الكتاب القرآن على ضوء الصحيفة السجادية
تأليف الشيخ فادي الفيتروني
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1435هـ 2014م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

فهرس الكتاب

الجزء الأول

الجزء الثاني الجزء الثالث الجزء الرابع الجزء الخامس

 

المقدّمة

 أوّلاً: التزام الزهد والعبادة والمواساة للفقراء

  ثانياً: ظاهرة الهيبة والمنزلة العظيمة

  ثالثا: ظاهرة الاهتمام بالقرآن الكريم

  رابعاً: التزام الدعاء

 الفصل الأول : الجانب العقائدي

 تمهيد الباب

أولاً - تمهيد: أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من أشد الناس تمسكاً بالقرآن الكريم

 ثانياً - دعاؤه (عليه السلام) عند ختم القرآن

 اللغة

 الشرح

 توصيف القرآن الكريم
 تلاوة القرآن
 نزول القرآن على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
 خزنة القرآن الكريم
 الاعتصام بحبل الله تعالى
 الهادي والمرشد
 القرآن وسيلة لمنازل الكرامة
 العمل بالقرآن يطهرنا من الذنوب
 القرآن المؤنس والحارس
 القرآن حماية من الوساوس والفزع الأكبر
 القرآن يجبر الثغرات
 القرآن يهوّن علينا حالة الاحتضار
 أحوال القبر

 مقام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله سبحانه

ثالثاً - دعاؤه في التحميد لله تعالى

 اللغة

 الشرح

 هو الأول والآخر
 آثار الحمد لله سبحانه
 الشكر على معرفة الله تعالى
 طريق يوم القيامة
 محاسن الخلق وإجراء الأرزاق
 قضاء الحوائج
 نعمة الجوارح
 فتح باب التوبة
 أكرم الخلق إلى الله تعالى
 ستر الذنوب وغفرانها
 نيل ثواب الشهداء

 

 


الفصل الأول : الجانب العقائدي


 

أولاً - تمهيد: أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من أشد الناس تمسكاً بالقرآن الكريم

ثانياً - دعاؤه (عليه السلام) عند ختم القرآن
ثالثاً - دعاؤه في التحميد لله تعالى


 

 

 


المقدّمة


 


الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد الرسول الصادق الأمين، وعلى الأئمة الأطهار المعصومين من آله الأكرمين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
يقول عزَّ وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [1]
خاطب الله سبحانه المؤمنين المصدقين بالله المقرين بنبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتقوا معاصيه ويجتنبوها، وأن يكونوا مع الذين يصدقون في أخبارهم ولا يكذبون، أي على خط من يستعمل الصدق في أقواله وأفعاله، فصاحبوهم ورافقوهم واقتدوا بهم، فقد روى جابر عن أبي جعفر(الإمام الباقر (عليه السلام)) في قوله: ﴿ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ قال: مع آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) [2] .
ومن هؤلاء الصادقين الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) زين العابدين وهو رابع أئمة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذي الثفنات.

ولد في المدينة سنة 37 أو 38 هجري، وتوفّي بها عام 94 أو 95 هجري، يوم السبت الثاني عشر من محرّم.
قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمة الإثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصى وتذكر، ولما توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس - رضي الله عنه - [3] .
تميزّت سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفرّة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة (عليهم السلام)، إلاّ أنها برزت في سيرة الإمام (عليه السلام) بشكلٍ آخر، أكثر وضوحاً، وأوسع دوراً، مما تسترعي الانتباه، وهي:
1- ظاهرة الزهد والعبادة والمواساة للفقراء.
2- ظاهرة الهيبة والمنزلة العظيمة.
3- ظاهرة الاهتمام بالقرآن الكريم.
4- ظاهرة الدعاء.


فإذا سبرنا حياة الأئمة (عليهم السلام)، وجدناهم كلّهم يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) تجاوزت الحدّ المألوف، حتّى كان (عليه السلام) فريداً في الالتزام بكلٍ منها:
العبادة والزهد، فقد عدّ فيهما: زين العابدين وسيد الزاهدين، حتّى ضُرِب به المثل فيهما.
وأما الدعاء: فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهداً على ما نقول، والبكاء، فقد عدّ فيه: من البكّائين وهكذا بالنسبة لباقي الجوانب.
وسنحاول أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام (عليه السلام)، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام (عليه السلام)، وما استهدفه الإمام (عليه السلام) من اللجوء إليها بهذا الشكل مع الاختصار.

 

 

 

أوّلاً: التزام الزهد والعبادة والمواساة للفقراء


أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان، لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام (عليه السلام)، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة، حتّى أصبح من أشهر ألقابه (زين العابدين) [4] و(سيّد الساجدين).
والزهد، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون، المخلصون لله تعالى، الراغبون في جزيل ثوابه، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذّاتها ومغرياتها، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل.
فقد روي عنه (عليه السلام)، أنّه إذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: «أتدرون بين يدي من أريد أن أقف».
ومن كلماته (عليه السلام): «إنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار».
وكان إذا أتاه سائل يقول له: «مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة».

وكان (عليه السلام) كثير الصدقات حريصاً عليها، وكان يوصل صدقاته ليلاً دون أن يعلم به احد، وقد روي أنه (عليه السلام) كان يعول مئة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّي (عليه السلام) أدركوا ذلك.
وفي رواية: أنّه (عليه السلام) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ».
وفي رواية كان أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين (عليه السلام) [5] .

 

 

ثانياً: ظاهرة الهيبة والمنزلة العظيمة


لقد كان (عليه السلام) مهاباً جليلاً بين الناس بشكل كبير، حتى إنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الأمراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء علي بن الحسين (عليهما السلام) فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه (مع أنّه كان يعرفه أنّه علي بن الحسين (عليه السلام)) فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:

 

هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ

وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِمُ

هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ

هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ

 بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا

وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه

العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ

إذ رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها

 إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ

يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِه

 فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ

يَكادُ يُمْسِكُهُ عِرْفانَ رَاحَتِهِ

رُكْنُ الحَطِيمِ إذا ما جَاءَ يَستَلِمُ

إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ

أوْ قيل: «من خيرُ أهل الأرْض؟» قيل: هم



إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمّة وشطرها جماعة من الشعراء. وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:

 

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد

وعيناً له حولاء باد عيوبها



فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين (عليهما السلام) عشرة آلاف درهم وقال: «اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ لله، فقال له علي (عليه السلام): «قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.

 

 

ثالثا: ظاهرة الاهتمام بالقرآن الكريم


إن القرآن الكريم، باعتباره الوحي الإلهي المباشر، والمصدر الأساسي المقدّس بنصّه وفصّه، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه، فهو الحجّة عند الجميع، والفيصل الذي لا يردّ حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام ديناً وبمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّاً.
ولذلك كانت دعوة أهل البيت (عليهم السلام)إلى الالتزام به، والاسترشاد به وقراءته والحفاظ عليه، دعوة صريحة مؤكدة.
وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره وأُصوله ومنها القرآن، بقتل أعمدته وحفظته ومفسّريه [6] .

فقام الإمام زين العابدين (عليه السلام) بجهد وافر في هذا المجال: ففي الحديث أنه قال: «عليك بالقرآن، فإن الله خلق الجنة بيده، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصاها اللُؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: (اقرأ وارق) ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه، ما خلا النبيين والصديقين» [7] .

وأُسْنِدَ عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: «آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها» [8] .
وقال (عليه السلام): «من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرى منزله في الجنة» [9] .
وكان يعبّر عن كفاية القرآن، بتعاليمه الروحانية القيّمة، بكونه مؤنساً للإنسان المسلم، يعني: أنّ الوحشة إنّما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتّى لو عاش الإنسان بين الناس، فكان يقول:«لو مات مَنْ ما بين المشرق والمغرب ما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي» [10] .

وهكذا يجدّ الإمام (عليه السلام) في تعظيم القرآن، وتخليده في أعماق نفوس الأمة، كما يسعى في التمجيد له عملياً وبأشكال من التصرفات: فممّا يؤثر عنه (عليه السلام): «أنه كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، حتّى: إن السقّائين كانوا يمرّون ببابه، فيقفون لاستماع صوته، يقرأ...» [11] .
وقال سعيد بن المسيب: إن قرّاءالقرآن لم يذهبوا إلى الحج (إلا) إذا ذهب علي بن الحسين (عليه السلام)، ولم يخرج الناس من مكّة حتّى يخرج علي بن الحسين (عليه السلام) [12] .
وفي بعض الأسفار بلغ عدد القرّاء حسب بعض المصادر: ألف راكبٍ [13] .

وقد كان الإمام السجّاد (عليه السلام) مرجعاً في علوم القرآن ومعارفه، يسأله كبار العلماء عن القرآن: قال الزهري: سألت علي بن الحسين: عن القرآن؟ فقال: «كتاب الله، وكلامه» [14] .
وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الأُمة إلى ما يُحييهم، ويطبّق مفاهيمه على حياتهم، ويحاول تنبيههم إلى ما يدور حولهم من قضايا، وإليك بعض النصوص:
روي أنه (عليه السلام) قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [15] : ﴿ وَلَكُمْ ﴾ يا أمة محمّد: ﴿ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ لأن مَنْ هَمَ بالقتل، فعرف أنه يقتصّ منه، فكفّ لذلك من القتل، كان حياة للذي همّ بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس: إذا علموا أن القصاص واجب، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص: ﴿ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾ أولي العقول: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ثم قال (عليه السلام): عباد الله، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا، وتفنون روحه! أفلا أُنبئكم بأعظم من هذا القتل؟ وما يوجبه الله على قاتله ممّا هو أعظم من هذا القصاص؟
قالوا: بلى، يابن رسول الله.
قال: أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلاً لا يُجبر، ولا يحيا بعده أبداً، قالوا: ما هو؟
قال: أن يضلّه عن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويسلك به غير سبيل الله، ويغيّر به باتباع طريق أعداء عليّ والقول بإمامتهم، ودفع عليّ عن حقّه، وجحد فضله، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه، فهذا هو القتل... [16] .
وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) كثيراً ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدلّ بها، وعندما يجد مناسبة يعرّج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردّية التي كان يعيشها المسلمون.

ففي الخبر: إنه (عليه السلام) كان يذكر حال مَنْ مسخهم الله قردة من بني إسرائيل، ويحكي قصتهم (المذكورة في القرآن ) فلما بلغ آخرها، قال: إن الله تعالى مسخ أُولئك القوم، لاصطيادهم السمك.
فكيف ترى عند الله عزَّ وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهتك حريمه؟
إن الله تعالى، وإن لم يمسخهم في الدنيا، فإن المعدّ لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ [17] .
إن تصدّي الإمام زين العابدين (عليه السلام) لهذه القضايا، لاشك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة، وتحريك للأفكار ضدّ الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحدياً سياسياً يحاسبون عليه.

 

 

رابعاً: التزام الدعاء


ومن أبرز المظاهر الفذّة في سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الأدعية المأثورة عنه، فقد تميّز ما نقل عنه بالكثرة، والنفس الطويل، والشهرة والتداول، لما تحتويه من أساليب جذّابة ومستهوية للقلوب، تتجاوب معها الأرواح والنفوس، وما تضّمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار.
وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى، بالنصوص الحاسمة والقضايا العقائدية الإسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنصّ قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة، تيّارات الإلحاد، كالتشبيه والجبر والإرجاء، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام، والرجوع إلى الجاهلية الأولى.

وفي حالة القمع والإبادة، ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم، كان قرار الإمام زين العابدين (عليه السلام) باتّباع سياسة الدعاء، أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وآمن طريقة، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتصال سريّة مكتومة، هادئة، موثوقة.
إنّ خط الموالاة لأهل البيت (عليهم السلام)، وفي عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام) خاصةً كان يواجه صعوبات بالغة الشدّة، حيث كان الظلم مستولياً على كلّ المرافق والمقدّرات، ولم يكن بالإمكان القيام بأيَّة مقاومة إيجابية، أو محاولة.

استخدم الإمام (عليه السلام)النطق بالدعاء وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤوليات، في أحلك الظروف وأحرجها، وبثّ روح النضال والمقاومة، وتوثيق الرابطة الفكرية، وتأكيد التعهّدات الاجتماعية، وتثبيت العواطف الصالحة، حبّاً بالتولي والإعلان عنه، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمّة، وتهيئة الأجواء روحياً وفكرياً وجسميّاً للإعداد للمسؤوليّات الكبرى، كلّ ذلك في ظروف جُندت فيه القوى المضادّةُ، للقضاء على الأهداف كلّها.

إن الحديث عن الصحيفة السجّادية العظيمة وأثرها العلميّ والدينيّ عقيدياً وحضارياً وأثرها الاجتماعي وغير ذلك يحتاج إلى تفرّغ وتخصّص، وإلى وقت ومجال واسع.
وإذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين (عليه السلام) وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشّرات التصرّفات التي قام بها أولئك الحكام، اتضح له أنّ الإمام قد قام من خلالها بتحدّ صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفَتْ كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه.

وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخّار لاقتناص درره فإنّا نقتصر على إيراد بعض الأدعية من أدعية الصحيفة في الجانب الاعتقادي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في خمسة فصول، يمثّلون صورة عمّا جاء فيها، ممّا تبرز فيه معالم التصدّي لهذه الأمور التي التزمها
الإمام (عليه السلام) بمنطق الدعاء [18] .

 

جمعية القرآن الكريم
للتوجيه والارشاد


[1] سورة التوبة ، الآية: 119 .
[2] مجمع البيان: موضع تفسير الآية .
[3] وفيات الأعيان: ج3 ، ص267 - 269.
[4] تاريخ أهل البيت: ص 130 -131 .
[5] تذكرة الخواص: 294.
[6] مثل سعيد بن جبير ، ويحيى بن ام الطويل ، وميثم التمار ، وغيرهم من شهداء الفضيلة ، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة .
[7] تفسير البرهان: ج3 ، ص156 .
[8] الكافي: ج2 ، ص609 ، وانظر المحجة البيضاء: ج2 ، ص215 .
[9] المحجة البيضاء: ج2 ، ص215 .
[10] الكافي: ج2 ، ص602 ، وانظر المحجة البيضاء: ج2 ، ص215 .
[11] الكافي: ج2 ، ص616 .
[12] رجال الكشي: ص 117 رقم 187 .
[13] عوالم العلوم: ص 303 .
[14] تاريخ دمشق ، ومختصره لابن منظور: ج17 ، ص240؛ وسير أعلام النبلاء: ج4 ، ص396 .
[15] سورة البقرة ، الآية: 179 .
[16] الاحتجاج: ص 319 .
[17] الاحتجاج: ص 312 .
[18] تقديم: الشيخ فادي الفيتروني .


 

 


الفصل الأول : الجانب العقائدي


 

أولاً - تمهيد: أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من أشد الناس تمسكاً بالقرآن الكريم

ثانياً - دعاؤه (عليه السلام) عند ختم القرآن
ثالثاً - دعاؤه في التحميد لله تعالى


 

 

أولاً - تمهيد: أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من أشد الناس تمسكاً بالقرآن الكريم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [1] .
بداية نشير إلى أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من أشد الناس تمسكاً بالقرآن الكريم، والمحافظة عليه، وتعظيمه، فمنه نأخذ عقيدتنا وأحكامنا، فهو المصدر الأول لها، وبه ندفع شبهات المبطلين، فهو عندنا المعجزة الكبرى والخالدة، والمقياس الصحيح للحق والهداية، فقد أمرنا عن طريق الأئمة (عليهم السلام ) أن نعرض ما ينقل عنهم على القرآن، فإِن خالفه فهو كذب وافتراء وزخرف وباطل يجب ضربه في عرض الجدار.
نرجع إلى الآية المتقدمة والتي تعني أنه: لو جعلنا القرآن أعجميا غير مبين لمقاصده غير بليغ في نظمه لقال الذين كفروا من قومك: هلا فصّلت وبيّنت آياته وأجزاؤه فانفصلت وبانت بعضها من بعض بالعربية والبلاغة أكتاب مرسل أعجمي ومرسل إليه عربي؟ أي يتنافيان ولا يتناسبان.
ولو أن القرآن كان قد أنزل بلغة غير العرب، لاعتذروا عن كفرهم بأن آياته غير واضحة لهم. فهل يختلف الهدى أن يبين بأية لغة، أو يختلف الدواء أن يكون في أي وعاء؟ كلا؛ إنَّ الإيمان هو نور في القلب، وإن الكفر وقر في السمع. فمن كان في قلبه نور الإيمان اهتدى بآيات الكتاب، ومن لم يكن ثقلت أذنه عن كلمات الله سبحانه.


