّهما قد تفترقان أحيانا.

أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الاعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الاعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة، والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.

وممّا يستحقّ الانتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتا أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط، إلّا أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة، إضافة إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان، وبه شبّهت صرخات ونعرات المغرورين البلهاء، وليس القبح من جهة ارتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحيانا، لأنّ بعض المفسّرين يقولون: إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالبا عن حاجة، إلّا أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحيانا بدون مبرّر أو داع، وبدون أيّ حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطانا، لهذا السبب. قال البعض: إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلّا صوت الحمار! [27].

وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك [28].


 

آداب المشي

 

صحيح أنّ المشي مسألة سهلة وبسيطة، إلّا أنّ نفس هذه المسألة السّهلة يمكن أن تعكس أحوال الإنسان وأوضاعه الداخلية والأخلاقيّة، وقد تحدّد ملامح شخصيته، لأنّ روحيّة الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيّات كلّ أعماله، كما قلنا سابقا، وقد يكون العمل الصغير حاكيا عن روحية متأصّلة أحيانا، ولمّا كان الإسلام قد اهتمّ بكلّ أبعاد الحياة، فإنّه لم يهمل شيئا في هذا الباب أيضا [29].

جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مشى على الأرض اختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها» [30].

وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، وقال: «من لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم، وكان قرين قارون لأنّه أوّل من اختال فخسف الله به وبداره الأرض، ومن اختال فقد نازع الله عز وجل في جبروته» [31].

كذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها - إلى أن قال - وفرض على الرِّجلين أن لا تمشي بهما إلى شي‏ء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عزّ وجلّ، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ﴾ وقال: ﴿ واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [32].

وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيز (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك أنّه كان قد مرّ من طريق، فرأى مجنونا قد اجتمع الناس حوله ينظرون إليه، فقال: «علام اجتمع هؤلاء؟» فقالوا: على مجنون يصرع، فنظر إليهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: «ما هذا بمجنون! ألا أخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟» قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: «إنّ المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه، فذلك المجنون وهذا المبتلى» [33].


 

آداب الحديث

 

وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها [34]:

1- طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلّم، فإنّ السكوت خير منه، كما نرى ذلك، في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «السكوت راحة للعقل» [35].

2- وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): «من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة» [36].

3- وقد ورد التأكيد في روايات أخرى على أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في المواضع التي يلزم فيها الكلام، وأنّ الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت، وأنّ وسيلة الوصول إلى الجنّة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب [37].


 

آداب العِشرة

 

لقد اهتمّت الروايات الإسلامية الواردة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بمسألة التواضع وحسن الخلق والملاطفة في المعاملة، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة، اهتماما قلّ نظيره في الموارد الأخرى، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها، ومنها [38] :

1- جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: «الق أخاك بوجه منبسط» [39].

2- وفي حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق» [40].

3- وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «البرّ وحسن الخلق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار» [41].

4- ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أكثر ما تلج به امّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق» [42].

5- وعن الإمام علي (عليه السلام) في شأن التواضع: «زينة الشريف التواضع» [43].

6- وأخيرا نطالع في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «التواضع أصل كلّ خير نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب... ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده... وليس لله عزّ وجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلّا وبابها التواضع» [44].


 

قصته مع ولده وحماره

 

