الميسّر في علوم القرآن


  الفصل الخامس: المكي والمدني

 

1 - الاعتبار ني تقسيم الآيات والسور إلى مكي ومدني ما ذهب إليه الجمهور وهو كل ما نزل في مكة فهو مكي وكل ما نزل في المدينة فهو مدني، أمّا الآيات التي نزلت أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة في الطريق وقبل دخول النبي - المدينة - فهي مكية. فمدّة سكن النبي في مكة قبل الهجرة كانت 13 سنة ومجموع السور المكية التي نزلت فيها 83 سورة، - وقيل غير ذلك.

2 - وقيل كل خطاب في القرآن فيه يا أيها الناس فهو مكي وكل خطاب فيه يا أيها الذين امنوا أو يا أيها المؤمنون فهو مدني [1].

3 - وقولٌ ثالث أن العبرة في تحديد المكي والمدني من السور هو هجرة النبي، فما كان قبل الهجرة فهو مكي، وما كان بعد الهجرة فهو مدني. فما نزل عام الفتح في مكة فهو مدني على هذا المقياس.

4 - وقولٌ رابع: كل شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم فانّما نزل بمكة، وما كان من الفرائض والسنن فانّما نزل بالمدينة. أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق يونس بن بكير عن هشام بن عررة عن أبيه. (الاتقان 1/ 53).

وقد ذكر أبو الحسن بن حصار في كتاب (الناسخ والمنسوخ ) أن المدني بالإتفاق عشرون سورة والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي بالإتفاق.

فالمدني 1- البقرة 2 - آل عمران 3 - النساء 4 – المائدة 5- الأنفال 6 - التوبة 7 - النور 8 - الأحزاب 9 - محمد 10- الفتح 11 - الحجرات 12-لحديد 13 - المجادلة 14 – الحشر 15 - الممتحنة 16 - الجمعة 17 - المنافقون 18 - الطلاق 19 - التحريم 20 - إذا جاء نصر الله.

وقد وافق أبا الحسن جملة من العلماء مع اختلاف يسير، فمثلاً وافقه أبو بكر ابن الأنباري إلاّ في (سورة الأنفال) وأبو عبيدة كذلك إلأ في الحجرات والجمعة رالممنافقون، وإبن النديم محمد بن إسحاق إلاّ في (الأحزاب) قال الزنجاني: فالمتفق عليه بين هؤلاء الأربعة الذين يعتمد على أقولهم خمسة عشرة سورة ممّا ذكره أبو الحسن في كتابه الناسخ والمنسوخ والمختلف فيه خمسة وهي: (الأنفال) خالف فيها أبو بكر ابن الأنباري (والحجرات والجمعة والمنافقون) خالف فيها أبو عبيدة في فضائل القرآن و (الأحزاب) خالف فيها صاحب الفهرست محمد بن إسحاق تاريخ القرآن الزنجاني ص 12).

 

سمات السور المكيّة

من سمات السور المكية: بيان العقيدة الإسلامية من توحيد الخالق، ونفي الشرك عنه، وبطلان عبادة الأصنام والأوثان، والدعوة إلى مجادلة أهل الكفر والشرك، والتحذير من عقاب الله، والترغيب في الإيمان، والدخول في دين الله الجديد، وتشويقهم إلى الطاعة، والوقوف على قصص الأوّلين من الأنبياء والرسل والأمم السالفة وما أصابها من خسف أو دمار أو هلاك والاعتبار بما جرى والحذر عمّا يسخط الله.

السور المكيّة فيها خطاب عام للناس وإن كان ظاهرها يكشف أن المقصود هم أهل مكّة وقد ركّزت هذه الخطابات على مبدأ التوحيد. إلى أن الأمر العقائدي كان يحتل الدرجة الأولى، لكونه هو الأساس في إظهار الاستعداد الكامل لتقبّل هذا الدين الجديد.

لهذا لم تبرز ني السور المكيّة الأحكام وتشريعاتها الفرعية، والسبب هو أن تشريع الأحكام إنّما يحصل بعد الإذعان بالمبادئ الأساسية والتي نسمّيها بالأصول أو الأركان, ثم أن الاستقرار الروحي والإذعان الكلي لأي طرح جديد سواء كان الطرح دينياً أم اجتماعيّاً أو شيئاً آخر فلا بدّ أن تتبلور الصورة الأساسية الكاملة لذلك الطرح في أذهان المريدين أوّلاً وبعده يكون تلقّي المبادئ الفرعية تباعاً - وفق اللوازم والمناسبات – ثانيا.

فعدم وجود أحكام للمعاملات وبعض العبادات في العهد المكي سببه أن الواردين في الإسلام والمعتنقين لم يمحصّوا جيداً، ولم يتغلل في نفوسهم الإيمان ولكونهم قريبي عهد بالجاهلية وأعرافها التقليدية وأحوالها الماديّة ثم لم تكن في مكة دولة قائمة ولا سيادة لمبدأ سوى الشرك الذي ملأ الجزيرة العربية وأصبح السمة البارزة في عبادة الناس. فهكذا لون من الحياة المضطربة يتعذّر قيام دولة وبالتالي لا جدوى من تشريع.

فالقانون وأي قانون لا بدّ أن يحظى بأرض وشعب ودولة ليأتي القانون فيحدّد علاقات الفرد بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة، وعلاقة الدولة برعاياها... بهذا النسق في العلاقات تحدّد الوظائف والعلاقات والمهام. فتشريع الأحكام من عبادات ومعاملات لا بدّ من أسس مسبقة - كالتي ذكرنا بعضها - أن تتهيأ أوّلاً حتى يصادف تطبيقه بصورة عقلانية ودقيقة.