وهكذا تجاوز الكتاب حتى إطار اللغة، وبيَّن أهمية نوره وهداه وشفاه. وقد تجاوز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة رائعة له العصبية العربية القائمة على قاعدة الدم، فجعل كل متحدّث بلغة الضاد عربياً، فقال: «يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها. إن العربية ليست بأب ووالدة، وإنما هو لسان ناطق، فمن تكلم به فهو عربي، ألا إنكم من آدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم» [2] .
ثم أشار سبحانه إلى بيان أن أثر القرآن وخاصته لا يدور مدار لغته بل الناس اتجاهه صنفان وهم الذين آمنوا والذين لا يؤمنون، وهو هدى وشفاء للذين آمنوا يهديهم إلى الحق ويشفي ما في قلوبهم من مرض الشك والريب.
فعن الإمام علي (عليه السلام): «عليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين والشفاء النافع... من قال به صدق، ومن عمل به سبق» [3] . وعنه (عليه السلام): «إن فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال» [4] . وعن الإمام
الحسن (عليه السلام): «إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فليجلُ جالٍ بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإنّ التفكير حياة القلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور» [5] .

ثم اعتبر سبحانه القرآن هو عمى على الذين لا يؤمنون - وهم الذين في آذانهم وقر - يعميهم فلا يبصرون الحق وسبيل الرشاد.
يفاجأ المرء خلال حياته بمشاكل وصعوبات لم تكن في توقعاته وحساباته، وقد يصطدم ببعض الأزمات التي لا يعرف لها حلاً، فتتحداه بعضها وتقعده. هنالك يكون بمسيس الحاجة إلى بصيرة يتسلح بها لإنقاذ نفسه أو من يهمه أمرهم، ليتوصل إلى طرق الحل وسبل النجاة.
فمن أين تأتيه البصيرة المرجوّة؟ إنها تأتيه من كتاب خالقه الرؤوف الحنّان ولكن كيف؟!
إن الكثير من الناس يعرفون وجود النجاة والشفاء والهدى والنور والبصائر في القرآن الحكيم، ويعرفون أن حلول مشاكلهم جميعاً الاعتقادية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بين دفتيه، ولكنهم عند المواجهة يعجزون عن استنباطها أو الاستفادة منها. فيا ترى هل ثمَّ طريق ووسيلة لحل هذه الأزمة الخطيرة؟

الجواب: إنما يكون ذلك بالمزيد من تلاوة القرآن، وربما أيضاً يتسنى بحفظ آياته حفظاً جيداً لأنك إذا حفظت آية من الكتاب، وواجهت مشكلة ما فإنها سترتسم أمامك وكأنها إضاءة وإشارة إلى الطريق الصحيح والحل الصائب. وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد أهمية واستحباب حفظ القرآن، منها ما روي عن علي بن الحسين (عليه السلام): «عليك بالقرآن، فإن الله خلق الجنة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصباءها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن فمن قرأ القرآن يقال له: اقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه، ما خلا النبيون والصديقون» [6] حيث تتمايز الدرجات وتتفاضل المنازل، ويرى الإنسان أن بين درجة وأُخرى من درجات الجنة مسيرة خمسمئة عام، أو كما الفاصلة بين السماء والأرض فحينما يقرأ آية واحدة يرقى درجة واحدة، ولك أن تتصور أن لو كنت حافظاً لكل القرآن، فكم درجة ستطويها في مسيرك إلى موقعك في الجنة الأبدية؟
بلى؛ إن قراءة القرآن المستمرة وحفظ آياته، يعتبران من أهم برامج حياة الإنسان، ولا سيما بالنسبة إلى الشبيبة والأشبال والأطفال. وإني لأوصي نفسي وكافة الآباء بالاهتمام بتحفيظ الأولاد آيات القرآن منذ سنينهم المبكرة، وحبذا لو بدأنا معهم من عامهم الثالث، حيث يشرعون في الاستيعاب. فما أحلى وأسمى أن تمتلئ ذاكرتهم بحكمة الله وقرآنه، ليدخروها لأوقات حاجاتهم.
أما الكبار، فما عليهم إلاّ أن يرتلوا آيات الذكر الحكيم باستمرار، أي في كل وقت وَسِعَهُم ذلك، وبالأخص في أوقات الصلاة وعند الفجر، فإن قرآن الفجر كان مشهوداً.
فالقرآن بقيّة الله تعالى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور وليقودهم إلى الجنَّة من خلال العمل والطاعة، قال الإمام الحسن (عليه السلام): «ما بقي من الدنيا بقيّة غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هُداكم، وإنّ أحقّ الناس من عمل به، وإن لم يحفظه، وأبعدهم من لم يعمل به، وإن كان يقرأه» [7] .
وقال (عليه السلام):«إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً: يقود قوماً إلى الجنّة، أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه؛ ويسوق قوماً إلى النار، ضيّعوا حدوده وأحكامه، واستحلّوا محارمه» [8] .
ومما يؤكد الاهتمام بالقرآن الكريم من قبل أهل البيت (عليهم السلام) ما ورد في دعاء الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) عند ختم القرآن وسيأتي مع شرحه إن شاء الله تعالى.
نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وآمنوا بمتشابهه؛ إنه لطيف مجيب.


 

ثانياً - دعاؤه (عليه السلام) عند ختم القرآن



وكان من دعائه (عليه السلام) عند ختم القرآن:


اللّهُمَّ إِنَّكَ أَعَنْتَني عَلى خَتْمِ كِتابِكَ الَّذي أَنْزَلْتَهُ نُوراً، وَجَعَلْتَهُ مُهَيْمِناً عَلى كُلِّ كِتابٍ أَنْزَلْتَهُ، وَفَضَّلْتَهُ عَلى كُلِّ حَديثٍ قَصَصْتَهُ، وَفُرْقاناً فَرَقْتَ بِهِ بَيْنَ حَلالِكَ وَحَرامِكَ، وَقُرآناً أَعْرَبْتَ بِهِ عَنْ شَرائِعِ أَحْكامِكَ، وَكِتاباً فَصَّلْتَهُ لِعِبادِكَ تَفْصيلاً، وَوَحْياً أَنْزَلْتَهُ عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَنْزِيلاً، وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدي مِنْ ظُلَمِ الضَّلالَةِ وَالجَهالَةِ بِاتِّباعِهِ، وَشِفاءً لِمَنْ أَنْصَتَ بفَهْمِ التَّصْديقِ إلى اسْتِماعِهِ، وَميزانَ قِسْطٍ لا يَحيفُ عَنِ الحَقِّ لِسانُهُ، وَنُورَ هُدىً لا يُطْفَأُ عَنِ الشَّاهِدَينَ بُرْهانُهُ، وَعَلَمَ نَجاةٍ لا يَضِلُّ مَنْ أَمَّ قَصْدَ سُنَّتِهِ، وَلا تَنالُ أيْدِي الهَلَكاتِ مَنْ تَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ اللّهُمَّ فَإِذْ أَفَدْتَنا المَعُونَةَ عَلى تِلاوَتِهِ، وَسَهَّلْتَ جَواسِي ألْسِنَتِنا بِحُسْنِ عِبارَتِهِ فاجْعَلْنا مِمَِّنْ يَرْعاهُ حَقَّ رِعايَتِهِ، وَيَدِينُ لَكَ بِاعْتِقادِ التَّسْليمِ لِمُحْكَمِ آياتِهِ، وَيَفْزَعُ إلَى الإقْرارِ بِمُتَشابِهِهِ وَمُوضِحاتِ بَيِّناتِهِ، اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ مُجْمَلاً، وَألْهَمْتَهُ عِلْمَ عَجائِبِهِ مُكَمَّلاً، وَوَرَّثْتَنا عِلْمَهُ مُفَسَّراً، وَفَضَّلْتَنا على مَنْ جَهِلَ عِلْمَهُ، وَقَوَّيْتَنا عَلَيْهِ لِتَرْفَعَنا فَوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ، الّلهُمَّ فَكَما جَعَلْتَ قُلُوبَنا لَهُ حَمَلَةً، وَعَرَّفْتَنا بِرَحْمَتِكَ شَرَفَهُ وَفَضْلَهُ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ الخَطيبِ بِهِ، وَعَلى آلِهِ الخُزّانِ لَهُ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ حَتّى لا يُعارِضَنَا الشَّكُّ في تَصْدِيقِهِ وَلا يَخْتَلِجَنَا الزَّيْغُ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِهِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ، وَيَأوِي مِنَ المُتَشابِهاتِ إِلى حِرْزِ مَعْقِلِهِ، وَيَسْكُنُ في ظِلِّ جَناحِهِ، وَيَهْتَدي بِضَوْءِ صَباحِهِ، وَيَقْتَدي بِتَبَلُّجِ أَسْفارِهِ، وَيَسْتَصْبِحُ بِمِصْباحِهِ، وَلا يَلْتَمِسُ الهُدى في غَيْرِهِ، اللّهُمَّ وَكَما نَصَبْتَ بِهِ مُحَمَّداً عَلَماً لِلدَّلالَةِ عَلَيْكَ، وَأنْهَجْتَ بِآلِهِ سُبُلَ الرِّضا إِلَيْكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلِ القُرْآنَ وَسِيلَةً لَنا إلى أَشْرَفِ مَنازِلَ الكَرامَةِ وَسُلَّماً نَعْرُجُ فيهِ إلى مَحَلِّ السَّلامَةِ، وَسَبَبَاً نُجْزى بِهِ النَّجاةَ في عَرْصَةِ القِيامَةٍ، وَذَرِيعَةً نَقْدُمُ بِها عَلى نَعيمِ دارِ المُقامَةِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاحْطُطْ بِالقُرآنِ عَنَّا ثِقْلَ الأَوْزارِ، وَهَبْ لَنا حُسْنَ شَمائِلِ الأَبرارِ، وَاقْفُ بِنا آثارَ الَّذِين قامُوا لَكَ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ، حَتّى تُطَهِّرَنا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ بِتَطْهِيرِهِ وَتَقْفوَ بِنا آثارَ الَّذِينَ اسْتَضاءوُا بِنُورِهِ، وَلَمْ يُلْهِهِمِ الأَمَلُ عَنِ العَمَلِ فَيَقْطَعَهُمْ بِخُدَعِ غُروُرِهِ اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلِ القُرْآنَ لَنا في ظُلَمِ اللَّيالِي مُؤنِساً وَمِنْ نَزَغاتِ الشَّيْطانِ وَخَطَراتِ الوساوِسِ حارِساً، وَلأَقْدامِنا عَنْ نَقْلِها إِلى المَعاصي حابِساً، وَلأَلْسِنَتِنا عَنِ الخَوْضِ في الباطِلِ مِنْ غَيْرِ ما آفَةٍ مُخْرِساً، وَلِجوارِحِنا عَنِ اقْتِرافِ الآثامِ زاجِراً وَلِما طَوَتِ الغَفْلَةُ عَنَّا مِنْ تَصَفُّحِ الاعْتِبارِ ناشِرَاً، حَتّى تُوصِلَ إِلى قُلوُبِنا فَهْمَ عَجائِبِهِ، وَزَواجِرَ أمْثالِهِ الَّتِي ضَعُفَتِ الجِبالُ الرَّواسي عَلى صَلابَتِها عَنِ احْتِمالِهِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأدِمْ بِالقُرْآنِ صَلاحَ ظاهِرِنا، وَاحْجُبْ بِهِ خَطَراتِ الوَساوِس عَنْ صِحَّةِ ضَمائِرِنا، وَاغْسِلْ بِهِ دَرَنَ قُلوُبِنا وَعَلائِقَ أوْزارِنا وَاجْمَعْ بِهِ مُنْتَشَرَ أَمُورِنا، وَأرْوِ بِهِ فِي مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ ظَمَأَ هَواجِرِنا وَاكْسُنا بِهِ حُلَلَ الأمانِ يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ في نُشُورِنا، اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالقُرْآنِ خَلَّتَنا مِنْ عَدَمِ الإِمْلاقِ، وَسُقْ إِلَيْنا بِهِ رَغَدَ العَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأَرْزاقِ وَجَنِّبْنا بِهِ الضَّرائِبَ المَذْمُومَةَ وَمَدانِيَ الأَخْلاقِ، وَاعْصِمْنا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الكُفْرِ وَدَواعِي النِّفاقِ، حَتّى يَكُونَ لَنَا فِي القِيامَةِ إِلى رِضْوانِكَ وَجِنانِكَ قائِداً، وَلَنا في الدُّنْيا عَنْ سَخَطِكَ وَتَعَدّي حُدُودِكَ ذائِداً، وَلِما عِنْدَكَ بِتَحْلِيلِ حَلالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرامِهِ شاهِداً، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَوِّنْ بِالقُرآنِ عِنْدَ المَوْتِ عَلى أنْفُسِنا كَرْبَ السِّياقِ وَجَهْدَ الأَنينِ، وَتَرادُفَ الحَشارِجِ إذا بَلَغَتِ النُّفُوسُ التَراقِيَ وَقيلَ مَنْ راقٍ؟ وَتَجَلّى مَلَكُ المَوْتِ لِقَبْضِها مِنْ حُجُبِ الغُيُوبِ وَرَماها عَنْ قَوْسِ المَنايا بِأَسْهُمِ وَحْشَةِ الفِراقِ وَدَافَ لَها مِنْ ذُعافِ المَوْتِ كَأساً مَسْمُوُمَةَ المَذاقِ وَدَنا مِنَّا إلَى الآخِرَةِ رَحيلٌ وَانْطِلاقٌ، وَصارَتِ الأعْمالُ قَلائِدَ فِي الأَعْناقِ، وَكانَتِ القُبُوُرُ هِيَ المَأَوى إِلى ميقَاتِ يَوْمِ التَّلاقِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبارِكْ لَنا في حُلُولِ دارِ البِلى، وَطُولِ المُقامَةِ بَيْنَ أَطْباقِ الثَّرى، وَاجْعَلِ القُبُوُرَ بَعْدَ فِراقِ الدُّنْيا خَيْرَ مَنازِلِنا، وَافْسَحْ لَنا بِرَحْمَتِكَ في ضيقِ مَلاحِدِنا وَلا تَفْضَحْنا في حاضِرِي القيامَةِ بِمُوبِقاتِ آثامِنا، وَارْحَمْ بِالقُرآنِ في مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ ذُلَّ مَقامِنا، وَثَبِّتْ عِنْدَ اضْطِرابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ المَجازِ عَلَيْها زَلَلَ أَقْدامِنا، وَنَوِّرْ بِهِ قَبْلَ البَعْثِ سَدْفَ قُبُورِنا، وَنَجِّنا بِهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ يَوْمَ القِيامَةِ وَشَدائِدِ أَهْوالِ يَوْمِ الطَّامَّةِ، وَبَيِّضْ وُجُوهَنا يَوْمَ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ فِي يَوْمِ الحَسْرَةِ والنَّدامَةِ، وَاجْعَلْ لَنا في صُدُورِ المُؤْمِنينَ وُدَّاً وَلا تَجْعَلِ الحَياةَ عَلَيْنا نَكَدَاً، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَما بَلَّغَ رِسالَتَكَ، وَصَدَعَ بِأَمْرِكَ وَنَصَحَ لِعِبادِكَ، اللّهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ يَوْمَ القِيامَةِ أقْرَبَ النَّبِيِّينَ مِنْكَ مَجْلِساً، وَأَمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفاعَةً، وَأجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْراً، وَأوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ جاهاً، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَشَرِّفْ بُنْيانَهُ، وَعَظِّمْ بُرْهانَهُ، وَثَقِّلْ ميزانَهُ، وَتَقَبَّلْ شَفاعَتَهُ، وَقَرِّبْ وَسيلَتَهُ، وَبَيِّضْ وَجْهَهُ وَأَتِمَّ نُورَهُ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ، وَأَحْيِنا عَلى سُنَّتِهِ، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِهِ، وَخُذْ بِنا مِنْهاجَهُ، وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَهُ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ طاعَتِهِ، وَاحْشُرْنا في زُمْرَتِهِ، وَأَوْرِدْنا حَوْضَهُ، وَاسْقِنا بِكَأسِهِ. وَصَلِّ اللّهُمَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلاةً تُبَلِّغُهُ بِها أَفْضَلَ ما يأَمُلُ مِنْ خَيْرِكَ وَفَضْلِكَ وَكَرامَتِكَ، إِنَّكَ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، وَفَضْلٍ كَرِيمٍ، اللّهُمَّ اجْزِهِ بِما بَلَّغَ مِنْ رِسالاتِكَ، وَأدّى مِنْ آياتِكَ، وَنَصَحَ لِعِبادِكَ، وَجاهَدَ في سَبِيلِكَ، أَفْضَلَ ما جَزَيْتَ أَحَداً مِنْ مَلائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيائِكَ المُرْسَلينَ المُصْطَفَيْنَ وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبيِنَ الطَّاهِرِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ [9] .

