الميسّر في علوم القرآن


  الفصل السابع: أسباب النزول

 

من البحوث المهمة التي يعتنى بها في علوم القرآن هو موضوع أسباب النزول. وقد ألّف القدامى تصانيف مستقلّة فيه، كما أدرجه البعض ضمن - بحوث أخرى في كتاب واحد تحت عنوان (علوم القرآن) ثم هناك فريق ثالث تعرّض لأسباب النزول في معرض تفسيره القرآن الكريم.

ولا يخلو لكل قسم خصائصه المعيّنة، إلاّ أن استيعاب موارد النزول قد نجده عند طائفة من المفسّرين، لذا يجدر بالباحث أن يستقرىء كتب التفاسير كي يلمّ بأطراف الموضوع.

 من التفاسير المعتبرة قديماً: مجمع البيان للطبرسي. حاول فيه المصنّف أن يورد المناسبات والأحداث والقصص التي نزلت بشأنها آية أو مجموعة آيات تحت عنوان (النزول) أو (سبب النزول). وفي أثناء تفسيره لتلك الآيات يذكر بعض الروايات المتعلّقة بالنزول، كما يذكر سند الرواية في الأعم الأغلب، وربّما ذكر المصدر الذي ينقل منه.

وقد اقتفى أثر الطبرسي أغلب المفسّرين الذين جاؤوا من بعده، كما أن النيسابوري هو أبرز من كتب (في أسباب النزول) بحثاً مستقلاً منفصلاً عن بقية مواضيع علوم القرآن [1].

 

معنى سبب نزول

 هو ما نزلت من أجله آية أو مجموعة آيات أو سور حاكية له أو مجيبة عن سؤال قد سبق، أو بيان لحكم شرعي، وهذا ينحصر في طائفة من الآيات الكريمة لا كل القرآن. لهذا يمكن تقسيم آيات القرآن الكريم إلى قسمين:

 

 القسم الأول

آيات نزلت ابتداء دون أن يسبقها سبب خارجي، أو قل أنها نزلت لأسباب عامة مثل هداية الناس وإذعانهم بتوحيد الله ذاتاً وصفاتاً. وتنزيه أنبيائه، وطائفة من الآيات تشير إلى الاعتقادات الكلّية، ومنها تشير إلى ترك الطاغوت والظلم والفساد، ومنها تحكي عن قصص الأوّلين، وتكذيب الأمم للرسل والسنن. الألهية فيهم، ثم طائفة من الآيات أشارت إلى الأمور الغيبّيه كعذاب القبر وعالم البرزخ والبعث والنشور. وأحوال يوم القيامة من حساب وعقاب و... وعلى هذا فإن جملة من الآيات تحكي عن أحداث قد حصلت قبل عصر الوحي كقصص الأوّلين، وآيات أخر تحكي عن أمور غيبية لم تقع، فهي عبارة عن آيات مستقبلية.

 

القسم الثاني

آيات نزلت لأسباب خاصة وهذا ينقسم إلى عدّة فروع:

ا - النزول بسبب حادثة: من ذلك الآية يا أيها الذين أمنوا أن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد أيمانكم كافرين سورة ال عمران آية 100.

نزلت في الأوس والخزرج لما أغرى قوم من اليهود بينهم بذكر مفاخرهم وأيّامهم في الجاهلية.

 

معرفة السبب طريق إلى فهم الآية

فيما تقدّم أن القرآن نزل منجما طيلة 23 سنة [1] وكان النزول وفق المناسبات والأحداث التي صادفت حياة النبي والمسلمين. فلو سلّمنا أن الصحابة الأوائل كانوا يأخذون معالم دينهم وأجوبة مسائلهم من النبي مباشرةً أو بواسطة، فإن هؤلاء أدرى من غيرهم في معرفة السبب وما يسبق نزول الآية من حدث أو سؤال، وهكذا ما يشير عليهم النبي من أوامر ونواةٍ، فالذي صاحب الرسول في مكة رهكذا في المدينة، في سفره وحضره في سلمه وحربه... أنه أقرب إلى فهم الآية ونشوئها وسبب نزولها من غيره... لهذا لم نجد من الأوائل كبير اهتمام [2] في شأن النزول وسببه، نعم إنّما كان ذلك الاهتمام في أواخر القرن الأول الهجري، وكما قيل أن أوّل من صنّف في هذا العلم الشريف: ضحاك بن مزاحم الهلالي البلخي الخراساني سمّاه (نزول القران) وكما نقل أن عكرمة صنّف كتاباً سمّاه كذلك (نزول القران). ومن أوائل المصنّفين شيخ وأستاذ البخاري علي بن مدين المتوفّى سنة 234 هـ، له كتاب بعنوان أسباب النزول.

