الميسّر في علوم القرآن


  أسباب النزول لآيات من الذكر الحكيم

 

ومما نزل في سبب خاص، في حادثة قوله تعالى: ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد (البقرة / 207).

روى السدي عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب حين هرب النبي عن المشركين إلى الغار ونام علي على فراش النبي ونزلت الآية بين مكة والمدنية، وروى أنه لمّا نام علي على فراشه قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة.

 وقيل أنها نزلت في أبي ذر وصهيب بن سنان عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجراً نحو رسول الله فاتبعه نفر من قريش من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم اضرب بسيفي ما بقى منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم قالوا: دلّنا على بيتك ومالك بمكه ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلّهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي قال: أبا يحيى ربح البيع، ربح البيع، وأنزل الله ومن الناس من يشري نفسه...

 ومن ذلك:

ب - قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد أيمانكم كافرين آل عمران / 100.

 نزلت في الأوس والخزرج على أثر حادثة، عن زيد بن أسلم قال مرّ شاس بن قيس اليهودي وكان شيخاً قد غبر في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، فمرّ على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدّثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شاباً من اليهود كان معه، فقال: أعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم (بعاث) وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان (بعاث) يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج. وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلّم القوم عند ذلك. فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأرس، وجابر بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه إن شئت رددتها جذعاً، وغضب الفريقان جميعاً وقالا ارجعا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة وهي حرّة، فخرجوا إليها فانضمّت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفّاراً، الله الله فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدّوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين فانزل الله يا أيها الذين آمنوا...

ج - ومن الأسباب الخاصة - في نزول آيات من القرآن - ما كان يسبقه سؤال، ففي قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم البقرة/ 215 الآية.

نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير فقال يا رسول الله بماذا أتصدّق وعلى من أتصدّق فأنزل الله هذه الآية.

د - ومن ذلك قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قال العفو نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل الله تعالى الآية...

هـ - ومن ذلك قوله تعالى: ويسألونك من ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً الكهف/ 83 قال قتادة: إن اليهود سألوا نبي الله عن ذي القرنين فأنزل الله تعالى هذه الآية. كان ذو القرنين نبياً أرسل إلى أناس وقيل كان ملكا ونبيا وقيل كان عبداً صالحاً، فالذين سألوا النبي إنّما سألوا عن (شخص) قد مضى عليه زمن بعيد جداً.

و - ومن ذلك قوله تعالى: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّى الإسراء/ 285 سؤال عن أمر غيبي سأله بعض اليهود من النبي، عن علقمة عن عبد الله قال: إني مع النبي في حرث بالمدينة وهو متكئ على عسيب فمرَّ بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوه عن الروح فقال بعضهم لا تسألوه فيستقبلكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت ثم ماج، فأمسكت بيدي على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه فأنزل الله عليه: ويسألونك عن الروح... الخ الآية.

 ز - من ذلك سؤالهم عن أمر غيبي مستقبلي، قوله تعالى: يسألونك عن الساعة أيّان مرساها قل إتّما علمها عند ربي، الآية الأعراف / 187 قيل جاء قوم من اليهود فقالوا يا محمد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبياً فنزلت الآية عن ابن عباس.

وعن قتادة والحسن أن الذي سأله قريش،قالت يا محمد متى الساعة فنزلت الآية.

ح - من الموارد التي كانت سبباً لنزول القرآن - آيات منه - هو الإشارة إلى شخص بعينه أو أشخاص سواء كان المنُزل فيه من أهل الكفر، أو من أهل الإيمان، فعلى سبيل المثال ما نزل في أهل الكفر الآية الكريمة: زيّن للّذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب البقرة/ 212.

لزلت في أبي جهل وغيره من رؤساء قريش لماّ آثروا الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الشهوات وحب النساء والأموال وكانوا يسخرون من المؤمنين، ثم كانوا يقولون لو كان محمداً نبيّاً لاتّبعه أشرافنا، هذا عن ابن عباس.