 

 


(مُهَيْمِناً): مشرفاً، رقيباً. (وَفُرْقاناً): فارقاً، فاصلاً، يفرق بين الحق والباطل. (أَعْرَبْتَ بِهِ): أظهرت فيه. (فَصَّلْتَهُ): فصلت فيه كل شيء من الأحكام إلى المواعظ إلى القصص.
(قِسْطٍ): العدل. (لا يَحيفُ): لا يميل، ولا ينحرف. (لِسانُهُ): أي لسان الميزان وهو وسط عوده الذي يؤخذ به ليعرف الوزن. (أَمَّ): قصد. (قَصْدَ سُنَّتِهِ): نحو طريقته المستقيمة أو سبيله المستقيم.(بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ): عروة الإبريق: مقبضه، والعروة أيضاً ما يوثق به وما يعوّل عليه، والعصمة: المناعة، فكأن للقرآن عروة ما إن تمسك بها امرؤ عُصم من الهلكة. (جَواسِي): مفردها جاسي، والجاسي: الصلب. (لِمُحْكَمِ آياتِهِ): الآيات المتقنة الظاهرة الدلالة. (وَيَفْزَعُ): يلجأ. (بِمُتَشابِهِهِ): الذي يشبه بعضه بعضاً والذي يجعل معان متعددة. (وَمُوضِحاتِ بَيِّناتِهِ): أدلته الواضحة والظاهرة. (وَألْهَمْتَهُ): ألقيت في نفسه.
(الخَطيبِ بِهِ): الذي خوطب به، أو خاطب الناس به. (الخُزّانِ): مفردها خازن، والخازن: الحافظ أو الأمين على الشيء. (لا يُعارِضَنَا): لا يمنعنا. (وَلا يَخْتَلِجَنَا): لا يجذبنا.

(الزَّيْغُ): الميل. (قَصْدِ طَرِيقِهِ): سلوك طريقه. (يَعْتَصِمُ): يتمسك. (بِحَبْلِهِ): المقصود بحبل القرآن هنا: أوامره وتعاليمه ونواهيه.(حِرْزِ): مأمن. (مَعْقِلِهِ): المعقل: الملجأ، والمقصد بـ(حرز المعقل) أي أنَّ القرآن هو الملجأ الأمين الذي يلجأ إليه الإنسان. (بِتَبَلُّجِ): التبلج: الإشراق. (أَسْفارِهِ): الانكشاف والوضوح. (وَأنْهَجْتَ): جعلت النهج والطريق.
(نَعْرُجُ): نرتقي، نصعد. (عَرْصَةِ): ساحة. (وَذَرِيعَةً): وسيلة. (دارِ المُقامَةِ): الجنَّة وهي دار الإقامة والبقاء. (الأَوْزارِ): الذنوب والآثام. (شَمائِلِ): الأخلاق. (الأَبرارِ): المحسنين، الصالحين. (وَاقْفُ): من قفا يقفو: تبعَ. (آناءَ اللَّيْلِ): ساعاته. (دَنَسٍ): وسخ، قذارة. (بِخُدَعِ غُروُرِهِ): بمكره وحيل أباطيله. (نَزَغاتِ): مفردها نزغة، والنزغة: الوسوسة.(وَخَطَراتِ): ما يخطر ببال الإنسان. (آفَةٍ): عاهة، أو كل ما يُفسِد. (اقْتِرافِ): ارتكب، فعل. (الآثامِ): الخطايا. (زاجِراً): مانعاً، ناهياً. (طَوَتِ): أخفَت. (تَصَفُّحِ): تصفح الشيء: تأمله ونظر فيه ملياً. (الاعْتِبارِ): العبرة. (الرَّواسي): الثوابت. (دَرَنَ): وسخ.(وَعَلائِقَ أوْزارِنا): الأوزار: الآثام، وعلائق الأوزار: ما يعلق بنا من الأوزار.

(هَواجِرِنا): مفردها هاجر وهاجرة، والهاجرة: شدّة الحر، وشدّة الحر تسبب العطش. (حُلَلَ): مفردها حُلّة: الثوب عموماً، أو الثوب الجديد. (نُشُورِنا): النشور: البعث يوم القيامة. (وَاجْبُرْ): أصلح، من جبرَ العَظم: أصلحه من كسر. (خَلَّتَنا): الخلة؛ الثقب، الثغرة.(الإِمْلاقِ): الفقر. (رَغَدَ العَيْشِ): العيش الطيب المتسع. (الضَّرائِبَ): السجايا والطبائع. (وَمَدانِيَ الأَخْلاقِ): الأخلاق الدنية. (هُوَّةِ): حفرة. (سَخَطِكَ): السخط، الغضب. (ذائِداً): مانعاً حامياً. (كَرْبَ السِّياقِ): همّ ومشقة نزع الروح حال الاحتضار. (وَتَرادُفَ): تتابع وتتالي. (الحَشارِجِ): مفردها حشرجة، وهي: الغرغرة عند الموت وتتابع النفس. (التَراقِيَ): مفردها ترقوة: والترقوة: العظم الذي في أعلى الصدر بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان. (مَنْ راقٍ): من الذي يرقي هذا المحتضر، من الرقوة، أو من يرتقي بروح هذا المحتضر. (وَتَجَلّى): بان أو ظهر. (حُجُبِ): مفردها حجاب، وهو: الستر.(الغُيُوبِ): مفردها غيب، وهو: كل ما غاب عن الإنسان. (وَدَافَ): خلَطَ. (ذُعافِ): موت الذعاف: السريع. (ميقَاتِ): وقت، الموعد الذي جعل له وقت. (دارِ البِلى): القبر.
(الثَّرى): الأرض. (مَلاحِدِنا): مفردها مَلحد، وهو: القبر. (بِمُوبِقاتِ): مفردها موبقة وهي: المهلكة. (سَدْفَ): ظلمة. (يَوْمِ الطَّامَّةِ): يوم القيامة. (نَكَدَاً): عسراً، صعوبة. (وَصَدَعَ بِأَمْرِكَ): قام بكشفه وتبيينه. (جاهاً): الجاه: القدر والمنزلة. (زُمْرَتِهِ): الزمرة؛ الجماعة.

 

 

الشرح

 

 

 
(اللّهُمَّ إِنَّكَ أَعَنْتَني عَلى خَتْمِ كِتابِكَ) بأن وفقتني لأن أقرأه إلى آخره (الَّذي أَنْزَلْتَهُ نُوراً) لهداية الناس (وَجَعَلْتَهُ مُهَيْمِناً) أي: مشرفاً (عَلى كُلِّ كِتابٍ أَنْزَلْتَهُ) فإن القرآن يدل على ما حرّف وبدّل في الكتب السابقة، من الأمور المربوطة بالمبدأ والرسالة والمعاد وما أشبه وكلام الإمام مقتبس من قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [10] رأي رقيباً يشهد بصحة الصحيح و‌تحريف المحرّف (وَفَضَّلْتَهُ عَلى كُلِّ حَديثٍ قَصَصْتَهُ) وبينته للناس، وكلامه (عليه السلام) مقتبس من قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [11] لأن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي وضع مخططاً لحياة الناس في كل عصر و‌مصر يخلصها من الجهل و‌الفساد و‌العبودية و‌الاستبداد. (وَفُرْقاناً) بمعنى فارقاً (فَرَقْتَ بِهِ بَيْنَ حَلالِكَ وَحَرامِكَ) أي: ما حللته وما حرمته من التكاليف والأحكام، وكلامه (عليه السلام) مقتبس من قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [12] . و‌سمي القرآن فرقاناً لفصله بين الحق و‌الباطل (وَقُرآناً أَعْرَبْتَ بِهِ) أي: أظهرت بسببه (عَنْ شَرائِعِ أَحْكامِكَ) شرائع جمع شريعة أصلها بمعنى الطريق إلى الماء، ثم استعمل في كل طريق إلى حكم الله تعالى، فالإسلام عقيدة و‌شريعة، و‌أصل الأصول في عقيدته التوحيد، و‌الأصل و‌الأساس في شريعته العدل و‌المصلحة، و‌عليهما تبتنى أحكام الله تحليلاً و‌تحريماً، فحيث يكون العدل و‌المصلحة يكون الحلال، و‌حيث يكون الظلم و‌المفسدة يكون النهي و‌الحرام (وَكِتاباً فَصَّلْتَهُ لِعِبادِكَ تَفْصيلاً) بأن بيّنت فيه كل حكم وقصة مفصلاً بدون إجمال وإدماج، قال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [13] . المعنى أنَّ القرآن الكريم واضح المعاني محكم النظم، لا نقص فيه و‌‌لا خلل، لأنه ممن يقدر الأمور، و‌يدبرها على أساس العلم و‌الحكمة (وَوَحْياً أَنْزَلْتَهُ عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَنْزِيلاً) مصدر تأكيدي (وَجَعَلْتَهُ نُوراً نَهْتَدي) به (مِنْ ظُلَمِ الضَّلالَةِ وَالجَهالَةِ بِاتِّباعِهِ) فإن الظلام كما يسبب عدم رؤية الإنسان للأشياء كذلك الجهل والضلالة يسببان عدم رؤية الإنسان للحقائق فإذا جاء الهدى كان نوراً يسبب رؤية الإنسان لها، فبالعمل بموجب القرآن لا بمجرد التغني به و‌الصياح بكلماته من مكبرات الصوت على المآذن و‌‌في المحافل... نكسب الهداية فقط ‌ففي أصول الكافي: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «سيجيء بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و‌النوح و‌الرهبانية، لايجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة و‌قلوب من يعجبهم شأنهم». و‌في إحياء العلوم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه. أكثر منافقي هذه الأمة قرّاؤها». و‌عن الإمام علي (عليه السلام): «‌لا خير في عبادة بلا فقه، و‌‌لا في قراءة بلا تدبر» [14] . (وَشِفاءً لِمَنْ أَنْصَتَ) من أعطى أذنه (بفَهْمِ التَّصْديقِ) أي: كان إنصاته لأن يفهم ويصدق (إلى اسْتِماعِهِ) متعلق بـ[أنصت] ، القرآن الكريم دواء و‌شفاء من داء الكفر و‌النفاق و‌الجهل و‌الفساد و‌الضلال و‌الأحقاد، و‌‌من كل رذيلة بشرط الإصغاء له و‌الاتعاظ به كما قال سبحانه:﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [15] وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [16] «إنما» للحصر، و‌بها تدل هذه الآيه أن من ذكّر بالله و‌آياته فتجنبها دون أن يخشى فهو تماما كالذي عناه تعالى بقوله: ﴿ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [17] (وَميزانَ قِسْطٍ) أي: عدل (لا يَحيفُ) أي: لا يميل (عَنِ الحَقِّ لِسانُهُ) لسان الميزان هو وسط عوده الذي يؤخذ به ليعرف الوزن و‌المعنى بالقرآن تقاس جميع العقائد و‌الآراء و‌الأقوال و‌الأفعال (وَنُورَ هُدىً) أي: نور من جنس الهدى لا من جنس النور الخارجي (لا يُطْفَأُ عَنِ الشَّاهِدَينَ بُرْهانُهُ) الشاهدان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة لقوله سبحانه: ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [18]  وهذان الشاهدان يستدلان بالقرآن ويكون القرآن برهاناً لهما فلا يطفأ ولا يخمد برهان القرآن عنهما (وَعَلَمَ نَجاةٍ لا يَضِلُّ مَنْ أَمَّ) أي: قصد (قَصْدَ سُنَّتِهِ) أي: نحو سنته، كما لا يضل من قصد العلامة في العراء (وَلا تَنالُ أيْدِي الهَلَكاتِ مَنْ تَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ عِصْمَتِهِ) عروة الكوز يده، فكأن للقرآن عروة تعصم المستمسك بها من الهلكة.

 

 


(اللّهُمَّ فَإِذْ أَفَدْتَنا المَعُونَةَ عَلى تِلاوَتِهِ) أي: أعنتنا على قراءةِ القرآن الكريم (وَسَهَّلْتَ جَواسِي ألْسِنَتِنا) جواسي: جمع جاسية بمعنى الغليظ أي: صلاب الألسنة وغلاظها (بِحُسْنِ عِبارَتِهِ) فإن العبارة الحسنة الجميلة حيث توافق النفس تكون أسهل على اللسان (فاجْعَلْنا مِمَّنْ يَرْعاهُ حَقَّ رِعايَتِهِ) في العمل به كما أمرت (وَيَدِينُ لَكَ) أي: ينقاد (بِاعْتِقادِ التَّسْليمِ لِمُحْكَمِ آياتِهِ) أي: يعتقد أن اللازم أن يسلم لآيات القرآن المحكمة الظاهرة الدلالة مقابل المتشابه وتخصيص المحكم بالذكر، لأن المتشابه يجب رد علمه إلى الله تعالى قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [19] (وَيَفْزَعُ) أي: يلجأ (إلَى الإقْرارِ بِمُتَشابِهِهِ) والمتشابه هو الذي يحتمل معان متعددة، وإنما يلجأون كما قال سبحانه: ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [20] وإنما كان في القرآن التشابه لامتحان الناس (وَمُوضِحاتِ بَيِّناتِهِ) أي: وإلى الإقرار بصحة أدلته البينة الظاهرة، خلافاً لأهل الفساد الذين لا يعترفون بأدلة القرآن البينة وإنما يشككون فيها.


 


(اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ) أي: القرآن، والإنزال إما باعتبار المرتبة فإن الشيء إذا جاء من قبل الأرفع منزلة، يقال: نزل، وإما باعتبار أن المنزول كان من طرف السماء والسماء فوق الأرض حساً (عَلى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ مُجْمَلاً) أما المراد: نزل مجمل المعنى ثم فسر، أو هو من قولهم الإجمال في الطلب، أي: الطلب الجميل، فالمراد نزولاً جميلاً (وَألْهَمْتَهُ) أي: الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإلهام الإلقاء الخفي (عِلْمَ عَجائِبِهِ مُكَمَّلاً) أي: كاملاً، إذ قد بينت للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما للقرآن من العجائب، في القرآن آيات، منها كاملات بينات أشار اليها الإمام (عليه السلام) بقوله «مكملا» أي كاملة البيان يعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المراد منها دون الرجوع إلى الله سبحانه في تفسيرها كآية تحريم الزواج بالأقارب قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [21] و‌آية تحريم الميتة و‌الدم و‌الخنزير... قال سبحانه: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [22] ، و‌بعض آيات القرآن رموز و‌إشارات لا يعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معانيها بالتفصيل إلا ببيان ثان من الله تعالى، و‌أشار إليها الإمام بقوله «مجملا» مثل: ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [23] فإن الله عزَّ و‌جل بين لنبيه الكريم كيفية الصلاة و‌مقدار الزكاة بوحي ثان، و‌هو ما يعبر عنه بالسنة النبوية، أما غرائب القرآن الكريم وعجائبه التي أشار إليها الإمام (عليه السلام) فتشمل و‌تعم كل ما فيه، لأنه معجزة المعاجز من ألفه إلى يائه. (وَوَرَّثْتَنا عِلْمَهُ) أي: أعطيتنا علم القرآن، ومعانيه، إرثاً من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كل علوم القرآن الكريم و‌الرسول العظيم هي عند الأئمة الأطهار من أهل بيته بنص الحديث المتواتر المعروف بحديث الثقلين حيث جعلهم عدلاً للقرآن الذي فيه تبيان كل شيء، و‌قد جاء هذا الحديث في كتب كثيرة عند الطرفين، و‌قد تتبع أغلبها الشيخ قوام الدين الوشنوي، و‌سجل أسماءها مع النص في رسالة خاصة بعنوان «حديث الثقلين» - في حال كونه (مُفَسَّراً) قد فسر وبين المراد منه (وَفَضَّلْتَنا على مَنْ جَهِلَ عِلْمَهُ) إذ العالم بالقرآن أفضل من الجاهل به بالضرورة وأهل السماء و‌الأرض يفضلون العلم على الجهل بالطبع و‌الفطرة (وَقَوَّيْتَنا عَلَيْهِ) أي على فهمه و‌العلم بأسراره و‌أهدافه تماماً كما هو في علم الله و‌رسول الله، و‌أيضاً قوَّاهم سبحانه على العمل بجميع أحكامه و‌آدابه فإنَّ العالم أقوى نفساً من الجاهل إذ قوَّة النفس بالعلم والفضيلة (لِتَرْفَعَنا فَوْقَ مَنْ لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ) يشير بهذا إلى الذين يمتطون الدين إلى الدنيا، و‌ما أكثرهم في كل عصر، بخاصة في العصر الراهن، و‌في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): «‌في جهنم رحى تطحن العلماء الفجرة و‌القرّاء الفسقه»، وعدم الطاقة، بمعنى عدم القبول لا عدم القدرة.

