الميسّر في علوم القرآن


  آخر ما نزل من القرآن

 

أولا: أشهر الروايات عند جمهور المسلمين أن آخر آية نزلت على النبي:

اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا [1]. قال اليعقوبي:.. إن آخر ما نزل عليه اليوم أكملت لكم دينكم.. الآية، قال وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النص على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بغدير خم [2].

قال السيوطي بسنده عن أبي هريرة لما كان يوم غدير خم وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة قال النبي من كنت مولاه فعلي مولاه، فانزل الله اليوم أكملت.. وفيه عن أبي سعيد الخدري قال لما نصّب رسول الله علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرائيل عليه بهذه الآية اليوم أكملت لكم دينكم.... وأخرج ابن جرير عن السديّ في قوله اليوم أكملت لكم دينكم قال هذا نزل يوم عرفة فلم ينزل بعدها حرام ولا حلال ورجع رسول الله فمات، فقالت أسماء بنت عميس: حججتُ مع رسول الله تلك الحجّة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبرائيل على الراحلة فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن فبركت فأتيته فسجيت عليه برداً كان عليّ.

وعن ابن جريج قال: مكث النبي بعدما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة [1].

وفي التفسير الكبير قال إنه لما نزلت هذه الاية - اليوم أكملت لكم دينكم على النبي لم يعمر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يومآ. أو اثنين وثمانون يومأ ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة، وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي عن قرب وفاته [2].

وذكر ابن المغازلي الشافعي بسنده إلى أبي هريرة قال من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهراً وهو يوم غدير خم بها أخذ النبي بيد علي بن أبي طالب وقال من كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره فقال له عمر بن الخطاب بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن فأنزل الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم [3] 0 أقول ذكر السيد ابن طاووس في الطراثف طرق كثير من علماء المذاهب وأهل الصحاح فراجع وهناك روايات كثيرة من طرفنا ذكرها البحراني في البرهان [4].

 

ثانياً: قيل إن آخر آية نزلت: واتقوا يوماً ترجعونَ فيه إلى الله ثم توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون سورة البقرة اية 281. نزل بها جبرائيل وقال: ضعها في رأسي المائتين والثمانين من سورة البقرة وعاش الرسول بعدها أحدا وعشرين يوماً، وقيل سبعة أيام [1].

 

ثالثا: وروى السيوطي عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكللة، النساء/ 176 , وآخر سورة نزلت براءة [2].

وأخرج البخاري عن ابن عباس والبيهقي وأحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن عمر أنّ آخر آية نزلت آية الربا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربا البقرة/ 378.

 

رابعاً: أخرج النسائي عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن عباس وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير أنّ آخر آية نزلت هي: واتّقوا يوماً ترجعون فيه الى الله بقرة/ 381 [3].

 

خامساً: في المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم... التوبة 138 – 139 إلى آخر السورة [4].

 

سادساً: ورد من طرق العامة كما ورد من طرقنا الخاصّة إنَّ آخر سور نزلت هي إذا جاء نصر الله والفتح.. ولمّا قرأها النبي على أصحابه فرحوا واستبشروا إلاّ العباس بن عبد المطلب إذ بكى لمّا سمعها، قال ما يبكيك يا عم؟ قال: أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: أنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين [1].

ويؤكد ذلك السيوطي بسنده عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح [2].

وعن الإمام الرضا عن أبيه قال أوّل سورة نزلت بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك... وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح [3].

 

سابعاً: وقيل إن آخر سورة نزلت هي (براءة) نزلت في السنة التاسعة بعد عام الفتح عند رجوع النبي من غزوة تبوك بعث النبي آيات من أوّلها مع أبي بكر ثم نزل عليه الوحي أنه لا يبلغها إلاّ واحد من أهله فبعث علياً فاخذها من أبي بكر ليقرأها على ملأ من المشركين [4].

 

ربّ معترض يقول كيف اختلف المسلمون في هذا النقل وهل هذا يعني إلاّ ضربٌ من التهاون أم شي آخر؟

أقول أن اختلاف الرواة إنما حصل لكون أحدهم ينقل عن النبي آخر ما سمعه منه ولا يدري عمّا نقله غيره وربّما رحل الراوي إلى بلده أو جُهّز لغزو أو كان في سرية وقد نزل بعده وحي وقد أمر به النبي أن يوضع في السورة الفلانية أو مع الآيات الفلانية وهذا الاختلاف لا يورث نقصاً في الدين أو خدشاً في الفرائض كما يمكن حمل قول الصحابي على الاجتهاد أو الظن.

وخلاصة القول أن آخر سورة نزلت باعتبار مفتتحها سوره التوبة، أمّا سورة إذا جاء نصر الله والفتح فإنها نزلت عام الفتح في مكة أي قبل نزول سورة التوبة بسنة واحدة.

 

والذي ورد في روايات أهل البيت بشكل صحيح متواتر آية اليوم أكملت لكم دينكم آخر ما نزل من الآيات، وهو الراجح ولا عبرة، بالروايات الأخرى التي هي أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً، قال البيهقي: يجمع بين هذه الاختلافات - إن صحّت - بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبه الظن ويحتمل أن كلاً منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضاً أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب [1].

 

عرض القرآن على النبي في كل عام

البخاري عن مسروق عن عائشة عن فاطمة قالت أسرّ إليّ النبي إنّ جبرائيل يعارضني بالقرآن كل سنة وأنّه عارضني العام مرّتين ولا أراه إلاّ حَضَرَ أجلي [1].

البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان النبي أجودَ الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبرائيل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرضُ عليه رسول الله القرآن فإذا لقيه جبرائيل كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة [2].