 وعن مقاتل قال نزلت في عبد الله بن أُبي وأصحابه يسخرون من ضعفاء المؤمنين. وقول ثالث إنها نزلت في رؤساء اليهود من بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين.

 ط - ومني ذلك قوله تعالى: ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد أيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق ناعفوا أو اصفحوا... البقرة/ 109.

 عن ابن عباس أنها نزلت في حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بن أخطب وقد دخلا على النبي حين قدم المدينة فلمًا خرجا قيل لحيي أهو النبي قال هو فقيل فما له عندك، قال العداوة إلى الموت وهو الذي نقض العهد قي وأثار الحرب يوم الأحزاب.

وعن الزهري قال أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي ويحرّض عليه كفّار قريش في شعره وكان المشركون واليهود في المدينة حين قدمها رسول الله يؤذون النبي وأصحابه أشد الأذى، فامر الله تعالى نبيّه بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزلت الآية ودّ كثير...

ي - ومن ذلك قوله تعالى: كيف يهدي قوماً كفروا بعد أيمانهم وشهدوا أن الرسول حق... إلى قوله تعالى إلآ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله ففورٌ رحيم آل عمران 86 – 89.

قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدراً وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله هل لي من توبة فسألوا فنزلت الآية إلى قوله: إلاّ الذين تابوا... فحملها إليه رجل من قومه فقال إني لأعلم أنك لصدوق ورسول الله أصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه، هذا عن مجاهد والسّدي، وهو المروي عن أبي عبد الله.

ك - وما نزل في شخص بعينه من أهل الإيمان قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنّ ولأمةٌ مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمن خيٌر من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة، بإذنه ديبّين آياته للناس لعلّهم يتذكّرون البقر ة/ 22.

نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين بها أُسراء، فلمّا قدمها سمعت به امرأة يقال لها (عناق). وكانت خليلة له في الجاهلية فلمّا أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تحلو، فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرّمه علينا، ولكن إن شئتِ تزوّجتك، إذا رجعت إلى رسول الله استأذنه في ذلك ثم تزوّجتك، فقالت له. أنت تتبرم ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلّوا سبيله، فلمّا قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله راجعاً وأعلمه الذي كان من أمره وأمر (عناق) وما لقى في سببها فقال يا رسول الله أتحلّ أن أتزوّجها فانزل الله ينهاه عن ذلك قوله: ولا تنكحوا المشركات....

 

ذكرنا في صفحة 160 الفرع الأول من القسم الثاني من أسباب النزول وهنا نذكر:

2 - من موارد نزول آي من القرآن هو بيان حكم شرعي، من ذلك توله تعالى:

أ - يوصيكم الله ني أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فان كنّ نساءَ فوق اثنتين فلهنَّ ثُلثُا ماترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحدٍ منهما... الآية من سورة النساء/ 11.

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه قال مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر وهما يمشيان فاغمي عليَّ فدعا بماءٍ فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت، فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي فسكت رسول الله فنزلت اية المواريث فيَّ.

وقيل نزلت في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر وذلك أنه مات وترك امرأة وخمسة أخوان فجاءت الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا فشكت ذلك إلى رسول الله فأنزل الله آية المواريث...

ب - وفي ذلك قوله تعالى: الرجال توّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إن الله كان علياً كبيرا النساء/34.

قال مقاتل نزلت الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو كان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وهما من الأنصار وذلك أنها نشزت عليه فانطلق أبوها معها إلى النبي فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي لتقتصّ من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه فقال النبي ارجعوا فهذا جبرانيل أتاني وأنزل الله هذه الآية: فقال النبي أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص.

3 - ومن موارد النزول وسببه ما يرتبط بالآداب والأخلاق والسنن، بمعنى آخر النزول لأسباب تعليمية، من ذلك قوله تعالى: ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاّ إن يشاء الله الكهف / 23.