 

 


(الّلهُمَّ فَكَما جَعَلْتَ قُلُوبَنا لَهُ حَمَلَةً) أوعية لكتابك، و‌خزنة لعلمك، وحملة: جمع حامل، والمراد حملة للقرآن (وَعَرَّفْتَنا بِرَحْمَتِكَ شَرَفَهُ) إذ نعرف ما للقرآن من شرف ومنزلة في مقابل الكفار الذين لا يعرفون ذلك (وَفَضْلَهُ) أي: أنه ذو فضل ورفعة (فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ الخَطيبِ بِهِ) أي: الذي خوطب بالقرآن، أو الذي خاطب الناس بالقرآن، البشير النذير به (وَعَلى آلِهِ الخُزّانِ لَهُ) جمع خازن بمعنى الحافظ، فإن أهل البيت حفظوا القرآن عن التغيير والتحريف في لفظه أو معناه (وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ) لا كالكفار الذين ينكرون ذلك، والمراد بـ[اجعلنا] مستمرين بهذا الاعتراف، مثل: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [24] لا أن المراد ابتداء الجعل حتى يقال كيف يطلب الإمام ذلك مع أنه مجعول قبلاً (حَتّى لا يُعارِضَنَا) ولا يعرض على قلوبنا (الشَّكُّ في تَصْدِيقِهِ) بأن نشك هل هو من عندك أم لا (وَلا يَخْتَلِجَنَا) الاختلاج الوسوسة (الزَّيْغُ) أي: الميل (عَنْ قَصْدِ طَرِيقِهِ) بأن لا يدخل في قلوبنا الميل عن طريق القرآن الذي هو قصد أي: وسط لا انحراف فيه.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْتَصِمُ بِحَبْلِهِ) كأن القرآن حبل بين الله وبين الناس فإذا أخذه الإنسان رفع به إلى الدرجات العلى كما أن من يأخذ الحبل يرتفع إلى الأعلى، فيما إذا وقع في هوة ويجره العالي إلى فوق (وَيَأوِي مِنَ المُتَشابِهاتِ) أوى: بمعنى اتخذ المأوى والمنزل والمتشابهات هي الأمور التي لا يدري الإنسان أيها صواب وأيها خطأ. (إِلى حِرْزِ مَعْقِلِهِ) المعقل: الملجأ، كأن الإنسان يعقل ويربط هناك بعيره فيما إذا جاء من السفر، والمعنى: رجوع الإنسان إلى القرآن في الأمور المتشابهة ليعرف الحق من الأطراف المحتملة، مثلاً إذا شك في أن الله هل يرى أو لا يرى يرجع إلى قوله: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [25] وهكذا (وَيَسْكُنُ في ظِلِّ جَناحِهِ) كأن للقرآن جناحاً إذا سكن الإنسان تحته وقاه من المرارة (وَيَهْتَدي) إلى طريق الحق (بِضَوْءِ صَباحِهِ) أي: بسبب ضياء صبح القرآن (وَيَقْتَدي بِتَبَلُّجِ أَسْفارِهِ) أسفر بمعنى أظهر، والتبلج بمعنى ظهور النور، أي يقتدي بنوره الذي يوجب ظهور الحق (وَيَسْتَصْبِحُ بِمِصْباحِهِ) أي: يهتدي بسبب مصباح القرآن، إلى الحقائق والشرائع (وَلا يَلْتَمِسُ) أي: لا يطلب (الهُدى في غَيْرِهِ) كأن يطلب الهداية من الكتب السالفة أو أقوال الفلاسفة.


 


(اللّهُمَّ وَكَما نَصَبْتَ بِهِ) أي: بسبب القرآن (مُحَمَّداً) (صلى الله عليه وآله وسلم) (عَلَماً لِلدَّلالَةِ عَلَيْكَ) فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) علم يدل الناس إلى الله، بسبب آيات القرآن، وبتعبير آخر: أرسل سبحانه محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عباده و‌عياله برسالة ترشد الخلق إلى الحق، و‌تكرم كل إنسان، و‌تصونه من العنف و‌الجور و‌الجهل و‌الفقر، و‌توفر له حياه فاضلة و‌كريمة (وَأنْهَجْتَ) أي: جعلت النهج والطريق (بِآلِهِ) أي: بسبب آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (سُبُلَ الرِّضا إِلَيْكَ) فإن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يبينون الطرق الموجبة لرضى الله سبحانه والوصول إلى رحمته ورضوانه، وبتعبير آخر: إنَّ الأئمة من العترة الطاهرة امتداد لجدهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في هداية الخلق إلى الحق، و‌السبيل إلى رضوانه تعالى و‌جنانه.


 


(فَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلِ القُرْآنَ وَسِيلَةً لَنا إلى أَشْرَفِ مَنازِلَ الكَرامَةِ) بأن توفقنا للعمل بالقرآن حتى نصل إلى أشرف المنازل عندك، التي تكرم أصحاب تلك المنازل، والمراد: المنازل المعنوية أو منازل الجنة (وَسُلَّماً نَعْرُجُ فيهِ إلى مَحَلِّ السَّلامَةِ) كأن الإنسان في درك موجب للخطر، وبسبب القرآن يرقى إلى محل السلامة (وَسَبَبَاً نُجْزى بِهِ) أي: نعطى الجزاء بسبب ذلك القرآن (النَّجاةَ في عَرْصَةِ القِيامَةٍ) أي: ساحتها (وَذَرِيعَةً) أي: وسيلة (نَقْدُمُ بِها) أي: نرد بسبب تلك الذريعة (عَلى نَعيمِ دارِ المُقامَةِ) هي الجنة لأنها دار لا آخر لها بل يقيم الإنسان فيها إلى الأبد.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاحْطُطْ) فعل أمر، من حط الحمل إذا وضعه من عاتقه (بِالقُرآنِ عَنَّا ثِقْلَ الأَوْزارِ) جمع وزر بمعنى الذنب فإن للذنب ثقلاً على النفس، كما أن الدين ثقل على النفس، والإنسان بسبب العمل بالقرآن يمحو ذنبه فإن الحسنات يذهبن السيئات، اللّهُمَّ اهدنا إلى العمل بالقرآن وأحكامه هداية تطهرنا من الذنوب الماضية، و‌تعصمنا من الذنوب الآتية (وَهَبْ لَنا حُسْنَ شَمائِلِ الأَبرارِ) الشمائل جمع شمال بالكسر بمعنى الخلق، أي: حسن أخلاق الأبرار، وهو جمع بر بمعنى المحسن، فإن الإنسان بسبب القرآن تكون أخلاقه أخلاقاً حسنة (وَاقْفُ بِنا) قفا يقفو، بمعنى تبع، كقوله سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [26] اجعلنا تابعين (آثارَ الَّذِين قامُوا لَكَ بِهِ) أي: القرآن، والمراد قيامهم بالقرآن تعلماً وتعليماً وعملاً وما أشبه (آناءَ اللَّيْلِ) جمع (آن) بمعنى الساعة، أي: ساعات الليل (وَأَطْرافَ النَّهارِ) أوله وآخره ووسطه (حَتّى تُطَهِّرَنا مِنْ كُلِّ دَنَسٍ) وقذارة (بِتَطْهِيرِهِ) أي: بسبب تطهير القرآن لنا، إذ القرآن يبين الأعمال والأخلاق الحسنة فيكتسبها الإنسان ويتخلق بها ومدنا يا إلهي بالعون و‌التوفيق إلى العمل بالقرآن لتكون نفوسنا تقية نقية من كل ما يشينها و‌يدنسها (وَتَقْفوَ بِنا آثارَ الَّذِينَ اسْتَضاءوُا بِنُورِهِ) أي: تجعلنا تابعين من عمل بالقرآن، واستفاد من نوره في السير والعمل، كما يستفيد الإنسان من نور المصباح في رؤية الأشياء حتى يسير سالماً، ويصل إلى ما يريده (وَلَمْ يُلْهِهِمِ الأَمَلُ) يقال: ألهاه الأمل، إذا أشغله وغرّه فلم يعمل للآخرة، والأمل ما يرجوه الإنسان من زخارف الدنيا وطول العمر فيها (عَنِ العَمَلِ) لأجل الآخرة (فَيَقْطَعَهُمْ بِخُدَعِ غُروُرِهِ) خدع جمع خدعة، وهي إراءة الإنسان شيئاً يقصده حتى يقع في مكروه مخفي عليه والمراد قطعهم ومنعهم عن تحصيل الآخرة.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلِ القُرْآنَ لَنا في ظُلَمِ اللَّيالِي مُؤنِساً) المؤنس: هو الذي يوجب ذهاب الوحشة من النفس والقرآن يشع في نفس الإنسان معاني الخير، والالتفات إلى الله تعالى يزيل وحشة الظلمة التي يسببها الليل (وَمِنْ نَزَغاتِ الشَّيْطانِ) جمع نزغة بمعنى الوسوسة، فهي أحابيله و‌أباطيله، قال سبحانه: ﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [27] و‌عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضيئ لأهل السماء كما تضيئ الكواكب لأهل الأرض وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزَّوجل فيه تقل بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين» [28] (وَخَطَراتِ الوساوِسِ) الخطرات ما يخطر ببال الإنسان من التشكيك في أمور الدنيا والدين (حارِساً) حتى يحفظنا عن ذلك (وَلأَقْدامِنا) جمع قدم (عَنْ نَقْلِها إِلى المَعاصي حابِساً) بأن يحبسنا القرآن عن أن ننقل أقدامنا إلى معاصيك، كالسرقة وما أشبه مما يذهب الإنسان بقدمه نحوه، قــــــــال سبحانــــه: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [29] (وَلأَلْسِنَتِنا عَنِ الخَوْضِ في الباطِلِ) أي: الدخول فيه (مِنْ غَيْرِ ما آفَةٍ) أي: بدون أن تكون بلساننا آفة ومرض توجب الخرس (مُخْرِساً) بأن يكون القرآن هو المسكت لنا حتى لا نتكلم بالباطل (وَلِجوارِحِنا عَنِ اقْتِرافِ الآثامِ) اقترف الإثم بمعنى ارتكبه (زاجِراً) بأن لا نعصي بأحد أعضائنا (وَلِما طَوَتِ الغَفْلَةُ عَنَّا) كأن الغفلة تلف وتجمع الشيء حتى لا يرى الإنسان باطن الحقائق (مِنْ تَصَفُّحِ الاعْتِبارِ) أي: ملاحظة ما يوجب العبرة، ودرك الحقائق الموجبة لعدم عمل الإنسان بما يضره (ناشِرَاً) فينشر القرآن ما طوته الغفلة مما يوجب اعتبارنا (حَتّى تُوصِلَ إِلى قُلوُبِنا فَهْمَ عَجائِبِهِ) بأن نفهم عجائب القرآن، التي تورث عجب الإنسان وفهم الحقائق، إذ العجب يثير النفس ويجلب الالتفات، روى صاحب الكافي أنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) صاحب هذا الدعاء قال: «آيات القرآن خزائن، فكلما فتحت خزانة ينبغي أن تنظر فيها» (وَزَواجِرَ أمْثالِهِ) أي: أمثاله التي توجب زجر الإنسان ومنعه عن الآثام والرذائل، في القرآن أمثال ضربها الله سبحانه، تزجر عن الموبقات و‌المحرمات، و‌‌في نهج البلاغه: «القرآن آمر زاجر»، أي يأمر بالخير و‌الصلاح، و‌يزجر عن الشر و‌الفساد (الَّتِي ضَعُفَتِ الجِبالُ الرَّواسي) جمع راسية بمعنى الثابتة (عَلى صَلابَتِها) أي: مع أن الجبال في غاية الصلابة (عَنِ احْتِمالِهِ) أي: تحمل القرآن إشارة إلى قوله سبحانه: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [30] ، الإنسان هو الذى يتحمل المسؤولية عن التكليف، لأنَّ الله سبحانه منحه العقل و‌الحرية و‌الإرادة و‌القدرة على التنفيذ، و‌‌لا شيء من ذلك في الجبال كي تكلف و‌تحاسب و‌تسأل، و‌عليه يكون ضعف الجبال هنا كناية عن عدم تكليفها من الأساس، و‌أن المسؤول عن التكليف و‌أمانة الله سبحانه هو الإنسان، و‌يجب أن يحرص كل الحرص على الطاعة و‌التنفيذ.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأدِمْ بِالقُرْآنِ صَلاحَ ظاهِرِنا) أي: وفقنا لأن نديم صلاح ظاهرنا بسبب العمل بالقرآن، فإن العمل بالقرآن يوجب أن يكون ظاهر الإنسان ظاهراً صالحاً (وَاحْجُبْ بِهِ) أي: امنع بسبب القرآن (خَطَراتِ الوَساوِس) الوساوس: جمع وسواس،أي: ما يخطر ببال الإنسان من وساوس الشيطان، وبتعبير آخر: هو حديث النفس الذى يمر بالفكر من حين إلى حين، و‌لا مفر منه لكبير أو صغير، و‌لكن العاقل يمضي في سبيله كأن لم يكن شيئاً، أما الإنسان الخرافي فيندفع وراءه، و‌يبني الدور و‌القصور في الهواء من زبد الماء، و‌هذه هي الرعونة بالذات، و‌مثله تماماً من يفقد الصبر، و‌يهيج لأتفه الأسباب... إنَّ التمييز بين الوهم و‌الواقع هو الحجر الأساس لبناء شخصية قوية تواجه الأحداث و‌المشكلات بأعصاب باردة راكدة، و‌تعالجها بالحكمة، و‌تنجو منها بسلام (عَنْ صِحَّةِ ضَمائِرِنا) أي: ضمائرنا الصحيحة حتى لا تفسد بواطننا بالوسوسة التي يلقيها الشيطان في قلوبنا (وَاغْسِلْ بِهِ) أي: بالقرآن (دَرَنَ) أي: قذارة (قُلوُبِنا) والمراد الرذائل العالقة بالقلب كالحسد والكبر وما أشبه (وَعَلائِقَ أوْزارِنا) أي: الآثام التي علقت بنا، و‌المعنى طهرنا بالقرآن من المعاصي و‌الرذائل و‌كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد (وَاجْمَعْ بِهِ) أي: بسبب القرآن (مُنْتَشَرَ أَمُورِنا) أي: أمورنا المتشتتة التي تحتاج إلى الجمع فإن تشتت أمور الإنسان يوجب تبعثر قواه وتفرق فكره فلا يتمكن من العمل والتقدم (وَأرْوِ) من الروي بمعنى الارتواء (بِهِ) أي: بالقرآن (فِي مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ) في الآخرة (ظَمَأَ) أي: عطش (هَواجِرِنا) جمع هاجرة وهي الساعة الحارة، فالإسناد إلى الزمان مجازاً، وإلا فالظمأ للإنسان (وَاكْسُنا بِهِ) أي: بالقرآن (حُلَلَ الأمانِ) كأن الأمان من المخاوف حلة يلبسها الإنسان (يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ) فإن الخوف في يوم القيامة أعظم من كل خوف (في نُشُورِنا) أي: بعثنا.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالقُرْآنِ خَلَّتَنا) أي: الثغرة الموجودة فينا (مِنْ عَدَمِ الإِمْلاقِ) الإملاق الفقر، وإضافة العدم إليه من باب البيان أي: الإملاق الذي هو عدم (وَسُقْ إِلَيْنا بِهِ) بسبب القرآن (رَغَدَ العَيْشِ) أي: الواسع من العيش (وخصب) مقابل الجدب بمعنى القحط (سَعَةِ الأَرْزاقِ) حتى تكون أرزاقنا واسعة (وَجَنِّبْنا بِهِ) أي: بالقرآن (الضَّرائِبَ) جمع ضريبة بمعنى الطبيعة (المَذْمُومَةَ) كالجبن والبخل وما أشبه (وَمَدانِيَ الأَخْلاقِ) أي: الأخلاق الدنيئة (وَاعْصِمْنا بِهِ) أي: بالقرآن (مِنْ هُوَّةِ الكُفْرِ) الهوة المنخفض من الأرض وقد شبه بها الكفر لكونه ترد وانحطاطاً (وَدَواعِي النِّفاقِ) أي: الصفات والأمور التي تدعو إلى النفاق، بأن لا نبتلي بما يوجب على الإنسان أن يكون منافقاً (حَتّى يَكُونَ) القرآن (لَنَا فِي القِيامَةِ إِلى رِضْوانِكَ وَجِنانِكَ قائِداً) يقودنا إلى رضاك وجنتك (وَلَنا في الدُّنْيا عَنْ سَخَطِكَ) وغضبك (وَتَعَدّي حُدُودِكَ) أي أحكامك (ذائِداً) أي: مانعاً فلا نعمل ما يوجب غضبك (وَلِما عِنْدَكَ) متعلق (شاهداً) أي: يكون القرآن لنا شاهداً (بِتَحْلِيلِ حَلالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرامِهِ شاهِداً) أي: يشهد بأن في الدنيا حللنا حلالك وحرمنا حرامك ولم نخالف أمرك.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَهَوِّنْ بِالقُرآنِ) أي: سهل بسبب القرآن (عِنْدَ المَوْتِ عَلى أنْفُسِنا كَرْبَ السِّياقِ) السياق: حالة سوق المحتضر من الدنيا إلى الآخرة، وكربه همه وأتعابه (وَجَهْدَ الأَنينِ) حتى لا يوجب الأنين لنا جهداً ومشقة وتعباً (وَتَرادُفَ الحَشارِجِ) جمع حشرجة: بمعنى الغرغرة عند الموت وتردد النفس، وترادفها ترددها ذهاباً وإياباً مما يوجب المشقة، أي: هون ذلك علينا (إذا بَلَغَتِ النُّفُوسُ التَراقِيَ) جمع ترقوة: العظم المحيط بالرقبة، قال سبحانه: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [31] فإنها أشد حالات المحتضر (وَقيلَ مَنْ راقٍ؟) أي: قالت الملائكة: من يرقَ بروح هذا الميت إلى الملأ الأعلى، ومحل العرض للمحاكمة أمام الله تعالى؟ (وَتَجَلّى مَلَكُ المَوْتِ) أي: ظهر الملك الموكل بموت الإنسان (لِقَبْضِها) أي: أخذ النفوس من الأبدان (مِنْ حُجُبِ الغُيُوبِ) متعلق بـ [تجلى] أي: ظهر من حجاب الغيب، فإنه غائب عن الأبصار كالمستتر بستر (وَرَماها) أي: رمى ملك الموت النفوس (عَنْ قَوْسِ المَنايا) أي: القوس التي يرمي بها الموت، منايا جمع منية بمعنى الموت (بِأَسْهُمِ وَحْشَةِ الفِراقِ) أي: بالسهم الذي يوجب وحشة الإنسان بسبب فراقه لبدنه وأهله وسائر الأمور الدنيوية (وَدَافَ) دأف الدواء: إذا خلطه بالماء (لَها) أي: للنفوس، وفاعل داف ملك الموت (مِنْ ذُعافِ المَوْتِ) أي: خالصه (كَأساً مَسْمُوُمَةَ المَذاقِ) أي: من ذوقها يوجب تسمم الإنسان (وَدَنا) أي: قرب (مِنَّا إلَى الآخِرَةِ رَحيلٌ وَانْطِلاقٌ) أي: أن نرحل وأن ننطلق (وَصارَتِ الأعْمالُ) التي عملناها في الدنيا (قَلائِدَ) أي: كالقلائد (فِي الأَعْناقِ) قال تعالى: ﴿ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [32] ، فإن كانت خيراً زانتنا وإن كانت شراً شانتنا (وَكانَتِ القُبُوُرُ هِيَ المَأَوى) أي: المحل الذي نأوي إليه ونتخذه منزلاً (إِلى ميقَاتِ) أي: وقت (يَوْمِ التَّلاقِ) أي: تلاقي الروح والجسد في الآخرة، حيث يحيى الناس للعرض الأكبر.


