الكتاب الفوز العظيم والخسران المبين في القرآن الكريم
تأليف الشيخ عارف هنديجاني فرد
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع

 

الفصل الثالث : الفوز والرضا والفضل الكبير

  تمهيد الفصل

 المبحث الأول: الرضوان وسبل السلام

 أ - الإيمان والرضوان

 ب- الرضوان ونعيم الجنّة

 المبحث الثاني: الفضل والرضوان وثواب الأعمال

 أ - الفضل والثواب في الدنيا

 ب - الفضل والثواب في الآخرة

 

 


الفصل الثالث : الفوز والرضا والفضل الكبير


 

 

تمهيد الفصل



لا شكّ في أن ما تقدّم في معنى الفوز ليس كافياً ما لم يأتِ البحث فيه شاملاً لجملة من الآيات المباركة، التي عبّرت عن الفوز من حيث كونه درجة عالية خصّ الله تعالى بها المؤمنين والمؤمنات في الدنيا والآخرة، سواء على نحو البشرى، أم على نحو الرضا، أم الفوز العظيم، أو غير ذلك مما اختلفت التسميات القرآنية حوله، وقد سبق الكلام منّا في معنى أن يكون الفوز في الدنيا، أو في الآخرة فيما يكون عليه الإنسان من حالات التزام وولاء وطاعة لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي هذا المعنى سنحاول قدر المستطاع أن نلمّ بجملة من الحقائق حول مدى العلاقة الوثيقة بين مفاهيم الفوز والرضوان، والفضل الكبير، حيث تبيّن لنا أن معظم العلماء والمفسرين قد لحظوا معنى الفوز والرضوان في سياق واحد، ولم يفصلوا بين المفاهيم، اعتقاداً منهم بأن الفوز العظيم، هو الخلاصة والنتيجة القصوى لما يكون من أعمال صالحة في حياة البشر، تؤدّي بهم إلى أن يكونوا على فوز عظيم في الآخرة فيما أعدّه الله تعالى لهم من منازل ودرجات تميّزهم عن سائر الخلق، ونحن وإن كنّا لا نختلف معهم حول هذا التوصيف، إلاّ إنّه يمكن أن يكون لنا رؤية أخرى وموقف مختلف لجهة القول: بأنّ الفوز العظيم له هذا التحقق على مستوى الأعمال، إلاّ أنّه جاء في سياق أوصاف مختلفة ودرجات متمايزة في آيات الله تعالى.

ويمكن لنا أن نستدلّ على رؤيتنا هذه من خلال جملة من الآيات القرآنية التي جاء فيها الفوز العظيم مختلفاً عمّا إذا كان فوزاً مبيناً، أو فوزاً كبيراً. إضافة إلى رؤية أخرى تتعلّق بحقيقة الرضوان، والرضا، والفضل الكبير، إلى غير ذلك مما جاءت السياقات القرآنية مختلفة فيه، ومعبّرة عنه فيما توحي به من إشارات تدلّل على أنّ الفوز العظيم لكي يكون عظيماً، لا بدّ أن يتوفّر على جملة من الشروط والمواصفات تجعله كذلك باعتبار أنّ الآيات القرآنية تعدّد الكثير من المواصفات التي تسبق الوصول إليه، فإذا لم يتوفّر الإنسان على جملتها، فلن يكون فوزه عظيماً.

وكماسنلاحظ في ثنايا مباحثنا المقبلة أن الفوز العظيم قد سُبِق بالمغفرة والرحمة والرضوان،﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر ﴾، و﴿  جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾، إلى غير ذلك مما أعدّه الله تعالى للمؤمنين في الآخرة، هذا فضلاً عمّا سبق به هذا كله من دنيا يعيشها الإنسان، وقد جُعلت له ممرّاً ليُمتحن بها بل وليُمحّص بها ليكون مستحقاً ما وعده الله تعالى به، إذ إنّ أحداً لن يكون له الفوز العظيم، إلاّ إذا فاز في امتحان الدنيا، وكان له الخيار والإرادة في أن يتّخذ مما أنعم الله به عليه سبيلاً ووسيلة للفوز في الآخرة.

ولهذا، نجد الكثير من الآيات المباركة تربط بين حالات الدنيا والجزاء في الآخرة على النحو الذي يؤكّد أنّه لا فوز من خارج الدنيا لأحد من البشر. وقد تقدّم الكلام في معنى الهبوط الآدمي وما خُصّ به هذا الهبوط من مستقرّ ومتاع إلى حين، ومن هدى إلهي يُسدد الإنسان في طريق فوزه بالدنيا والآخرة معاً. وإذا كنّا قد أشرنا إلى بعض نتائج وحقائق هذا الهبوط، فإنّه لا يسعنا في هذا التمهيد إلاّ أن نقدّم في بحثنا هذا رؤية أخرى حول ما ينبغي الالتفات إليه في طريق الكدح إلى الله تعالى، وهي ما خُصّ به الإنسان من أوصاف في الآخرة، من رضوان، وجنّات عدن، ونعيم مقيم، ومساكن طيبة، والذي وصفه الله تعالى بالفوز العظيم في كثير من الآيات القرآنية.

وبما أنّ هذا المبحث لا يتّسع لبحث قرآني موسّع، فإنّه يمكن لنا الاكتفاء بالتدبّر في مدلول بعض الآيات المباركة لعلّنا نوفّق إلى اكتشاف المزيد من الدلالات من خلال ملاحظة السياق القرآني، حيث يتبيّن لنا أن الرضوان الإلهي له درجاته ومنازله أيضاً، ولا يتوفر عليه إلاّ من كانت له خصائص ومواصفات ترتفع به إلى مصاف أن يكون على فوز عظيم، يقول الراغب الأصفهاني: «إنّ الرضوان هو الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خصّ لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى، قال عزّ وجلّ:﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [1] . وقال الله تعالى:﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ ... [2] ، إلى كثير من الآيات التي تفيد الرضا الكثير والفوز العظيم لعباده الذين اصطفى [3] ، كما قال الله تعالى:﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... [4] . ومما ينبغي أن يُعلم أيضاً، هو أن الرضا قد يكون من العبد، وقد يكون من الله تعالى، فمن الأول، كما يقول الراغب: «أن يرضى العبد عن الله بأن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ومن الثاني أن يرضى الله عن العبد بحيث يراه مؤتمراً لأمره، ومنتهياً عن نهيه» [5] ، وهذا ما سبق أن توقّفنا عنده مليّاً، وظهر لنا جليّاً في مباحث الفوز، فيما عرضنا له من مبادئ وأسس لا بدّ أن يستند الإنسان إليها فيما يرومه من رضوان وفوز، وكانت القاعدة الأساس ما عبّر عنه القرآن من هدى إلهي وبيان نبوي من شأن الاهتداء به، أن لا يكون الانسان على خوف أو حزن، وأن يتحقّق له الفوز في الدنيا والآخرة...

إذن، التمهيد لهذا المبحث في الفوز والرضوان والفضل الكبير، هادف إلى التمييز بين مستويين من الكلام في دلالة الآيات المباركة، المستوى الأول: هو التعرّف إلى سياق الرؤية القرآنية ذات العلاقة بالمسار الدنيوي في ضوء الهدي الإلهي والبيان النبوي وما يتعلق بها من فوز ورضوان، طالما أن الله تعالى قد ربط ربطاً وثيقاً ومحكماً بين ما يكون عليه الإنسان من صفات وشروط، وبين تحقق الوعد له بأن يكون على فوز عظيم ونعيم مقيم، كما رأينا في مبحث الفوز، فإذا لم يتوفّر الإنسان على الصفات التي بيّنها القرآن، فلن يكون فائزاً، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم ... [6] التي بيّن الله تعالى فيها في سياق الآيات الصفات التي ينبغي أن يتوفر عليها الإنسان ليكون ممن يستحقون وصف المجاهد في سبيل الله تعالى، وإلاّ كان ممن ينتصر الله تعالى به لدينه ولا خلاق له، لأنه لا بدّ أن تبذل النفوس والأموال في طاعته، وأن تهلك في مرضاته، كما أفاد القرطبي وغيره من المفسرين [7] . أضف إلى ذلك ما تمّ لحاظه في بحث سابق عن السابقين السابقين، والمهاجرين الذين كان لهم الفوز العظيم، بما كان لهم من السبق في الجهاد، لما أفاده ابن شهرآشوب من أن السبق في الآية، إن كان إظهار الإسلام فلا بدّ أن يكون مشروطاً بالإخلاص في الباطن، لأنّ الله تعالى لا يعد بالرضا والفوز العظيم من أظهر الإسلام ولم يبطنه، فيجب أن يكون الباطن معتبراً ومدلولاً عليه.. [8] .

أما على المستوى الثاني، فإنّه يكفي أن نتعرّف من خلال الرؤية القرآنية الموضوعية على الرضوان الإلهي والفوز العظيم والفضل الكبير في الآخرة على نحو ما بيّن القرآن في كثير من الآيات لجهة مضاعفة الأجر والثواب، وإعداد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إذ يمكن للباحث أن يتحدّث عن حالة مخصوصة في الآخرة تكون لأولئك الذين ابتغوا الفضل من ربهم والرضوان، وكان لهم الوعد بأن يكون لهم الخلود في الجنان ورضوان من الله أكبر، والفوز العظيم، كما قال الله تعالى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9] . فالآية، كما نلاحظ، ناظرة في سياقها إلى ما يكون للإنسان فيما لو توفر على خصائص وشروط ومواصفات تؤهّلة لأن يكون أهلاً لهذا الوعد، وطالما أن بحثنا في ما أعدّ للإنسان في الآخرة، فإنه يمكن أن نلحظ جملة الآيات التي اختلفت فيها الأوصاف، وتعددت فيها الألطاف، لنرى كيف أن السياق يختلف بين آية وأخرى فيما تشتمل عليه كل آية من مفردات وعبارات ومفاهيم تحمل كل باحث على التوقّف مليّاً عند دلالاتها، تماماً كما تميّزت هذه الآية برضوان من الله أكبر، خلافاً لآيات كثيرة ميّزت في الرضوان، بين كونه رضواناً، أو رضواناً من الله أكبر، وبين الفوز، بين كونه فوزاً مبيناً، أو فوزاً كبيراً، إلى غير ذلك مما يمكن التدبّر في سياقه للتعرّف إلى مدلولاته، لأنه لا شيء في القرآن إلاّ وله معناه ومراميه.

إذن، ونحن نقدّم لهذا الفصل، فإنّه لا ينبغي أن يغرب عن بالنا أبداً أنّه مبحث مزدوج، منه ما يتعلق بالفوز والرضوان، ومنه ما يتعلق بالفوز والفضل الكبير، لأنّ لكل مفردة قرآنية مدلوللها الخاص أو العام، ما يعني ضرورة التوقف عند منطوق الآيات ومفهومها، وهذا ما نودّ البحث فيه لعلّنا نوفّق إلى مزيد من اللطائف التي تنطوي عليها الآيات المباركة، لأنها آيات أُوحي بها من لدن حكيم عليم، ولا بدّ أنّها تنطوي على حقائق كثيرة، نسأل العليّ القدير التوفيق للاهتداء إليها. كما لا ينبغي أن يفوتنا أيضاً أن للعلماء وأهل التفسير آراء ومذاهب شتّى في فهم هذه الآيات، وخاصة فيما عرضوا له من مباحث في الثواب والعقاب، أو في الثواب والرضوان، أو في الثواب والتفضّل، وكانت لهم شروحات مستفيضة منها ما هو واضح لا لبس فيه، ومنها ما هو ملتبس ومحكوم للرأي ويحتاج إلى توضيح، وغايتنا في هذا المبحث، لا تتجاوز تبيين المجمل، أو تهذيب وتبويب المختلط المبعثر، كما هو شأن كل باحث هادف إلى إصابة وجوه الآراء تقرّباً لوجهه الكريم، وطمعاً بلطفه العميم، وذلك من منطلق أنّ لكل باحث طريقته في استكشاف وجوه الآراء على النحو الذي يمكنه من الخلوص إلى نتائج جديدة في بحثه، وقد رأينا، كيف أن أهل التفسير لم يتوقفوا عند ما يعنيه الرضوان والفوز والفضل في ضوء ما جاءت به الآيات القرآنية، بل فسّروا كل شيء وفاق رؤية تجزيئية جمعوا فيها المفردات وأعطوها مدلولاً واحداً لخدمة أغراض شتّى، في حين أن القرآن يريد لنا أن نتدبّر في آياته لندرك معنى أن يكون الفوز العظيم لمن اختار أن يكون عظيماً في دينه وإيمانه وجهاده وفي كل حياته على نحو ما بيّنت الآيات في سياقاتها لجهة ما ينبغي أن يكون الإنسان عليه من مواصفات تسبق كل فوز عظيم، وكل نعيم مقيم ...


[1] سورة الحشر، الآية: 8.
[2] سورة النور، الآية: 21.
[3] الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ مفردات القرآن الكريم، م. س، ص202.
[4] سورة الفتح، الآية: 18.
[5] الراغب الأصفهاني، م. ع، ص202.
[6] سورة التوبة، الآية: 111.
[7] انظر: القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير الجامع لأحكام القرآن، م. س، ج8، ص267.
[8] المازندراني، محمد علي بن شهرآشوب، متشابه القرآن ومختلفه، (ت 588هـ)، انتشارات بيدار، قم، ط3، 1410هـ، ج2، ص7.
[9] سورة التوبة، الآية: 72.


 

المبحث الأول: الرضوان وسبل السلام

 


جاء في ميزان الحكمة أن الله يُعبد بإحدى طرق ثلاثة: الخوف والرجاء والحب [1] ، وما على المؤمن إلاّ أن يتنبّه لحقيقة الدنيا، وهي أنها متاع الغرور، ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾، كما ينبغي على كل مؤمن أن يعي أن الطريق إلى الله تعالى، هي طريق القلب الذي يقلّبه الرحمن الرحيم كيفما يشاء، وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد قال الله تعالى:﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [2] ، وقد شاء الله تعالى أن يكون قلب المؤمن موطناً لحقائق الإيمان، وسراً لعرش الرحمن، فكان منه الحق والجهاد والخوف والرجاء ومبعث الحياة، فتلقّى من ربه كلمات، واختار الهدى والبيِّنات، فكانت له الذكرى، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [3] . ذلك هو معنى أن يكون القلب على حب الله تعالى، أن تكون له الهداية في طريق الرضوان والفوز والفضل الكبير، وقد تجلّت نعمة الله تعالى فيما خص به هذا الإنسان من هداية وبيان، وروح وجنان. يخرجانه من الظلمات إلى النور، ويهديانه إلى سبل الله تعالى، كما قال الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [4] . هدايةً توفقهم لمزيد من الطاعات، وترشدهم إلى الجنة ونعيمها الدائم والخالد، فإذا كان الإنسان لم يخلق سدىً ولم يترك هملاً، فإن هداية الله تعالى هي منار السبيل لإحياء القلوب بذكر الله تعالى، بحيث يكون منها الحب والرضا والكدح في سبيل الله تعالى. وقد جاء الأنبياء لإثارة دفائن العقول، وإحياء القلوب ليكون جهادها حباً، تنشرح به الصدور، وتُيسّر به الأمور، كما قال موسى في سورة طه:﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُواْ قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً [5] .

لقد بيّن النبي موسى، كيف أنه فيما يطلبه، إنّما يطلبه لأجل أن يكون مسبّحاً وذاكراً لله تعالى، وهو بدأ من الصدر الذي هو موضع القلب، ليكون الحب هو طريق الحياة وسرّ العبادة، ومنتهى الفوز والرضوان، سواء في الدنيا، أم في الأخرة، على اعتبار أن موسى النبي والرسول (عليه السلام)  دعا ربه ليكون على طريق الحق في رسالته مبتدئاً من شرح الصدر وتيسير الأمر، وحققها بالتسبيح لله تعالى والذكر له، وهذا هو طريق الهداية بين المبدأ والغاية، وكم هو الفرق كبير بين أن تكون على خوف ورجاء، وبين أن تكون على حب تنتهي به إلى خالص الذكر والتسبيح الذي به يكون الرضوان والفوز العظيم، وهذا ما هُيِّئ له الإنسان في ما خص به من خلافة وهداية وسرّ عظيم، فما بال الإنسان يعيش تجاذب الرهبة والرغبة، وينسى أنه على سرّ عظيم فيما عقد عليه قلبه، فيختار أن تكون له عبادة التجار، أو عبادة العبيد، وهو في سرّ شهادته ناطق بالقلب، وشاهد بالروح على كونه عبداً لله تعالى، وقد خاطبه الله تعالى بقوله:﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [6] .

إن معنى أن يختار الإنسان سبيل الحب إلى الحبيب، أن يكون حرّاً، كما قال الإمام علي (عليه السلام) : «إنَّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار» [7] . لا شك في أن كلام الإمام علي (عليه السلام)  ناظر إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في علاقته بالله تعالى، وفي عبادته له، بحيث يختار طريق الحرية، وطريق الحق الخالص لتكون دنياه وآخرته تعبيراً عن هذا الحب لله تعالى، وكما قال الشهيد الثاني رحمه الله تعالى: «واعلم أن الرضا بقضاء الله تعالى هو ثمرة المحبة لله تعالى، باعتبار أن مَن أحب شيئاً رضي بفعله...» [8] .