وليس بعيداً إذا قلنا أن الاهتمام بتدوين التفسير قد رافقه نفس الاهتمام بعلم أسباب النزول، وذلك لأن كثيراً من الآيات يتوقّف تفسيرها على فهم السبب، ولا بدّ من الإحاطة الكاملة بشان الآية والقصة التي نزلت فيها آية أو سورة، لهذا تعدّ معرفة أسباب النزول إحدى المقدّمات المهمة التي ينبغي للمفسّر أن يلمّ بها، وإلاّ سوف يغيب عنه المعنى الحقيقي ومن ثمّة يخرج تفسيره عن الاعتبار بل قد يقترف الخطا إنْ لم نقل الذنب الكبير، الذي تترتّب - عليه كثير من المفاسد.

قال الواحدي النيسابوري - وهو يبيّن أهميّة هذا العلم وخطره - فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين المتستّرين بعلوم الكتاب آبانةً ما أنزل فيه من الأسباب إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تعرف العناية إليها لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلاّ بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطلاب وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار. "أسباب النزول ص 4".

 


  الوسيلة إلى معرفة أسباب النزول

 

لفهم الآية والإحاطة الكاملة بشأنها وسائل عديدة ربّما أهمّاه تلك الروايات الصادرة من النبي والمنقولة عنه بطرق معتبرة ومتواترة. بمعنى أن معرفة أسباب النزول يتوقف على المنقول في أغلب الأحوال ولا يحتاج أن نعمل عقولنا في ذلك طالما يوجد إليها سبيل من حيث الأدلّة النقلية. نعم قد يحتاج إلى الدليل العقلي فيما لو تضاربت الأخبار المنقولة وتعدّدت الطرق واختلفت الأقوال في شأن النزول، وفيمن نزلت، وبأي مكان هبطت، فهنا لا بدّ من ترجيح أحد تلك الروايات مع دراسة السند والتعريف برجاله، ثم الاهتمام بمضمون المتن، على أن لا يخالف عقيدة ولا يخالف أصلاً ولا يعكس الحقائق ولا يبرأ مذنباً أو يخطأ بريئاً.

لهذا قال علماء العامّة لا بدّ أن يعتمد في درك أسباب النزول على أخبار الصحابة أو التابعين فقط وما عداهم فليست أخبارهم مورد قبول أو اطمئنان قال الزركشي: معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا والحوادث التي كانت تنزل فيها الايات [1].

بينما تساهل البعض في شأن السند فاهمله قبال الاهتمام بالجانب العقيدي قال الشيخ معرفة:... هناك وسيلة أخرى لعلّها أدق وأوفق للاعتبار وأكثر إطراداً مع ضوابط دراسة التاريخ: أن يكون المأثور في شأن النزول ممّا لا يرفع الإبهام عن وجه الآية تماماً ويحلّ مشكلة تفسيرها على الوجه الأتم. على قيد أن لا يكون مخالفاً لضرورة دين أو متنافراً مع بديهة العقل الرشيد. الأمر الذي يكفي بنفسه شاهد صدق على صحة الحديث أيّاً كان الإسناد. (التمهيد 1/ 245). هذا الذي ذكره لا يتم مع قوله في ص 61 الذي صرّح بأن عمدة الأخذ ينحصر فيمن عرفناه صادقاً في لهجته ثقة في أخباره..

