الميسّر في علوم القرآن


  نزول الوحي

 

عرفنا فيما سبق أن النبي كان يرى الرؤيا الصادقة وهو في سن السابعة والثلاثين من عمره الشريف ثم لماّ بلغ الأربعين نزل عليه الوحي وبُعث بالرسالة المباركة فعلى هذا أن مرحلة النبوّة كانت أسبق من مرحلة الرسالة كما أن فترة الإعداد الروحي للنبي كانت ملازمة له منذ أن فطم من الرضاع وقد هيّئت له أسباب الإمداد الغيبي والعناية الإلهية وكان في تلك المدّة يرى الكرامات الباهرات والمعجزات الظاهرات حتى انه كان يمر على الشجر والمدر فيسمع صوت من يسلّم عليه ومضت عليه حقبة من الزمن وهو يكتمه. وهكذا كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى ويمضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ قال السلام عليك يا رسول الله يلتفت فلا يرى أحدا (ا) ثم بدأ عليه نزول الوحي لمّا اكتمل الأربعين من عمره الشريف. أمّا أول ما نزل عليه هي الآيات الخمسة الأولى من سورة العلق بإتفاق المسلمين أما تحديد النزول فذلك ما اختلف فيه المسلمون وهي تنحصر في سبعة أقوال:

الأول: في السابع عشر من شهر رمضان المبارك (2).

الثاني: في الثامن عشر من شهر رمضان المبارك.

الثالث: في الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك.

الرابع: في الثامن من ربيع الأول.

السادس: في الثامن عشر من ربيع الأول.

(1) تاريخ الطبري 2/ 294.

(2) قيل أن ابتداء نزول الرحي في 17 في شهر رمضان من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول واستدلوا بالآية.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. الأنفال / 41 فالتقاء الجمعين - المسلمين والمشركين ببدر - كان في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.

ونزول الفرقان في مثل ذلك اليوم 17 شهر رمضان من السنة الحادية والاربعين من مرلده. وربّما أكدوا هذا المعنى استدلالاً بالآية الكريمة: شهر رمضان الذي أنزل فبه القرآن هدىً للناس وبيّنات من الهدى والفرقان البقرة/ 185 ولتوضيح ذلك نقول: هل يوم الفرقان بمعنى يوم نزول القرآن وهو غير يوم الإلتقاء؟ أم يوم الفرقان بمعنى نفس اليوم الذى التقى به المسلمون والمشركون؟ لأن الحرب وانتصار المسلمين هي التي شخّصت الحق وفّرقت بين المسلمين والكافرين فاذا كان يوم الفرقان ويوم التقى الجمعان يوما واحداً في سنة واحدة، وهي السنة الثانية للهجرة. إذن لاوجه للأستشهاد بهذه الآية، لأن المدة آنذالك تصبح من أول بعثه إلى هذا التاريخ ممثر من أربعة عشر سنة (1). وإذا كانا يومين مختلفين لسنتين مختلفتين فكان ينبغي عطف الثاني على الأول بحرف مناسب.

(1) البرهان للزركشي ا / 256. ورواه الطبرى بسنده عن الامام الحسن بن علي، قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقتى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان.

السابع: في السابع والعشرين من شهر رجب الأصب.

 

لقد تعدّدت الروايات في تلك الأقوال المتقدّمة إلاّ أن أشهرها وأصحها عند جمهور المسلمين - العامة والخاصة - هو القول السابع كما وردت روايات معتبرة من أهل البيت تؤكد أن مبعث الرسول كان في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب، وقد وردت في هذا اليوم أعمال وعبادات كثيرة تجدها في كتب الأدعية والحديث ويستحبُّ فيه الصيام.

روى الكليني بسنده عن الإمام الصادق قال: في اليوم السابع والعشرين من رجب نزلت النبوّة على رسول الله وقال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فانه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمد وفيه عن الرض قال بعث الله محمد رحمةً للعالمين في سبع وعشرين من رجب فمن صام ذلك اليوم كتب الله له صيام ستين شهراً.

وفي المناقب عن ابن عباس وأنس بن مالك أنّهما قالا: أوحى الله إلى محمد يوم الأثنين السابع والعشرين من رجب وله من العمر أربعون سنة. (المناقب 1 / 150 ).

 

وفي منتخب الكنز عن سلمان الفارسي قال: في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام مائة سنة وقام مائة سنة وهو لثلاث بقين من رجب وفيه بعث الله محمد. (منتخب الكنز- بهامش المسند 3/ 362 ).

وفي السيرة الحلبية عن أبي هريرة قال من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهراً، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرائيل على النبي بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبرائيل (السيرة ا / 238).

وفي أمالي المفيد بسنده عن أبي عبد الله قال في اليوم السابع والعشرين من رجب نزلت النبوّة على رسول الله.(الأمالي 28).