وهكذا، فإن تجليات حقائق الإيمان إنما تكون من هذا الحب الذي سرُّه التسبيح والذكر، وكيف لا يكون هذا سرّه، وقد قال الله تعالى لموسى (عليه السلام) :﴿  وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي [9] ، فكانت المحبة سرّاً في العابد والمعبود، وسبيلاً إلى القلوب، في طيّ منازل الوجود من الملك إلى الملكوت، وإذا لم يكن للإنسان هذا السبيل، فعلى الأقل أن يكون له سبيل الخوف والرجاء وحسن الظن بالله تعالى، لقول الإمام علي (عليه السلام) : «وإن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله، وأن يحسُن ظنكم به، فاجمعوا بينهما، فإن العبد إنما يكون حُسْنُ ظنه بربّه على قدر خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظناً بالله أشدهم خوفاً لله تعالى...» [10] .

لقد فُتح باب الهداية، فقال الله تعالى:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾، وهُدى إلى سبل السلام، فكان الرضوان والفوز العظيم لمن آمن وعمل صالحاً وجاهد في سبيل الله تعالى، ولا تزال الدنيا دار فناء وغرور منذ أن تحقق الهبوط واعتلى إبليس قمة المعاصي، وقد أبى الله تعالى إلاّ أن تكون للإنسان هدايته، فجعل من النبوة والتشريع جزءاً من تقدير خلق الإنسان على حد تعبير العلامة اليزدي [11] ، ليكون بمنأى عن تأثير الشيطان، ويختار سبل السلام والرضوان الذي جاء به الأنبياء لهداية العباد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال الله تعالى:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [12] .


 

 

أ - الإيمان والرضوان


قال الله تعالى:﴿ لَّا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [13] .
إنّ الآية المباركة تفيد في جانب منها أنّ موالاة الكفّار لا تجتمع مع الإيمان، والمراد به الموالاة في الدين، كما يرى العلامة الطبرسي [14] ، حتى ولو كانوا أهل قرابة من أب أو أخ أو عشيرة، باعتبار أن القريب الحقيقي هو الدين، ولهذا نجد الآية تتحدّث عن حقيقة الإيمان الذي كتب في قلوب المؤمنين الذين يوالون في الله ويحادون في الله تعالى.

وعليه، فإنّ معنى الآية فيما يفيده السياق، أنّ الإيمان هو مرتكز كل تحوّل في حياة الإنسان، هذا فضلاً عن كونه سبباً في الرضوان والصلاح والفوز في الدنيا والآخرة، وقد تقدّم الكلام في أن الهدى الإلهي هو مصدر وسبب كل سلام وطمأنينة في الدنيا قبل الآخرة، كما قال الله تعالى:﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾. فالإيمان، بما هو أصول وفروع وأحكام، هو المشار إليه في قوله تعالى:﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [15] .

وقد أفاد علماء التفسير أن السياق في الآية جاء بلحاظ الكلام عن الطيبات وأحكام الذين أوتوا الكتاب، وكما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)  في الكافي «أنّ من يكفر بالإيمان بجحد الشرائع أو بتركها، أو ترك العمل بالأحكام الشرعية ... [16] ، إلى كثير مما جاء في معنى هذه الآية، ولكننا نرى أن السياق يتحدّث عن الكفر بالإيمان الثابت الذي يعني الأصول والفروع، وغير ذلك مما تقتضيه حقيقة الإيمان من تولّي وتبرّي وكفر بالطاغوت، وهذا ما أفاده العلاّمة الطباطبائي: فالكفر بالإيمان يقتضي وجود إيمان ثابت... فيؤوّل معنى الكفر بالإيمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه حقّ كتولّي المشركين والاختلاط بهم والشركة في أعمالهم مع العلم بحقيقة الإسلام، وترك الأركان الدينية في الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع العلم بثبوتها أركاناً للدين» [17] .

هذا ما تفيده الآية في جانب منها، أما الجانب الآخر، فهو ما لحظه السياق من إشارة إلى التأييد بالروح منه تعالى، والرضا عنهم، كما في قوله تعالى:﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾، الذي أعقب قوله تعالى:﴿ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ﴾، وهذا يفيد بملاحظة السياق، أن الرضا إنّما هو نتيجة لصدق الإيمان في القول والعمل، في الأصول والفروع وفي كل ما يعنيه الإيمان لقول المعصوم (عليه السلام) : «إنّ الإيمان عمل كله» وليس مجرّد حالة يدّعيها الإنسان، وهذا الإيمان والإسلام هو الذي وصفه الإمام علي (عليه السلام)  بقوله: «إن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل» [18] .

إذن، السياق يرشد، منطوقاً ومفهوماً، إلى أن الإيمان، أو ما عبّرنا عنه بالهدى الإلهي والبيان النبوي هو سبب في سعادة الإنسان وفوزه، وبأن يكون «رضوان من الله أكبر». وإذا كانت النصوص تتحدّث عن مآلات هذا الإيمان الذي كتب في القلوب، وحقق في الواقع، وترجم في الأعمال، في الحياة الآخرة فيما يؤول إليه من رضوان وجنّات تجري من تحتها الأنهار، فإنّ هذا كلّه إنّما يؤكّد على أنّ الرضا هو أمر دنيوي قبل أن يكون مآلاً في الآخرة وحالاً في الجنّة، والدليل على ذلك، هو قوله تعالى:
﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [19] . إنّ القرآن يرشد إلى أن الإسلام هو سبيل الفوز، وقيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أي من اتّبع رضا الله تعالى في قبول القرآن والإيمان وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  واتباع الشرائع، كل ذلك يؤدّي اتباعه إلى أن يكون الإنسان على طريق السلامة في الدين والدنيا والآخرة، ويكون الرضا عن الإنسان في كونه أطاع الله تعالى فيما أُمر به ونُهي عنه، في كل زمان ومكان. وبما أن الإسلام هو الرسالة الخاتمة والنهائية، فإنّ السلامة تكون في اتباعه لكونه كتاباً مبيناً ونوراً يهتدي به الخلق إلى سبل السلام ...
قال الله تعالى:﴿ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [20] .
وقال الله تعالى:﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [21] .

إذن، هناك جملة من الآيات التي تفيد في سياقها أنّ المعوّل عليه في الرضوان، سواء في الدنيا، أم في الآخرة هو اتباع الهدى والطاعة لله ورسوله قولاً وفعلاً، بحيث يكون ذلك بمثابة المقدّمات للرضوان والفوز العظيم، ومقتضى الإيمان الحقيقي، أن يكون الإنسان حيث أمره الله تعالى، بحيث يؤسس لحياته على أساس التقوى، وليس على أساس المعصية والخروج عن مقتضى الإيمان والشهادة لله تعالى. وقد أفادت الآية فيما عرضت له من مقابلة بين من اتبع رضوانه، وبين مَن باء بسخط من الله تعالى، حيث يشير السياق إلى أن الناس، سواء كانوا في الدنيا، أم في الآخرة، هم درجات عند الله تعالى، إذ ليس المجاهد في سبيل الله تعالى كالفار من الجهاد، وليس العامل في طاعة الله كالذي يأتي بالمعصية، وعلى رأي بعض المفسرين، ليس من اتبع الرضوان في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وهو اختيار الطبري [22] ، قال: لأنّه أشبه بما تقدّم في الآيات لقوله تعالى: ﴿  وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... [23] .

وكيف كان، فإنّ منطوق الآيات ومفهومها يؤكّد على أن الرضوان ليس حالة، أو وصفاً خاصاً بالآخرة، باعتبار أن اتباع الرضوان، هو الإتيان بحق الطاعة في الدنيا، والقيام بحق الله تعالى وحقوق الناس، وهذا ما ترشد إليه كثير من الآيات القرآنية بدءاً من آية:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾، وانتهاءً بالآيات التي تتحدّث عمّا يكون للإنسان من أوصاف ومآلات ودرجات في الآخرة، ولعلّ في الآيات ما يدلّل على تحقق الرضوان في تحولات دنيوية فيما يختاره الإنسان من إيمان وجهاد وتقوى، وغير ذلك مما يجعل الرضوان والفوز متحققاً لكثير من المؤمنين في الحياة، تماماً كما يكون لغيرهم ممن لم يَأْمَنُوا السخط الإلهي وبئس المصير في الدنيا أيضاً، ولعلّنا لا نخطئ إن قلنا: إنّ مفاد كثير من الآيات مرشد إلى ذلك، كما في قوله تعالى:﴿ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [24] ، وهو اتباع الرضوان فيما كان منهم في معركة بدر الكبرى، الذي تولّد عنه الانتصار للمؤمنين والهزيمة للكافرين، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّه يدلّ على مدى ما يكون للرضوان والطاعة والتقوى والإيمان من أثر في التحققات الحياتية والدنيوية للإنسان، فلا يُقال بأن الرضوان، أو ما يكون للإنسان من درجات أو تحققات، إنّما يكون حصراً له في الآخرة على نحو ما أفاد بعض المحققين بأنّ مجرّد الإسلام، أو العمل في بعض الطاعات، أو الإيمان ببعض الكتاب، لا بدّ أن يكون له معنى الفوز والرضوان في الآخرة، وهذا يمكن أن يردّ عليه بأن الإسلام كلٌّ واحد لا يتجزّأ، وأنّ الله تعالى لا يُطاع من حيث يُعصى، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، ولكل علم باباً، وقد شاء أن تلزم الأسماء معانيها بأن تكون الدنيا على ما هي عليه مِن إيمان وكفر، وطاعة وعصيان، وأن لا يكون الرضا والسخط بالمال والولد، بل بالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وقد قال الله تعالى:﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [25] .

إنّ الإسلام كلٌّ واحد، ومثلما أن هذا البيان الإلهي قد اشتمل على التعاليم والأحكام، وعلى أصول وفروع الدين، فكذلك هو اشتمل على آيات الولاية والطاعة، والثواب والعقاب، والفوز وغير ذلك مما يقتضي التدبّر فيه للتعرّف إلى حقيقة ما تفيده آيات الطاعة والولاية، لأنّ هذه الآيات تحتّم أن يكون لهذا الدين قيِّماً عليه ومترجماً له، باعتباره مستوراً بين دفّتين لا ينطق بلسان ولا بدّ له من ترجمان، وهنا نسأل: هل القرآن هو ترجمان نفسه؟ أم يقال بأنّ القرآن هو شريعة لكل وارد بحيث يصدر عنه الجميع ويؤوّلونه ويفسّرونه بحسب ما تنتهي إليه قرائح عقولهم؟ أم أنّ لهذا القرآن من يهدِ إليه، كما قال الله تعالى:﴿ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنكُمْ [26] . إلى غيرها من الآيات التي تؤكّد على وجوب أن يكون للقرآن هادٍ، كما له نذير، كما قال الله تعالى:﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [27] ، لا شكّ في أنّ مطلق الآيتين ينفي ما زعمه بعض المسلمين أنّ القرآن كافٍ بذاته لأن يكون هادياً ومنذراً وحاكماً، وهذا ما عُبّر عنه بمقولة: «حسبنا كتاب الله بعد نبيّه» [28] ، وقد أدّت هذه المقولة إلى أن يكون كل إنسان إمام نفسه فيما يراه من رضوان، أو إيمان، أو طاعة، أو دين [29] ، وكانت النتيجة تحوّل المسلمين عن كونهم خير أمة ليكونوا على شرّ دين وفي شرّ دار، كما كانوا في الجاهلية الأولى فيما آل إليهم وضعهم الديني والسياسي والحضاري، وفيما انتهوا إليه من فرق ومذاهب وأحزاب متنازعة ومتناحرة إلى حدّ الفناء، وذلك إنّما كان بسبب الكره لرضوان الله تعالى والتحوّل عن طاعته فيما أمر به ونهى عنه، لتكون الطاعة لأي إنسان اتفق تحت عناوين شتّى، وقد عبّر القرآن عن هذه الحقيقة، كما في قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [30] .

إنّ مقتضى الإيمان أن تلحظ الطاعة في سياق ما جاء به أمر الله تعالى، وكذلك مقتضى الرضوان أن يؤخذ في سياق آيات الطاعة والولاية وما كان من أهل الإيمان في تجربتهم الرسالية والتاريخية، حيث تبيّن لنا أن آيات الفوز والرضوان في كثير من سياقاتها قد أتت على ذكر الأحداث والتجارب في سياق ما حُدِّد لها من أوصاف في الآخرة، كما نلاحظ في قوله تعالى:﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [31] .

وقوله تعالى:﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [32] .
وقوله تعالى:﴿ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [33] ، إلى غيرها من الآيات التي جاء السياق فيها ليدلّل على أنّ ملاك الرضا هو ما حققه الإنسان في دنياه من التزامات دينية، وتحققات إيمانية في ضوء الأحداث والتجارب التي عصف بها تاريخ الشعوب والأمم منذ أن تظهّرت حياة الإنسان على نحو ما أراده الله تعالى له من امتحان في هذه الدنيا. وهذا ما عبّر عنه العلماء وأهل التفسير بأن الآخرة ليست سوى تعبير عمّا يستحقه هذا الإنسان في دار امتحانه التي جُعلت قنطرة للآخرة التي تجسّد فيها الأعمال، وتنطق فيها الجوارح والأعضاء، فيكون فيها الرضا على الرضا، كما يكون النور على النور، هناك حيث تضاعف الحسنات، وتتمايز الدرجات، وتلتقي بشرى الدنيا مع بشرى الآخرة، كما قال الله تعالى:﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [34] ، تلك البشرى التي ملؤها الرضوان والفوز العظيم، وسرّها الإيمان، وهل كانت تلك البشرى لغير أولئك الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله تعالى؟
نعم، إنّها بشرى لهم عَبَروا بها دنيا الحياة بكل رضوان، فكان لهم من الله تعالى ما وعدهم به من جنّات، كما قال الله تعالى:﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [35] .

غاية القول: إنّ الإيمان والرضوان هما تجسيدان حقيقيان للهدى والبيان النبوي الذي خُصَّ به الإنسان لهدايته والبلوغ به إلى حيث يكون له الكمال والفوز العظيم، ومن أبصر في الدنيا بصَّرته هذه الحقيقة، وأرشدته إلى أن الإيمان والتقوى هما سرّ الرضوان الذي تحدّثت عنه الآيات القرآنية، وما ينبغي أن يُعلم في سياق هذا المبحث، هو أنّ الآيات لم تتحدّث عن فوز في المستقبل، أو في الآخرة، بل تنظر إلى المستقبل بعين التحقيق بلغة الماضي، كما في قوله تعالى:﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، وقوله تعالى:﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾، وغير ذلك من الآيات التي لم تفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وإنّما تقدّم النتيجة المباشرة لما يكون عليه الإنسان من عمل أو طاعة، أو إيمان لتجعله مبصراً بمآله، ومدركاً لحاله فيما لو كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فالرضوان هو الطاعة لله ورسوله، والنعيم هو نعيم الولاية في الدنيا والآخرة، فمن كان له نصيب من الرضا كان فوزه محققاً بما أتبعه من رضوان، وحقّقه من إيمان في دنيا وصفها الإمام الحسين (عليه السلام)  بقوله: «كأنّ الدنيا لم تكن وكأنّ الآخرة لم تزل» [36] ، وهذا ما عنينا به أنّ سرّ الرضوان هو ما تلقّاه الإنسان من كلمات ليكون له الفوز العظيم والنعيم المقيم.



 

ب - الرضوان ونعيم الجنّة

 

إذا كان من مؤدّيات الإيمان والرضوان في الدنيا، أن يؤول أمر الإنسان إلى الفوز العظيم، فإنّ هذا المؤدّى إنّما كان بسبب قيام الإنسان بأمر الله ونهيه في الحياة الدنيا بعد أن جاءه الهدى واتّبع رضوان الله تعالى، فكان له هذا التحوّل في الفوز العظيم على النحو الذي جعله مستحقاً لما أعدّ له من الجنات والرضوان والنعيم المقيم.

إنّه النعيم الذي تجاوز به الإنسان المؤمن المغفرة والرحمة والرضوان إلى رضوان من الله أكبر، وقد أجمع أهل التفسير على أنّ الرضوان أكبر من الثواب، وهو إنّما يستحق الإحسان، ويدعو إلى الحمد على ما كان، كما قال العلامة الطبرسي في مجمع البيان  [37] ، هذا فضلاً عن إجماعهم على أن الفوز إنّما جيء به بدلالة الحصر للتدليل على أن الرضوان هو حقيقة كل فوز، بل هو أكبر من نعيم الجنّة على ما أفاده العلاّمة الطباطبائي في تفسيره لقوله تعالى:﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر ﴾، يقول: «إنّه رضوان لا يقدّر بقدر، ولا يحيط به وهم بشر، لأن رضواناً ما منه ولو كان يسيراً أكبر من ذلك كله... لأنّ حقيقة العبودية التي يهدي إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبّاً له، لا طمعاً في جنّة، ولا خوفاً من نار، وأعظم السعادة والفوز عند المحبّ أن يستجلب رضا محبوبه دون أن يسعى لإرضاء نفسه، وقوله تعالى:﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، تحصر الرضوان في كونه هو حقيقة كل فوز عظيم، حتى الفوز العظيم بالجنة الخالدة، إذ لولا شيء من حقيقة الرضا الإلهي في نعيم الجنّة كان نقمة لا نعمة...» [38] .