 


(اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَبارِكْ لَنا) المراد بالبركة الإحساس بالكرامة لا بالمهانة التي يحسها و‌يعاني منها السجناء في دار الحياة، قال سبحانه: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [33] حيث يثيب و‌يكرم سبحانه الذين ينزلهم في داره و‌جواره بالخيرات و‌المسرات (في حُلُولِ) أي: حلولنا (دارِ البِلى) أي: الفناء، والمباركة بمعنى الثبات في الخير (وَطُولِ المُقامَةِ) أي: الإقامة والبقاء (بَيْنَ أَطْباقِ الثَّرى) أطباق جمع طبق، أي الغطاء، و‌الثرى: التراب، و‌المعنى ندفن بعد الموت في حفرة تنقطع في ظلمتها آثارنا و‌تغيب أخبارنا، و‌من فوقنا يعلو التراب المتراكم، و‌نبقى في هذا الظلام الأبهم إلى قيام الساعة (وَاجْعَلِ القُبُوُرَ بَعْدَ فِراقِ الدُّنْيا) أي: مفارقتنا للدنيا (خَيْرَ مَنازِلِنا) فإن حسن المنزل الأول للمسافر الغريب أفضل من حسن المنازل الأخر لاستيناس الإنسان بالسفر بعد ذلك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» [34] ، قال تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ [35] أبداً لا خوف على البريء السليم من الآثام و‌إن كان تحت الثرى، و‌إنما الخوف كل الخوف على من ارتكب الحرام وعصى الرحمان (وَافْسَحْ لَنا بِرَحْمَتِكَ في ضيقِ مَلاحِدِنا) اللحد: هو الشق في القبر الذي يوضع فيه الميت، والمراد فسحته المعنوية (وَلا تَفْضَحْنا في حاضِرِي القيامَةِ) أي: الذين يحضرون القيامة (بِمُوبِقاتِ آثامِنا) الموبقة المهلكة، وآثام هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان (وَارْحَمْ بِـ) سبب (القُرآنِ في مَوْقِفِ العَرْضِ عَلَيْكَ) أي: المحل الذي نعرض عليك لأجل المحاسبة والمجازاة (ذُلَّ مَقامِنا) فإن الإنسان هناك ذليل خائف (وَثَبِّتْ بِهِ) أي: بسبب القرآن (عِنْدَ اضْطِرابِ جِسْرِ جَهَنَّمَ) الذي هو بين المحشر وبين الجنة، ممدود على جهنم يسقط منه الأثيم إلى النار وينجو المؤمن المطيع (يَوْمَ المَجازِ عَلَيْها) أي: العبور على النار (زَلَلَ أَقْدامِنا) حتى لا نزل ولا نسقط (وَنَوِّرْ بِهِ) أي: بالقرآن (قَبْلَ البَعْثِ) أي: قبل أن تقوم القيامة (سَدْفَ قُبُورِنا) أي: ظلمة قبورنا (وَنَجِّنا بِهِ) أي: بالقرآن (مِنْ كُلِّ كَرْبٍ يَوْمَ القِيامَةِ) فإن للقيامة كرباً كثيرة (وَشَدائِدِ أَهْوالِ يَوْمِ الطَّامَّةِ) الداهية، و‌المراد بها هنا القيامه، قال سبحانه: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى [36] ، و‌قالوا: ما من طامة إلا وفوقها طامة، و‌القيامة فوق كل طامة (وَبَيِّضْ وُجُوهَنا يَوْمَ تَسْوَدُّ وُجُوهُ الظَّلَمَةِ) جمع ظالم، فإن المخاوف والغبار وما أشبه توجب اسوداد الوجه، بخلاف الأفراح والنظافة وما أشبه فإنها توجب ابيضاض الوجه (فِي يَوْمِ الحَسْرَةِ) فإن الإنسان يتحسر لماذا لم يفعل بالطاعات (والنَّدامَةِ) فإن الإنسان يندم لما فات منه من الخير الذي لا يمكن تداركه (وَاجْعَلْ لَنا في صُدُورِ المُؤْمِنينَ وُدَّاً) أي: حباً بأن يحبوننا، قال تعالى: ﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [37] (وَلا تَجْعَلِ الحَياةَ عَلَيْنا نَكَدَاً) أي: صعباً.
(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ) لعل تقديم العبد لمقابلة ما يزعم اليهود والنصارى من أن أنبياءهم أبناء الله وشركاء له (كَما بَلَّغَ رِسالَتَكَ) أي: في مقابل تبليغه لدينك (وَصَدَعَ بِأَمْرِكَ) أي: قام بإنفاذه (وَنَصَحَ لِعِبادِكَ) وأرشدهم.


 


(اللّهُمَّ اجْعَلْ نَبِيَّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ يَوْمَ القِيامَةِ أقْرَبَ النَّبِيِّينَ مِنْكَ مَجْلِساً) المراد: القرب المعنوي وإلا فإنه سبحانه ليس بجسم، وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، هذا بيان لمقام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله سبحانه، بأسلوب الدعاء و‌الرجاء (وَأَمْكَنَهُمْ مِنْكَ شَفاعَةً) بأن يكون أكثر تمكناً من شفاعة المذنبين لديك فتقبل شفاعته (وَأجَلَّهُمْ عِنْدَكَ قَدْراً) بأن يكون أرفع شأناً من سائرهم (وَأوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ جاهاً) أي: مقاماً ومنزلة.
(اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَشَرِّفْ بُنْيانَهُ) أي: بِنَاءَهُ، وكأن المراد بذلك دينه الذي بناه، وتشريفه تعظيمه وجعله شريفاً ارفع شأنه فوق كل شأن. و‌في نهج البلاغة: «اَللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ اَلْبَانِينَ بِنَاءَهُ» (وَعَظِّمْ بُرْهانَهُ) حتى يكون دليله وحجته عظيماً لا يتمكن أحد من نقضه (وَثَقِّلْ ميزانَهُ) بالحسنات (وَتَقَبَّلْ شَفاعَتَهُ) بأن تعفو عمن شفع (صلى الله عليه وآله وسلم) له (وَقَرِّبْ وَسيلَتَهُ) حتى يكون السبب الذي بينك وبينه أقرب من سائر الأسباب (وَبَيِّضْ وَجْهَهُ) كناية عن إعطائه ما يريد حتى يسر ويفرح (وَأَتِمَّ نُورَهُ) بأن يبلغ أقصى الحد الممكن (وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ) في الجنة، وفي رضوانك (وَأَحْيِنا عَلى سُنَّتِهِ) أي: طريقته ودينه، أي: ثبتنا على الإسلام: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [38] (وَتَوَفَّنا) أي: أمتنا (عَلى مِلَّتِهِ) أي: دينه وطريقته (وَخُذْ بِنا مِنْهاجَهُ) بأن نسير في النهج الذي جعله (وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَهُ) بأن توفقنا لأن نسلك في الطريق الذي قرره وهو الإسلام (وَاجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ طاعَتِهِ) فنكون مطيعين لأوامره (وَاحْشُرْنا في زُمْرَتِهِ) أي: جماعته، والحشر: الجمع يوم القيامة (وَأَوْرِدْنا حَوْضَهُ) هو حوض الكوثر الذي مَن شرب منه ارتوى من عطش يوم القيامة (وَاسْقِنا بِكَأسِهِ) أي: الكأس التي يملؤها، وهذا كناية عن كوننا من أمته وتحت لوائه.

(وَصَلِّ اللّهُمَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلاةً تُبَلِّغُهُ بِها) أي: بسبب تلك الصلاة والرحمة منك إليه (أَفْضَلَ ما يأَمُلُ) ما يحب الرسول و‌يرضى (صلى الله عليه وآله وسلم) (مِنْ خَيْرِكَ وَفَضْلِكَ وَكَرامَتِكَ) له (إِنَّكَ) يا رب (ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) تسع كل ما تريد (وَفَضْلٍ كَرِيمٍ) يوجب كرامة الإنسان الذي تفضلت عليه.
(اللّهُمَّ اجْزِهِ) أي: الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (بِـ) مقابل (ما بَلَّغَ مِنْ رِسالاتِكَ) فإن كل حكم رسالة (وَأدّى) أي: جاء إلى الناس (مِنْ آياتِكَ) آيات القرآن، أو الأدلة الدالة عليه تعالى (وَنَصَحَ لِعِبادِكَ) بأن أرشدهم (وَجاهَدَ في سَبِيلِكَ) ولإعلاء دينك (أَفْضَلَ ما جَزَيْتَ أَحَداً مِنْ مَلائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ) الذين لهم القرب لديك (وَأَنْبِيائِكَ المُرْسَلينَ المُصْطَفَيْنَ) أي: الذين اصطفيتهم واخترتهم (وَالسَّلامُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبيِنَ) عن الخبائث (الطَّاهِرِينَ) عن الأقذار (وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) عليه وعلى آله.


 

ثالثاً - دعاؤه في التحميد لله تعالى



وكان من دعائه (عليه السلام) إذا ابتدأ بالدعاء بدأ بالتحميد لله عزَّ وجل والثناء عليه فقال:


الحَمْدُ لِلهِ الأوَّل بِلا أوَّلٍ كانَ قَبْلَهُ، والآخِرِ بِلا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ، الَّذي قَصُرتْ عَنْ رُؤْيَتهِ أبْصارُ النّاظِرينَ وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ أوْهامُ الواصِفينَ، ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الخَلْقَ ابْتِدَاعاً، وَاخْتَرَعَهُمْ على مَشِيَّتِهِ اخْتِرَاعاً، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَريقَ إِرادَتِهِ وبَعَثَهُمْ في سَبيلِ محَبّتِهِ، لا يَمْلِكُونَ تَأخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إلَيْهِ، وَلا يَسْتَطيعُونَ تَقَدُّماً إلى ما أَخَّرَهُمْ عَنْهُ، وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْهُمْ قُوتَاً مَعْلُوماً مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ، لا يَنْقُصُ مَنْ زَادَهُ نَاقِصٌ، وَلا يَزيْدُ مَنْ نَقَصَ مِنْهُمُ زائدٌ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ في الحَياةِ أجَلاً مَوْقُوتاً، وَنَصَبَ لَهُ أمَداً مَحْدُوداً، يَتَخَطَّى إلَيْهِ بأَيّامِ عُمُرِهِ، وَيَرْهَقُهُ بِأعْوامِ دَهْرِهِ، حَتَّى إذا بَلَغَ أقْصى أثَرِهِ، وَاسْتَوعَبَ حِسابَ عُمُرِهِ، قَبَضَهُ إلى ما نَدَبَهُ إليه مِنْ مَوْفُوِر ثَوَابِهِ، أوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ، لَيَجْزِيَ الَّذين أساءُوا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذين أحْسَنُوا بِالحُسْنى، عَدْلاً مِنْهُ تَقَدَّسَتْ أسْماؤُهُ، وَتَظاهَرَتْ آلاؤُهُ، لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ.

وَالحَمْدُ لِلهِ الذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلى ما أبْلاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ المُتَتابِعَةِ، وَأسْبَغَ عَلَيهِمْ مِنْ نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسانِيَّةِ إلى حَدِّ البَهيمِيَّةِ. فَكانُوا كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِهِ: (إِنْ هُمْ إلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً). والحَمْدُ للهِ عَلى ما عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ وَألْهَمَنا مِنْ شُكْرِهِ، وَفَتَحَ لَنا مِنْ أَبْوَابِ العِلْمِ برُبُوبِيَّتِهِ وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِهِ، وَجَنَّبَنا مِنَ الإلْحادِ وَالشَّكِّ في أمْرِهِ، حَمْداً نُعَمَّرُ بِهِ فيمَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَنَسْبِقُ بِهِ مَنْ سَبَقَ إلى رِضاهُ وَعَفْوِهِ، حَمْداً يُضيءُ لَنا بِهِ ظُلُماتِ البَرْزَخِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْنا بِهِ سَبيلَ المَبْعَثِ، وَيُشرِّفُ بِهِ مَنازِلَنا عِنْدَ مَوَاقِفِ الأشْهادِ، يَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، يَوْمَ لا يُغْني مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. حَمْداً يَرْتَفِعُ مِنّا إلى أعْلى عِلِّيِّينَ في كِتابٍ مَرْقُومٍ يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ، حَمْداً تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنا إذا بَرِقَتِ الأَبْصارُ، وَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُنا إِذَا اسْوَدَّتِ الأبْشارُ، حَمْداً نُعْتَقُ بِهِ مِنَ ألِيمِ نارِ اللهِ إلى كَريمِ جِوارِ اللهِ، حَمْداً نُزاحِمُ بِهِ مَلآئِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ، وَنُضامُّ بِهِ أنْبِيائَهُ المُرْسَلِينَ في دارِ المُقامَةِ الَّتِي لا تَزولُ، ومَحَلِّ كرامَتِهِ الّتي لا تَحُولُ، وَالحَمْدُ لِلهِ الَّذِي اخْتارَ لَنَا مَحاسِنَ الخَلْقِ وَأجْرى عَلَيْنا طَيِّباتِ الرِّزْقِ وَجَعَلَ لَنَا الفَضِيلَةَ بِالمَلَكَةِ عَلى جَمِيعِ الخَلْقِ، فَكُلُّ خَليقَتِهِ مُنْقادَةٌ لَنا بِقُدْرَتِهِ، وَصائِرَةٌ إلى طاعَتِنا بِعِزَّتِهِ، وَالحَمْدُ للهِ الَّذي أغْلَقَ عَنّا بابَ الحاجَةِ إلاّ إليه، فَكَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ؟ أمْ مَتى نُؤَدِّي شُكْرَهُ؟! لا، مَتى؟،

وَالحَمْدُ للهِ الَّذي رَكَّبَ فِينا آلاتِ البَسْطِ، وَجَعَلَ لَنا أدَواتِ القَبْضِ، وَمَتَّعَنا بِأرْواحِ الحَيَاةِ، وَأثْبَتَ فينا جَوارِحَ الأعْمالِ، وَغَذّانا بِطَيِّباتِ الرِّزْقِ، وَأغْنانا بفَضْلِهِ، وَأقْنانا بِمَنِّهِ، ثُمَّ أمَرَنا لِيَخْتَبِرَ طاعَتَنا، وَنَهانا لِيَبْتَلِيَ شُكْرَنا، فَخالَفْنا عَنْ طَرِيقِ أمْرِهِ، وَرَكِبْنا مُتُونَ زَجْرِهِ فَلَمْ يَبْتَدِرْنا بِعُقُوبَتِهِ وَلَمْ يُعاجِلْنا بِنِقْمَتِهِ، بَلْ تَأنّانا بِرَحْمَتِهِ تَكَرُّماً، وَانْتَظَرَ مُراجَعَتَنا بِرَأفَتِهِ حِلْماً، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنا عَلَى التَّوْبَةِ، الَّتِي لَمْ نُفِدْها إِلاّ مِنْ فَضْلِهِ فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ مِنْ فَضْلِهِ إلاّ بِها لَقَدْ حَسُنَ بَلاؤُهُ عِنْدَنا وَجَلَّ إِحْسانُهُ إِلَيْنا، وَجَسُمَ فَضْلُهُ عَلَيْنا، فَما هكَذا كانَتْ سُنَّتُهُ فِي التَّوْبَةِ لِمَنْ كانَ قَبْلَنا، لَقَدْ وَضَعَ عَنّا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْنا إِلاّ وُسْعاً، وَلَمْ يُجَشِّمْنا إلاّ يُسْراً، وَلَمْ يَدَعْ لأحَدٍ مِنّا حُجَّةً وَلا عُذْراً، فَالهالِكُ مِنّا مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ، وَالسَّعيدُ مِنّا مَنْ رَغِبَ إلَيْه، وَالحَمْدُ للهِ بِكُلِّ ما حَمِدَهُ بِهِ أدْنى مَلآئكَتِهِ إلَيْه وَأكْرَمُ خَلِيقَتِهِ عَلَيْهِ وَأرْضى حامِدِيهِ لَدَيْهِ، حَمْداً يَفْضُلُ سآئِرَ الحَمْدِ كَفَضْلِ رَبِّنا عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ، ثُمَّ لَهُ الحَمْدُ مَكانَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنا وَعَلى جَمِيعِ عِبادِهِ الماضِينَ والباقِينَ عَدَدَ ما أحاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَميعِ الأشياءِ، وَمَكانَ كُلِّ واحِدةٍ مِنْها عَدَدُها أضْعافاً مُضاعَفَةً أبَداً سَرْمَداً إلى يَوْمِ القِيامَةِ. حَمْداً لا مُنْتَهى لِحَدِّهِ وَلا حِسابَ لِعَدَدِهِ، وَلا مَبْلَغَ لِغايَتِهِ، وَلا انْقِطاعَ لأَمَدِهِ. حَمْداً يَكُوْنُ وُصْلَةً إلى طاعَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَسَبَباً إِلى رِضْوانِهِ وَذَريعَةً إلى مَغْفِرَتِهِ، وَطَريقاً إلى جَنَّتِهِ، وَخَفيراً مِنْ نَقِمَتِهِ، وَأمْناً مِنْ غَضَبِهِ،وَظهيراً عَلى طاعَتِهِ، وَحَاجِزِاً عَنْ مَعْصيَتِهِ وَعَوْناً عَلى تأدِيةِ حَقِّهِ وَوَظآئِفِهِ. حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ في السُّعَدآء مِنْ أوْلِيآئِهِ، وَنَصيرُ بِهِ في نَظْمِ الشُّهَدآء بِسُيُوفِ أعْدآئهِ، إنَّهُ وَليٌّ حَميدٌ [39] .