روي أن لقمان الحكيم قال لولده في وصيته: لا تعلّق قلبك برضا الناس ومدحهم وذمهم، فإن ذلك لا يحصل، ولو (أنه) بالغ الإنسان في تحصيله بغاية قدرته، فقال له ولده ما معناه: أحب أن أرى لذلك مثلا أو فعالا أو مقالا، فقال له: أخرج أنا وأنت، فخرجا ومعهما بهيم (حمار)، فركبه لقمان وترك ولده يمشي خلفه، فاجتازا على قوم، فقالوا: هذا شيخ قاسي القلب، قليل الرحمة، يركب هو الدابة، وهو أقوى من هذا الصّبي، ويترك الصّبي يمشي وراءه، إن هذا بئس التدبير، فقال لولده: سمعت قولهم وإنكارهم لركوبي ومشيك؟ فقال: نعم، فقال: اركب أنت يا ولدي حتى أمشي أنا، فركب ولده ومشى لقمان، فاجتازا على جماعة أخرى، فقالوا: هذا بئس الوالد، وهذا بئس الولد، أما أبوه، فإنه ما أدّب هذا الصّبي حتى ركب الدابة، وترك والده يمشي وراءه، والوالد أحق بالاحترام والركوب، وأما الولد، فإنه قد عق والده بهذه الحال، فكلاهما أساء في الفعال، فقال لقمان لولده: سمعت؟ فقال: نعم. فقال: نركب معا الدابة، فركبا معا، فاجتازا على جماعة، فقالوا: ما في قلب هذين الراكبين رحمة، ولا عندهم من الله خير، يركبان معا الدابة، يقطعان ظهرها، ويحمّلانها ما لا تطيق، لو كان قد ركب واحد، ومشى واحد، كان أصلح وأجود، فقال: سمعت؟ قال: نعم، فقال: هات حتى نترك الدابة تمشي خالية من ركوبنا، فساقا الدابة بين أيديهما وهما يمشيان، فاجتازا على جماعة، فقالوا: هذا عجيب من هذين الشخصين يتركان دابة فارغة تمشي بغير راكب، ويمشيان، وذموهما على ذلك كما ذموهما على كل ما كان. فقال لولده: أترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟ فلا تلتفت إليهم، واشتغل برضى الله جل جلاله، ففيه شغل شاغل، وسعادة وإقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال [45].


 

من حكم لقمان

 

ذكر في التفسير [46] أن مولى لقمان دعاه، فقال اذبح شاة فأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان، فسأله عن ذلك فقال إنهما أطيب شي‏ء إذا طابا وأخبث شي‏ء إذا خبثا.

وقيل إن مولاه دخل بيت الخلاء فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إن طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد، ويورث منه الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا وقم هونا، قال فكتب حكمته على الباب.

وقيل للقمان أي الناس شر قال الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا، وقيل له ما أقبح وجهك قال تعتب على النقش أو على فاعل النقش، وقيل إنه دخل على داوود وهو يسرد الدرع وقد ليّن الله له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال الصمت حكم وقليل فاعله، فقال له داوود بحق ما سميت حكيما.

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه قال لقمان لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك.

روى سليمان بن داوود المنقري عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في وصية لقمان لابنه: يا بني سافر بسيفك وخفّك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقا إلا في معصية الله عزَّ وجل، يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم، وأكثر التبسم في وجوههم، وكن كريما على زادك بينهم، فإذا دعوك فأجبهم وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة وسخاء النفس بما معك من دابة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم، وأجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثم لا تعزم حتى تتثبت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإن من لم يمحص النصيحة من استشاره سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم، واسمع لمن هو أكبر منك سنا، وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئا فقل نعم ولا تقل لا، فإن «لا» عيّ ولؤم، وإذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتآمروا، وإذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه، فإن الشخص الواحد في الفلاة مريب، لعله يكون عين اللصوص أو يكون هو الشيطان الذي حيركم، واحذروا الشخصين أيضا إلا أن تروا ما لا أرى، لأن العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحق منه والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

وقال: يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلّها واسترح منها فإنها دين، وصلّ في جماعة ولو على رأس زج ولا تنامنّ على دابتك، فإن ذلك سريع في دبرها وليس ذلك من فعل الحكماء، إلا أن تكون في محمل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل، فإذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك وابدأ بعلفها قبل نفسك، فإنها نفسك، وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لونا وألينها تربة وأكثرها عشبا، وإذا نزلت فصل ركعتين قبل أن تجلس، وإذا أردت قضاء حاجتك فابعد المذهب في الأرض، وإذا ارتحلت فصل ركعتين ثم ودع الأرض التي حللت بها وسلم على أهلها، فإن لكل بقعة أهلا من الملائكة، وإن استطعت أن لا تأكل طعاما حتى تبتدئ فتصدق منه فافعل، وعليك بقراءة كتاب الله ما دمت راكبا، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا، وإياك والسير في أول الليل إلى آخره، وإياك ورفع الصوت في مسيرك.