فالرضوان، كما يرى كثير من العلماء، ليس مجرّد ثواب وحسب، بل هو أعلى مرتبة من الثواب، وقد جعله الله تعالى مقروناً برضاه، حيث قال الله تعالى:﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾، فأفاد أن الرضا هو فضيلة عظيمة، بل هو جماع الفضائل كلها، يقول الشهيد الثاني في مسكن الفؤاد: «إنّ الله تعالى نبّه على فضله وجعله مقروناً برضا الله تعالى وعلامة له، وقد جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  دليلاً على الإيمان حين سأل طائفة من أصحابه مَن أنتم؟ قالوا: مؤمنون، فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «مؤمنون وربّ الكعبة» [39] .

إنّ التدبّر في كلام الله تعالى، وخصوصاً فيما لحظه سياق الآيات من رضا ورضوان، ورضوان من الله أكبر، من شأنه أن يكشف للباحث عن لطائف لا بدّ من أن يستيقظ الإنسان لها، لأنّ كل مفردات الرضا تأتي في معرض ذكر الصفات والشروط التي لا يتوفر عليها كل الناس، وفي سياق المدح وتمايز الدرجات، كما قال الله تعالى:﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ﴾.

وعليه، فإنّ معنى الرضا يتجاوز كونه ثواباً ليكون شيئاً أكبر من ذلك اكتفى الذكر الحكيم بوصفه كونه رضواناً من الله أكبر، أو تنكير الرضوان، كما في قوله تعالى:﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ [40] ، حيث نرى أن الرضوان قد نكّر للتدليل على أنه شيء وراء الوصف والتعريف [41] ، وهذا ما لحظته الكثير من الأحاديث عن أن للمتقين في الآخرة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إلى غير ذلك مما يبعدنا عن مشهد الرؤية، ويجعلنا أمام مجرّد الوصف فيما ينطوي عليه من مشاهد حيّة لا سبيل إليها إلاّ بحبّ الله تعالى، كما قال الإمام الصادق للمفضل بن صالح: «يا مفضل إن لله عباداً عاملوه بخالص من سرّه فعاملهم بخالص من سرّه، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فرغاً... وإذا وقفوا بين يديه تعالى ملأها من سرّ ما أسرّوا إليه، فقلت لما ذلك يا مولاي؟ قال: أجلهم أن تطلع الحفظة على مابينه وبينهم، يا هذا لا تغفل عن هذه المقامات الشريفة التي هي أنفس من الجنّة، كيف لا؟ وهي السبب في الوصول إليها، وإلى ما هو أكبر منها. إنّها السبب لرضوان الله تعالى، كما الله قال:﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » [42] .

وهكذا، فإنّ ملاحظة حقيقة هذا الرضوان وما يكون له من درجات، تجعل الإنسان حائراً في وصفه، وعاجزاً عن التعبير عنه لكون ما يرشد إليه الإمام الصادق (عليه السلام)  هو من السرّ الذي لا سبيل للحفظة إليه، فكيف للإنسان أن يتحسّسهُ أو أن يتعقّله، باعتباره من حقائق البشرى في الدنيا والآخرة، ولعلّ في كلام الإمام (عليه السلام)  ما يرشد أيضاً إلى أن الرضوان هو من حقائق الإيمان والحبّ الذي يُلقى للإنسان ليكون حبّاً في الله تعالى، وهذا لا يكون إلاّ للواحد بعد الواحد من الناس، كما قال الله تعالى:﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي  [43] ، وكان له من هذه المحبة ما يملأ الوجود والخلود معاً، ولا شكّ في أنّ تجلّيات هذه المحبة ليست محصورة في أن يكون الرضوان متميزاً في مكان أو في زمان، بل هي ممتدة في وجود الإنسان لتكون فيضاً في وجوده وسرّاً في ملكوته، كما قال المازندراني في شرح أصول الكافي: «اعلم أيّها اللَّبيب أنّ الرضا من أعلى منازل المقرّبين، وأقصى مراتب السالكين، فإنّه ثمرة المحبّة، وهي ثمرة الأنس بالله تعالى، وهو ثمرة الصبر على فعل الطاعات، وترك المنهيّات وتحمّل المكاره، والمشاق، وهذا كله ثمرة الخوف من الله تعالى والرضاء بثوابه وإكرامه وأيضاً... واعلم أنه لعلوّ منزلة الرضا رفعه الله تعالى فوق جنّات عدنٍ وجعله أكبر من نعيمها، فقال الله تعالى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [44] ، فهو فوق نعيم الجنان، وغاية مطلب سكّانها، وإذا رضي العبد عن الله رضي الله عنه» [45] .

ذلكم هو معنى الفوز والرضوان في نعيم مقيم، لا صفة له إلاّ الرضوان، ولا معرفة به إلاّ من حيث كونه أكبر، فكان فوزاً عظيماً، وسرّاً عجيباً، خصّ الله تعالى به أولياءه، وأجلّهم عن أن تكون الحفظة عالمين بهم، أو مدركين سرّهم، باعتبارهم خُصّوا بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لكنهم علموا بحقيقة السبيل، واتبعوا رضوان الله فيما أمروا به ونهوا عنه، فكان منهم الجهد والجهاد والحبّ في ذات الله تعالى، فحقّ لهم أن يكونوا على ما خُصّوا به من الرضوان في الدنيا والآخرة.

إنّ من الحقائق القرآنية التي يجدر التوقف عندها والتدبّر فيها، ما أفاده سياق بعض الآيات ليس فقط من تنكير للأوصاف، وتعظيم للألطاف، فإنّ ما جاء الرضوان مسبوقاً به من رحمة ومغفرة، سواء في مجال وصف الدنيا والآخرة، أم في مجال البشرى للمؤمنين، حيث قال الله تعالى:﴿ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [46] . وقال الله تعالى:﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [47] .

نلاحظ أنّ الآيتين المباركتين تأتيان على مفردتي المغفرة والرحمة قبل الرضوان، مع لحاظ كون التنكير جاء واضحاً ليفيد حقائق جمّة لا داعي للتعرّض لها إلاّ فيما يحتاج إليه بحثنا، إذ في الآية مُثّلت الدنيا وبهجتها وزينتها بالمطر النازل من السماء يختلط به نبات الأرض، فيتحرّك إلى غاية ما يمكنه من النموّ، ثم يهيج فتراه مصفرّاً، ثم حطاماً، وهكذا حال الدنيا، فإنها إلى تصرّم بعد زينتها وكذلك الإنسان، فهو بعد مراحل نموّه إلى موت وبما أن المطلوب في سياق الآية المباركة، هو قوله تعالى:﴿ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾، حيث نجد أن الآية تلحظ ما يكون من مصير في الآخرة للكافرين والمؤمنين، وقد سبقت المغفرة من الله تعالى الرضوان، هذا فضلاً عمّا وصفت به المغفرة دون العذاب، فقال المولى تعالى:﴿ عَذَابٌ شَدِيدٌ ... ﴾، أما في المغفرة، فقال المولى تعالى: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ﴾، وهذا لا يخلو من إيحاء إلى أن المطلوب بالقصد الأول هو المغفرة، وأمّا العذاب، ليس بمطلوب في نفسه، يقول العلّامة الطباطبائي: «سبق المغفرة على الرضوان لا يحلّ إلاّ في القلوب المحبّة الطاهرة، وإلاّ لاستحال الرضوان وتحقق العذاب الشديد في الإنسان نفسه، وهذا ما تقتضيه حقيقة المسابقة إلى المغفرة التي تتطلّب السباق في الحياة الدنيا مع الآخرين في سبل الخير، لأنّ الشيء لا يتسابق مع نفسه، كما قال الله تعالى:﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ... [48] ، فجعل قيمة الاستباق في كونه استباقاً نحو الخيرات، باعتبار أن لا قيمة له من حيث هو مجرّد استباق، هذا فضلاً عمّا تفيده الآية من جعل التكامل الإنساني في الحياة معلولاً للاستباق المذكور بفاء التفريع، فاستبقوا.. والهدف الأقصى هو الله تعالى.

إذن، الحقيقة التي يجب التوقف عندها مليّاً، هي ما تقتضيه عملية التطهير في الدنيا لتكون القلوب قابلة ليحلّ بها الرضوان، ما يعني ضرورة أن يتنبّه الإنسان لما يعنيه اتباع الرضوان في حياة الإنسان قبل آخرته، لأنّ ما في العالم الآخر هو مثال لما في عالم الدنيا، وليس يوجد شيءٌ في ذلك العالم إلاّ وله تحققاته في الدنيا على نحو ما بيّن القرآن لجهة أن قوله تعالى لا يتبدّل، وأنّ عذابه لا بدّ أن يتحقق للكافرين، كما قال الله تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [49] ، ولا شكّ في أنّ كل ما وعد الله في كونه فهو كائن لاستحالة تكذيب ما جاء به القرآن من أخبار، ذلك هو معنى أن تكون الدنيا ميداناً للسباق، وأن تكون المغفرة سابقة على الرضوان، وعلى الجنّة، لقول الطباطبائي: «إنّ تقديم المغفرة على الجنّة في الآية، لأنّ الحياة في الجنّة حياة ظاهرة في عالم الطهارة، فيتوقف التلبّس بها على زوال الذنوب والأوساخ والقذارات» [50] . والكلام ذاته يمكن أن يقال فيما لحظته آية البشرى، التي تقدّمت فيها الرحمة على الرضوان الذي نكّر فيها لكونه فوق الوصف والتعريف، ولعلَّ هذا التقديم ناظر إلى أن الرضوان هو منتهى ما يمكن أن يكون عليه الإنسان فيما أعدّ له من نعيم، كما بينّا سابقاً، فتكون أسبقية الرحمة في الآية درجة من درجات الرضوان، أو الفوز في ميدان تحقق البشرى، لأنّ البشرى لا تكون في الفراغ، وإنّما في الواقع وعلى تحقّق أعمال يضاعف عليها الثواب، فيتأتّى للإنسان من خلالها أن يكون على بشرى في الدنيا والآخرة. أما حقيقة الرضوان والنعيم، فإنّها تبقى مجهولة لنا لكونها وصفت بأنها رضوان من الله أكبر، ولم يوضّح القرآن لنا كيف يكون رضواناً أكبر باستثناء قوله تعالى:﴿ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [51] .

مما تقدّم يمكن لنا أن نعرض لجملة آيات قرآنية قد يتساءل الباحث عن سرّ اختلاف المفردات فيما ختمت فيه الآيات من فوز عظيم، وفوز مبين، وفوز كبير، وهي أوصاف ونعوت لا بدّ أنها لاحظة لمعانٍ جليلة، تماماً كما بيّن القرآن أنّ هناك رضواناً، ورضواناً أكبر، حيث قال الله تعالى:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [52] ، إذ لم يقل تعالى، هو فوز عظيم، وقد يكون لذلك فائدة جليلة يمكن للباحث أن يتدبّر في الآيات ليخلص إليها، وما نستظهره في هذا السياق، هو مجرّد رأي يمكن أن يكون له مكان، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل، فنقول: إنّ ذلك قد يعود إلى أسباب عدّة:

أولاً: نرى أن الآية تلحظ الرضوان، ولعلّها تعبّر عن درجة من درجات الفوز، لأن المبين هو الظاهر، في حين أن العظيم قد يشتمل على المبين، أما المبين فقد لا يشتمل على العظيم، بدليل أن سياق آية:﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾، قد أشير إليه بالفوز العظيم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نرى أن آيات الفوز العظيم قد اشتملت على الكثير من المواصفات والخصائص، وهذا ما يحتّم أن يكون ختام الآية تعبيراً عنها، وتأكيداً عليها، وخاصة مع مجيء الآية بلحاظ سياق:﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾، الذي غالباً ما جاءت به الآية بالفوز العظيم.

ثانياً: نلاحظ أنّ آيات الفوز العظيم تلحظ في سياقها الخاص أو العام، صفات الرضى والرضوان، والفضل وجنّات عدنٍ، ومساكن طيّبة، إلى غير ذلك ممّا يمكن ملاحظته في كثير من الآيات، وخاصة حينما تكون الآية متقابلة مع آية أخرى، كما في الآية التي يتقابل فيها المنافقون مع المؤمنين، والتي أُشير فيها إلى﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾، حيث نرى كيف أن الآية قد اشتملت على كثير من الأوصاف والشروط التي تحتّم مسلكيّة في القول، والعمل مختلفة عن مسلكية أخرى قد تكون توفرت على شيء من الشروط. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن ملاحظة آية الفوز المبين، التي أُشيرَ فيها إلى﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فكان لهم هذا الفوز المبين، فإذا أضفنا هذه الآية وتمّ ضمّها إلى قوله تعالى:﴿ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [53] ، فإنّك تلحظ أن السياق يفيد درجة معيّنة من الفوز عبّر عنها القرآن بقوله تعالى:﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [54] .

ولا شكّ في أنّ الزحزحة عن النار ودخول الجنّة، ليست كمثل مَن كان له الرضوان، أو رضوان من الله أكبر، على نحو ما تبيّن لنا في بحوث الفوز العظيم، سواء في الدنيا، أم في الآخرة. فالآيات، في الفوز المبين، لا نرى أنها تأتي على جملة من المواصفات، وإن كانت تشتمل على الإيمان والعمل الصالح والرحمة، وغير ذلك مما لا بدّ منه لكي يكون المتحصّل فوزاً، لقوله تعالى:﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ﴾، وهذا ما ينبغي أن يكون موضع تدبّر الباحث في الشؤون الإسلامية، لأنّ مَن أخذ بالهدى الإلهي، وأتبعه تكويناً وتشريعاً، وكان له تجلّيات هذا الهدى، ليس كمثل مَن زُحزح عن النار، وأُدخل الجنّة، فإن قلتم: يمكن الاعتراض على ما تذهبون إليه، بالقول: إنّ هناك آيات جاءت بالفوز العظيم ولم تلحظ جملة المواصفات والخصائص التي تستندون إليها في تمييزكم بين العظيم والمبين، كما في قوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [55] .

فهذه الآية، كما ترون، لا تشتمل على رضوان، وفيها مواصفات الإيمان، والعمل الصالح، وتكفير السيئات، والجنان، والفوز العظيم... وبتفصيل أكثر نقول، إنّه لم يرد في الآية جنات عدن، ومساكن طيبة، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، إلى غير ذلك مما أتت عليه الآيات، وخصّته بالفوز العظيم ...

قلنا: لا بأس أن نقبل الرأي والتدبّر، ولكن بعد أن يفسّر لنا معنى التغابن الذي يجمع فيه الناس، ويكون فيه الموقف مختلفاً، لأنه بذاته يوم عظيم، ولا بدّ أن يكون الفوز فيه عظيماً، وذلك إنّما تذهب إليه بلحاظ كونه يوماً يُجمع فيه الأولون والآخرون، الأنبياء والأولياء والعصاة والكافرون، باعتباره يوماً يغبن فيه أهل الجنة أهل النار، وحينما نقول أهل الجنّة، فإننا نقصد كل أهل الجنّة، وبكل درجاتها ومستوياتها، وأهل النار بكل درجاتهم أيضاً، فإذا كان الحال كذلك، فكيف لا يكون الفوز في هذا الموقف فوزاً عظيماً، وأهل الجنّة فيهم الأنبياء والأولياء يغبنون الطغاة والمترفين والمنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهذا كما تعلمون بخلاف الآيات التي جاء فيها الفوز بالمبين، وإنّ ما يدلّ على ما نذهب إليه قوله تعالى:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ  [56] ، إذ من خلال ملاحظة السياق نجد أنّ الآية جاءت في سياق قوله تعالى:﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [57] .

فالآية قابلت بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبين الذين كفروا واستكبروا، فجعلت من درجات المؤمنين والعاملين للصالحات أنهم على فوز مبين، فيبقى التدبّر لازماً فيما جاءت به الآيات للتعرّف إلى حقيقة ما ينطوي عليه الوصف من معنى، وهذا لا يكون ممكناً إلاّ بملاحظة السياق العام للآيات، الذي يُفيد حقيقة التمايز في الدرجات [58] ، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، على اعتبار أنّ آيات الفوز العظيم تأتي متميّزة في سياقها العام والخاص، وتمنح لأهل الفوز المزيد من المواصفات والخصائص في الدنيا والآخرة، وهذا ما تفيده آيات دابة الأرض التي تخرج وتكلّم الناس وتكون بمثابة الحجّة على الطواغيت والمترفين، بحيث يتبدّى لنا أن الفوز العظيم له تجلّياته أيضاً في الدنيا والآخرة، بل وقبل يوم القيامة في يوم الرجعة يوم يُكلّم الناس في مشهد هو من مشاهد اليوم العظيم، الذي يُفرز فيه الناس بين فائز، وبين خاسر على نحو ما تبيّن لنا في مباحث سابقة.