فالمتعين أن بدء البعثة كان في 27 رجب وأوّل ما نزل عليه هي الايات الخمسة الأولى من سورة العلق والقصة مشهورة، غير أن هناك روايات عديدة - ذكرت إن أوّل ما نزل عليه كان من سورة المدثر إلاّ أنها لا تقوى ويمكن حملها على أنها أوّل سورة بعد انقطاع الوحي لمدّة ثلاث سنين.

 

قال الواحدي النيسابوري بسنده عن علي بن الحسين أنه قال: أوّل سورة نزلت على رسول الله (ص) بمكة: أقرأ باسم ربك الذى خلق، وآخر سورة نزلت على رسول الله بمكة: المؤمنون، ويقال العنكبوت.

وأوّل سورة نزلت بالمدينة: ويلٌ للمططفين، وآخر سورة نزلت في المدينة: براءة.

لا وأوّل سورة علّمها رسول الله بمكة: والنجم، وأشدّ آية على أهل النار

فَذُوقوا فلن نزيدكم الاّ مدابا. سورة النبأ آية 30 وأرجى آية في القرآن لأهل التوحيد إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك. سورة النساء آية 116وآخر آية نزلت على رسول الله واتّقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله سورة البقرة آية 281, وعاش النبي بعدها تسع ليالٍ. الواحدي - أسباب النزول ص 7 ط ا سنة 959 1م مصر.

 

وقد ذكر الطبرسي في مجمع البيان عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن فاخبرني بثواب سورة على نحو ما نزلت من السماء فأوّلى ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرأ باسم ربك.. مجمع البيان 10/ 405.

جاء في صحيح مسلم عن ابن سلمة قال سألت جابر بن عبد الله الأنصاري أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر، قلت: أو إقرأ باسم ربك؟ قال: أحدّثكم ما حدّثنا به رسول الله إني جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نزلت فاستبطنت الرادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي ولعلّه سمع هاتفاً ثم نظرت إلى السماء فاذا هو - يعني جبرائيل - فاخذتني رجفة فاتيت خديجة فامرتهم فدثّروني، فانزل الله يا أيها المدثر قم فانذر. (صحيح مسلم 1/ 98 والبخاري 1/ 4).

ثم هناك طائفة من الروايات تقول أن سورة الفاتحة هي أول ما نزل عليه، في المجمع بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن علي بن أبي طالب أنه قال: سألت النبي عن ثواب القرآن فاخبرني بثواب سورة، سورة على نحو ما نزلت من السماء فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب ثم اقرأ باسم ربك ثم ن والقلم.. (مجمع البيان 10/ 405).

وقد أكد هذا المعنى الزمخشري في تفسيره فقال أكثر المفسّرين على أن الفاتحة أول ما نزل. (الكشاف 4/ 775).

أقول لا تنافي بين هذه الأقوال الثلاث حيث أن الوحي لمّا بدا كانت الآيات الأولى من سورة العلق، ثم انقطع الوحي عن النزول لمدة ثلاث سنين، ثم نزل عليه القرآن وتتابع الوحي.

 

عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال سمعت رسول الله يحدّث فترة الوحي - انقطاعه - قال فبينما أنا أمشي إذ سمعت هاتفا من السماء فرفعت رأسي فاذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه فرقاً - أي فزعت - فرجعت، فقلت. زمّلوني زملوني فدثروني فأنزل الله تبارك وتعالى يا أيها المدّثر قم فانذر وربّك فكبّر وثيابَك فطهّر والرجز فاهجر سورة المدّثر آية 1، 2، 3، 4، 5.

فهذه الرواية حاكمة على رواية جابر المسبقة في كون أن هذه الآيات نزلت بعد انقطاع الوحي الأول. أمّا سورة الفاتحة فيمكن القول أنها أوّل سورة كاملة نزلت لا أنها الآيات النازلة، وقد ورد في أخبار أهل البيت عليهم السلام ان لا صلاة بغير فاتحة الكتاب وقد قال السيوطي لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب (الاتقان 1/ 12 ).

ثم أن جبرائيل أوّل ما نزل عليه بالوحي علّمه الوضؤ والصلاة، فكانت صلاته منذ أول البعثة. وقد بعث على المشهور في يوم الأثنين. وأسلم علي بن أبي طالب يوم الثلاثاء إذ دخل عليه فوجده يصلي فسأله ما هذا قال الصلاة أمرني بها جبرائيل عن ربي فصلّى علي معه ثم لحق بهما خديجة وجعفر ثم زيد بن حارثة وكان غلاماً لخديجة فوهبته للرسول ولم يكن على وجه الأرض غير هؤلاء الخمسة يؤدّون هذه العبادة وفي ذلك روايات عديدة.

وكانت قريش كلّما مرّت بهم سخرت منهم، قال علي بن إبراهيم القمي فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئي سورة الحجر آية 94، 95 قال وكان بعد أن بني بثلاث سنين (تفسير القمي ص 353 – وبحار18 / 53 و 179).