فلو كان ما ينقله هذا الصادق في لهجته ثقة في أخباره معارضاً لأصل أو عقيدة أو حقيقة من حقائق الدين فماذا نعمل إذن...؟ ولو عكسنا القضية فأخبرنا غير الصادق وغير الثقة وخبره يطابق أصول الدين وحقائق تسالم عليها المسلمون وأن ما يخبره هذا وفق العقائد فهل تقبل منه أم نردّ أخباره؟

الحقيقة التي نريد أن نذكرها أن الاعتماد على صحة الحديث لا بدّ أن ح يزخذ بنظر الاعتبار ما كان ينتهي إلى رواة أهل البيت والأئمة الأطهار غير منفكّين عن دراسة سند هذه النقول من الأخبار. ونحن لا نشك أن الكثير من الأخبار والروايات التي اعتمد عليها الواحدي النيسابوري والسيوطي فى الاتقان وفي لباب النقول وما أورده البخاري وأصحاب المسانيد والصحاح في شأن النزول أن أسانيدها ضعيفة وفيها من الوضاعين والكذابين الكثيير أمثال عكرمة؟ وأبي صالح، والكلبي، والسُّدي الصغير وأشعث بن سعيد السمّان وأبي هريرة،...

قال السيوطي في شأن نزول الآية وإذا لقوا الدين آمنوا.. أخرج الواحدي والثعلبي من طريق محمد بن مروان والسّدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سلول وأصحابه... ثم يقول: هذا الإسناد واهٍ جداً فلإن السّدي الصغير كذاب وكذا الكلبي وأبو صالح ضعيف. (لباب النقول بهامش تفسير الجلالين ص 8).

وفي ص 10 من الهامش قال: عبد الغني واهٍ جداً وهو عبد الغني بن سعيد الثقفي.

إذا كان شأن الأسانيد يدخلها الضعف والإرسال بل والتدليس وغير ذلك إذن لا بد أن نجهد كي نحصل على أتم وأصح الأسانيد، وهذه على قلّتها فهي لا تقدم بل كونها في طرق أهل بيت العصمة أوفق من غيرها قال الميمون: سمعت الامام أحمد بن حنبل يقول: ثلاث ليس لها أصول المغازي والملاحم، والتفسير وقال المحققون من أصحابه أن الغالب، أنها ليس لها أسانيد قعانيد صحاح متّصلة الإسناد. الزركشي في البرهان 2/ 156.

 


  هل لمعرفة سبب النزول من فائدة؟

 

قيل أنه لا فائدة من ورائه، وأنه يجري مجرى التاريخ، وهذا بلا شك قول واهٍ ينبىء عن عدم فهم وسذاجة فى الذهن. وقد أشرنا إلى بعض فوائد هذا العلم ونذكر هنا البعض الآخر كما صرّح الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان:

أولاً: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

ثانياً: تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.

ثالثاً: الوقوف على المعنى، قال القشيري: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصّل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا.

رابعاً: معرفة ما قد يكون اللفظ عاماً، ويقوم الدليل على التخصيص، فإن محل السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد والإجماع.

خامساً: دفع توهُّم الحصر قال الشافعي في معنى قوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً (الأنعام 145) أن الكفّار لمّا حرّموا ما أحلّ الله وأحلّوا ما حرم الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكانه قال: لا حلال إلاّ ما حرّمتموه ولا حرام إلاّ ما حلّلتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به، ولم يقصد حلّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.

سادساً: لمعرفة سبب النزول إزالة الإشكال، نقل الزركشي عن صحيح البخاري بسنده عن مروان بن الحكم أنه بعث إلى ابن عباس يسأله: لئن كان كلّ امرئٍ فرح بما أرتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل مُعَذَّباً لنعذَّبنَّ أجمعون فقال ابن عباس هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: وإذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه إلى قوله: لا تحسبَّن الذيي يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا آل عمران 187 - 188. قال ابن عباس سألهم النبي عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم فاستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.

 


 

[1] سنفرد بحثاً مستقلاً في أسباب النزول إن شاء الله تعالى.

[1] قال الواحدي بسنده عن أبي رجاء قال سمعت الحسن يقول في قوله تعالى وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثمانى عشرة سنة.. أسباب النزرل ص 3.

[2] قال الواحدي باسنادة عن ابن سيرين قال سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال اتق الله وقل سداداً ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن. وفي عبارة أخرى له قال الواحدى - والسلف الماضون رحمهم الله كانوا من أبعد الغاية إحترازاً عن القول في نزرل الآية. (أسباب النزول ص 4).

[1] وقد ذكرنا فيما تقدم قول الواحدي بهذا الصدد.