وإذا كان لا بدّ من الإشارة إلى دلائل أخرى في معنى هذا التمايز ودرجاته في الدنيا والآخرة، يمكن للباحث أن يتدبّر في الآية التي لحظ فيها الفوز بما هو فوز كبير حيث قال الله تعالى:﴿  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [59] ، فأتى الفوز فيها بوصف الكبير، ولعلّ هذا ناظر إلى كون السياق يتحدّث عن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، وهو فوز ربّما يأتي على درجة الفوز الكبير، لكونه لاحظاً لحقيقة الموقف الذي يكون عليه أهل الإيمان في مقابل الذين يفتنون الناس عن دينهم، لأن السياق لم تختلف فيه المفردة لمجرّد تغيير العبارة، وإنّما لا بدّ من ملاحظة حقيقة الموقف وما يكون عليه الإنسان من تحوّل في الحياة من خلال الإيمان والعمل الصالح والجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك من منطلق حقيقة التمايز بين ما يخصّ به المجاهد عن القاعد، وقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجة» [60] ، وجعل لهم تمايزاً خاصاً، وهكذا في كثير من الآيات القرآنية نجد أن الإتيان بالمفردات في خواتيم الآيات لا يكون لمجرّد تغيير المفردة، وإنّما هو ينطوي على معانٍ جليلة يمكن للباحثين أن يتدبّروا فيها لعلّهم يكتشفون سرّ هذا التمايز بين أن يكون الفوز عظيماً، أو مبيناً، أو كبيراً.

أما نحن، فإنّ ما قدمناه هو مجرّد رؤية وموقف يمكن الاعتراض عليه، ولكنه يبقى قابلاً للبحث والتدبّر على نحو ما بينّا في سياق هذا المبحث الذي أكّدنا فيه على أنّ الفوز العظيم إنّما يكون للإنسان المؤمن الذي يخشى الله تعالى فيكون له الفوز العظيم، بل والرضوان من الله تعالى لما أجمع عليه العلماء بأنّ هذا الرضوان هو سبب كل سعادة، وبه تنال كل كرامة، التي هي أكبر أصناف الثواب، ذلك الرضوان، كما يقول المجلسي في البحار، هو الفوز العظيم الذي تستحقر دونه كل لذّة وبهجة... [61] .

ثمّ، إنّه ينبغي الالتفات أيضاً أن قوله تعالى:﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أتى في القرآن مرّة واحدة، وهذا ما يبيّن مدى ما لهذا الرضوان من تمايز عن سائر ما جاء من آيات القرآن، كما إنّه يعزّز من رؤيتنا بأن وصف هذا الرضوان بالفوز العظيم، كما يرى الزمخشري [62] ، علامة فارقة في سياق الحديث عن آيات الفوز واختلاف مفردات استعمالاته في القرآن، وقد رأينا سابقاً كيف أن الاختلاف اللغوي يمكن الاستفادة منه في توجيه الرأي لاستخلاص الموقف والرؤية، خلافاً لما يذهب إليه بعضهم من جمع لهذه المفردات وكأنّها مفردة واحدة في القرآن الكريم.


 

المبحث الثاني: الفضل والرضوان وثواب الأعمال

 


إذا كان الرضوان هو غاية ما يطمح إليه الإنسان وتنزع إليه نفسه في الدنيا والآخرة، فإنّ هذا الرضوان، كما رأينا في المبحث السابق، يتميّز في كونه غير محسوس وغير معقول لكونه مما لا يقدّر بقدر ولا يحيط به وهم بشر. فهو رضوان لا توصيف له ولا تعريف كما بيّن القرآن، وخاصة الرضوان الذي هو أكبر من أن يحيط به عقل، أو أن يطاله وصف لقوله تعالى:﴿  وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾. وقد بينّا أنّ هذه آية وحيدة في القرآن تحيّرت بها العقول، وكلَّت عنها الألسن ما جعل العلماء والمفسرون يتوقفون عن القول فيها إلاّ أن يكون القول عجباً، والوصف تعبداً، فقالوا بالفوز العظيم الذي ليس بعده ملتمس مطلوب، كما جاء في كتاب العمدة لابن البطريق [63] ، كاشفاً عن أنّ المحبّة لله تعالى وفي الله تعالى، هي سبيل الرؤية، وتمام القول، وخلاصة الوصف، بعد أن أبان الله محبّته بما تحصل، وعمّا تكون، ثمّ أبان محبّته لعباده ومحبّتهم له بماذا تكون، وهذا كلّه من الفوز العظيم الذي لا التماس بعده [64] .

إذن، الرضوان هو سرّ الجنّة، كما هو سرّ القلب، وقد وُعِد به المؤمنون والمؤمنات في سياق أوصاف وشروط من شأن التحقق بها والتوفر عليها أن يكون للإنسان فوزٌ ورضوانٌ، سواء في الدنيا أم في الآخرة، ذلك أنّ هناك الكثير من الآيات التي تبعث على التدبّر فيما يعنيه الفضل والرضوان من حيث أنّ هذين المصطلحين يأتيان في سياق واحد، كما قال الله تعالى:﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً [65] ، وقد تقدّم الفضل على الرضوان لا لسبب، وإنّما لهدف، وهو أن يتحوّل الإنسان في طريق الإيمان والجهاد والتجارة مع الله تعالى، ليكون ممن استحقوا ويستحقون الفضل والرضوان، كما قال الله تعالى:﴿  لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [66] .

إنّ الفضل والرضوان ليسا وعداً بالجنّة وحسب، وإنّما هما أثران حقيقيان، وثوابان دنيويان أيضاً يلحق بالإنسان بما يأتيه من جهاد في المال والنفس، وبما يؤدّيه من قول وفعل، وبما يقولونه من صدق، وهذا ما يرشد إليه سياق الآية المباركة التي اشتملت على النصرة لله ورسوله من خلال الطاعة بكل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، بحيث يكون الصدق تجلّياً حقيقياً في الأقوال والأفعال. ولهذا، نجد أن ابتغاء الفضل والرضوان يأتي في سياق الالتزام والطاعة والنصرة، وغير ذلك مما اشتملت عليه الآية لما تقدّم الكلام فيه من أنّ شروط الفضل والرضوان والفوز العظيم واستحقاق الثواب، إنّما يكون سبيله الدنيا قبل الآخرة، هذه الآخرة التي هي مظهر حقيقي لتجلّيات الفوز والفضل والرضوان، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [67] .

صحيح أنّ الآية جاءت في سياق الكلام الإلهي عن الزينة وحبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة، من الذهب والفضّة إلى غير ذلك مما يعني الدنيا ومتاعها، إلاّ أنّه لا ينبغي أن نسهى عن السياق العام للسورة المباركة، سورة آل عمران؛ التي تحدّثت عن فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ وأخرى كافرة، ثم تابعت الكلام في زينة الحياة لتوضّح في النهاية معنى أن يكون الخير كل الخير فيما يكون للإنسان من رضوان في الآخرة.

والحق يُقال: إنّه مثلما أن الرضوان له درجات وتمايزات في الدنيا والآخرة، فكذلك الفضل من الله تعالى هو له هذا التمايز من حيث كونه فضلاً عظيماً، أو مبيناً، أو كبيراً، إلى غير ذلك مما تمَّ التعرّض له في مبحث الفوز وما اشتمل عليه القرآن من مفردات وتمايزات حقّ أن يكون لها اختلاف وتباين في الدرجات، طالما عرفنا أن الرضوان هو أيضاً له هذا التمايز بين أن يكون رضواناً، أو أن يكون رضواناً من الله أكبر، الذي عجز العلماء عن تعريفه وتوصيفه، وكانت خاتمة كلامهم فيه أنّه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وهكذا، فإنّ ما نروم بحثه في هذا المبحث، هو التوقف على حقيقة ما يعنيه الفضل والرضوان في الدنيا، وما يكون للإنسان من ذلك في طريق كدحه إلى الله تعالى، باعتبار أنّ القرآن قد تعدّدت فيه مفردات الفضل بين أن يكون فضلاً فيما أنعم به على الإنسان في دنياه، وبين أن يكون فضلاً وفوزاً، كما في قوله تعالى:﴿  لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [68] ، وقوله تعالى:﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [69] .

إنّ التدبّر في آيات الله تعالى يكشف لذي لبّ أن الفضل على الإنسان تلازم مع هدايته في التكوين والتشريع، فسبحان الذي قدّر فهدى؛ فقال الله تعالى:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [70] ، وقال الله تعالى:﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [71] ، فسبحان الله وتعالى: ﴿ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [72] .

إنّ الله تعالى الذي وعد عبده بالمغفرة والفضل، وأيّده بروح منه بعد أن كتب الإيمان في قلبه، فجعله مهتدياً إلى سرّ وجوده، وجوهر خلافته، ومدركاً لسرّ هبوطه إلى الأرض ليقوم بشؤون الخلافة، ويحمل الأمانة، فلا يكون للشيطان سبيلٌ عليه، ولا منفذٌ إليه، بل يكون الإنسان الخليفة الذي اهتدى بهدي الله تعالى، وآمن بوعده له، كما قال الله تعالى:﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [73] .
لقد بيّن القرآن الكريم حقيقة الفضل على الإنسان في كثير من الآيات، منها ما هو متعلّق بالفضل على الأنبياء، ومنها ما هو متعلّق بالإنسان الذي هداه الله تعالى لما فيه الخير والرضوان في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [74] ، وقال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً [75] .

هناك الكثير من الآيات التي تلحظ الفضل على الإنسان في الدنيا، وهذا الفضل، كما قلنا، تلازم مع هداية الإنسان ليكون له الفوز والرضوان والثواب، وطالما أننا تحدّثنا في الفصول السابقة عمّا يعنيه الفوز والرضوان، فإنّ ما سبق يصلح لأن يكون مدخلاً إلى مبحث الفضل وثواب الأعمال، سواء في حياة الإنسان، أم في آخرته، لأنّ الثواب، هو، أمر متحقق للإنسان المؤمن، بعد أن بينّا أن الرضوان هو شيء فوق الثواب، وبعضهم رأى كما ينقل عن العلامة المجلسي في بحار الأنوار، أنه قال: «إنّما صار الرضوان أكبر من الثواب، لأنه لا يوجد منه شيء إلاّ بالرضوان، وهو الداعي إليه والموجب له...» [76] ، كما أنّ هناك فرقاً كبيراً، كما بيّن العلماء بين أن يريد الإنسان ثواب الدنيا، وبين أن يريد ثواب الآخرة، ومن الناس من يكون له ثواب الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [77] ، وهذا ما فصّل الكلام فيه الشريف الرضي رضوان الله عليه في مباحث حقائق التأويل [78] مبيّناً حقيقة ما يكون في الدنيا من الثواب، باعتبار أنّ الثواب كلّه من عند الله تعالى، وليس يوجد شيء منه عند الإنسان، خلافاً لما زعمه أهل الترف في تاريخ الإنسانية من أنّهم قد أوتوا هذا الثواب من عنديّاتهم، قال الله تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [79] ، سميعاً لأولئك الذين زعموا ما يكون لهم من ثواب، كما قال قارون: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾، وبصيراً بحال هؤلاء وضعفهم فيما يزعمونه لأنفسهم، مفنّداً لقولهم على لسان أهل العلم [80] ، حيث قال الله تعالى:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [81] ، فالآية ناظرة إلى أن الثواب الحقيقي الذي له امتداد الوجود والخلود هو ثواب الله تعالى، الذي هو خير مما يزعمه هؤلاء من مال وولد ونفوذ سياسي، ظنّاً منهم أنّه الفوز العظيم، وهو في جوهره الخسران المبين، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) [82] .

هذه هي جملة المسائل التي نودّ التعرّض لها في هذا المبحث، وكلّنا أمل بالله تعالى أن نوفّق لتبيان معنى الفضل والرضوان وثواب الأعمال في هذا المبحث الذي قسّمناه إلى قسمين، الأول: هو البحث في الفضل والثواب في الدنيا، والثاني: هو الفضل والثواب في الآخرة، وكل من هذين المبحثين لا يستغني الباحث فيهما عن الربط بين الفضل والرضوان، طالما أنّ القرآن قد جاء في كثير من الآيات على ذكرهما في سياق واحد لما بينهما من اتصال في جوهر المسعى الإنساني والتحقق الرسالي على نحو ما سنرى في المبحثين إن شاء الله تعالى.


 

 

أ - الفضل والثواب في الدنيا


لا شكّ في أنّ موضوع الفضل في القرآن، هو من أهم المواضيع التي تحتاج إلى عناية خاصة، لكونه يشتمل على مبادئ جليلة في الفضل وثوابه، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، وقد رأينا إيجاز الكلام في هذا الموضوع اقتصاراً منّا على ما يعنينا بحثه في سياق الفوز العظيم والخسران المبين، لأنّ الفضل في القرآن، بما هو تفضّل من الله تعالى على عباده، سواء في الدين [83] ، أم في النبوّة [84] ، أم في الرزق في الجنّة [85] ، أم الرزق في الدنيا [86] ، أم في الخلف في المال [87] ، أم في المنّة على العباد  [88] ، أم في الرضوان، كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب:﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً [89] .

فهذا الفضل كله على العباد من غير الممكن استيفاء البحث فيه من جميع جوانبه في هذا المبحث، هذا فضلاً عن أنّ ذلك غير مطلوب، طالما أنّ الغاية هي ملامسة الرؤية العامّة لموضوع الفضل توخّياً للفائدة في إطار الهدف الرئيسي لهذا المبحث، الذي اقتصرت الغاية فيه على معالجة إشكالية الفوز والخسران من منظور القرآن. وبما أن الفضل الإلهي على الناس قد تلازم مع هدايتهم إلى سبيل الله تعالى ورضوانه، فقد اقتضى الأمر منّا أن نطلّ بالإجمال على هذا الموضوع بالشكل الذي يؤدّي بنا إلى توضيح الرؤية، واستخلاص الموقف الرسالي الذي يتعلّق بالإنسان ومدى التزامه وتحققه بالأمر الإلهي، قولاً وفعلاً، فيما يؤدّيه من أعمال، وقبل ذلك فيما يلتزم به من تقوى وإيمان، لأنّ الله تعالى ضمن للإنسان بفضله، أن لا يكون له خوف ولا حزن فيما لو اتّبع هدى الله تعالى وقام به خير قيام في شؤونه الخاصة والعامة، وفي دينه ودنياه...

لقد اشتمل القرآن الكريم على كثير من الآيات التي تهدي الإنسان إلى فضل الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذه الآيات فيما تنطوي عليه من معانٍ ودلالات لا تفصل بين فضل الدنيا وفضل الآخرة، لكون الدنيا هي مزرعة الآخرة، هذا فضلاً عن كونها دار الاختيار والبلاء والعمل، وقد شاء الله تعالى أن تكون الدنيا على ما هي عليه من النعمة والابتلاء والجزاء في المعاد، فمن اهتدى في الدنيا وتبصّر بها أبصرته، ومن بصّر فيها أعمته، كما قال الله تعالى:﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [90] .

ومن هنا، نرى أن الفضل الإلهي على الإنسان هادف إلى تمكينه في هذه الحياة ليكون له الفوز في الدنيا والآخرة، بحيث يكون له الثواب في الدنيا والآخرة أيضاً نظراً لما يعنيه الفضل من ثواب، ويزيد عليه من حيث كون الفضل بلسان أهل اللغة، هو الزيادة عن الاقتصار، كما يرى الراغب [91] ، وهو الإحسان ابتداءً بلا علّة، كما جاء في المعجم الوسيط [92] ، وقد تفضل الله تعالى على الإنسان بأن جعله خليفة له وهداه النجدين، ومَنّ عليه بنعم الدنيا ليكون من الفائزين برضوان الله تعالى، فإذا كان للفضل هذا المعنى في القرآن، فإنّ ذلك يقتضي منّا أن نلحظ سياقات الفضل في القرآن، لنرى كيف أن الله تعالى قد أنعم وأفضل فيما وعد الإنسان به من فضل كبير، وفضل مبين في مسيرة تحققه الإنساني؟ ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً هو ما يُفيده سياق الآيات القرآنية من تمايز للفضل بين أن يكون كبيراً، أو مبيناً، إذ لم يأتِ القرآن على ذكره إلاّ بهذه الصفات، مؤكّداً على أن الله تعالى هو ذو الفضل العظيم، خلافاً لما جاء به سياق الآيات من فوز عظيم، وهذا يؤكّد للمتدبّر في القرآن أنّ للعظيم دلالة خاصة في آيات الله تعالى.