لكن عدم وجود تشريع لا يعني أن المحرّم مباح، أو أن القبيح حسن.. وإنّما المحرمات محرّمة في الشريعة ابتداءً إلاّ أنها لم تظهر في بدء الأمر فهي مسكوت عنها لجملة أمور قدّرها سبحاثه إلى أن يحين الظرف المناسب والمتمثّل بقيام الدولة الإسلامية في المدينة.

 


  ترتيب سور القرآن

 

كانت سور القرآن مكتملة بآياتها وأسمائها، إلاّ أنها لم تجمع في مصحف واحد بل كانت السور مدوّنة في العسب والصحائف والرقاق واللخاف - والأكتاف، قال السيوطي: كان القرآن كتب كلّه في عهد رسول الله لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتّب السور [1].

وأوّل من جمع القرآن الإمام علي بن أيي طالب إذ كان القرآن مفرّقاً في أجزاء عديدة وقد أمر النبي أن ياخذ هذه الأجزاء وبؤلِّفها قال يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه... ويبدو هذا الأمر الذي صدر من النبي أنه كان قبيل وفاته وأنه بعض ما أوص به الإمام علي.

وفعلاً أقدم أمير المؤمنين بعد وفاة الرسول بجمع القرآن وقد نهج في تأليفه أن رتّبه حسب نزوله فقدّم المكي علي المدني والمنسوخ على الناسخ ثم أشار إلى أسباب النزول وأسماء من نزل فيهم قرآن وغير ذلك من المناسبات المهمة. قال ابن المنادي حدّثني الحسن بن العباس قال أخبرت عن عبد الرحمن بن أبي حماد عن الحكم بن ظهير السدوس عن عبد خير عن علي أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي فأقسم أنه لا يضع على ظهره رداءً إلاّ لصلاة حتى يجمع القرآن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه وكان المصحف عند أهل جعفر ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسنى رحمه الله مصحفاً قد سقط منه أوراق بخط علي بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مر الزمان، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف [1].

أقول والتحقيق في هذا الخبر يقودنا إلى الاعتراض على ابن النديم الراوي للخبر المتقدم وذلك أن المصحف الذي بأيدينا لم يكن وفق ترتيب النزول حيث إن سورة العلق - مثلاً - والقلم والمزمل رالمدثر والمسد والتكوير وأغلب السور القصار نزلت قبل البقرة رالنساء وآل عمران والمائدة وهكذا جميع السور الطوال.

ومّما يبعث الدهشة والاستغراب ما ذهب إليه السيد جعفر مرتضى في كتابه (حقائق هامة، قال: إن الذي كان قرآنه مرتّباً على حسب النزول هو أمير المؤمنين... وبعد ذلك قال: هذا ولا شك في أن المصحف الموجود فعلا وهو الذي جمع عثمان الناس على قراءة واحدة فيه هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله، لم ينقص منه ولم يزد فيه شيء، وأن سوره هي تلك السور التي نزلت إما دفعة واحدة أو تدريجا يُعلم معه انتهاء السورة وابتداء غيرها بنزول بسم الله الرحمن الرحيم.

ولكن قد نجد فيما بأيدينا من نصوص ما يؤيد أن يكون ترتيب السور فيما بينها إنّما كان من قبل الصحابة أنفسهم، وذلك مثل ما روي من الاختلاف في ترتيب سور المصاحف المنسوبة لبعض الصحابة اختلافها فيما بينها ومع هذا المصحف الموجود فعلاً أيضاً. ص 145.

أقول لا ينبغي الشك في كون مصاحف الصحابة تختلف عن مصحف عثمان، فهذا ابن النديم في الفهرست قد أدرج ترتيب السور لكل من مصحف الإمام علي وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهم..

وكل هذه المصاحف لا تلتقي في ترتيبها مع مصحف عثمان والذي هو بأيدينا. فما قاله السيد جعفر العاملي حفظه الله يوهم القارئ أن مصحف الإمام هو نفس المصحف المتداول اليوم الذي جمع عثمان الناس فيه على , قراءة واحدة والأمر ليس كذلك.

وإذا كان مراد السيد العاملي هو ذاك فإن التناقض إذن في قوله واضح بيّن حيث قال في ص 192... إنه حينما تولّى الأمر بعد ذلك لم يظهر القرآن الذي كتبه هو نفسه رغم أنه يختلف في ترتيبه عن المصحف المتداول.

وعلى هذا فلا يمكن القول أن هذا الترتيب الذي بأيدي المسلمين هو موافق لمصحف الإمام علي وترتيبه الخاص.

ثم أن الكتاب الذي ألّفه ينبغي أن يتوارثه أبناء الإمام الحسين حسب ما ورد في الأخبار الصحيحة عن أهل بيت العصمة أن هذا الكتاب الذي بخط علي يعد أحد مواريث الإمامة وهو الذي يحتج به الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

وأمر ثالث الذي دعى الإمام علي إلى تأليف القران انصراف الأمّة عنه وغصبهم حقّه وتوليتهم غيره الخلافة، فآلى على نفسه أن لا يضع على عاتقة رداءه حتى يجمع القرآن وسيأتي ذلك في الفصل القادم، إن شاء الله.

 

 

[1] وهذا القول لا بد من حمله على التغليب لاعلى الاطلاق، لأن سورة البقرة مدنيّة وفيها يا أيها الناس أعبدوا ربكم آية 21 وفيها يا أيها الناس كلوا مما ني الأرض آية 168. وسورة النساء مدنيّة وأوّلها يا أيها الناس. كما في كثير من السور المكية يا أيها الذين آمنوا.

[1] الإتقان ا/ 181.

[1] (1) ابن النديم 42.