يا بنيّ، إنّ الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر.


 

من وصايا لقمان الحكيم [47]

 

يا بني النساء أربع: اثنتان صالحتان واثنتان ملعونتان، فأما إحدى الصالحتين: فهي الشريفة في أهلها الذليلة في نفسها التي إن أعطيت شكرت وإن ابتليت صبرت، القليل في يديها كثير.

والثانية: الولود الودود تعود بخير على زوجها، هي كالأم الرحيم تعطف على كبيرهم وترحم صغيرهم، وتحب ولد زوجها وإن كانوا من غيرها، جامعة الشمل مرضية البعل مصلحة في النفس والأهل والمال والولد، فهي كالذهب الأحمر، طوبى لمن رزقها، إن شهد زوجها أعانته وإن غاب عنها حفظته.

وأما إحدى الملعونتين: فهي العظيمة في نفسها الذليلة في قومها، التي إن أعطيت سخطت وإن منعت عتبت وغضبت، فزوجها منها في بلاء وجيرانها منها في عناء، فهي كالأسد إن جاورته أكلك وإن هربت منه قتلك.

والملعونة الثانية: فهي قلًى [48] عن زوجها وملهى جيرانها، إنما هي سريعة السّخطة، سريعة الدمعة إن شهد زوجها لم تنفعه، وإن غاب عنها فضحته، فهي بمنزلة الأرض النشّاشة إن أسقيت أفاضته الماء وغرقت، وإن تركتها عطشت وإن رزقت منها ولدا لم تنتفع به، يا بني لو كانت النساء تذاق كما تذاق الخمر ما تزوج رجل امرأة سوء أبدا.

يا بني أحسن إلى من أساء إليك، ولا تكثر من الدنيا فإنك على غفلة منها، وانظر إلى ما تصير منها، يا بني لا تأكل مال اليتيم فتفتضح يوم القيامة وتكلف أن ترده إليه، يا بني لو أنه أغنى أحد عن أحد لأغنى الولد عن والده، يا بني إن النار تحيط بالعالمين كلهم فلا ينجو منها أحد إلا من رحمه الله وقربه منه، يا بني لا يغرنك خبيث اللسان فإنه يختم على قلبه وتتكلم جوارحه وتشهد عليه، يا بني لا تشتم الناس فتكون أنت الذي شتمت أبويك، يا بني لا يعجبك إحسانك ولا تتعظمن بعملك الصالح فتهلك.

وقال: يا بني إن كل يوم يأتيك يوم جديد يشهد عليك رب كريم، يا بني إنك مدرج في أكفانك ومحل قبرك ومعاين عملك كله، يا بني كيف تسكن دار من أسخطته؟ أم كيف تجاور من عصيته؟ يا بني عليك بما يعنيك، ودع عنك ما لا يعنيك، فإن القليل منها يكفيك، والكثير منها لا يعنيك، يا بني لا تؤثرن على نفسك سواها ولا تورث مالك أعداءك، يا بني إنه قد أحصى الحلال الصغير فكيف بالحرام الكثير! يا بني اتق النظر الى ما لا تملكه وأطل التفكر في ملكوت السموات والأرض والجبال وما خلق الله، فكفى بهذا واعظا لقلبك، يا بني اقبل وصية الوالد الشفيق، يا بني بادر بعملك قبل أن يحضر أجلك وقبل أن تسير الجبال سيرا، وتجمع الشمس والقمر، وتغير السماء وتطوى وتنزل الملائكة صفوفا خائفين حافين مشفقين، وتكلف أن تجاوز الصراط وتعاين حينئذ عملك، وتوضع الموازين، وتنشر الدواوين، يا بني تعلمت سبعة آلاف من الحكمة فاحفظ منها أربعا ومر معي إلى الجنة: احكم سفينتك فإن بحرك عميق، وخفف حملك فإن العقبة كؤود [49]، وأكثر الزاد فإن السفر بعيد، واخلص العمل فان الناقد بصير.