وهكذا، فإنّ معنى أن يكون الله تعالى هو المفضل وهو المنعم، وهو المحسن، أن يعي الإنسان أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه مَن يشاء، كما قال الله تعالى: ﴿  سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [93] . وقال الله تعالى: ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [94] . وهذا الفضل الذي خصّ به الإنسان في الحياة، سواء أكان ديناً، أم نبوة، أم رزقاً دنيوياً أم أخروياً، كما أفاد صاحب قاموس القرآن [95] ، هو لاحق بالإنسان تكويناً وتشريعاً لما كتبه الله تعالى على نفسه من رحمة وهداية للإنسان، باعتبار أنّه لم يخلق سدى ولم يترك هملاً، بل جعله خليفة في الأرض وهداه إلى ما يكون له به الثواب في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى:﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  [96] .

وقال الله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [97] . وهذا ما توقّف عنده الشريف الرضي مليّاً، كاشفاً عن أنه لا تنافي بين حصول ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، لأنّ مَن يريد الآخرة بجهاده قد تحصل له الغنيمة في الدنيا، فيكون الله تعالى جامعاً له بين الأمرين.... وقوله تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [98] ، هو نظير قوله تعالى: ﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [99] ، وإنّما قال سبحانه ذلك ترغيباً في العمل للآخرة، إذا كان يضاعف الاستحقاق عليه ويتكفّل في الزيادة فيه، تعظيماً لقدر ثواب الآخرة، ألا تراه تعالى كيف وصفه بالحسن ولم يصف ثواب الدنيا بذلك، لأن حاليهما مختلفان، فقال سبحانه: ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ﴾، وهذا من غوامض القرآن، فاستيقظ له [100] . وإذا كان لنا من رأي في هذا الموضوع، فإنّه سبق لنا أن أشرنا إلى أنّ ثواب الدنيا والآخرة هو عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿  فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾.

وهذا ما عرضنا له في تمهيد الفصل، حيث رأينا أن بعضهم قد يتوهّم أنه سبب الفضل، أو أنّ هذا الفضل يكون له من عنديّاته، كما زعم قارون، لكن حقيقة الأمر ليست كذلك، لأنّ ما عند غير الله تعالى لا يكون ثواباً، بل طغياناً، وكفراً، وجهلاً بمواقع النعم، كما قال الله تعالى:﴿ لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [101] . فالفضل سواء أكان رزقاً، أم نبوّة، هو من عند الله تعالى ...

إنّ من أفضل نعم الله تعالى على الإنسانية في تاريخها، هو ما زيّنه في القلوب من الإيمان، وما بعثه لعباده من أنبياء ورسل للهداية إلى سبل السلام والثواب والرضوان، فقال الله تعالى:﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  [102] .

لقد أردنا أن تكون هذه الآية المباركة مرتكزاً في مبحث الفضل والثواب في الدنيا، لقوله تعالى:﴿ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ﴾، وذلك من منطلق أن إطلاق الفضل في الآية لجهة ما تفيده من إيمان وحبّ وزينة في القلوب، هو كاشف عن حقيقة إحاطة الفضل والنعمة بالإنسان لأجل أن يكون له كامل التحقق في صيرورته الوجوديّة، بحيث يكون مهتدياً إلى ما أراده الله تعالى به في الدين والدنيا، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري في الكشّاف [103] ، والطباطبائي في الميزان [104] ، والكاشاني في تفسير الصافي [105] ، والطبرسي  [106] ، والطوسي [107] ، فهؤلاء جميعاً ذهبوا إلى القول بأنّ الطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  فيما يأمر به وينهى عنه، هي تستبطن كامل الثواب للإنسان، وقد سبق القول منّا بأنّ الطاعة لله ورسوله من مؤدّياتها في الدنيا والآخرة الفوز العظيم، لأنّ مقتضى الطاعة أن يكون الإنسان حيث أمره الله تعالى وأن لا يكون حيث نهاه، وقد حذّر الله تعالى في مخالفة أمره، فقال الله تعالى:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ... [108] ، إلى كثير من الآيات التي تمنع الإنسان من العمل خلافاً لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  لما يؤدّي إليه ذلك من عنتٍ ومشقّة، وقد أفاد الزمخشري في كلامه، وبلاغته المعهودة، وعبقريته المشهودة، أن الذين استثناهم بقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ﴾ أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر بعضهم ممن كانت صفتهم مفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجاز القرآن ولمحاته اللطيفة، التي لا يفطن لها إلاّ الخواص...» [109] ، وقوله تعالى:﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾، والخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أي: «أولئك المستثنون هم الراشدون المهتدون إلى كل خير...» [110] .

غاية القول: إنّ الفضل في الآية، الذي هو مصدر من غير فعله، أو مفعول له، كما رأى أهل اللغة، له امتداده في حياة الإنسان المؤمن، وفيه يكمن سرّ الثواب الإلهي للإنسان فيما لو اتبع الهدى، وأطاع الرسول والذين معه ممن تشملهم آية الفضل والرضوان في سورة الفتح [111] ، وشملهم الاستثناء في سورة الحجرات، وفي جميع الأحوال، يمكن القول: إنّ ما ينال الإنسان من الثواب في الدنيا، هو إنّما يكون نتيجة الطاعة، ولا بدّ أن هذا الثواب لاحق به إلى الآخرة ليكون له تمايزه عن سائر الناس، وخاصة أولئك الذين أرادوا أن يكون رأي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)  تابعاً لرأيهم، واختاروا أن يكونوا على هدى أنفسهم وشياطينهم، وقد يكون من المناسب جداً في هذا السياق أن نعرض لما يعنيه الثواب والطاعة في جملة من الآيات والتي كانت سبباً في إثارة الكثير من الأسئلة حول ما إذا كان الثواب عاجلاً أو آجلاً في حياة الإنسان، طالما أن هذا الأخير لم يحرم في حياته قبل آخرته من أن يكون له نصيباً من الثواب، أو العقاب على ما كان منه من فعل، سواء فعل طاعة، أم فعل معصية، وهذا ما عرض له الشيخ المفيد في أوائل المقالات، بقوله: «إنّ الله تعالى يثيب بعض خلقه على طاعتهم في الدنيا ببعض مستحقيهم من الثواب ولا يصح أن يوفيهم أجورهم فيها لما يجب من إدامة جزاء المطيعين، وقد يعاقب بعض خلقه في الدنيا على معاصيهم فيها ببعض مستحقيهم على خلافهم له وبجميعه أيضاً لأنه ليس كل معصية له يستحقّ عليها عذاباً دائماً...» [112] .

لقد سبق لكثير من الأمم والشعوب أن نالت الثواب، أو أصيبت بالعقاب، بما كسبت الأيدي، وهذا الثواب، أو العقاب، هو حقيقة يعرض لها القرآن في كثير من الآيات، كما قال الله تعالى في المؤمنين:﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً  [113] .
وقال الله سبحانه في المعذبين:﴿ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى [114] . وقال الله تعالى:﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ [115] .

لذا، فإنّ ما نودّ التوقف عنده في هذا المبحث، هو الإشارة إلى أن الثواب والفضل في الدنيا ليس مجرّد مفردة قرآنية تعرض لحالة مجرّدة، وإنّما هو تحقق للفضل والثواب والرضوان أيضاً على النحو الذي يؤكّد أنّه مثلما يمكن أن تضاعف الحسنات في الآخرة، المشار إليه بحسن الثواب، فكذلك يمكن أن يضاعف العذاب في الآخرة، كما قي قوله تعالى:﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى ، ﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ﴾، وما كلام الشيخ المفيد سوى تأكيد لمضمون الآيات القرآنية، وقد حقّ القول على كثير من الأمم والشعوب، فمنهم مَن أصيب بكل ذنوبه، ومنهم من أصيب ببعض الذنوب، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [116] .

وهذا تنبيه، كما يقول شبّر في تفسيره على أن المجازات بجميع الذنوب يكون في الآخرة [117] ، كقوله تعالى:﴿  لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ ... [118] ، وهذا الكلام يمكن المناقشة فيه في ضوء ما يعرض له القرآن من عذابات لحقت بالأمم. فكان لها الاستئصال، ومنها مَن لحق بها العذاب ببعض الذنوب زجراً وردعاً لعلّهم يرتدعون عن المعاصي، وكثيراً ما بدّل الله الحسنة مكان السيئة بهدف أن يرعووا عن الذنب، ولكنهم كانوا يسيئون للفضل والنعمة، كحال أولئك الذين قالوا: ﴿ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [119] . فكلام العلاّمة شبّر بأنّ المجازاة بجميع الذنوب يكون في الآخرة قد لا يكون محقاً، وإن كنّا نوافقه الرأي في أن بعض الأمم قد أُخذت ببعض ذنوبها. أما النقاش في نوعية العذاب ومقدار ما يؤول إليه في الآخرة، فهذا ما عرضنا له بالقول: إنّه يمكن أن يضاعف دون أن يخرج عن حدّ الاستحقاق لما أفاده ابن شهراشوب في تفسير قوله تعالى: ﴿ ... وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [120] ، يقول: «المعنى: يضاعف له العذاب  في كثرة الأجزاء لا أنه يضاعف استحقاقه، لأن الله تعالى لا يعاقب بأكثر من المستحق لأن ذلك ظلم»  [121] .

خلاصة القول: إنّ الفضل والثواب في الدنيا له تحققات كثيرة في واقع الإنسان، وقد اشتملت عليه مئات الآيات القرآنية، سواء الفضل بحق الأنبياء والرسل، أو بحق الأمم والشعوب. فهو فضل الله تعالى على الإنسان ظاهراً وباطناً، ديناً ونبوّة ورزقاً في الجنة، ومثلما أن هذا الفضل والنعمة في الدنيا يلحق به الثواب والعقاب في الدنيا بحسب ما يكون عليه الإنسان من طاعة ومعصية، فكذلك يكون هذا الفضل والعقاب في الآخرة، وأيضاً بحسب ما يؤول إليه الإنسان من دنياه إلى آخرته، لأنه، كما بيّن الشيخ المفيد، ليس كل معصية يستحق عليها عذاباً دائماً، لكن أهل الطاعات لهم ديمومة الفضل والثواب لما بشّرهم به الله تعالى من نعيم الثواب في الآخرة، ومن الفضل الكبير، وبما كان منهم من طاعة لله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً [122] ، وقد لا تفي هذه الخلاصة بما كان ينبغي أن نعرض له في موضوع الفضل وما يكون للإنسان منه في دنياه قبل آخرته، إلاّ إننا، وبعون الله وتوفيقه، قدمنا رؤية واضحة حول ما ينبغي استيعابه من السياق القرآني حول الفضل والنعمة، باعتبار أن القرآن قد أكثر من استعمال مفردات: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ﴾. وهم إنّما كانوا يبتغون ذلك في الدنيا لأجل الآخرة، لأنّ الدنيا هي متجر أولياء الله تعالى، ولا بدّ من صيرورة الإنسان في هذا الفضل ليكون من أهله، بحيث يتوفر الإنسان على كامل الشروط والمواصفات التي تؤهّله لأن يكون على فوز عظيم، أو مبين، أو كبير في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنكمل بحثه في موضوع الفضل والثواب في الآخرة إن شاء الله تعالى.


 

 

ب - الفضل والثواب في الآخرة

 


كانت ولا تزال المدارس الكلامية والفلسفية تتجاذب الرؤى فيما يتعلق بالفضل والثواب في الآخرة، نظراً لما يثيره من إشكاليات في مجال الاعتقاد، وقد استبدّت كل فرقة بما تراه حقاً وفقاً لبراهينها وأدلّتها التي غالباً ما خالفت الكتاب والسنّة فيما ارتكزت إليه كل فرقة من قواعد للتدليل على وجهة نظرها وصحّة اعتقادها. ولسنا في هذا المبحث نريد أن نستغرق في مباحث الفرق والمذاهب الإسلامية، وإنّما استجماع بعض الآراء والمواقف لمناقشتها في ضوء القرآن الكريم، لنرى مدى موفقية البعض في عرض رؤيته وأدلته في الفضل والثواب في الآخرة. وبما أنّ مرتكز بحثنا السابق كان الفضل والنعمة فيما مَنَّ الله تعالى به على الإنسان من إيمان وتحبيب له في مقابل ما كرّهه الله تعالى للإنسان من كفر وفسوق وعصيان، فإنّنا في هذا المبحث سنواصل الكلام في الفضل والثواب على قاعدة الاتصال بين فضل الدنيا وفضل الآخرة من خلال الربط المحكم إن شاء الله تعالى، بين قوله سبحانه: ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [123] ، وبين قوله تعالى: ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [124] ، لا شكّ في أنّ المسوّغ لهذا الربط هو أن فضل الله تعالى له حقيقة الامتداد في وجود الإنسان، وهو يبدأ من الطاعة والامتحان في الدنيا، وينتهي بالفوز في الآخرة، وفي ضوء هذا الامتداد يكون لكل إنسان درجته، كما قال الله تعالى:﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [125] : وإذا كان الناس في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انقسموا بين مسترشد بآيات الله تعالى ومطيع لرسوله فيما يأمره به، وبين متّبع للرأي، ومستند لنبأ الفسق، كما هو مضمون آية سورة الحجرات، فإنّ هذا الانقسام لا بدّ أنّه متحقق في الآخرة، بحيث يكون لكل فريق امتداده في الطاعة والمعصية، فينال كل فريق جزاءه، فإن كان مطيعاً، فإلى الفوز والرضوان، وإن كان عاصياً، فإلى ما أعدّ له مما يناسب من العذاب والعقاب، بعد أن يكون هذا الإنسان بمعصيته قد أذهب طيّباته في الحياة الدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [126] .

وهكذا، فإنّ ما كان من الفضل في الآخرة والفوز العظيم لم يكن للإنسان من خارج ما اكتسبته يداه، بل هو بما اكتسب رهين، وبهذا يكون معنى الفوز والتفضل به في الآخرة، امتداداً للفضل والنعمة في الدنيا، ولعلّ أحداً من المفسرين لم ينتبه إلى حقيقة هذا الربط بين الفضل في آية الحجرات الذي أطلق الكلام فيه، وبين الفضل في آيات سورة الدخان الذي أطلق الكلام فيه أيضاً بما يفيد دلالة واضحة أن الفضل والثواب، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، إنّما يكون للإنسان بما أُرشد له وأطاع فيه، خلافاً لمن يزعم، في تأويل آية الحجرات، أنّ الله حبّب إلينا الإيمان بحيث يسند فيه الفضل إلى الله تعالى في مقابل من ذهب إلى القول بأنّ التحبيب هو من باب اللطف بالعباد كما رأى الزمخشري، ورُدَّ عليه تعسّفاً، متهمين إيّاه بأنّه قد تلجلج والحق أبلج [127] .

وقد أفاد العلامة الطباطبائي في تفسيره فإنّه ليس في الفعل سوى ترشيد إلى وجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، إضافة إلى تنبيه المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد ولذلك حبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فعليهم أن لا يغفلوا عن أنّ فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  وهو مؤيَّد من عند الله، وعليهم أن يطيعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  فيما يأمرهم به، وأن لا يصرّوا على إطاعة آرائهم وأهوائهم، فإنّه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا وهلكوا، باعتبار أنّ قوله سبحانه:﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ... ﴾، عطف على قوله:﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ وتقديم الخبر للدلالة على الحصر... والمراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوباً عندهم... وقوله ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾، بيان أنّ حبّ الإيمان هو سبب الرشد الذي يطلبه الإنسان بفطرته.. فعلى المؤمنين أن يلتزموا الإيمان ويتجنبوا الكفر والفسوق والعصيان حتى يرشدوا ويتّبعوا الرسول ولا يتبعوا أهواءهم  [128] .

كان لا بدّ من التعرّض للآراء بهدف تبيان حقيقة أن الفضل والثواب في الدنيا إنّما يكون على ما يختاره الإنسان، وليس على ما يلجأ إليه أو يكره عليه، بحيث يكون للإنسان ما يحققه لنفسه، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، وإلاّ بطل الثواب، واستحال أن تلزم الأسماء معانيها؛ وعليه فإنّه يمكن إحكام القول بأن الفضل والثواب أطلق في الآيات للتدليل على هذه الحقيقة التي مؤدّاها الاستحقاق ونيل الثواب تفضلاً من الله تعالى، وذلك من منطلق أن الثواب هو فضل من الله تعالى وإن كان استحقاقاً لما أفاده الشيخ الكاشاني في تفسيره [129] ، والعلامة الطبرسي في مجمع البيان [130] ، والعلامة الطباطبائي في الميزان [131] ، بأنّ الله سبحانه خلق الخلق وأنعم عليهم وركّب فيهم العقل وكلّفهم وبيَّنَ لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانية الله تعالى وحسن الطاعات، فاستحقوا به النعم العظيمة، ثمّ جزاهم بالحسنة عشر أمثالها، فكان ذلك فضلاً منه، وقيل إنّما سمّاه فضلاً، وإن كان مستحقاً، لأنّ سبب الاستحقاق هو التكليف والتمكين، وهو فضل منه سبحانه [132] .