 


(الحَمْدُ): قال الراغب في مفرداته: الحمد لله تعالى الثناء عليه بالفضيلة و‌هو أخص من المدح و‌أعم من الشكر. (قَصُرتْ عَنْ رُؤْيَتهِ): قصر عن الشيء: كف عنه و‌تركه مع العجز و‌قصر السهم عن الهدف لم يبلغه. (وعَجَزَتْ): عجز عن الشيء: لم يقتدر عليه. (عَنْ نَعْتِهِ): النعت: الوصف و‌أغلب ما يستعمل للوصف بما حسن و‌طاب. (أوْهامُ): مفردها و‌هم و‌‌هو ما يتخيله الإنسان و‌يتصوره. (ابْتَدَعَ): الإبداع: إنشاء صنعة بلا احتذاء و‌اقتداء و‌منه قيل ركية بئر بديع أي جديدة الحفر و‌إذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلة و‌لا مادة و‌لا زمان و‌‌لا مكان و‌ليس ذلك إلا لله، هكذا أورده الراغب في مفرداته [40] .(الخَلْقَ): الناس. (سَلَكَ بِهِمْ): ذهب بهم يتعدى بنفسه و‌بالباء. (رُوحٍ): الروح، النفس و‌الشخص. (قُوتَاً): القوت: بالضم و‌‌هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام و‌عن ابن فارس و‌الأزهري، القوت، ما يؤكل ليمسك الرمق. (أثَرِهِ): الأثر: الأجل و‌منه قولهم: قطع أثره أي أجله لأن من مات لم يبق له أثر. (وَاسْتَوعَبَ): استوعبه: استقصاه وأخذه جميعه. (قَبَضَهُ): أماته. (نَدَبَهُ): إلي شيء: دعاه إليه. (مَوْفُوِر): الكامل التام، و‌الوفر المال. (ضَرَبَ لَهُ): قدَّر له و‌قرَّر.(مَوْقُوتاً): الموقوت: المحدود بأوقات معينة. (وَنَصَبَ لَهُ): نصب الشيء: وضعه. (أمَداً): الأمد: مدَّة لها حد مجهول إذا أُطلق و‌قد ينحصر نحو قولنا أمد كذا كما يقال زمان كذا. (يَتَخَطَّى): تخطى إلي كذا: تجاوزه و‌سبقه. (وَيَرْهَقُهُ): يغشاه و‌هو أن يحمّل الإنسان ما لا يطيق.(دَهْرِهِ): الدهر: الزمان. (بَلَغَ): وصل. (أقْصى): الشيء: منتهاه. (تَقَدَّسَتْ): تطهرت. (وَتَظاهَرَتْ): ترادفت أو ظهرت و‌بانت. (آلاؤُهُ): الآلاء: النعم. (أبْلاهُمْ): اختبرهم ليعرف حقيقتهم. (مِنَنِهِ): مفردها منة و‌هي النعمة العظيمة.

(وَأسْبَغَ): سبوغاً العيش: اتسع و‌كان رغداً و‌أسبغ عليه النعمة أتمها و‌وسعها. (المُتَظاهِرَةِ): تظاهرت: بانت و‌ظهرت و‌علت. (البَهيمِيَّةِ): جمعها بهائم و‌هو من لا يميز من الحيوان. (كَالأنْعَامِ): يقال للإبل و‌البقر و‌الغنم. (وَدَلَّنَا): على الشيء و‌إليه: أرشده و‌هداه. (وَجَنَّبَنا): جنبه الشر: نجاه و‌ابعده عنه.  (الإلْحادِ): الكفر، ألحد في الدين عاد عنه و‌عدل و‌‌في مفردات الراغب: ألحد فلان مال عن الحق و‌الإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله و‌إلحاد إلى الشرك بالأسباب فالأول ينافي الإيمان و‌يبطله و‌الثاني يوهن عراه و‌لا يبطله. (نُعَمَّرُ): نحيا. (البَرْزَخِ): الحاجز بين الشيئين و‌استعمل في الفترة الممتدة ما بين الموت إلى القيامة فمن مات دخل البرزخ. (المَبْعَثِ): من البعث و‌لغة معناه الإرسال و‌اصطلاحاً نشر الموتى و‌إرسالهم للمحشر من أجل الحساب. (وَيُشرِّفُ بِهِ مَنازِلَنا): يعليها و‌يرفعها. (مَوْلىً): المولى: الصاحب، و‌الصديق و‌له معان أخرى... (عِلِّيِّينَ): قال الراغب في مفرداته هو اسم أشرف الجنان كما أنَّ سِجِّينا اسم شر النيران و‌قيل بل ذلك في الحقيقة اسم سكانها و‌هذا أقرب في العربية. (مَرْقُومٍ): الرقم: الخط الغليظ و‌قيل هو تعجيم الكتاب و‌قوله تعالى: كتاب مرقوم حمل على الوجهين. (المُقَرَّبُونَ): الملائكة المقربون عند الله. (الأبْشارُ): جلد الإنسان الظاهر. (نُعْتَقُ بِهِ): اعتقت العبد: حررته و‌أطلقته من أسر العبودية. (نُزاحِمُ): زاحمه: ضايقه و‌دافعه في محل ضيق. (وَنُضآمُّ): من الضَّم بمعنى الجمع. (دارِ المُقامَةِ): دار الإقامة. (لا تَحُولُ): لا تتغير. (مَحاسِنَ): مفردها الحسن و‌هو الجمال. (الخَلْقِ): مصدر الناس و‌الفطرة و‌الخلقة بكسر الخاء الهيئة و‌الفطرة.

(وَأجْرى): عليه الرزق: أي جعله دارّاً متصلاّ. (الفَضِيلَةَ): الشرف و‌الدرجة الرفيعة في الذكر. (بِالمَلَكَةِ): المملوك و‌المقصود هنا ملكة العقل. (مُنْقادَةٌ): انقاد: خضع له و‌أذعن. (نُطِيقُ): أطاق الشيء: قدر عليه. (رَكَّبَ): وضع. (بِأرْواحِ): الروح: بضم الراء النفس و‌بالفتح الراحة. (وَأثْبَتَ): ثبت: دام و‌استقر و‌اثبت جعله ثابتاً. (جَوارِحَ): مفرده جارحة و‌هو العضو من الإنسان و‌‌لا‌سيما اليد. (وَأقْنانا): أقنى: أغنى و‌أعطى ما يقتني. (بِمَنِّهِ): المن: الإنعام و‌الفضل. (لِيَبْتَلِيَ): الابتلاء: الاختبار و‌الامتحان. (مُتُونَ): المتن: الظهر و‌متن الأرض ما ارتفع منها و‌استوى. (زَجْرِهِ): الزجر: المنع و‌النهي. (يَبْتَدِرْنا): بادر إلى الشيء: أسرع و‌عجَّل إليه. (بِنِقْمَتِهِ): النقمة: المكافاة بالعقوبة. (تَأنّانا): تمهَّلنا، تأنى فلان تمهَّل.
(بِرَأفَتِهِ): الرأفة: الرحمة ترأف به رحمه أشد الرحمة. (دَلَّنا): دلَّه على الشيء: أرشده إليه و‌هداه. (نُفِدْها): نستفيدها من الإفادة و‌هي المنفعة. (نَعْتَدِدْ): نعدّ و‌نحسب. (بَلاؤُهُ): البلاء: الاختبار بالخير أو الشر. (وَجَلَّ): عظم و‌كبر. (وَجَسُمَ): عظم و‌ضخم. (سُنَّتُهُ): السنة، الطريقة. (طاقَةَ): القدرة على الشيء. (وُسْعاً): الوسع: الطاقة يقال ليس في وسعه أن يعمل كذا أي لا يقدر عليه. (يُجَشِّمْنا): تجشَّم الأمر: تكلفه على مشقة. (وَلَمْ يَدَعْ): لم يترك. (حُجَّةً): ما يحتج به. (أدْنى): دنا: اقترب و‌الأدنى: الأقرب. (خَلِيقَتِهِ): مخلوقاته.
(أحاطَ بِهِ): أحدق به من جوانبه و‌يقال أحاط بالأمر علماً أي أحدق به علمه من جميع جهاته. (أبَداً): ظرف زمان للتأكيد في المستقبل نفياً وإثباتاً، يقال لا أفعله أبداً أو أفعله أبداً و‌الأبدي ما لا نهاية له. (سَرْمَداً): السرمدي: ما لا أوّل له و‌‌لا آخر. (لأَمَدِهِ): الأمد: الغاية و‌منتهى الشيء. (وُصْلَةً): الوصلة: يقال وصله إلى المكان أي بلغه و‌انتهى إليه. (وَذَريعَةً): وسيلة. (وَخَفيراً): خفره و‌خفر به و‌عليه: أجاره و‌حماه و‌آمنه و‌الخفير المجير و‌الحامي. (وَظهيراً): معيناً. (نَظْمِ): جماعة.


 

الشرح

 

 

(الحَمْدُ لِلهِ الأوَّل بِلا أوَّلٍ كانَ قَبْلَهُ) الثناء بالجميل على المحمود تبجيلاً له و‌تعظيماً، و‌الثناء على الله تعالى بما هو أهله خير ما تفتح به الأقوال و‌الأعمال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه أمر يسره قال: الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات و‌إذا أتاه أمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال» [41] ، فهو سبحانه قبل الأشياء لم يسبقه سابق، حتى إنَّ الزمان والمكان مخلوقان له، فهو قبلهما (والآخِرِ بِلا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ) الله سبحانه واجب الوجود لذاته، و‌معنى هذا أنه تعالى لايزال موجوداً بلا علة لوجوده، و‌أنه الموجود الأول بلا ابتداء، و‌دائم الوجود بلا انتهاء، و‌أنه المبدأ الأول لكل الموجودات، و‌لو أمكن عدم وجوده لحظة واحدة لم يكن واجب الوجود و‌هو خلاف الفرض، و‌عبر الفلاسفة عن هذا المعنى بقولهم: هو أزلي في القدم، أبدي في البقاء. و‌قال الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام): «(هو) الأوّل قبل كلّ شيء ولا قبل له، والآخر بعد كلّ شيء ولا بعد له» [42] و‌عليه يكون سبحانه الأول و‌الآخر بالنسبة إلى مخلوقاته لا بالنسبة إلى ذاته. (الَّذي قَصُرتْ عَنْ رُؤْيَتهِ أبْصارُ النّاظِرينَ) فإنه سبحانه يستحيل رؤيته لا في الدنيا ولا في الآخرة (وعَجَزَتْ عَنْ نَعْتِهِ) أي وصفه كما هو أهله، لا الأوصاف العامة ـ كالعالم والقادر وما أشبه ـ (أوْهامُ الواصِفينَ) أوهامهم: أي أذهانهم وأفكارهم، فإن الأفكار لا تصل إلى كنه معرفة الله سبحانه.

(ابْتَدَعَ بِقُدْرَتِهِ الخَلْقَ ابْتِدَاعاً) الابتداع: الخلق بلا سابقة وبلا تعلم من أحد، فإنه سبحانه خلق الخلق بدون أن يتعلم من خالق سابق (وَاخْتَرَعَهُمْ) الاختراع: الشق والكشف، وهذا أعم من الابتداع، وإن كان المفاد واحداً (على مَشِيَّتِهِ اخْتِرَاعاً، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمْ طَريقَ إِرادَتِهِ) أي جعلهم كما أراد في الكيفية والخصوصيات، فإن لكل إنسان مزايا خاصة ـ من اللون وكيفية الجسم ومدة العمر وما أشبه ـ (وبَعَثَهُمْ في سَبيلِ محَبّتِهِ) لعل المعنى أنه سبحانه ألزم عليهم تكاليف خاصة حيث أحب وكما أراد، فالجملة الأولى للتكوين والجملة الثانية للتشريع. يفترق الإسلام عن غيره من الأديان بأنه يجرد البشرية كلها من حق التشريع و‌التحليل و‌التحريم، و‌يحصر الشريعه بخالق الطبيعة، و‌ليس للنبي منها إلا التبليغ، أجل يترك الإسلام الامتثال و‌التنفيذ. لحرية الإنسان بعد أن يأمره بالخير، و‌ينهاه عن الشر، و‌يبشره بالثواب على الطاعة، و‌ينذره بالعقاب على المعصية، و‌‌لا يلجئه قهراً على فعل واجب و‌‌لا ترك محرم حيث لا إنسانية بلا حرية، و‌معنى هذا أنَّ الإنسان مسيّر تشريعاً، مخير تنفيذاً، و‌مسؤول عن سلوكه و‌تصرفاته، فإذا امتنع بإرادته و‌اختياره عن فعل الواجب و‌ترك المحرم استحق العقاب، لأن من امتنع عن الاختيار فقد اختار أن لايختار. وأنه تعالى قد بين حلاله و‌حرامه لعباده في كتبه و‌على لسان رسله، ليتقوا و‌يهتدوا و‌يعملوا متعاضدين لحياة أفضل و‌أكمل، و‌‌في هذا المعنى العديد من الآيات، منها: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [43] . (لا يَمْلِكُونَ تَأخِيراً عَمَّا قَدَّمَهُمْ إلَيْهِ) أي لا يتمكن أحد من البشر أن يتأخر عن المرتبة التي جعلها الله سبحانه له (وَلا يَسْتَطيعُونَ تَقَدُّماً إلى ما أَخَّرَهُمْ عَنْهُ) بأن يتقدم إلى المرتبة السابقة وقد شاء الله له المرتبة اللاحقة. والمعنى الآخر هو أن التشريع و‌التحليل و‌التحريم لله سبحانه وحده و‌لا شيء منه للفرد أو لأية فئة أو هيئة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاعْلَمُوا... أَنَّ مَا أَحْدَثَ اَلنَّاسُ لاَ يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اَلْحَلاَلَ مَا أَحَلَّ اَللهُ وَاَلْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اَلَلهُ» [44] .

(وَجَعَلَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْهُمْ) أي لكل إنسان (قُوتَاً مَعْلُوماً) القوت: ما يأكله الإنسان، أو المراد الأعم من المأكول والملبوس وما أشبه. (مَقْسُوماً مِنْ رِزْقِهِ) وقد عينه له حين قسم الأرزاق للبشر (لا يَنْقُصُ مَنْ زَادَهُ) الله سبحانه في الرزق (نَاقِصٌ) أي لا يتمكن أحد أو شيء أن ينقص من رزق من أراد الله تعالى زيادة رزقه. (وَلا يَزيْدُ مَنْ نَقَصَ) الله في رزقه (مِنْهُمُ زائدٌ) فلا يتمكن أحد أن يزيد في رزق من قدّر له نقص الرزق، يريد به أن كل حي يستوفي رزقه بالكامل قبل موته، فلا يحرم شيئاً مما هو له، و‌لا يرزق ما ليس له، و‌إذاً علام التحاسد و‌التباغض؟ (ثُمَّ ضَرَبَ) وعين (لَهُ في الحَياةِ) الدنيا (أجَلاً) أي مدة معينة يبقى في الحياة. والأجل له إطلاقان: إطلاق على المدة، وإطلاق على نهاية المدة (مَوْقُوتاً) أي معيناً، مشتق من الوقت (وَنَصَبَ) أي جعل (لَهُ أمَداً) أي مدة (مَحْدُوداً) قد حدّ وعيّن، ولعل الأجل: لمنتهى المدة، والأمد: لتمام المدة (يَتَخَطَّى إلَيْهِ بأَيّامِ عُمُرِهِ) كما يتخطى الإنسان في المسافة حتى يبلغ النهاية، فكأن أيام العمر خطى الإنسان نحو آخر مدته، فإذا انتهت أيام عمره كان واصلاً إلى آخر مدته في الحياة فيموت، شبه (عليه السلام) العمر بالمشي، و‌الأيام بالخطى إلى الموت، و‌في نهج البلاغه: «مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اَللَّيْلَ وَاَلنَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً وَيَقْطَعُ اَلْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً» [45] أي ساكناً مستريحاً (وَيَرْهَقُهُ) أي يدنو إليه بسرعة (بِأعْوامِ دَهْرِهِ) أعوام: جمع عام، أي بسنوات الدهر المقررة له (حَتَّى إذا بَلَغَ) الإنسان (أقْصى أثَرِهِ) أي آخر الأثر المقرر له، كأن لكل إنسان خطىً من العمر تنتهي، وهذه الخطى أثر الإنسان في الحياة، وبتعبير آخر، إنَّ الأمد المحدد يعجل بالحي و‌يسرع به إلى الموت بطي السنوات و‌مضي الأعوام.

و‌كل ذلك بمشيئة الله تعالى، فهو الذى يحيي و‌يميت في أجل مسمى، لايقدم و‌لا يؤخّر (وَاسْتَوعَبَ) الاستيعاب: الاشتمال (حِسابَ عُمُرِهِ) بأن أتى على جميع ما قدر له من العمر (قَبَضَهُ) أي أخذه الله سبحانه بالإماتة (إلى ما نَدَبَهُ إليه) أي كلفه به، فإنه سبحانه كلف الإنسان بالواجبات وبترك المحرمات، والمراد بما ندب: نتيجة ما ندب (مِنْ مَوْفُوِر ثَوَابِهِ) أي ثوابه الوافر الكثير لمن أطاع (أوْ مَحْذُورِ عِقَابِهِ) أي عقابه الذي يحذر منه ويخاف لمن عصى، لا مفر من الموت، و‌أيضاً لا مفر من البعث بعد الموت لا لمجرد البعث بل للحساب و‌المعاملة بالمثل أي (لَيَجْزِيَ الَّذين أساءُوا بِما عَمِلُوا) من الكفر والمعاصي (وَيَجْزِيَ الَّذين أحْسَنُوا بِالحُسْنى) أي بالصفة الحسنى، مؤنث أحسن، والمراد بالحسنى: الجنة والثواب، وإنما يجازي سبحانه بما عمل الإنسان (عَدْلاً مِنْهُ) تعالى، إذ العدل أن يكون الجزاء شبيه العمل ومن جنسه (تَقَدَّسَتْ أسْماؤُهُ) أي تنزهت صفاته عن النقائص، فإن المراد بالأسماء الصفات، إذ الاسم بمعنى العلامة، والصفة علامة (وَتَظاهَرَتْ) أي صارت بعضها ظهر بعض وفي عقبها (آلاؤُهُ) جمع آل بمعنى: النعمة (لا يُسْألُ) تعالى (عَمّا يَفْعَلُ) فإنه سبحانه ليس مسؤولاً بحيث يقع في محذور السؤال والجواب، إذ لا مثل له ولا أعلى منه حتى يحاسبه على أعماله (وَهُمْ يُسْألُونَ) فإن كل إنسان وحيوان وما أشبه يسأل عن فعله، ولعل قوله: (لا يسأل) كناية عن أن جميع أفعاله على نحو الحكمة والصلاح، فلا موضع لئن يسأل إذ السؤال عن العبث والفوضى.


 


(وَالحَمْدُ لِلهِ الذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ) بأن لم يعطهم قدرة المعرفة (عَلى ما أبْلاهُمْ) وامتحنهم (مِنْ مِنَنِهِ المُتَتابِعَةِ) المنن: جمع منّة، بمعنى النعمة، إذ كل نعمة توجب منة على الإنسان (وَأسْبَغَ عَلَيهِمْ) أي أعطاهم ووسّع عليهم (مِنْ نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ) التي بعضها ظهر لبعض وفي أثرها وعقبها (لَتَصَرَّفُوا) جواب لو (في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ) إذ المفروض أنهم لا يعرفون الحمد (وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ) أي توسعوا في نيل رزقه والتصرف فيه (فَلَمْ يَشْكُرُوهُ) إذ الشكر فرع المعرفة والمفروض أنهم لا يعرفون حمده (وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ) يتناولون الرزق بدون أن يشكروا (لَخَرَجُوا مِنُ حُدُودِ الإِنْسانِيَّةِ إلى حَدِّ البَهيمِيَّةِ) إذ البهيمة لا تشكر لعدم معرفتها، وكذلك يكون الإنسان حينئذ. ولا يخفى أن التشبيه بحسب الظاهر وإلاّ فالبهائم تعرف الإله وتشكره كما قال سبحانه: ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [46] . من جملة ما افترضه سبحانه على عباده الشكر له، قال تعالى: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [47] وقوله تعالى: ﴿ ... لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [48] و‌أفضل أنواع الشكر ترك المحرمات، و‌في طليعتها كف الأذى عن الناس، وأدناها أن يعرف الإنسان أنَّ ما به من نعمة فمن فضل الله و‌طوله، لا من حول المنعم عليه و‌قوته، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «شكر النعمة اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين» [49] . وقال أيضاً (عليه السلام): «من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدى شكرها» [50] . (فَكانُوا) لعدم شكرهم (كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِهِ) إضافة محكم إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي كتابه المحكم الذي لم يطرأ عليه باطل أو نسخ أو ما أشبه (إِنْ هُمْ إلاّ كَالأنْعَامِ) إن: نافية، أي ليس هؤلاء الذين لا يدينون إلاّ كالأنعام في عدم الفهم والإدراك (بَلْ هُمْ أضَلُّ سَبيلاً) إذ الأنعام تعرف مصالحها ومفاسدها والإنسان المنحرف لا يعرف ذلك، والأنعام تؤدي ما عليها، و‌تنقاد لصاحبها أمراً و‌زجراً، أما أهل الجهالة و‌الضلالة فلا يؤدون ما عليهم، و‌لا ينقادون لخالقهم. ولا يخفى أن الحمد بالنتيجة على هداية الإنسان وعدم جعله كالأنعام.


 


(والحَمْدُ للهِ عَلى ما عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ) إذ ما نعرفه من جهاته سبحانه ـ ولو كانت معرفة ناقصة لا تصل الكنه ـ ليس إلا بسبب تعريفه سبحانه وتعليمه لنا (وَألْهَمَنا مِنْ شُكْرِهِ) فإنه ألقى في قلوبنا وجوب شكره، فإن كل إنسان يعرف بالفطرة لزوم شكر المنعم مع الغض عن معلومية ذاته بسبب الأديان والشرائع السماوية (وَفَتَحَ لَنا مِنْ أَبْوَابِ العِلْمِ) مِن: للتبعيض، أي بعض أبواب العلم (بربوبيته) حتى عرفناه سبحانه ربّاً لنا ولسائر الموجودات، فإن كل إنسان يعرف بفطرته أن للكون ربّاً وخالقاً (وَدَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ الإخْلاصِ) من: بيان لضمير (عليه) (لَهُ في تَوْحيدِهِ) فإن الله أرشدنا إلى لزوم أن نوحده، ونجعل إله الكون واحداً مخلصاً له العقيدة، لا أن نشرك معه غيره (وَجَنَّبَنا) أي بعّدنا بسبب الأدلة والحجج (مِنَ الإلْحادِ) أي الانحراف عن الحقيقة (وَالشَّكِّ في أمْرِهِ) حتى لا نكون شاكين هل هو موجود أم لا؟ وهل هو واحد أم كثير؟ وهكذا (حَمْداً نُعَمَّرُ بِهِ) أي نقضي أعمارنا بهذا الحمد (فيمَنْ حَمِدَهُ) أي في جملة الذين يحمدونه فنكون كأحدهم، لا في جملة الملحدين والشاكين (مِنْ خَلْقِهِ) من: بيان (من حمده) (وَنَسْبِقُ بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (مَنْ سَبَقَ إلى رِضاهُ) تعالى أي نكون سابقاً على من سبق، لأن حمدنا أكثر من حمدهم فنكون أسبق إلى نيل رضاه، ولا يخفى أن هذا إنشاء لبيان قدر ما ينطوي عليه الحامد من حب الله تعالى ومدحه، فلا يلزم السبق في الخارج حتى يقال: كيف يسبق الإنسان الأنبياء ومن إليهم؟ (وَعَفْوِهِ) بأن يعفو عنا ذنوبنا بسبب حمدنا له.


 


(حَمْداً يُضيءُ لَنا بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (ظُلُماتِ البَرْزَخِ) البرزخ: هو المحل الوسط بين الدنيا والآخرة، ويريد الداعي أنه بسبب حمده يتفضل سبحانه بإنارة البرزخ له، يمر الإنسان بثلاث مراحل: تبتدىء الأولى بالولادة و‌تنتهي بالموت، و‌تبتدىء الثانية بالموت، و‌تنتهي بالبعث، قال سبحانه: ﴿ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [51] و‌تبتدىء الثالثة بالبعث، و‌لاتنتهي إلى حد، قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) - في قوله تعالى: ﴿ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ ... ﴾: هو القبر وإن لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار [52] . و‌عليه يكون المراد بظلمات البرزخ ظلمات القبر (وَيُسَهِّلُ) الله سبحانه (عَلَيْنا بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (سَبيلَ المَبْعَثِ) أي طريق يوم القيامة حتى لا نسلك فيه مسلك المجرمين، فمن ظلمة القبر و‌غربته و‌ضيقه و‌وحشته إلى ما هو أشد و‌أعظم، إلى الوقوف بين يدى جبَّار قهّار لنقاش الحساب على ما فعلنا و‌تركنا و‌أسررنا و‌أعلنا.

(وَيُشرِّفُ بِهِ) أي بسبب هذا الحمد (مَنازِلَنا) في الآخرة (عِنْدَ مَوَاقِفِ الأشْهادِ) جمع شاهد، أي يكون لنا موقفاً شريفاً حسناً حين يحضر الناس في القيامة ليشهد الشهود لهم أو عليهم، فإذا شهدوا له كان له موقف شريف، وإذا شهدوا عليه كان له موقف مخزي ومذل (يَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) إن خيراً فخير وإن شراً فشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بهضم حسناتهم أو زيادة سيئاتهم (يَوْمَ لا يُغْني مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً) المولى: الصديق والناصر، أي لا ينفع صديق لصديقه شيئاً، بأن يزيد في حسناته أو يقلل من سيئاته (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فلا يتمكن أحد أن ينصر أحداً، بل الذي ينجي الإنسان هناك العمل الصالح والشفاعة (حَمْداً يَرْتَفِعُ) ذلك الحمد (مِنّا) أي من جهتنا (إلى أعْلى عِلِّيِّينَ) العليُّون: كتاب يكتب فيه الأعمال الصالحة للناس، والكتابة في أعلاه دليل القبول الكامل (في كِتابٍ مَرْقُومٍ) قد رقم وكتب (يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ) فإن هذا كتاب بأيدي الملائكة المقربين الذين قربهم سبحانه إلى رضاه ولطفه، و‌هذا اقتباس من سوره المطففين [53] . (حَمْداً تَقَرُّ بِهِ عُيُونُنا) فإن الإنسان إذا كان فرحاً مسروراً تقف عينه عن الحركة، بخلاف الخائف الذي تضطرب عينه إلى هنا وهناك (إذا بَرِقَتِ الأَبْصارُ) برق البصر بمعنى تحير فزعاً حتى لا تطرف أو دهش فلم يبصر، فإن الإنسان إذا دهش دهشة كبيرة لم تصل الروح إلى العين لتبصر. وإذا كان أقل دهشة لم يتمالك أن يحرك طرفه، و‌‌هو اقتباس من سورة القيامة قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ [54] (وَتَبْيَضُّ بِهِ وُجُوهُنا) فإن الوجوه تبيض بالنور والإشراق يوم القيامة إذا كان أصحابها حسني الأفعال في الدنيا، وتسود حزناً وكآبة إذا كان أصحابها سيئي الأفعال، أيضا اقتباس من سورة آل عمران قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [55] (إِذَا اسْوَدَّتِ الأبْشارُ) أبشار: جمع بشر ـ وزن سبب وأسباب ـ وبشر جمع بشرة وهي ظاهر جلد الإنسان.

نحمده (حَمْداً نُعْتَقُ بِهِ) ونفك (مِنَ ألِيمِ نارِ اللهِ) أي نار الله المؤلمة، بحيث ننتهي (إلى كَريمِ جِوارِ اللهِ) جوار الله المحل الذي يلطف الله سبحانه على الإنسان في ذلك المحل، وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس، فكما أن الإنسان إذا كان في جوار زعيم كبير يكون مشمولاً لحفظه ولطفه، كذلك من كان عند لطف الله وإحسانه، وكريم الجوار، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الجوار صاحب الكرامة ـ مقابل الإهانة ـ ثم إن الحمد لما كان باللسان وبالقلب وبالعمل، كان سبباً للعتق من النار، والفوز بالجنة فالإمام (عليه السلام) يطلب منه تعالى أن يوفّقه لمثل هذا الحمد، لا مجرد حمد اللسان ـ مثلاً ـ (حَمْداً نُزاحِمُ بِهِ) أي بذلك الحمد (مَلآئِكَتَهُ المُقَرَّبِينَ) والمزاحمة كناية عن الحمد المشابه لحمد الملائكة، والأصل في المزاحمة وحدة المطلوب مع تعدد الطالب، ومن المعلوم أن الحمد ليس شيئاً محصوراً حتى تقع فيه المزاحمة بمعناها الحقيقي (وَنُضآمُّ بِهِ) أي بذلك الحمد، ونضام من الضم بمعنى الجمع، ونضام بمعنى: ننضم (أنْبِيائَهُ المُرْسَلِينَ) حتى نجتمع معهم (في دارِ المُقامَةِ) حيث الشرف الأبدي بمرافقة الأنبياء (الَّتِي لا تَزولُ) فإن الجنة أبدية (ومَحَلِّ كرامَتِهِ) أي المحل الذي أكرمه ويكرم من كان فيه، وهو الجنة (الّتي لا تَحُولُ) أي لا تتحول، فليست مثل دار الدنيا التي تتحول من حال إلى حال.


 


(وَالحَمْدُ لِلهِ الَّذِي اخْتارَ لَنَا مَحاسِنَ الخَلْقِ) أي الشكل و‌الصورة، قال سبحانه: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [56] ، وقال تعالى: ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [57] خلق سبحانه الإنسان في أحسن خلقة و‌أحكمها و‌أدقها، وفي تفسير آخر، اختار لنا الخلق الحسن (وَأجْرى عَلَيْنا طَيِّباتِ الرِّزْقِ) إجراء الرزق جعله مستمراً جارياً، كالنهر الجاري، والطيب ما يستطاب ويلائم الطبع، والمراد بالرزق أعم من المأكل والملبس وما أشبههما من حاجات الإنسان (وَجَعَلَ لَنَا الفَضِيلَةَ بِالمَلَكَةِ عَلى جَمِيعِ الخَلْقِ) أي جعل لنا نحن البشر أفضلية على جميع خلقه، بأن ملكنا ما لم يملكهم من العقل وسائر الممتلكات، فإن الإنسان ـ لطبعه ـ أفضل من جميع الموجودات (فَكُلُّ خَليقَتِهِ) أي كل خلق الله تعالى (مُنْقادَةٌ لَنا بِقُدْرَتِهِ) والانقياد معناه الحركة لأجلنا فإن الشمس والقمر والأفلاك وغيرها تسير لمصلحة الإنسان (وَصائِرَةٌ إلى طاعَتِنا) فإن الإنسان يتصرف في الأرض وما عليها ـ كأنها مطيعة له ـ (بِعِزَّتِهِ) أي بسبب أنه سبحانه عزيز قادر على كل شيء.