ومن مواعظه: يا بني اتعظ بالصغير قبل إن ينزل بك الكبير، يا بني املك نفسك عند الغضب حتى لا تكون لجهنم حطبا، يا بني الفقر خير من أن تظلم وتطغى، يا بني إياك أن تستدين فتخون من الدين، يا بني إياك أن تستذل فتخزى، يا بني إياك أن تخرج من الدنيا فقيرا وتدع أمرك وأموالك عند غيرك قيما فتصيره أميرا، يا بني إن الله تعالى رهن الناس باعمالهم فويل لهم مما كسبت أيديهم وأفئدتهم.

ومنها: يا بني لا تأمن الدنيا والذنوب والشيطان فيها، يا بني إنه قد افتتن الصالحون من الأولين فكيف ينجو منه الآخرون، يا بني اجعل الدنيا سجنك فتكون الآخرة جنتك، يا بني إنك إن لم تكلف أن تشيل الجبال ولم تكلف ما لا تطيقه، فلا تحمل البلاء على كتفك ولا تذبح نفسك بيدك، يا بني إنك كما تزرع تحصد وكما تعمل تجد، يا بني لا تجاورن الملوك فيقتلوك، ولا تطعهم فتكفر، يا بني جاور المساكين واخصص الفقراء والمساكين من المسلمين، يا بني كن لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج العطوف، يا بني إنه ليس كل من قال: اغفر لي غفر له إنه لا يغفر إلا لمن عمل بطاعة ربه.

وقال: يا بني الجار ثم الدار، يا بني الرفيق ثم الطريق، يا بني لو كانت البيوت على العجل ما جاور رجل سوء أبدا، يا بني الوحدة خير من صاحب السوء، يا بني الصاحب الصالح خير من الوحدة، يا بني نقل الحجارة والحديد خير من قرين السوء. يا بني إني نقلت الحجارة والحديد فلم أجد شيئا أثقل من قرين السوء. يا بني إنه من يصحب قرين السوء لا يسلم ومن يدخل مداخل السوء يتهم.

ومنها: يا بني من ذا الذي عبد الله فخذله، ومن ذا الذي ابتغاه فلم يجده، يا بني ومن ذا الذي ذكره فلم يذكره، ومن ذا الذي توكل على الله فوكله إلى غيره، ومن ذا الذي تضرع إليه جل ذكره فلم يرحمه، يا بني شاور الكبير ولا تستحي من مشاورة الصغير، يا بني إياك ومصاحبة الفسّاق، هم كالكلاب إن وجدوا عندك شيئا أكلوه وإلا ذموك وفضحوك، وإنما حبهم بينهم ساعة، يا بني معاداة المؤمنين خير من مصادقة الفاسق، يا بني المؤمن تظلمه ولا يظلمك وتطلب عليه فيرضى عنك، والفاسق لا يراقب الله فكيف يراقبك، يا بني استكثر من الاصدقاء ولا تأمن من الأعداء فإن الغل في صدورهم مثل الماء تحت الرماد.

ومن وصاياه لابنه أيضا: يا بني ابدأ الناس بالسلام والمصافحة قبل الكلام، يا بني لا تكالب الناس فيمقتوك ولا تكن مهينا فيذلوك، ولا تكن حلواً فيأكلوك، ولا تكن مراً فيلفظوك، يا بني إنك منذ يوم هبطت من بطن أمك استقبلت الآخرة واستدبرت الدنيا، فإنك إن نلت مستقبلها أولى بك أن تستدبرها، يا بني إياك والتجبر والتكبر والفخر فتجاور إبليس في داره، يا بني دع عنك التجبر والكبر ودع عنك الفخر واعلم أنك ساكن القبور، يا بني اعلم أنه من جاور إبليس وقع في دار الهوان لا يموت فيها ولا يحيى، يا بني ويل لمن تجبر وتكبر كيف يتعظم من خلق من طين وإلى طين يعود، ثم لا يدري إلى ماذا يصير، إلى الجنة فقد فاز أو إلى النار فقد خسر خسرانا مبينا وخاب، يا بني كيف ينام ابن آدم والموت يطلبه، وكيف يغفل ولا يغفل عنه، يا بني إنه قد مات أصفياء الله عزَّ وجل وأحباؤه وأنبياؤه صلوات الله عليهم فمن ذا بعدهم يخلد فيترك، هذا بعض ما أوصى به لقمان ابنه.