فالله تعالى هو المنعم والمفضل والمحسن، والفضل كلّه بيده، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ [133] ، وهو لا يفعل جزافاً، وقد تقدّم الكلام في أنّ الغاية هي للفعل وليس للفاعل، والمقصود هو تكميل الإنسان وبعثه في الحياة ليكون له الفضل والثواب، وقد شاء الله تعالى أن تكون الأمور بأسبابها، وهو عليم بمورد عطيّته، ولا يفعل جزافاً، كما أفاد الطباطبائي بقوله: «إنّ الفضل منه تعالى مجرّد عطيّة ونعمة لا إلى بدل يصل إليه من العباد، لكن ليس فعلاً جزافاً، فإنّه تعالى عليم بمورد عطيته، حكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [134] .

إنّ فضل الآخرة مسبوق بفضل الدنيا، سبق العلّة للمعلول، والسبب للمسبّب، والفوز في الآخرة مسبوق بالفوز في الدنيا، كما قال الإمام علي (عليه السلام) : «فزتُ وربّ الكعبة» [135] ، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال الإمام علي (عليه السلام) : «ونشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، خاض إلى رضوان الله كل غمرة، وتجرّع فيه كلُّ غصّة...، ومن كتاب له إلى معاوية، قال: وأمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف، فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق... ولما أدخل الله العرب في دينه أفواجاً، أسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرهاً، وكنتم ممن دخل في الدين إمّا رغبة، وإمّا رهبة، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم...» [136] .

إذن، الفوز في الدنيا والفضل فيها هو سبيل إلى الفوز في الآخرة، فينقسم الناس بين من حقّ لهم الوعد، ومن حقّ عليهم الوعيد، فليحذر الإنسان أن يذهب بطيّباته في الحياة الدنيا في المعاصي، في حين أنّ الله تعالى قد أحلّ له الطيّبات من الرزق، وإذا كان لا بدّ من الاستمتاع بالطيبات في الدنيا، فليأخذ بها الإنسان من وجوهها ومن حيث أحلّت له، بحيث يكون مطيعاً لأمر الله تعالى، باعتبار أن الحرام بيّن والحلال بيّن، فليرعوِ عن الشبهات، لأنّ مَن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيها، وهذا ما أفاض الشريف الرضي في بيانه، قائلاً: «إنّ المشتهى قد يكون حسناً، وقد يكون قبيحاً، لأنّه يكون من وجه يحلّ، ومن وجه يحرم، لأنّ حبّ ذلك هو إرادته، فقد يكون طاعة، وقد يكون معصية، فإن كان معصية، فالشيطان زينة ودعا إليه، وإن كان طاعة أو مباحاً، فالله تعالى زينة وأمر به المؤمنين...» [137] .

لا شكّ في أنّ الكلام قد يطول فيما بين فضل الدنيا والفوز فيها، وبين فوز الآخرة ونعيمها من اتصال، وذلك بعد أن بان وجه الفرق في الفضل بين الدنيا والآخرة في القرآن الكريم وبعد أن أجمع الفقهاء وعلماء التفسير على أنّ الله تعالى يعلم بموارد عطيّته، ولا يفعل جزافاً، وإنّما لحكمة، وفي ضوء ما يكون عليه الإنسان من طاعة أو معصية، فإمّا أن يكون له الفوز العظيم، وإمّا أن يكون له الخسران المبين. وإذا كان بعض العلماء من أصحاب الفرق الإسلامية، قد اختلفوا في نعيم الجنة، هل هو تفضّل أو ثواب؟ فإنّ طائفة الإمامية أجمعت على أنّ كل ما يكون للإنسان، سواء في دنياه أم في آخرته، فهو فضل من الله تعالى، وهذا ما اختلف آخرون بشأنه، يقول الأشعري: «اختلفوا في نعيم الجنة على مقالتين: قال قائلون: كلّ ما في الجنّة ثواب ليس بتفضّل، وقال بعضهم: بل ما فيها تفضّل ليس بثواب..» [138] .

أمّا الشيخ المفيد، فقال: «إنّ نعيم أهل الجنّة على ضربين: ضرب منه تفضّل محض لا يتضمن شيئاً من الثواب، والضرب الآخر تفضّل من جهة وثواب من جهة أخرى، وليس في نعيم أهل الجنّة ثواب ليس بتفضّل على شيء من الوجوه. فأما التفضّل منه المحض، فهو ما يتنعّم به الأطفال والبهائم والبله إذ ليس لهؤلاء أعمال كلّفوها توجب من الحكمة إثابتهم عليها. وأما الضرب الآخر، فهو تنعيم المكلّفين، وإنّما كان تفضّلاً عليهم لأنهم لو منعوها (منعوه) ما كانوا مظلومين (مكلّفين) إذا ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب عليهم أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم ظالماً، فلذلك كان ثوابه لهم تفضلاً. وأما كونه ثواباً فلأنّ أعمالهم أوجبت في جود الله وكرمه تنعيمهم وأعقبتهم الثواب وأثمرت لهم فصار ثواباً من هذه الجهة وإن كان تفضّلاً من جهة ما ذكرناه، وهذا مذهب كثير من أهل العدل من المعتزلة والشيعة، ويخالف فيه معتزلة البصرة والمجبرة والجهمية ومن اتبعهم...» [139] .

لقد سبق للشيخ الطبرسي في مجمع البيان، والعلامة الطباطبائي في الميزان، أن ذهبوا إلى هذا القول، ولعلّ إجماع الإمامية عليه، وهذا هو مفاد ظاهر الكثير من الآيات، والعباد وإن كانوا قد كلّفوا ووهبوا العقول، وأدّوا الأعمال، واستحقوا أن يكونوا على فوز وثواب، إلى أنّ ذلك كلّه هو بيد الله تعالى، وقد تفضّل عليهم بما لو قاموا الليل والنهار، وبذلوا المُهج والأرواح لما أدّوا شكر نعمة من نعمه. ذلك هو الله تعالى الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى، فأنّى للعباد أن يكونوا على ثواب دون فضل وتفضّل وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنّة بعمله، قالوا ولا أنتَ يا رسول الله، قال ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل» [140] . وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّ الفضل من الله تعالى هو مرتكز الفوز لمن آمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، أما مَن كذّب وتولّى، والذي لا صدّق ولا صلّى، أو كذّب وعصى، فكما قال الله تعالى:﴿  هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [141] . وقوله تعالى:﴿  إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [142] .

هناك مسائل كثيرة عرض لها أهل العلم، وخصوصاً ما يتعلق منها بالمغفرة ودوام العذاب، أو انقطاعه، وغير ذلك مما ذهب العلماء فيه مذاهب شتّى بين قائل بغفران الكبائر والصغائر، وبين قائل بأن الله يغفر الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، هذا إضافة إلى ما اختلفوا فيه بين قائل بدوام العذاب، وقائل بانقطاعه. إنّ هذا كلّه سبق العلماء المسلمين، قديماً وحديثاً، أن عرضوا له في مباحثهم الكلامية والفلسفية، وقالوا فيه حقاً وباطلاً، ولو أنهم التفتوا إلى قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ... [143] ، لما تمادوا كثيراً في الشروح، ولأدركوا معنى الأخبار التي جاء بها القرآن، والتي يمتنع فيها الكذب ضرورة كما أفاد شبّر في حقّ اليقين [144] ، مبيّناً أنّ الله تعالى قد وعد أنبياءه ورسله بالانتقام من أعدائهم وخلودهم في العذاب الدائم، وهو وعد من الله تعالى لأنبيائه يمتنع خلفه. أما قولهم، أي الذين يقولون بانقطاع العذاب، بأنّ الطاعات لا تنفع الله والمعاصي لا تضرّه، كلام حق، بل الطاعات تنفع فاعليها والمعاصي تضرّهم، وقد بيّن الله تعالى في وعده ووعيده، أن يكون للإنسان جزاء أعماله، فإن عمل خيراً وأطاع الله ورسوله، كانت له الجنة والفضل الإلهي، وإن عمل شرّاً وكذّب الرسل، فحقَّ العقاب ولبث الأحقاب، التي ارتكز إليها بعضهم لتسويغ انقطاع العذاب، حيث رأى بعض العلماء كالرازي، وابن عربي، وغيرهم، أنّ قوله تعالى:﴿ لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [145] ، إنّما يعني توقيت لأنواع العذاب، وقد روي عن العياشي بإسناده عن حمران قال سألت أبا جعفر عن هذه الآية، فقال: هذه في الذين يخرجون في النار، وهم الذين خصّوا ببعض أهل المعاصي من فرق المسلمين الذين لا يخلدون في النار كما ذكر المفسرون، ووردت به الروايات على أن التجاوز لا يتحقق إلاّ قبل دخول جهنّم أو بعد الدخول مع الخروج عنها... [146] .

هذا وقد أجمع، كما يرى الأشعري، أهل الإسلام جميعاً إلاّ الجهم، على أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له، وكذلك عذاب الكفّار في النار  [147] ، كما خالف المعتزلة في تخليد الفساق في النار، فقالوا: إنّ مَن دخل النار لا يخرج منها، خلافاً لقول أهل السنّة والجماعة، وقد وافق المعتزلة الخوارج في قولهم: هذا فضلاً عمّا ذهبت إليه طائفة بقولها: إنّ أهل الجنّة ينعمون فيها، وإنّ أهل النار ينعمون فيها، بمنزلة دود الخلّ يتلذّذ بالخلّ، ودود العسل يتلذّذ بالعسل [148] .

نعم، إنّ قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ... ﴾ الذي اشتمل على لام العاقبة، يفيد بأنّ هناك من عاقبته النار مخلداً فيها، وهي ليست لام الغاية، كقوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ففي هذه خلق بغاية العبادة، فلا يقال بأن من خلق للعبادة هو غير من خلق لجهنّم، وإن كانت آيات الخلق لجهنّم، قد خصصت قطعاً بخروج المجانين والبله والصبيان وغيرهم ممّن لا صحّ لهم التكليف [149] . إنّ آية الخلق للعبادة مطلقة ولا تخصّ المؤمنين وحسب، بل كلّ مَن خلقه الله تعالى، وهذا الخلق هو أشبه ما يكون بمن دعا إلى إطعام كلّ الناس، فأبى بعض القوم الطعام من مائدة العبادة والثواب، فقد حسن الغرض منه وصحّ، كما يقول الشيخ الطبرسي [150] ، وإذا كان بعضهم قد خلق لجهنّم، فهو إنّما يكون له ذلك بكفره، وليس بما أراده الله تعالى له بعلمه القديم بعاقبته.

من هنا، نحن نرى أنه لا وجه لما قيل بأنّ هناك خلق لجهنّم، وخلق للعبادة على النحو الذي يُفهم منه أنّ الهداية لم تكن لجميع المكلّفين، كما زعم القرطبي في تفسيره [151] أو أنّ الله خلق للنار أهلاً بعدله، فهذا كلّه ترجيح من غير مرجّح، فضلاً عن قيام الدليل على خلافه في أنّ الجنّ والإنس خلقوا للعبادة، وإن كانوا تكوينياً خاضعين ومنقادين لإرادته، وقوله تعالى: ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً ﴾ ناظرٌ إلى عموم الهداية في الفضل والتشريع، ومن خلق لجهنّم من الجنّ والإنس، فلم يرد الله تعالى إضلاله مسبقاً، وإنّما علم الله تعالى أنه لا يؤمن ويصير إلى النار [152] .

غاية القول: إنّ الله تعالى ليس بظلاّم للعبيد وقد خلق الإنسان ليكون طائعاً مختاراً لمصيره، فلو أضلّ أحداً مسبقاً لما صحّ التكليف له، هذا فضلاً عمّا خصّ به الإنسان من فضل ونعم [153] .

يبقى أن نشير إلى ما اختلف العلماء فيه من غفران الكبائر والصغائر، فرأى قوم أنه كان يجوز أن يعفو الله عن الكبائر لولا الأخبار، وأنكر آخرون، كما اختلفوا في غفران الصغائر، بأي شيء هو، فقال قائلون: يغفرها الله سبحانه تفضّلاً من غير توبة، وقال قائلون: يغفرها لمجتنبي الكبائر باستحقاق، وقال آخرون: لا يغفرها إلاّ بالتوبة. أما في الكبائر، فالمعتزلة على ثلاثة أقوال: قائل يقول: كل ما أتى فيه الوعيد فهو كبير، وكل ما لم يأتِ فيه الوعيد فهو صغير، وقال قائلون: كل ما أتى به الوعيد فيه كبير، وكل ما كان مثله في العظم فهو كبير، وكل ما لم يأتِ فيه الوعيد أو في مثله، فقد يجوز أن يكون كلّه صغيراً، ويجوز أن يكون بعضه كبيراً وبعضه صغيراً... وقال «جعفر بن بشير»: كل عمل كبير، وكل مرتكب لمعصية متعمداً لها فهو مرتكب كبير [154] .

هذه هي جملة الأقوال، فيما يتعلّق بنعيم الجنّة والفضل فيها، وقد عرضنا لهذا الأمر لما له من علاقة بالفضل والفوز والثواب والعقاب، على اعتبار أنّ بعضهم يتحدّث عن استحقاق في مقام التفضّل الإلهي، وهذا ما حسمه الشيخ المفيد قاطعاً بأنه وإن كان ثواباً فهو تفضّل من الله تعالى. ويكفي في ختام هذا المبحث أن نعرض لما ذهب إليه العلاّمة السبزواري في مقام الحديث عن غفران الذنوب، لنرى كيف أنّ هذه المسائل لا تزال موضع بحث وتدبّر عند العلماء، وخاصة في عصرنا الحاضر، وستبقى كذلك طالما أنّ القرآن يجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر، إذ هو يقول في ردّه على المعتزلة: إنّ الله تعالى يغفر الذنوب عن الكبائر من دون توبة، لأنّ العقاب حقّه، فجاز إسقاطه، ولأنّه لا ضرر عليه في تركه فحسن إسقاطه، وقد جاء في الدعاء: «يا مَن عُبد فشكر، ويا من عُصي فغفر»، وجاء أيضاً: «اللهمّ إنّ الطاعة تسرّك والمعصية لا تضرّك، فهب لي ما يسرّك واغفر لي ما لا يضرّك يا أرحم الراحمين»، خلافاً للمعتزلة الذين منعوا المغفرة عن الكبائر من دون توبة، كما مرَّ معنا في توصيف الأقوال ومذاهب الرجال. فإن قيل: والكلام للعلاّمة السبزواري، «يجوز أن يحمل على المغفرة عن الصغائر وعن الكبائر بعد التوبة»، قلنا: هذا خلاف الظاهر ولا يُصار إليه بلا دليل من السمعيات من الكتاب والسنّة [155] .

إنّ ما يذهب إليه الفيلسوف يمكن مناقشته في ضوء ما أشار إليه من أن العقاب حقّ لله تعالى، ويمكن بمقتضى الرحمة والقدرة، أن يسقط لانعدام الضرر، ولكن النقاش ليس هنا، وإنّما فيما أفاده من أنّه لا دليل في السمعيات على أنّ هذا الحق لا يسقطه إلاّ بعد التوبة، وقد ردّ على المعتزلة قولهم، لكونهم يحدّون من قدرة الله تعالى، وهو القادر على ما يشاء، وقد قال الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [156] .

كما يمكن أن يُقال أيضاً: إنّ رحمة الله وسعت كل شيء، وأن إبليس تشرئبّ عنقه لرحمته يوم يُرحم العباد إلى غير ذلك مما يدلّ على سعة رحمة الله تعالى، نحن نرى أنّ هذا شيء ثابت في القرآن والسنّة، لكن الذي يشكل عليه هو أن القول لا يبدّل لديه، وما هو بظلاّم للعبيد، كما جاء في آيات كثيرة يخبر فيها القرآن عن مصير أصحاب الكبائر، فهل نقول: إنّ القول، أو الوعيد، وهو خبر يمتنع عليه الكذب، يبدّل بحيث تكون المغفرة لأصحاب الكبائر من دون توبة؟ وهل إذا لحقت المغفرة من دون توبة أحد العصاة، سواء من أصحاب الكبائر، أم من أصحاب الصغائر، تقتصر عليه، أم تشمل سائر من ارتكب الكبيرة وحقّ عليه الوعيد؟ وهل من العدل والحكمة أن تلحق المغفرة بأحدهم دون الآخرين، طالما أن الجميع لم يتوبوا؟!!

نعم إنّ الله قادر على كلّ شيء، وإن شيئاً لا يخرج عن إرادته في هذا الوجود، ولا يُقيّد بقيد، ولا يُحدّ بحدّ، لأنّ إرادته مطلقة، وله أن يسقط العذاب من دون توبة، ولكن ألست ترى معنا أن الله تعالى قد وضع موازين العدل والحكمة لتكون فيصلاً بين الناس، بحيث تكون الجنّة للمطيعين، والنار للعاصين، إلاّ إذا تابوا، كما قال الله تعالى:﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَاْ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ [157] .