البخاري بسنده عن أبي هريرة قال كان يعرض على النبي القرآن كل عام مرّةٌ فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كلّ عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قبض [3].

 


  كُتّاب الوحي

 

البخاري بسنده عن البراء قال لمّا نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمينن والمجاهدين في سبيل الله قال النبي ادعُ لي زيداً وليجيء باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة ثم قال اكتب لا يستوي القاعدون، وخلف ظهر النبي عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال يا رسول الله فما تامرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت مكانها: لا يستوي القاعدون من المؤمنين في سبيل الله غيرُ أولي الضرر [1].

في معاني الأخبار بسنده عن أبي جعفر قال: قال رسول الله ومعاوية يكتب بين يديه وأهوى بيده إلى خاصرته بالسيف: من أدرك هذا يوماً أميراً فليبقرنَّ خاصرته بالسيف:... الخ [2].

 

في تفسير القمي علي بن إبراهيم عن أبيه صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاعة أسلم وقدم المدينة، وكان له خطّ حسن، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله دعاه فكتب ما يمليه رسول الله فكان إذا قال له رسول الله "سميع بصي" يكتب "سميج عليم" وإذا قال "والله بما تعملون خبير" يكتب "بصير" ويفرّق بين التاء والياء وكان رسول الله يقول هو واحد فارتد - ابن ابي سرح - كافراً ورجع إلى مكة وقال لقريش: والله ما يدري محمد ما يقول، أنا أقول مثل ما يقول. فلا ينكر عليّ ذلك فأنا أنزل مثل ما ينزل، فانزل الله على نبيه في ذلك ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو قال أوحى إليّ ولم يوح إليه بشيء ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله [1].

فلمّا فتح رسول الله مكة أمر بقتله فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه، فسكت رسول الله ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال: هو لك، فلمّامرّ قال رسول الله لأصحابه، ألمْ أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل: عيني إليك يا رسول الله أن تَشير إلّي فاقتله فقال رسول الله إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء [2].

 

قال الصدوق (رضي) إن الناس شبّه عليهم أمر معاوية بأن يقولوا كان كاتب الوحي، وليس ذاك بموجب له فضيلة وذلك أنّه قرن في ذلك إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكانا يكتبان له الوحي، وهو الذي قال: سانزل مثل ما أنزل الله.. فكان النبي يملي عليه والله غفورٌ رحيم فيكتب والله عزيزٌ حكيم ويملي عليه والله عزيزٌ حكيم فيكتب والله عليم حكيم فيقول له النبي هو واحد. فقال عبد الله بن سعد أن محمداً لا يدري ما يقولُ أنه يقول، وأنا أقول غير ما يقول، فيقول لي: هو واحد هو واحد، إن جاز هذا فإني سانزل مثل ما أنزل الله. فانزل الله فيه ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله.. فهرب وهجا النبي فقال النبي: من وجد عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة فليقتله، وإنّما كان النبي يقول له فيما يغيّره هو واحد هو واحد لأنّه لا ينكتب ما يريده عبد الله إنّما ينكتب ما كان يُمليه فقال: هو واحد غيّرتَ أمْ لَمْ تغيّر لَمْ ينكتبْ ما تكتبه بل ينكتب ما أمليه عن الوحي وجبرائيل يصلحه.

 

وفي ذلك دلالة للنبي ووجه الحكمة في استكتاب النبي الوحي معاوية وعبد الله بن سعد وهما عدوّان هو أنّ المشركين قالوا: أنّ محمداً يقول هذا القرآن من تلقاء نفسه، وياتي في كل حادثة بآية يزعم أنّها أنزلت عليه وسبيل من يضع الكلام في حوادث يحدث في الأوقات أن يغير الألفاظ عليه إلاّ مغيّراً عن حاله الأولى لفظاً ومعنى أو لفظاً دون معنى، فاستعان في كتب ما ينزل عليه في الحوادث الواقعة بعدوّين له في دينه، عدلين عند أعدائه، ليعلم الكفّار والمشركون أنّ كلامه في ثاني الأمر كله في الأوّل غير مغيّر، ولا مزال عن جهته فيكون أبلغ للحجّة عليهم، ولو استعان في ذلك بوليّين مثل سلمان وأبي ذر رإشباههما لكان الأمر عند أعدائه غير واقع هذا الموقع، وكانت تتخيّل فيه التواطؤ والتطابق فهذا وجه الحكمة في استكتابهما واضح مبّين والحمد لله [1].

 


 

[1] سورة الماندة، الاية: 3.

[2] تاربخ اليعقوبي 2/ 35.

[1] الدر المنثور 3/ 19 ط2, 1988.

[2] تفسير الرازي 62/ 115.

[3] مناقب ابن المغازلي الشافعي ص 19 ألحديث 24.

[4] تفسير البرهان المجلد ا/ 434. وكذا ني تفسير الصافي ا/ 421.

[1] تفسيرشبر 83.

[2] صحيح البخارى تفسير سورة النساء والاتقان 1/ 86.

[3] الاتقان 1/ 86 ومسند أحمد 1/ 36 وابن ماجه باب التغليظ في الربا.

[4] المستدرك للحاكم / تفسير سورة التوبة باب آخر ما نزل.

[1] المجمع 10/ 554 والبرهان 1/29.

[2] الإتقان 1/ 27.

[3] عيون أخبار الرضا 2/ 6 وأصول الكافي 2/ 628 باب النوادر حديث/ه.

[4] تفسير الصافي 1/ 680.

[1] الإتقان 1/ 89.

[1] (1)و(2) و(3) صحيح البخاري / 101 و 102.

[1] صحيح البخاري 6/ 100.

[2] معاني الأخبار 346.

[1] الأنعا م / 93.

[2] تفسير القمى ا/ 198.

[1] معاني الأخبار ص 346.