وفي كتاب الغيبة للشيخ الطوسي باسناده عن الإمام الصادق قال مكث رسول الله بمكة بعدما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعاك ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين مختفياً لا يظهر أمره حتى أمره الله أن يصدع بما أمر به فاظهر حينئذٍ الدعوة. (كتاب الغيبة217).

 


  مدّة نزول الوحي

 

عن ابن عباس وعاثشة قالا لبث النبي بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشراً [1]. في خبر طويل عن المفضل بن عمر أنَّ الصادق قال: يا مفضل أن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة، والله يقول: شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن البقرة آية 185 وقال: إنّا أنزلناه في ليلة مباركةٍ إنا كنّا منذرين فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيم أمراً من عندنا إنا كنّا مرسلين الدخان 3 - 5 وقال: وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثّبت به فؤادك الفرقان / 320.

قال المفضل: يا مولاي فهذا تنزيله الذي ذكره الله في كتابه، وكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة؟ قال: نعم يا مفضل أعطاه الله القرآن في شهر رمضان وكان لا يبلّغه إلاّ في وقت استحقاق الخطاب ولا يؤدّيه إلاّ في وقت أمرٍ ونهي فهبط جبرائيل بالوحي فبلّغ ما يؤمر وقوله: لا تحرك به لسانك لتعجل به سورة القيامة اية 16. فقال المفضل: أشهد أنكم من علم الله علمتم، وبقدرته قدرتم وبحكمه نطقتم وبامره تعملون [2].

ثم هناك روايات تؤكّد أن فترة نزول القرآن على النبي استغرقت عشرين عاماً وهذا يعني أن ثلاث سنوات الأولى - لما انقطع عنه الوحي - لم يدخلوها في فترة تتابع الوحي.

وقد أجمع فقهاؤنا وعلماؤنا الأوائل على ذلك وهكذا تسالم عليه علماء الجمهور ففي المستدرك بإسناده عن سعيد بن المسيب قال أنزل على النبي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. أي أنزل عليه القرآن بصورة مستمرة وتتابع عليه الوحي منذ السنة الثالثة من بعثته المباركة وإلاّ مسلّم عند الجميع أن بعثته بالرسالة كانت بعدما أنهى الأربعين من عمره الشريف. قال الشعبي. فرّق الله تنزيله فكان بين أوّله وآخره عشرون أو نحو من عشرين سنة (أسباب النزول ص 3).

وأيضا قال: إن رسول الله نزلت عليه النبوّة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوّته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلّمه الكلمة والشيء ولم ينزل القرآن فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبرائيل فترك القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة وعشراً بالمدينه فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة [1].

وعلى هذا التفصيل يثبت أوّل الوحي في 27 رجب ونزول القرآن تتابعاً في شهر رمضان المبارك قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [2] إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة [3] إنّا أنزلنا في ليلة القدر [4] هذه الليلة التي نزل فيها القرآن هي مردّدة بين ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين كيفما كان فإن ليلة القدر منحصرة في العشر الأخير من شهر رمضان.

وفي هذا التحديد يوجد نقاش هل أنه نزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا أم نزل منجّماً حسب الأحداث والمناسبات؟ في ذلك روايات عديدة بعضها تؤكّد المعنى الأول، كما يذهب إليه الصدوق قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور في السماء الرابعة تم نزل من البيت المعمور مدّة عشرين سنة وإن الله أعطى نبيّه العلم جملةً واحدة، ثم قال له ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقض إليك وحيُه 114 سورة طه.

رأكّد هذا المعنى الطبري في تفسيره حيث يروي عن السّديّ عن ابن عباس قال شهر رمضان والليلة المباركة ليلة القدر فان ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُبُر إلى البيت المعمور وهي مواقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد بعد ذلك... [1].

وروى السيوطي عدّة روايات منها بسنده عن ابن عباس، قال أنزل القرآن ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، ووضع في بيت العزّة ثم أنزل نجوماً على النبي عشرين سنة وهذا هو أصح الأقوال وأشهرها [2].

ثم يؤكد ذلك من طرقنا العياشي في تفسيره 1/ 80 والكليني في الكافي 2/ 638 - 629 والطوسي في تهذيب الأحكام 4/ 193.

إلاّ أن جملةً من المحقّقين لا يرتضون ذلك ويدّعون أن هذه الروايات هي أخبار آحاد لا تفيدُ علماً ولا تصلح عملأ. وحاولوا أن ياوّلوا تلك الأخبار ويختاروا المعنى الثاني وهو نزول القرآن منجّماً.

 

 

[1] صحيح البخاري 6/ 96.

[2] البحار 92 / 38.

[1] الإتقان 1/ 40 وتاريخ اليعقوبي 2/ 18 و البداية 3/ 4.

[2] سورة البقرة، الاية:185.

[3] سورة الدخان، الآية: 3.

[4] سورة القدر، الاية: 1.

[1] تفسير الطبري 2/ 38.

[2] الاتقان 1 / 39

انظر الميزان 2/ 15 وتصحيح الاعمتاد 58.