ثمّ إنّه كيف يمكن أن يُسقط الله تعالى عذابه لكونه حقّاً له من دون توبة مع قدرته على ذلك؟ وقد جاء في السمعيات في الكتاب والسنّة أنَّ مَن يلتحق بالتوبة عن سيئاته حين يحضره الموت لا تُقبل منه، وخاصة إن كان ممّن يتجرّأون على الله تعالى، ولا تلحق بهم الشفاعة من النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو القائل:﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [158] .

إنّ ما أخبر به الله تعالى، فهو كائن لا محالة، وطالما أنّ التوبة هي سبيل النجاة، فإنّه يمكن القول بأنّ مقتضى العقل والحكمة أن لا تكون المغفرة إلاّ للذين تابوا أو نالوا الشفاعة [159] وإلاّ فإنّه يمكن أن يسقط العذاب وتطال المغفرة كل مَن عصى وكفر، وتولّى وأدبر، وإذا كان هذا مما يمكن الذهاب إليه في ضوء سعة رحمة الله تعالى، فما يكون معنى القَسَم الإلهي في قوله تعالى:﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [160] . أو كما جاء في الدعاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام)  في دعاء كُميل: «فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً، وما كان لأحد فيها مقرّاً ولا مقاماً...». وهذا ما فصَّل العلاّمة اليزدي الكلام فيه، بقوله: «وإذا لم يكن الابتلاء بالعذاب والشقاء الأخروي أمراً لازماً لسوء الاختيار، لكانت الرحمة الإلهية الواسعة تقتضي عدم ابتلاء أي مخلوق بالعذاب، ولكن هذه الرحمة نفسها اقتضت خلق الإنسان متميّزاً بخصوصية الاختيار، واللازم من اختيار طريق الإيمان أو الكفر، هو الوصول للمصير الحسن أو السيّئ، مع ملاحظة هذا الاختلاف بينهما، وهو أنّ الوصول لحسن العاقبة تتعلّق به الإرادة الإلهية أصالةً، وأما المصير الأسود، فتتعلّق به الإرادة التبعيّة، وهذا الاختلاف نفسه يقتضي ترجيح جانب الخير في التكوين والتشريع...» [161] .


[1] محمد ري شهري، ميزان الحكمة، تحقيق دار الحديث، دار الحديث، طهران، ط1، ج4، ص364.
[2] سورة الأنفال، الآية: 24.
[3] سورة ق، الآية: 37.
[4] سورة العنكبوت، الآية: 69.
[5] سورة طه، الآيات: 25 ـ 35.
[6] سورة الزمر، الآية: 36.
[7] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، قصار الحكم: 237.
[8] را: زين الدين بن علي (911 ـ 965هـ) الشهيد الثاني، مسكن الفؤاد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث. مطبعة قم 1417هـ، ص33.
[9] سورة طه، الآية: 39.
[10] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م.س، الكتاب 37.
[11] اليزدي، محمد تقي المصباح، معارف القرآن، م.س، ج4، ص16.
[12] سورة المائدة، الآيتان: 15 ـ 16.
[13] سورة المجادلة، الآية: 22.
[14] يقول العلامة الطبرسي:﴿ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ ﴾، أي ثبّت في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف، فصار كالمكتوب، وفي هذا الإيمان كانت حياة القلوب، فاهتدوا إلى الحق، وعملوا بكل قواهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل.
را: الطبرسي، تفسير مجمع البيان، م. س، ج9، ص422.
[15] سورة المائدة، الآية: 5.
[16] جاء في تفسير الصافي، للكاشاني: أن معنى «من يكفر بالإيمان، الذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به، والقمي قال: من آمن ثم أطاع أهل الشرك.
را: الفيض الكاشاني، م. س، ج1، ص263. .
[17] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج5، ص210.
[18] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، قصار الحكم، 125.
[19] سورة المائدة، الآية: 16.
[20] سورة آل عمران، الآية: 162.
[21] سورة التوبة، الآية: 109.
[22] را: الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر، بيروت، 1995، ج1، ص51.
[23] سورة آل عمران، الآية: 161.
[24] سورة آل عمران، الآية: 174.
[25] سورة الزمر، الآية: 7.
[26] سورة النساء، الآية: 59.
[27] سورة الرعد، الآية: 7.
[28] انظر: هارون، عبد السلام، سيرة ابن هشام، دار الرسالة، دمشق، (لا ـ ت)، ص252.
[29] يقول العلاّمة كمال الحيدري: «من الواضح أن العلم بظاهر القرآن لا يتوقف، عند كثير من المفسرين على البُعد المعنوي عند الإنسان، ولا يشترط أن تشرق نفسه بالطهارة المعنوية لكي يقف على شيء من ظاهر القرآن، ومن ثمّة نرى أن التفسير الظاهري للقرآن فد يكون ممتازاً بالرغم من صدوره من إنسان لا يملك تلك الدرجة العليا من التقوى والطهارة المعنوية، أما فيما يخص الوقوف على باطن القرآن، فالأمر مختلف تماماً حيث إن القرآن يتصدّى لبيان أنّ باطنه لا يصل إليه إلا المطهّرون، كما قال الله تعالى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾، وذلك استناداً إلى حديث الثقلين الذي بيّن أن القرآن وأهل البيت لن يفترقا أبداً»، فأهل البيت هم القرآن الناطق الذي لا يفترق عن الكتاب المكنون مطلقاً، وهم الذين عرفوا حقيقة الكتاب الذي لا ريب فيه...
انظر: كمال الحيدري، الإعجاز، محاضرات بقلم نعمة الجبائي، دار فراقد، إيران، ط2، 1426هـ، ص154 ـ 155.
[30] سورة محمد، الآية: 24.
[31] سورة المائدة، الآية: 119.
[32] سورة التوبة، الآية: 100.
[33] سورة البيّنة، الآية: 8.
[34] سورة يونس، الآية: 64.
[35] سورة التوبة، الآيات: 20 ـ 22.
[36] الآصفي، محمد مهدي، في رحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ، المجمع العلمي لأهل البيت (عليهم السلام)، ط1، 1423هـ، ص93.
[37] الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، م. س، ج5، ص192.
[38] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج9، ص339.
[39] زين الدين بن علي، الشهيد الثاني، مسكن الفؤاد، م. س، ص79.
[40] سورة التوبة، الآية: 21.
[41] الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، م. س، ج2، ص328.
[42] انظر: الحلّي، أحمد بن فهد، (841هـ)، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تحقيق القمّي، مكتبة الوجداني، قم، دون تاريخ، ص194.
[43] سورة طه، الآية: 39.
[44] سورة التوبة، الآية: 72.
[45] المازندراني، موسى محمد صالح، شرح أصول الكافي، م. س، ج1، ص222.
[46] سورة الحديد، الآية: 20.
[47] سورة التوبة، الآيتان: 21 ـ 22.
[48] سورة البقرة، الآية: 148.
[49] سورة ق، الآية: 29.
[50] الطباطبائي،، الميزان، م. س، ج19، ص165.
[51] جاء في البرهان في تفسير القرآن عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)  قال: إذا صار أهل الجنّة في الجنّة، ودخل وليّ الله إلى جنّته، وكان لهم من النعيم ما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين، فيقال لهم: يا أوليائي وأهل طاعتي ألا هل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون ربّنا وأيّ شيء خير مما نحن فيه؟ فيقولون ربّنا: نعم فآتنا بخير ممّا نحن فيه، فيقول لهم تبارك وتعالى: رضائي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه، ثم قرأ الإمام قوله تعالى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
را: هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، م. س، ج2، ص145.
[52] سورة الجاثية، الآية: 30.
[53] سورة الأنعام، الآية: 16.
[54] سورة آل عمران، الآية: 185.
[55] سورة التغابن، الآية: 9.
[56] سورة الجاثية، الآية: 30.
[57] سورة الجاثية، الآية: 28.
[58] قد يرى البعص أنه من التكلّف في الكلام أن نتوقف عند اختلاف المفردات القرآنية في خواتيم الآيات كما بينّا في مدلولات الفوز العظيم والفوز المبين، والفوز الكبير، فنقول: لسنا نؤيّد التكلف أو القول بغير علم، لأنّ القول بغير علم جهل محقّق، ولكنّ الذي دعانا إلى التساؤل والمناقشة هو سياق الآيات وما عرضت له من مواضيع، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وإذا كانت المفردات قد اختلفت، فهي مختلفة أصلاً في اللغة: لأنّ معنى العظيم، يختلف عن معنى المبين أو الكبير، فهذا الراغب الأصفهاني يميّز بين هذه المفردات، وقد توقّفنا مليّاً عند ما يعنيه وصف العظيم، حيث رأينا القرآن يقول النبأ العظيم، ولا يقول النبأ الكبير مثلاً، ما يدلّ على أن العظيم له امتياز خاص، بدليل أن الرضوان الذي هو فوق كل ثواب ذكره الله تعالى بالفوز العظيم. فإذا كان العظيم، قد استعير في اللغة لكل كبير، وإذا كان الكبير قد استعير للمعاني، باعتبار أن أقل استعماله هو في الأعيان، فكذلك المبين، فهو الكشف عن الشيء، وهو إنّما سمّي بياناً لكشفه عن المعنى المقصود إظهاره، نحو﴿ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾، وقد سمّي كما يقول الراغب ما يشرح به المجمل والمبهم في الكلام بياناً، نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، والبيّنة: الدلالة الواضحة عقلية كانت أم محسوسة، كما يُقال، البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر. را: الراغب الاصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، م. س، ص351، ص437.
إذن لم يكن الذي كان منا تكلفاً، وإنما هو تساؤل عن سرّ الاتيان بالفوز العظيم، ولماذا اختلفت المفردات في الآيات؟ فهل لذلك من دلالة؟ قلنا: نعم، لأنّ القرآن يريد للمتدبّر فيه أن يعقل عنه، وأن يكون له من القرآن الهدى، لقول الإمام علي (عليه السلام) : «وما جالس القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمى»، كما أن ما ذهبنا إليه هو بمثابة دعوة إلى التأمل والتدبّر، ولا ندّعي الإنجاز العظيم في هذا السياق، وإن كنّا نرى وجهاً لما نذهب إليه في وجود تمايز حقيقي بين المفردات لجهة ما ترمي إليه من دلالات والله وليّ التوفيق.
[59] سورة البروج، الآية: 11.
[60] قال الله تعالى:﴿ لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 95] .
[61] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، م. س، ج64، ص35، وقا: مع الزمخشري، الكشاف، م. س، ج2، ص280.
[62] يقول الزمخشري عن مشايخه: لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده، «ذلك»، إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان: أي هو «الفوز العظيم»، وحده دون ما يعده الناس فوزاً، وروى أن الله تعالى يقول لأهل الجنّة هل رضيتم. فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: أي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أدخل عليكم رضوان فلا أسخط عليكم أبداً... وعن الزمخشري أيضاً في ربيع الأبرار عن جابر أنّه إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، قال الله تعالى تشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا وما خير مما أعطيتنا؟ قال رضواني أكبر.
را: الزمخشري، تفسير الكشاف، م. س، ج2، ص281. وقا: مع البحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، م. س، ج2، ص145.
[63] ابن البطريق، الأسدي الحلّي، العمدة، (601هـ)، تحقيق جامعة المدرسين، قم، 1406هـ، ط1، ص158.
[64] م. ع، ص158.
[65] قال الله تعالى:﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [الفتح: 29] .
[66] سورة الحشر، الآية: 8.
[67] سورة آل عمران، الآية: 15.
[68] سورة الدخان، الآيتان: 56 ـ 57.
[69] سورة الأحزاب، الآية: 47.
[70] سورة الليل، الآية: 12.
[71] سورة الأعلى، الآيات: 1 ـ 3.
[72] سورة طه، الآية: 50.
[73] سورة البقرة، الآية: 268.
[74] سورة سبأ، الآية: 10.
[75] سورة النساء، الآية: 54.
[76] المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983م، ج28، ص86.
[77] سورة آل عمران، الآية: 148.
[78] الشريف الرضي، حقائق التأويل، م. س، ص218.
[79] سورة النساء، الآية: 134.
[80] إنّ سياق الآية جاء في الحديث عن يتامى النساء وما يتعلّق بهنّ من أحكام، إضافة إلى ما يكون بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجية، وجملة الآيات توضّح أن المرتكز الأساسي للإصلاح ليس في الحياة الزوجية وحسب، بل في كلّ ميادين الحياة هي التقوى، لقوله تعالى:﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً ﴾ [النساء: 131] ، فإذا كانت الآية تتحدّث عن ثواب الدنيا والآخرة في سياق خاص، فليس معنى ذلك أنّها لا تتجاوزه، أو أنّه لا يمكن الاستفادة منها في موارد أخرى، كما أجمع عليه علماء الأصول من أن المورد لا يخصص الوارد، وإنّ العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وعليه، فإنّ منطوق الآية ومفهومها يرشد إلى حقيقة أنّ التقوى هي أساس كل سعادة، والتحصّن بها يؤدّي إلى أن يكون للإنسان ثواب الدنيا والآخرة، وكما يقول الطباطبائي: فليس الدين إلاّ طريق السعادة الحقيقية، فكيف ينال نائل ثواباً من غير إيتائه تعالى وإفاضة من عنده وكان الله سميعاً بصيراً».
انظر: الطباطبائي، الميزان، م. س، ج5، ص106.
[81] سورة القصص، الآية: 80.
[82] قال الإمام علي (عليه السلام) : ألا وإنّ من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلب. ومن كتاب له إلى معاوية، قال: فاتّقِ الله فيما لديك، وانظر في حقّه عليك، وارجع إلى معرفة ما لا تعذر بجهالته، فإنّ للطاعة أعلاماً واضحة وسبلاً نيّرة... فنفسك نفسك! فقد بيّن الله لك سبيلك، وحيث تناهت بك أمورك، فقد أجريت إلى غاية خُسر، ومحلّة كفر، وإنّ نفسك قد أوصلتك شرّاً، وأقحمتك غيّاً، وأوردتكَ المهالك، وأوعرت لك المسالك...
[83] قال الله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 73] . والإسلام هو رحمة للعالمين، وكذلك النبوّة.
[84] من الفضل النبوّة، كما قال الله تعالى:﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [النساء: 113] .
[85] الفضل، الرزق في الجنّة وثواب الأعمال، قال الله تعالى:﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ﴾ [آل عمران: 171] يعني الرزق في الجنّة.
[86] من الفضل أيضاً الرزق في الدنيا، قال الله تعالى﴿ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10] يعني الرزق في التجارة، كقوله تعالى:﴿ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 73] ، يعني الرزق والغنيمة، ونحوه كثير.
[87] من الفضل أيضاً الخلف في المال، قال الله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 286] ، يعني الخلف في المال، مقابل ما يعد به الشيطان من الفقر.
[88] قال الله تعالى في فضل المنّة:﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ [البقرة: 64] ، يعني لولا منّة الله تعالى.
[89] سورة الأحزاب، الآية: 47.
[90] سورة الإسراء، الآية: 72.
[91] يفصّل الراغب كلامه في الفضل، فيقول: «الفضل في المحمود أكثر استعمالاً، والفضول في المذموم. فهناك فضل من حيث الجنس، كفضل جنس الحيوان على جنس النبات، وفضل من حيث النوع كفضل الإنسان على غيره من الحيوان، وعلى هذا النحو قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾، وهناك فضل من حيث الذات كفضل رجل على آخر، فالأولان جوهريان لا سبيل للناقص فيهما، أن يزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل كالفرس لا يمكنه أن يكتسب الفضيلة التي خصّ بها الإنسان، والفضل الثالث قد يكون عرضياً فيوجد السبيل على اكتسابه، ومن هذا النوع التفضيل المذكور في قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ . وكل عطيّة لا تَلْزَم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله تعالى:﴿ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ وقوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وهنا تكمن حقيقة الفضل الإلهي الذي يُعطي فضلاً منه ورحمة في الدين والدنيا.
را: الراغب، مفردات ألفاظ القرآن الكريم، م. س، ص396.
[92] انظر: المعجم الوسيط، انتشارات ناهد خسرو، طهران، إيران، إخراج مجموعة من الأساتذة، إبراهيم أنيس، عبد الحليم منتصر، عطية الصوالحي، محمد خلف الله أحمد، ج2، ط2، دون تاريخ، ص693.
[93] سورة الحديد، الآية: 21.
[94] سورة البقرة، الآية: 105.
[95] انظر الدامغاني، الحسين بن محمد، قاموس القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، 1985، ط2، ص261.
[96] سورة آل عمران، الآية: 148.
[97] سورة آل عمران، الآية: 145.
[98] سورة الشورى، الآية: 20.
[99] سورة الأنعام، الآية: 160.
[100] الشريف الرضي، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، مؤسسة البعثة، طهران، قم، 1406هـ، ص384.
[101] سورة الحديد، الآية: 29. يقول الطوسي في تفسير هذه الآية: معناه ليعلموا أن الفضل بيد الله﴿ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ﴾، أي يعطيه من يحب﴿ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ ممّن يعلم أنه يصلح له، ثم قال الله سبحانه:﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، معناه ذو تفضّل على خلقه وإحسان على عباده عظيم لا يحصى كثرة ولا يُعدّ.
را: الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م. س، ج9، ص538.
[102] سورة الحجرات، الآيتان: 7 ـ 8.
[103] الزمخشري، الكشاف، م. س، ج4، ص352.
[104] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج18، ص318.
[105] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، م. س، ج2، ص272.
[106] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج4، ص132.
[107] الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، م. س، ج4، ص352.
[108] قال الله تعالى:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، سورة النور، الآية: 63.
[109] انظر: الزمخشري، الكشاف، م. س، ج4، ص352.
[110] شبّر، عبد الله، تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2009، ط1، ص647.
[111] سورة الفتح، الآية: 28.
[112] الشيخ المفيد، أوائل المقالات،، دار الكتاب الإسلامي، بيروت، 1983، ص132.
[113] سورة نوح، الآيات: 10 ـ 12.
[114] سورة فصلت، الآية: 16.
[115] سورة الرعد، الآية: 34.
[116] سورة المائدة، الآية: 49.
[117] شبّر، عبد الله، تفسير القرآن، م. س، ص165.
[118] سورة الروم، الآية: 41.
[119] سورة الأعراف، الآية: 95.
[120] سورة الفرقان، الآيتان: 68 ـ 69.
[121] ابن شهراشوب، المازندراني، متشابه القرآن، م. س، ج2، ص115.
[122] سورة النساء، الآيتان: 69 ـ 70.
[123] سورة الحجرات، الآيتان: 7 ـ 8.
[124] سورة الدخان، الآيات: 52 ـ 57.
[125] سورة الأنعام، الآية: 132.
[126] سورة الأحقاف، الآية: 20.
[127] جاء في كتاب الإنصاف للإمام أحمد الإسكندري اعتراض ومناقشة للزمخشري فيما ذهب إليه حول معنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق، وإنّ حمل آية الحجرات على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثنى عليهم بفضل الله تعالى، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ﴿ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ [آل عمران: 188] .
يقول الزمخشري: إنّ الرجل لا يمدح بغير فعله، وحمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أنّ يثني عليهم بفضل الله تعالى، وقد اعترض الإمام أحمد الإسكندري على كلام الزمخشري، بقوله عن الزمخشري أنّه تلجلج والحق أبلج، وزاغ والسبيل منهج، وقاس الخلق بالواحد الأحد متهماً إيّاه بالجرأة على تأويل الآية وإبطال ما ذكرته من نسبة تحبّب الإيمان إلى الله تعالى على حقيقته، وجعل مجازاً إلى آخر ما أفاده لإظهار رأيه بأنّ الله منح ومدح وأعطى وامتن. فلا موجود إلاّ الله وصفاته وأفعاله، وكأنّه يريد القول، وهو كذلك، بخلق الأفعال، وبأنّ ما يأتي به الإنسان هو فعل الله تعالى على جري ما ذهب إليه الأشاعرة وأهل الجبر، وهو يطارح الزمخشري بالقول: أخبرني عن ثناء الله على أنبيائه ورسله بما حاصله اصطفاؤه لهم لاختياره إياهم: هل بمكتسب أم بغير مكتسب، فلا يسع القول إلاّ أنّه اثني عليهم بما لم يكتسبوه، بل بما وهبه إيّاهم فاستهبوه. وإن عرج على القسم الآخر وهو دعوى أنّهم أثني عليهم بمكتسب لهم من رسالة أو نبوّة، فقد خرج عن أهل الملّة، وانحرف عن القبلة...
را: هامش الكشاف للزمخشري، ج4، ص352.
وكما نلاحظ أنّ الإمام أحمد يصادر على المطلوب، ويذهب إلى غير المرغوب، لإظهار أنّه موهوب، والحق الحقيق. هو أن أحداً لا يُصطفى ولا يُختار من غير أن يكون أهلاً للاختيار، كما قال الله تعالى:﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾، ثم أنّ الزمخشري مثله مثل سائر علماء البلاغة وأهل التفسير لم يتلجلج، وسبيله منهج فيما ذهب إليه في فهم الآية وتفسيرها نظراً لما يعنيه الاستثناء بـ(لكن): التي وقعت في حاق موقعها من الاستدراك، إذ هي بذاتها تُشكّل دليلاً من القرآن بأن من يمدح إنّما يمدح لفعله، وإلا لم تلزم الأسماء معانيها على نحو ما بينّا سابقاً من ضرورة أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  قدوة وأسوة حسنة، فإذا كان الفضل مضافاً إلى الله تعالى كما يذهب الإمام أحمد فلا يبقى معنى لكثير من الآيات التي تحمّل الإنسان مسؤولية أفعاله، وكان قوله سبحانه:﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ... ﴾ [الزمر: 7] ، غير ذي جدوى. وهكذا، فإنّ الفعل فعل الإنسان، وخير ما يمكن أن نذكره لتبيان وجه الحق هو قول الإمام الرضا (عليه السلام) : «من زعم أنّ الله فعل أفعالنا ثم يعذّبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، وختم الإمام (عليه السلام)  كلامه بالقول: أما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها والرضا بها والمعاونة عليها، وإرادته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها والعقوبة عليها والخذلان بها. وما من فعل فعله العباد من خير وشرّ إلاّ ولله فيه القضاء، والقضاء هو الحكم على العباد بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، وكما يقول الفقيه الأصفهاني:
أيكلف الذنب العظيم عباده       وبـه يعـذبهـم فـذا ظلمـان
والله ليـس بظـالـم لعبـاده   وبذلك أنطق محكم القرآن

