لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

صفات المؤمنين في القرآن الكريم
 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الاولى: شباط 2010م - صفر 1431هـ
 

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

 الدرس السابع: إمرأت فرعون (مثلاً للذين آمنوا)

51

 الدرس الثامن: المؤمنون إخوة

60

 الدرس التاسع: الايمان والعمل الصالح ثمرتهما الجنة

68

 الدرس العاشر: لا يتزلزل إيمان المؤمن القوي

73

 


  الدرس السابع: إمرأت فرعون (مثلاً للذين آمنوا)


 يضرب لنا سبحانه وتعالى نماذج من النساء المؤمنات والكافرات بعد الحديث عن الجهاد فيقول:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) سورة التحريم


اللغة:

فخانتا: قال الراغب في « المفردات» إن للخيانة والنفاق معنى واحداً وحقيقة واحدة، هي الخيانة التي تقابل العهد والأمانة، والنفاق في الأمور الدينية.


التّفسير:

نماذج من النساء المؤمنات والكافرات:

بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والإختلافات بين زوجاته ـ التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة ـ بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم. حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.

الجهاد ضدّ الكفّار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح، أمّا الجهاد ضدّ المنافقين فإنّه بدون شكّ جهاد غير مسلّح، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرّسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين. لهذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): «إنّ رسول الله لم يقاتل منافقاً قطّ إنّما يتألّفهم».(27)

وبناءً على ذلك فإنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان. فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك. والتعبير بـ «أغلظ عليهم» إشارة إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم، وما إلى ذلك.

ويبقى هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين، أي عدم الصدام المسلّح معهم، ما داموا لم يحملوا السلاح ضدّ الإسلام وذلك بسبب أنّهم مسلمون في الظاهر، وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفّار، أمّا إذا حملوا السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل، لأنّهم سوف يتحوّلون إلى (محاربين).

ولم يحدث مثل ذلك أيّام حياة الرّسول (ص) لكنّه حدث في خلافة أمير المؤمنين علي (ع) حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود من «الجهاد ضدّ المنافقين» الذي ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقّهم، فإنّ أكثر الذين كانوا تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين. ولكن لا دليل على ذلك، كما لا دليل على أنّ الحدود كانت تجرى على المنافقين غالباً.

الجدير بالذكر أنّ الآية السابقة قد وردت مرة أخرى بنفس النصّ في سورة التوبة الآية 73.

 

ومن أجل أن يعطي الله تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرّسول الأعظم (ص) عاد مرّة اُخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة، حيث يقول أوّلا: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرّسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكلّ المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.

وورد في كلمات بعض المفسّرين أنّ زوجة نوح كانت تدعى «والهة» وزوجة لوط «والعة» بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة).

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله. والخيانة هنا لا تعني الإنحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرّسول (ص): «ما بغت امرأة نبي قطّ».

كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (ع).

وعلى كلّ حال فإنّ الآية السابقة تبدّد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أنّ مجرّد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم من عذاب الله، ومن أجل أن لا يظنّ أحد أنّه ناج من العذاب لقربه من أحد الأولياء، جاء في نهاية الآية السابقة: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.

 

ثمّ يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ}.

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى (ع) أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الإستسلام إطلاقاً.

وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في رواية عن الرّسول (ص): «أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون».(28)

ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك. لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راع كموسى.

وفي عبارة {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تضرب مثلا رائعاً للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة، أو تتخلّى عن إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا.

لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حدّاً ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي إختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.

وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة «في الجنّة»، والبعد المعنوي وهو القرب من الله «عندك» وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة.

 

ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل:

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا}.

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اُولي العزم).

ويضيف تعالى قائلا: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} و {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.

كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.

ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة).

وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).

على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.

والتعبير بـ ( ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، أو بعبارة اُخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى «الله» إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة «بيت» إلى «الله».


فوائد

1 - صفات الزوجة الصالحة:

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجاً يقتدى به في إنتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل «الإسلام» ثمّ «الإيمان» أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان. ثمّ حالة «القنوت» أي التواضع وطاعة الزوج. بعد ذلك «التوبة» ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنباً بحقّ زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك. وتأتي بعد ذلك «العبادة» التي جعلها الله سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد، ثمّ «إطاعة أوامر الله» والورع عن محارمه.

وممّا يذكر أنّ جماعة من المفسّرين ـ بل أكثرهم ـ اعتبروا كلمة «سائح» بمعنى «صائم» ولكن طبقاً لما أورده «الراغب» في «المفردات» فإنّ الصوم على قسمين: «صوم حكمي»: وهو الإمتناع عن تناول الطعام والماء، و«صوم حقيقي»: وهو إمتناع أعضاء الإنسان عن إرتكاب المعاصي.

والمقصود بالصوم هنا هو المعنى الثاني، «إذ أنّ مناسبات الحال والمقام تقوّي قول الراغب وتجعله مناسباً، غير أنّه يجب أن يعلم أنّ السائح فسّر أيضاً بمعنى السائر في طريق طاعة الله».

ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن لم يعط أهميّة تذكر للباكر وغير الباكر، فإنّه عندما ذكر الصفات المعنوية للزوجة الصالحة ذكر هذه المسألة بصورة عابرة ودون أي تركيز.


2 - من هم (صالح المؤمنين)؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ صالح المؤمنين، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ورغم أنّ كلمة (صالح) وردت هنا بصيغة المفرد، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنّها تتضمّن معنى الجنس.

ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتمّ لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين (ع).

في حديث عن الإمام الباقر (ع) يقول: «لقد عرّف رسول الله علياً أصحابه مرّتين: أمّا مرّة فحيث قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية: ( فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين...) أخذ رسول الله بيد علي فقال: أيّها الناس، هذا صالح المؤمنين!!؟»

وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنّة منهم العلاّمة «الثعلبي» و«الكنجي» في «كفاية الطالب» و«أبو حيّان الأندلسي» و«السبط ابن الجوزي» وغيرهم.(29)

وقد أورد جمع من المفسّرين منهم «السيوطي» في «الدرّ المنثور» في ذيل الآية مورد البحث و«القرطبي» في تفسيره المعروف، وكذلك «الآلوسي» في «روح المعاني» في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية.

وبعد أن نقل مؤلّف (روح البيان) هذه الرواية عن (مجاهد) قال: ويؤيّد هذه الرواية الحديث المعروف: «حديث المنزلة» الذي وصف فيه الرّسول مكانة علي (ع) منه بقوله لعلي «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» نظراً لأنّ عنوان الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء. منها ( وكلا جعلنا صالحين) (سورة الأنبياء الآية 72) و ( ألحقني بالصالحين) (123). (حيث أطلق في الاُولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف).

ولكون علي بمنزلة هارون فإنّه سيكون كذلك مصداقاً لـ (الصالح) (فتأمّل)!

خلاصة القول: أنّ هناك عدداً كثيراً من الأحاديث وردت في هذا المجال، فبعد أن نقل المفسّر المعروف (المحدّث البحراني) في تفسير البرهان رواية في هذا المجال عن محمّد بن عبّاس أنّه جمع 52 حديثاً تتناول هذا الموضوع من طريق الشيعة والسنّة ثمّ قام هو بنقل بعضها.(30)


3 - عدم رضا الرّسول عن بعض زوجاته

هناك على طول التاريخ عظماء كثيرون لم يحظوا بزوجات تناسب شأنهم وإهتماماتهم، ونتيجة لعدم توفّر الشروط اللازمة بزوجاتهم، فقد ظلّوا يعانون من ذلك كثيراً، وقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هذه المعاناة وقعت للأنبياء العظام.

وربّما توضّح الآيات السابقة أنّ معاناة الرّسول (ص) من بعض أزواجه كانت من هذا القبيل، فنظراً لوجود الغيرة والتسابق فيما بينهنّ كنّ يسبّبن متاعب للنبي الكريم. فقد كنّ أحياناً يعترضن عليه أو يفشين سرّه، الأمر الذي جعل القرآن الكريم يوجّه لهنّ خطاباً مباشراً بالتوبيخ وأصدر أقوى البيانات في هذا المجال، حتّى أنّه هدّدهنّ بالطلاق. وقد لاحظنا الرّسول قد غضب على زوجاته وأظهر عدم رضاه لمدّة شهر تقريباً بعد نزول هذه الآيات أملا في إصلاحهنّ.

ويمكن أن نلاحظ بشكل واضح ـ من خلال حياة الرّسول (ص) ـ أنّ بعض زوجاته لم يدركن مقام النبوّة فحسب، بل قد يتعاملن معه كإنسان عادي، وأحياناً يتعرضنّ له بالإهانة.

وبناءً على هذا فإنّه لا معنى للإصرار على أنّ جميع زوجات الرّسول كنّ على قدر عال من الكمال واللياقة.

ولم يكن هذا المعنى مقتصراً على حياة الرّسول فقط، فبعد وفاته نقل لنا التاريخ أمثلة مشابهة.

ومن الواضح أنّ هناك آيات تصرح: بأنّ الله سيعطي النبي زوجات صالحات تتوفّر فيهنّ الصفات المذكورة في الآيات إذا طلّقكن وسرحكن، وهذا يكشف عن أنّ هناك من زوجات الرّسول ممّن لا تتوفّر فيهنّ تلك الصفات والشروط.

ويؤيّد ذلك ما جاء في سورة الأحزاب حول زوجات الرّسول.


4 - إفشاء السرّ:

إنّ حفظ السرّ والمحافظة عليه وعدم إفشائه، ليس فقط من صفات المؤمنين، بل هي صفة ينبغي توفّرها بكلّ إنسان ذي شخصية قويّة محترمة، وتتجلّى أهميّة هذه الصفة أكثر مع الأصدقاء والأقرباء وبالأخصّ بين الزوج والزوجة. ونلاحظ أنّ القرآن لام أزواج النبي بشدّة ووبّخهنّ على إفشائهنّ للسرّ وعدم محافظتهنّ عليه.