أنه نهي من الله لنبيّه أن يقولى إني أفعل شيئاً في الغد إلاّ أن يقيّد ذلك بمشيئة الله تعالى فيقول إن شاء الله.

قال الأخفش وفيه إضمار القول وتقديره إلاّ أن تقول إن شاء الله ولمّا حذف (تقول) نقل إن شاء الله إلى لفظ الاستقبال فيكون هذا تأديباً من الله للعباد وتعليماً لهم إن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوا ذلك لمانع.

هذه جملة من أسباب نزول آي من القرآن الحكيم فهي تنزيل في موارد خاصة ولكن قد يراد بها العموم.

 


  فيما نزل مكرّراً

 

من بين آيات القرآن وسوره ما نزل مكرّراً سواء نزل في مكة أو في المدينة ولا يستبعد أن تكرار النزول يحتمل لتكرار السبب أو الداعي، وربّما لأهمية الآية في ذلك الزمان أو المكان، أو ربّما لاعتبارات خفيت علينا، فتدخل في أمور غيبيّة.

ثم أن تلقي هذا النوع يعود إلى الروايات المبثوثة في كتب التفاسير وعلوم القرآن وما يرتبط بأسباب النزول وشأنه. ولا يمكن القطع بما جاء في هذه التصانيف لذا تحتاج إلى تدقيق نظر والتأكد من صحة هذه الروايات. فمثلاً أن:

1- سورة الفاتحة نزلت مرّتين: مرة في مكة، وأخرى في المدينة.

2- والآية وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السَّيئات هود/ 114.

عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو قال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبي في بعث فقالت بعني بدرهم تمراً، قال: فأعجبتني، فقلت إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فغمزتها وقبّلتها فأتيت النبي فقصصت عليه الأمر، فقال: خنت رجلاً غازياً في سبيل الله أهله بهذا، وأطرق عنّي فظننت أني من أهل النار، وأن الله لا يغفر لي أبداً وأنزل الله تعالى: أقم الصلاة طرقي النهار... فأرسل النبي فتلاها عليَّ.

تنبىء الرواية أن أبا اليسر أتى بفعله القبيح هذا في المدينة وذلك لوجود قرائن عديدة في النص، غير أن السورة مكية بالاتفاق. فهذا يعني أنها نزلت مكرّراً. عن علقمة والأسود عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن آتيها وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت، قال: فقال عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك، فلم يرد عليه النبي فانطلق الرجل فاتبعه رجلاً ودعاه فتلا عليه هذه الآية، فقال رجلاً: يا رسول الله هذا خاصة؟ قال: لا بل للناس كافة. رواه مسلم عن يحيى والبخاري عن طريق يزيد بن ذريح.

وممّا نزل مكرّراً قوله تعالى: ويسالونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي الإسراء/ 85.

كما تقدّم أن يهودياً سأل النبي عن الروح وهو في المدينة، لكن السورة مكية بالاتفاق.

4 - سورة الاخلاص نزلت بمكة لمّا سألت قريش النبي انسب لنا ربّك ونزلت ثانية في المدينة لمّا جاء بعض اليهود إلى النبي فقالوا: صف لنا ربّك.

عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله انسب لنا ربّك فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد.

وعن قتادة والضحاك ومقاتل: جاء ناس من اليهود إلى النبي فقالوا صف لنا ربّك فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أيّ جنس هو؟ أذَهبَ هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممّن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه السورة وهي نسبة الله خاصة.

 أمّا ما قيل في شأن الآية: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين توبة / 113.

فعن البخاري بسنده عن سعيد بن المسيّب عن أبيه قال لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة فقال النبي أي عم قل لا إله إلآ الله أحاجُ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب فقال النبي لاستغفرنّ لك ما لم أنه عنك فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم. (صحيح البخاري 5/ 208).