را: ابن شهراشوب، متشابه القرآن، م. س، ج1، ص193.
[128] الطباطبائي، تفسير الميزان، م. س، ج18، ص318.
[129] الكاشياني، الفيض، تفسير الصافي، م. س، ج2، ص233.
[130] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج9، ص323.
[131] الطباطبائي، الميزان، ج18، ص319.
[132] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج29، ص117.
[133] سورة آل عمران، الآية: 73.
[134] سورة الفتح، الآية: 26.
[135] المغربي، القاضي النعمان، شرح الأخبار (ت 363)، تحقيق الجلالي، قم، دون تاريخ، ج2، ص442. وقا: مع الطبري، محمد جرير، المسترشد (توفي في القرن الرابع الهجري) تحقيق المحمودي، 1415هـ، ط1، قم، مؤسسة الثقافة، ص4.
[136] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م. س، ص132.
[137] الشريف الرضي، حقائق التأويل، م. س، ص348.
[138] الأشعري، أبو الحسن، علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين (ت 330هـ) دار المعارف، ط2، 1985، ج1، ص295.
[139] الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م. س، ص132.
[140] الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، (ت 1112هـ)، تحقيق هاشم المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1912، ج1، ص706.
[141] سورة الرحمن، الآية: 43.
[142] سورة طه، الآية: 48.
[143] سورة الأعراف، الآية: 179.
[144] شبّر، عبد الله، حقّ اليقين في معرفة أصول الدين، مطبعة العرفان، صيدا، بيروت، 1352هـ، ج2، ص180.
[145] سورة النبأ، الآية: 23.
[146] شبّر، عبد الله، حق اليقين، م. س، ص153.
[147] الأشعري، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين، م. س، ج2، ص148.
[148] م. ع، ص143.
[149] ذهب القرطبي إلى القول بأنّ آية الخلق للعبادة محمولة على المؤمنين فقط، اعتقاداً منه أنّ مَن خلق لجهنّم لم يُخلق للعبادة، وهذا فهم يتناقض تماماً مع منطوق الآيات ومفهومها، ومع العدل الإلهي، لكونه يقوم على اعتقاد بأنه يجوز أن يضلّ الله العباد إلى غير ذلك ممّا أسّس له في مدارس الجبر والتفويض. وإذا كان الله تعالى قد أخبر بأنّ قوماً خلقوا لجهنّم، فإنّ ذلك لا يستفاد منه أن الله تعالى خلقهم ليكونوا كذلك، لأنّه إن صحّ قوله، فلا يبقى معنى للتكليف والحساب، فضلاً عمّا يكون في ذلك من ظلم..!؟
را: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث، م، س، ج7، ص324. وقا: مع الشوكاني، محمد بن علي، ت 1250هـ، فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية في علم التفسير، مطبعة عالم الكتب، ج5، ص92.
[150] الطبرسي، مجمع البيان، م. س، ج2، ص362.
[151] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، م. س، ج7، ص324.
[152] الطبرسي، مجمع البيان، م. ع، ص205.
[153] سنرى في مباحث الفضل والثواب وغفران الكبائر، كيف أن المسلمين قد ذهبوا مذاهب شتّى، في التأويل والتفسير، وخاصة في مجال غفران الكبائر، وكان من الممكن أن نتحدّث عن دوام العذاب وانقطاعه في جهنّم لولا أن المبحث هادف إلى تبيان معنى الفضل والثواب وما يكون للإنسان في ذلك، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، وهذا الذي دفعنا إلى أن نذكر بإيجاز الرأي حول ما يعنيه الخلق لجهنّم دون أي تفصيل يخرج في المبحث عن كونه محدوداً في ما اخترناه له مضموناً ومنهاجاً وإشكالية، على أمل أن نبحث دوام العذاب وانقطاعه في مبحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.
[154] أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، م. س، ج2، ص352.
[155] السبزواري، ملا هادي (1212، 1389هـ)، شرح الأسماء (الجوشن الكبير) تحقيق حبيبي، مؤسسة إنتشارات، 1375هـ، ص730.
[156] سورة النساء، الآية: 48.
[157] سورة البقرة، الآيات: 160 ـ 162.
[158] سوة النساء، الآية: 18.
[159] لقد ناقش العلماء في موضوع التوبة، وخاصة الإمامية خالصين إلى الآتي:
أولاً: لا توبة لمن يتوب عن قريب، ويداوم على المعصية بتساهل واستكبار، وتسويف وتكرار إلى حين يرى الآخرة، وقد جاء في هذا المعنى روايات كثيرة. را: الميزان، ج5، ص258.
ثانياً: ليست التوبة للذين يعملون السيئات، أو يموتون وهم كفار، والكفر هنا يشمل الشرك والنفاق...
ثالثاً: ميّز الفقهاء بين الذين يعملون السوء وهم عصاة المؤمنين، وبين الذين يعملون السيئات وهم المنافقون لتضاعف كفرهم وسوء أعمالهم...
رابعاً: لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الله تعالى لا يعذّب أهل الطاعات من المؤمنين، ولا التائبين من المعصية، والكافر خارج عن المشيئة لإخبار الله تعالى أنّه لا يغفر الكفر، فلم يبقَ تحت المشيئة إلاّ مَن مات مؤمناً موحّداً وقد ارتكب كبيرة لم يتب منها، وقد ذهب البعض إلى القول عن الربيع: إنّ الآية منسوخة بقوله تعالى:﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48] .
هذه هي جملة من أقوال العلماء في معنى التوبة وفيما تصحّ فيه وله، ويمكن مناقشة هذه الأقوال في ضوء ما نرى أنّ الأدلّة ليست كافية، لإدخال المؤمن العاصي تحت المشيئة فيما لو مات ولم يتب. والكلام هنا في الكبائر وليس في الصغائر، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
واختصاراً للقول، وخروجاً عن السياق للتدليل على أن الكبيرة هي مثار البحث الجدل، وخاصة بين المعتزلة ومَن يخالفهم الرأي والمذهب والعقيدة... وانطلاقاً من ذلك، نرى أنّه لا وجه لما ذهب إليه الفقهاء في التمييز بين الذين يعملون السيئات والذين يموتون وهم كفّار طالما أن الذي أعدّ لهؤلاء جميعاً هو العذاب الإلهي خلافاً لما ذهب إليه الطبرسي من أنّ اسم الإشارة أولئك يعود إلى الأقرب وليس إلى الذين يعملون السيئات، إذ لو كان الأمر كذلك لجاء بالظاهر أو المضمر للتمييز بينهما كما هي عادة القرآن في ذلك. وهذا ما تجاوزه العلاّمة الطباطبائي في بحوثه ولم يقل فيه شيئاً، ولكنّه قال بالفحوى ما قد يكون مخالفاً لرأيه، بدليل قوله: إنّ التوبة للمؤمن العاصي إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل، والتوبة يمكن أن تتحقّق منه تعالى بعد الموت لشفاعة الشافعين، ولا شفاعة لمن مات على الكفر، لقوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 91] ، ونفي الناصرين هو نفي للشفاعة في حقهم... را: الميزان، ج5، ص250.
ثم إنّه ما معنى أن يدخل المؤمن العاصي، فيما لو كان مستكبراً تحت المشيئة، وقد أخبر الله تعالى أنّه أعدّ العذاب الإلهي للذين يعملون السيئات والذين يموتون وهم كفار معاً؟ والخبر كما رأينا لا يجوز فيه النسخ، ويمتنع فيه الكذب، ولا يجوز رفع اليد عن الظهور إلاّ بقرينة، أو دليل من القرآن على أنّ العذاب الأليم يعود إلى الكفّار وليس إلى الذين يعملون السيئات كما رأى الطبرسي، وقد قال الله تعالى:﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ [النساء: 31] ، فإذا لم يجتنبوا وأصرّوا على المعصية واستكبروا، فإنّه لن يغفر لهم، والخطاب هو للمؤمنين وليس لسواهم... والله أعلم.
خلاصة القول: إنّ منطق الإمامية في مغفرة الكبائر من دون توبة، وخلافهم مع المعتزلة في ذلك مرتكزه أن الله يعامل العباد برحمته لا بعدله، وهو إنّما يخوّفهم بما أعدّ لهم من العذاب الأليم فيما لو ماتوا دون توبة، وهذا ما نرى فيه حسن ظنّ بالله تعالى، وهو كذلك، إلاّ أنّه يبقى القول جائزاً بأن الله تعالى يعذّب الذين يعملون السيئات ويصرّون عليها حتى ولو كانوا مؤمنين، ويمكن أن لا تشملهم المشيئة، لأنّ الله أخبر بالعذاب وليس مجبوراً على التوبة لما أفاده العلماء بأنّ الله له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، إن شاء ثاب وغفر، وإن شاء عذّب في سقر... فإذا قال المعتزلة بعدم المغفرة إلاّ بعد التوبة، فهم إنّما يرتكزون في ذلك على الأخبار الصادقة، وليس قولهم تقييداً لإرادة الله المطلقة، أو اجتهاداً مقابل النصّ، ومثلما أنّه ينبغي تصديق الإخبار بأنّ الكفّار لا تُقبل توبتهم، فكذلك ينبغي قبول الإخبار أيضاً بأنّ الذين يعملون السيئات والكبائر بإصرار واستكبار لن تقبل توبتهم، وأمرهم إلى الله تعالى... أما ما قاله بعض العلماء بإدخال المؤمن العاصي تحت المشيئة، فهذا ليس أمراً أو شأناً إنسانياً، وإنّما هو أمر وشأن إلهي، فهو تعالى إن شاء عفا، وإن شاء عذّب، له المُلك من غير استثناء، كما يرى العلامة الطباطبائي في مبحث التوبة...
وعليه، فإنّ الدعاء: «يا مَن عُبد فشكر، ويا مَن عُصيَ فغفر»، يجوز أن يُحمل على المغفرة عن الصغائر والكبائر بعد التوبة، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد يؤدّي القول بخلافه إلى أن يطمئنّ الإنسان العاصي، سواء أكان مؤمناً أم غير مؤمن إلى عفو الله تعالى وتجاوزه عن سيئاته، فيستهين بالمعصية اطمئناناً منه لرحمة الله تعالى، وقد حصل أن اندفع بعض مَن تسمّى بالعلم وليس به إلى القول بأنّ الله تعالى لم يَرُدْ توبة فرعون لأنّ رحمته تسع كل شيء، متمثلاً على ذلك بالأخلاق الإنسانية الفطرية في الجود والكرم والرحمة ليرحم فرعون النادم!؟ فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، إلى غير ذلك مما نجده في كتب القوم تنزيلاً للرحمة الإلهية إلى رحمة الإنسان!؟ وكأنّ هؤلاء لم يعرفوا حكم الزاني، أو اللواط، ليدركوا معنى أن يكون الرجم أو الحرق، هو جزاء مَن يفعل ذلك، فهل يقول هؤلاء إنّ هذه الأحكام هي مورد رحمتهم، أم هي مورد رحمة الله تعالى؟ والله أعلم بحقائق الأمور.
را: الطباطبائي، الميزان، م. س، ج4، ص253، وقا: السبزواري، شرح الأسماء، م. س، ص730، وقا: شبّر، عبد الله، حق اليقين، م. س، ص181 ـ 182.
[160] سورة هود، الآية: 119.
[161] اليزدي، محمد تقي المصباح، العقيدة الإسلامية، دار الحق، بيروت، ط1، 1994، ج3، ص167 ـ 168.