 


(وَالحَمْدُ للهِ الَّذي أغْلَقَ عَنّا بابَ الحاجَةِ إلاّ إليه) فإنه سبحانه لم يجعلنا محتاجين إلى واسطة، بل يقضي حوائجنا بنفسه، وقد كان بالإمكان، أن يكون الله عزَّ وجل كالملوك الذين لا يرون حوائج الناس إلا بواسطة الوزراء ومن إليهم (فَـ) بعد هذه النعم العظام (كَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ)؟ إذ الحمد إنما يكون كافياً إذا كان مكافئاً، وهيهات أن يتمكن الإنسان من الإتيان بالحمد بقدرٍ كافٍ: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (أمْ مَتى) وفي أي زمان (نُؤَدِّي شُكْرَهُ)؟ وزمان عمر الإنسان أقصر من القدر اللائق من شكره سبحانه (لا، مَتى) جملة مستأنفة لجواب الاستفهام، أي لا يمكن تأدية شكره.


 


(وَالحَمْدُ للهِ الَّذي رَكَّبَ فِينا) أي جعل في أبداننا (آلاتِ البَسْطِ) أي أجهزة نتمكن بها من بسط بعض أعضاء الجسم، كاليد والرجل وما أشبه (وَجَعَلَ لَنا أدَواتِ القَبْضِ) أي الانقباض، فإن اليد ـ مثلاً ـ تنبسط وتنقبض، ولو لم يتمكن الإنسان من كليهما، أو من أحدهما، لتوقف كثير من أعماله وحوائجه (وَمَتَّعَنا بِأرْواحِ الحَيَاةِ) أي أعطانا للمتعة والتلذذ أرواحاً هي التي تسبب حياة الإنسان، كالروح الباعث للشهوة أو للغضب أو للقوَّة، وما أشبه، مما يتوقف حياة الإنسان الكاملة على تلك الأرواح (وَأثْبَتَ فينا جَوارِحَ الأعْمالِ) جوارح: جمع جارحة وهي اليد والرجل وسائر ما يعمل بها الإنسان من أعضائه ومعنى الجرح في الأصل العمل باليد، ومنه جوارح الطير لأنها تكسب بيدها، والمعنى جعل فينا الجوارح التي بها نعمل الأشياء التي نريدها ( وَغَذّانا بِطَيِّباتِ الرِّزْقِ) أي جعل غذاءنا أقساماً من الرزق الطيب، والرزق أعم من المأكل والملبس والمسكن وما أشبه، كما أن الطيب مقابل الخبيث، وهو ما لا يستقذره الطبع (وَأغْنانا بفَضْلِهِ) أي جعلنا أغنياء لا نحتاج إلى غيره، وذلك الإغناء ليس استحقاقاً منا بل فضلاً وإحساناً منه (وَأقْنانا) من القنية بمعنى المال المدخر الذي يدخره الإنسان (بِمَنِّهِ) أي بكرمه فإنه سبحانه ادخر لنا الكنوز والمعادن وغيرهما لمصالحنا وهذا تلميح إلى قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى [58] (ثُمَّ أمَرَنا) بأوامره (لِيَخْتَبِرَ) أي يمتحن (طاعَتَنا) هل نطيع أم لا؟ وفائدة الاختبار لنا لا له سبحانه لأنه عالم بكل شيء (وَنَهانا) عن المحرمات (لِيَبْتَلِيَ) ويمتحن (شُكْرَنا) هل نشكر بترك نواهيه أم لا؟ فإن من الشكر العملي الانتهاء عن النواهي، و‌معنى هذا أن التكليف أمراً و‌نهياً هو المحك الذى يميز و‌يفرق بين الخبيث و‌الطيب و‌العاصي و‌المطيع قال عزَّ شأنه: ﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [59] (فَخالَفْنا عَنْ طَرِيقِ أمْرِهِ) بالذهاب إلى خلاف الطريق المؤدي إلى الأمر (وَرَكِبْنا مُتُونَ) جمع متن بمعنى الظهر (زَجْرِهِ) أي نهيه، شبه المنهي بالراحلة التي لها متن، إذا ركبها الإنسان تؤدي به إلى النار (فَلَمْ يَبْتَدِرْنا) أي لم يبادر جلَّ شأنه (بِعُقُوبَتِهِ) فلم يعاقبنا بمجرد صدور المنهيات عنا (وَلَمْ يُعاجِلْنا بِنِقْمَتِهِ) أي لم ينزل نقمته علينا عاجلاً سريعاً بمجرد ارتكابنا لنهيه (بَلْ تَأنّانا) من التأني بمعنى الصبر والتأخير، تأنى في الأمر إذا لم يعجل (بِرَحْمَتِهِ) أي إرجاء عقوبتنا حيث رحمنا وتفضل علينا (تَكَرُّماً) وكان هذا التأني لمجرد الكرم والفضل منه (وَانْتَظَرَ مُراجَعَتَنا) أي لعلنا نرجع عن العصيان بالاستغفار والتدارك (بِرَأفَتِهِ) أي رحمته ـ والرأفة أدق معنى من الرحمة ـ (حِلْماً) أي لسبب حلمه علينا ـ ولا يخفى أن الرحمة والرأفة وما أشبههما يراد بها في الله سبحانه: غاياتها، كما قيل: خذ الغايات واترك المبادئ.


 


(وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنا) وأرشدنا (عَلَى التَّوْبَةِ) فإنه سبحانه هو الذي فتح باب التوبة للعاصي وأرشد العصاة على لسان أنبيائه، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [60] (الَّتِي لَمْ نُفِدْها إِلاّ مِنْ فَضْلِهِ) إذ فضله هو الذي سبب أن نستفيد بالتوبة ولولا فضله لكان العقاب جزاء المعصية بدون فائدة للتوبة في رفعه (فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ) من العد بمعنى الحساب أي لو لم نعدد ونذكر في التعداد (مِنْ فَضْلِهِ) سبحانه (إلاّ بِها) أي بالتوبة ـ وإنما جيء بالباء لاشتمال الاعتداد على معنى الاتكاء: أي لو كان فضله خاصاً لقبوله التوبة (لَقَدْ حَسُنَ بَلاؤُهُ عِنْدَنا) هذا جواب [لو] أي لكان بلاؤه وإحسانه عندنا شيئاً حسناً (وَجَلَّ) أي كبر (إِحْسانُهُ إِلَيْنا) هذا عطف على جواب [لو] (وَجَسُمَ) أي عظم (فَضْلُهُ عَلَيْنا) وهذا أيضاً عطف على الجواب. ثم علل (عليه السلام)، كون قبوله عزَّ وجل فضلاً جسيماً بقوله (فَما هكَذا كانَتْ سُنَّتُهُ) وطريقته سبحانه (فِي) قبول (التَّوْبَةِ لِمَنْ كانَ قَبْلَنا) مثلاً لم يقبل جلَّ جلاله توبة بني إسرائيل في عبادة العجل إلاّ بعد أن قتلوا كثيراً من نفوسهم، كما قال تعالى: ﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [61] .

(لَقَدْ وَضَعَ) وأسقط (عَنّا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) فلم يشدد علينا كما شدد على اليهود، ويقال: لا طاقة: بمعنى الشدة، لا عدم الطاقة مطلقاً، فإنه أجل من التكليف بما لا يطاق، قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [62] (وَلَمْ يُكَلِّفْنا إِلاّ وُسْعاً) أي ما فيه سعة علينا بدون كثير شدة، قال عزَّ وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [63] (وَلَمْ يُجَشِّمْنا) التجشيم: التكليف الشاق (إلاّ يُسْراً) أي بل كلفنا يسراً كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [64] (وَلَمْ يَدَعْ لأحَدٍ مِنّا) معاشر المكلفين (حُجَّةً وَلا عُذْراً) لأنه سبحانه أبلغنا التكاليف، فإذا تركناها كان الترك بدون حجة أو عذر، بل عصياناً محضاً (فَالهالِكُ مِنّا) بذنوبه ومعاصيه (مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ) أي على أنه أتم الحجة، فالهلاك على هذا النحو لا على نحو المفاجآت، وبدون قبول التوبة (وَالسَّعيدُ مِنّا مَنْ رَغِبَ إلَيْه) أي إلى الله تعالى، ومعنى الرغبة إليه طلب ما عنده، كالراغب في الشيء المحبوب.


 


(وَالحَمْدُ للهِ بِكُلِّ ما حَمِدَهُ بِهِ) أي بمثل كل حمد حمده (أدْنى) وأقرب وأشرف (مَلَائكَتِهِ إلَيْه) دنواً بالفضيلة والشرف (وَأكْرَمُ خَلِيقَتِهِ) أي خلقه (عَلَيْهِ) وهم الأنبياء والأوصياء والأولياء (وَأرْضى حامِدِيهِ لَدَيْهِ) أي الحامد الذي هو تعالى أكثر رضاء منه، بالنسبة إلى سائر الحامدين، أحمده (حَمْداً يَفْضُلُ سآئِرَ الحَمْدِ) فيكون حمدي أفضل من حمد غيري، لا في الكم والكيف، بل في الإرادة القلبية، ولا ينافي هذا الفقرة السابقة، أي بكل حمد لأن الفقرة الأولى من حيث الكم وهذا من حيث الكيف (كَفَضْلِ رَبِّنا عَلى جَمِيعِ خَلْقِهِ) أي تكون نسبة الأفضلية في البعد، كهذه النسبة (ثُمَّ) للاستئناف (لَهُ) تعالى (الحَمْدُ مَكانَ كُلِّ نِعْمَةٍ لَهُ عَلَيْنا وَعَلى جَمِيعِ عِبادِهِ) هذا من حيث إفراد الحمد حسب النعم، و(بِكُلِّ مَا حَمِدَهُ) من حيث أفراد الحامدين، و(حَمْداً يَفْضَلُ) من حيث كيفية الحمد (الماضِينَ والباقِينَ) أي السابقين والحاضرين والمستقبلين إذ كل من الأخيرين داخل في الباقي (عَدَدَ ما أحاطَ بِهِ عِلْمُهُ مِنْ جَميعِ الأشياءِ) أي أعد حمده بهذا العدد، فبكل جزئي أحاط علم الله سبحانه به، أحمده حمداً عدده (بِكُلِّ مَا حَمِدَهُ) و(وَمَكانَ كُلِّ نِعْمَة) وكيفيته (كَفَضْلِ رَبِّنا)، بيان ما أحاط (وَمَكانَ كُلِّ واحِدةٍ مِنْها) حتى أن الحامد حمد الله سبحانه لكل نعمة أنعم بها على سائر البشر، أي في مقابلها، وهذا غير عددها، فإن الإنسان قد يقول: أحمد الله بعدد هذه القصور، وقد يقول: أحمده لمكان هذه القصور، أي لأجل تفضله بهذه القصور على أصحابها (عَدَدُها) أي أعد عدد تلك المحامد (أضْعافاً مُضاعَفَةً) فليس لكل عدد حمد وإنما لكل عدد أضعاف أضعافه من الحمد (أبَداً سَرْمَداً) أي يكون الحمد باقياً (إلى يَوْمِ القِيامَةِ) فلا ينقطع الحمد مني له سبحانه (حَمْداً لا مُنْتَهى لِحَدِّهِ) من جهة الكيفية والحسن (وَلا حِسابَ لِعَدَدِهِ) من جهة الكمية (وَلا مَبْلَغَ لِغايَتِهِ) من جهة البقاء والدوام (وَلا انْقِطاعَ لأَمَدِهِ) عبارة أخرى عن الجملة السابقة، وقد تقدم أن المراد بمثل هذه المحامد إظهار ما في النفس من كثرة حب المادح له تعالى، حتى لا يتمكن إلا بالإشارة إلى تلك الكثرة ولا يتسنى له البسط لعدم القدرة، كما إذا قلت: أحبه ألف حب، تريد بذلك إظهار مقدار حبك له حتى إنّه ألف مثل حب الناس بعضهم لبعض، فتشير إلى ذلك بهذه اللفظة.


 


(حَمْداً يَكُوْنُ وُصْلَةً) أي موصلاً (إلى طاعَتِهِ) فإن الإنسان إذا حمده سبحانه وفقه الله تعالى لطاعته (وَعَفْوِهِ) عن سيئاته (وَسَبَباً إِلى رِضْوانِهِ) أي رضاه تعالى من الحامد (وَذَريعَةً) أي وسيلة (إلى مَغْفِرَتِهِ) أي غفرانه وستره لذنوب الحامد (وَطَريقاً إلى جَنَّتِهِ) فإن هذا الحمد يكون سبباً لدخول الجنة، فكأنه طريق إليها (وَخَفيراً) أي مجيراً (مِنْ نَقِمَتِهِ) أي عقابه (وَأمْناً مِنْ غَضَبِهِ) فيأمن الحامد من أن يغضب عليه سبحانه (وَظهيراً عَلى طاعَتِهِ) أي يكون ذلك الحمد معيناً للإنسان في طاعة الله تعالى، إذ الحمد يوجب التوفيق (وَحَاجِزِاً) أي مانعاً (عَنْ مَعْصيَتِهِ) فيحول ذلك الحمد بين الإنسان وبين المعاصي بصرف إرادته عن الإتيان بها (وَعَوْناً عَلى تأدِيةِ حَقِّهِ) أي أداء حق الله تعالى، وحقه الإتيان بالواجبات والترك للمحرمات (وَوَظآئِفِهِ) أي تكاليفه التي أمر الناس بها.


 


(حَمْداً نَسْعَدُ بِهِ في) جملة (السُّعَداء مِنْ أوْلِيآئِهِ) وأحبائه، حتى نكون بسبب ذلك الحمد في جملتهم (وَنَصيرُ بِهِ) أي بسبب ذلك الحمد (في نَظْمِ الشُّهَداء) أي ننتظم ونجتمع معهم في الثواب والفضيلة (بِسُيُوفِ أعْدائهِ) حتى يكون لنا من الأجر مثل ما لهم (إنَّهُ) تعالى (وَليٌّ) أي ناصر للإنسان ومحب له (حَميدٌ) أي محمود في ولايته وأعماله.


[1] سورة فصلت ، الآية: 44 .
[2] تفسير نور الثقلين: ج5، ص96.
[3] نهج البلاغة: الخطبة 156 .
[4] نهج البلاغة: الخطبة 176 .
[5] كشف الغمة: 2|195.
[6] بحار الانوار، ج8، ص133.
[7] إرشاد القلوب:81.
[8] إرشاد القلوب:81.
[9] الدعاء الثاني والأربعون من الصحيفة السجادية .
[10] سورة المائدة ، الآية: 48 .
[11] سورة يوسف ، الآية: 3 .
[12] سورة الفرقان ، الآية: 1 .
[13] سورة هود ، الآية: 1 .
[14] في ظلال الصحيفة السجادية: موضع الشرح .
[15] سورة الأعراف ، الآية:204.
[16] سورة الأنفال ، الآية: 2 .
[17] سورة الأعلى ، الآيتان: 11 - 12 .
[18] سورة البقرة ، الآية: 143 .
[19] سورة آل عمران ، الآية: 7 .
[20] سورة آل عمران ، الآية: 7 .
[21] سورة النساء ، الآية: 23 .
[22] سورة المائدة ، الآية: 3 .
[23] سورة البقرة ، الآية: 110 .
[24] سورة الفاتحة ، الآية: 6 .
[25] سورة الأنعام ، الآية: 103.
[26] سورة الإسراء ، الآية: 36 .
[27] سورة الأعراف ، الآية: 200 .
[28] أصول الكافي: ج2 ، ص611 .
[29] سورة النور ، الآية: 24 .
[30] سورة الحشر ، الآية: 21 .
[31] سورة القيامة ، الآية: 27 .
[32] سورة الطور ، الآية: 21 .
[33] سورة المؤمنون ، الآية: 29 .
[34] بحار الأنوار: ج6 ، ص205 .
[35] سورة الأنعام ، الآية: 132 .
[36] سورة النازعات ، الآيتان: 34 - 35.
[37] سورة الشورى ، الآية: 23 .
[38] سورة آل عمران ، الآية: 8 .
[39] الدعاء الأول من الصحيفة السجادية .
[40] مفردات الراغب: ص38 .
[41] في رحاب الصحيفة السجادية: موضع الشرح .
[42] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج1 ،ص452 .
[43] سورة آل عمران ، الآية: 103 .
[44] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج21 ،ص324 .
[45] بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: ج11 ،ص329 .
[46] سورة الاسراء، الآية: 44 .
[47] سورة النحل ، الآية: 114 .
[48] سورة إبراهيم ، الآية: 7 .
[49] البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص107.
[50] بحار الأنوار: ج68 ، ص32 .
[51] سورة المؤمنون ، الآية: 100 .
[52] ميزان الحكمة: ج1 ، ص252 .
[53] سورة المطففين ، الآيتان: 20 – 21 .
[54] سورة القيامة ، الآية: 7 .
[55] سورة آل عمران ، الآية: 107 .
[56] سورة التين ، الآية: 4 .
[57] سورة غافر ، الآية: 64 .
[58] سورة النجم ، الآية: 48 .
[59] سورة آل عمران ، الآية: 179 .
[60] سورة الفرقان ، الآية: 70 .
[61] سورة البقرة ، الآية: 54 .
[62] سورة البقرة ، الآية: 286 .
[63] سورة البقرة ، الآية: 286 .
[64] سورة البقرة ، الآية: 185 .