وفي موضع آخر من الصحيح يذكر البخاري نفس الرواية المتقدَّمة، ويقول: نزلت في أبي طالب هذه الآية: أنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله بهدي من يشاء القصص لم 56 (صحيح البخاري 6/ 18) وقال الزركشي نزلت في أبي طالب ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ثم يعقب فيقول وأنزل الله في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت القصص / 56 برهان الزركشي 1/ 31 ثم قال وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق.

أقول أين هذه الأقوال المتضاربة من نزول السورة (التوبة) حيث أجمع علماء التفسير أنها نزلت بالمدينة، أمّا وفاة أبي طالب فكانت في السنة العاشرة من البعثة النبويّة وفي مكة فما المناسبة من ربط هذه الآية بأبي طالب؟ ولماذا هذا الإصرار من علماء الجمهور [1] على أبي طالب في كونه مات كافراً - معاذ الله - أضف إلى ذلك لم يدّع أحد من المفسّرين أن سورة التربة نزلت في مكة لا كلاً ولا بعضاً. ثم الآية من سورة التوبة إنما نزلت بسبب عدّة من المسلمين قالوا للنبي ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية وبّين أنه لا ينبغي لنبي ولا مؤمن أن يدعو لكافر ويستغفر له قال الطبرسي في المجمع تعقيباً لما تقدّم: وقوله (ما كان للنبي) أبلغ من أن يقول (لا ينبغي للنبي) لأنه يدل على قبحه وأن الحكمة تمنع منه [2]. أقول ثبت من طرق أهل بيت العصمة أيمان أبي طالب وأنه مات على الإسلام، غير أن الأحقاد والضغائن لا تزال في صدور البعض.

وقد حقّقنا موضوع إيمان أبي طالب في كتابنا شاعر العقيدة فراجع ص79-94.

نستخلص ممّا تقدم أن معرفة سبب النزول يحدد لنا مفهوم الآية، وتفسيرها وفيمن نزلت وبأي مكان وزمان. فإذا أحطنا بهذه الخصوصيات عند ذاك يندر الالتباس أو الوقوع في الخطأ.

 


  العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

 

لم ينزل القرآن إلى جيل دون آخر أو إلى عصر دون عصر بل أوامره ونواهيه وسننه وخطاباتها تجري على من عاصر صاحب الرسالة الأكرم ومن لم يعاصره. لهذا آيات الأحكام لا تختصّ بمن خوطب بها، وبعبارة أخرى أن السبب لا يخصص بل العبرة بعموم اللفظ.

فمثلاً آية الظهار التي نزلت في أوس بن الصامت وربّما قيل نزلت في سلمة بن صخر، كيفما كان فإن هذا الحكم الشرعي في الظهار الذي نزل في امرأة ثابت بن قيس أوفي خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أنه حكم عام فكل حدث مشابه لما تقدّم ينطبق عليه هذا الحكم، وهكذا آية المواريث (الكلالة) أنها نزلت كما قيل في جابر بن عبد الله الأنصاري إلاّ أن هذا الحكم لا يخصص المورد بل العبرة بعموم اللفظ.ومثل ذلك قل في آية السرقة وآية الحسد، والقذف، والحجاب، - واللعان، وغير ذلك من آيات الأحكام.

روى العياشي عن خيثمة قال: قال أبو جعفر يا خيثمة القرآن نزل ثلاثاً، ثلث فينا وفي أحبّائنا، وثلث في أعدائنا وعدّو من كان قبلنا وثلث سنّه ومثل ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلونها وهم منها من خير أو شر [1].

وروي عن الإمام الباقر أنّه قال. إن القرآن حي لا يموت، وإن الآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ماتت الآية لمات القرآن ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضيين [2].

 وعن أبي عبد الله: إن القرآن حي لم يمت، وأنه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا.

 


 

[1] انظر تفسير ابن كثير 2/ 393.

[2] مجمع البيان 5 /76

[1] تفسير العياشي 1/10 تفسير الصافي 1/ 18.

[2] البحار.