اللهم وفقنا لاتباع القول الحسن والعمل الصالح، واختم لنا بالخير إنك سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين


[1] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 39- 40.

[2] - انظر ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص3124، كذلك بحار الأنوار، وسائر التفاسير.

[3] - كتاب التسهيل لعلوم التنزيل، ج‏2، ص:137- 138.

[4] - التفسير المظهري، ج‏7، ص:252- 253.

[5] - مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏8، ص: 494.

[6] - سورة لقمان: آية12.

[7] - هدأت العيون أي سكنت، والقائلة: منتصف النهار.

[8] - السري: السيد الشريف.

[9] - تفسير نور الثقلين، ج‏4، ص:196- 198.

[10] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 33.

[11] - أصول الكافي، ج2، ص 13.

[12] - نور الثقلين، ج4، صفحة 196.

[13] - بحار الأنوار،ج78، ص 247.

[14] - من هدى القرآن، ج‏10، ص: 138- 143.

[15] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 35- 36.

[16] - في ظلال القرآن، ج‏5، ص: 2788.

[17] - سورة البقرة: آية 233.

[18] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص:37- 39.

[19] - الجديد في تفسير القرآن المجيد، ج‏5، ص: 390.

[20] - في ظلال القرآن، ج‏5، ص: 2790.

[21] - تفسير نور الثقلين، ج‏4، ص: 205.

[22] - وسائل الشيعة، ج11، ص394.

[23] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 46.

[24] - تفسير من وحي القرآن، ج‏18، ص: 197.

[25] - التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، ج‏21، ص: 150

[26] - في ظلال القرآن، ج‏5، ص: 2790.

[27] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 47- 49.

[28] - راجع: مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.

[29] - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص:49- 50.

[30] - ثواب الأعمال وأمالي الصدوق، طبقا لنقل تفسير نور الثقلين، ج4، صفحة 207.

[31] - من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص13.

[32] - أصول الكافي، الجزء الثّاني، صفحة 28 باب (أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها).

[33] - بحار الأنوار، ج76، صفحة 57.

[34] - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص 49.

[35] - الريشهري، ميزان الحكمة، ج3، صفحة 352.

[36] - المصدر السابق.

[37] - المصدر السابق.

[38] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏13، ص: 51- 52.

[39] - بحار الأنوار، ج74، صفحة 171.

[40] - أصول الكافي، ج2، باب حسن الخلق وما بعده صفحة 81، 82.

[41] - المصدر السابق. ن. ب.

[42] - المصدر السابق. ن. ب.

[43] - بحار الأنوار، ج75، صفحة 121.

[44] - نفس المصدر. ن. ص.

[45] - وردت القصة في كتاب: فتح الأبواب، ابن طاووس، ص307- 308.

[46] - راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏8، ص: 496- 497.

[47] - راجع: الاختصاص، الشيخ المفيد، ص336.

[48] - البغض. تبغض زوجها.

[49] - صعبة وشاقة.

 


 

المصادر

1- القرآن الكريم.

2- نهج البلاغة.

3- الميزان في تفسير القرآن.

4- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل.

5- البرهان في تفسير القرآن.

6- تفسير المراغي.

7- تفسير نور الثقلين.

8- الدر المنثور في تفسير المأثور.

9- في ظلال القرآن.

10- تفسير الفخر الرازي.

11- تفسير الكامل لابن الأثير.

12- مجمع البيان في تفسير القرآن.

13- الجديد في تفسير القرآن المجيد.

14- التفسير المظهري.

15- من هدى القرآن.

16- تفسير من وحي القرآن.

17- التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج.

18- أصول الكافي.

19- بحار الأنوار.

20- وسائل الشيعة.

21- من لا يحضره الفقيه.

22- الاختصاص.

23- معجم رجال الحديث.

24- سفينة البحار.

25- كتاب التسهيل لعلوم التنزيل.