ورد عن أمير المؤمنين قوله: «جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار».

 


  الدرس الثامن: المؤمنون إخوة


تحدث سبحانه وتعالى عن كل الخلافات بين المؤمنين بقوله:

وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)  سورة الحجرات


 اللغة:

أقسطوا: القسط العدل


سبب النّزول:

ورد في شأن نزول الآيتين ـ هاتين ـ أنّ خلافاً وقع بين قبيلتي «الأوس» و«الخزرج» «وهما قبيلتان معروفتان في المدينة» أدّى هذا الخلاف إلى الإقتتال بينهما وأن يتنازعا بالعصي والهراوات والأحذية فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وعلّمت المسلمين سبيل المواجهة مع أمثال هذه الحوادث.(31)                                  

وقال بعضهم: حدث بين نفرين من الأنصار خصومة واختلاف! فقال أحدهما للآخر: سآخذ حقّي منك بالقوة لأنّ قبيلتي كثيرة، وقال الآخر: لنمضِ ونحتكم عند رسول الله، فلم يقبل الأوّل، فاشتدّ الخلاف وتنازع جماعة من قبيلتيهما بالعصي والأحذية و«حتى» بالسيوف، فنزلت الآيتان آنفتا الذكر وبيّنت وظيفة المسلمين في مثل هذه الأُمور.(32)


التّفسير:

المؤمنون أخوة:

يقول القرآن هنا قولاً هو بمثابة القانون الكلّي العام لكلّ زمان ومكان: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.

وصحيح أنّ كلمة «اقتتلوا» مشتقّة من مادة القتال ومعناها الحرب، إلاّ أنّها كما تشهد بذلك القرائن تشمل كلّ أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة «العسكرية» ويؤيّد هذا المعنى أيضاً بعض ما نقل في شأن نزول الآية...

بل يمكن القول: إنّه لو توفّرت مقدّمات النزاع كالمشاجرات اللفظية مثلاً التي تجرّ إلى المنازعات الدامية فإنّه ينبغي وطبقاً لمنطوق الآية أن يُسعى إلى الإصلاح بين المتنازعين، لأنّه يمكن أن يستفاد هذا المعنى من الآية المتقدّمة عن طريق إلغاء الخصوصية.

وعلى كلّ حال، فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلاّ تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الأُمور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الأولى عند مواجهة أمثال هذه الأُمور.

ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} ولم تستسلم لاقتراح الصلح {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.

وبديهيٌّ أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة ـ في هذه الأثناء ـ فإثمها عليها، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر، وإن كانوا مسلمين، لأنّ الفرض أنّ النزاع واقع بين طائفتين من المؤمنين...

وهكذا، فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضاً، ولكن لا يكون ذلك إلاّ إذا فشلت الحلول السلمية.

 

ثمّ يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول: {فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}.

أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع، وإلاّ فإنّه بمرور الزمن ما أن يُحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض ثانية ويثير النزاع.

قال بعض المفسّرين: يستفاد من التعبير «بالعدل» أنّه لو كان حقّ مضاع بين الطائفتين أو دم مراق وما إلى ذلك ممّا يكون منشأ للنزاع فيجب إصلاحه أيضاً، وإلاّ فلا يصدق عليه «إصلاح بالعدل».(33)                                   

وحيث أنّه تميل النوازع النفسية أحياناً في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء الى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض «الإستقامة» عند القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.

والآية التالية تضيف ـ لبيان العلّة والتأكيد على هذا الأمر قائلةً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}.

فكما تسعون للإصلاح بين الأخوين في النَسَب، فينبغي أن لا تألوا جهداً في الدخول بصورة جادّة للإصلاح بين المؤمنين المتخاصمين بعدالة تامّة!

وما أحسنه من تعبير وكم هو بليغ إذ يعبّر القرآن عن جميع المؤمنين بأنّهم «أخوة» وأن يسمّي النزاع بينهم نزاعاً بين الأخوة! وأنّه ينبغي أن يبادر إلى إحلال الإصلاح والصفاء مكانه...

وحيث أنّه في كثير من الأوقات تحل «الروابط» في أمثال هذه المسائل محل «الضوابط» فإنّ القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرّةً أُخرى قائلاً: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

وهكذا تتّضح إحدى أهم المسؤوليات الإجتماعية على المسلمين في ما بينهم في تحكيم العدالة الإجتماعية بجميع أبعادها.


فائدتان

الأولى: شروط قتال أهل البغي «البُغاة»

هناك باب في الفقه الإسلامي بعنوان: «قتال أهل البغي» ضمن كتاب الجهاد، والمراد منه قتال الظَلَمة الذين ينهضون بوجه «الإمام العادل في المسلمين» وقد وردت فيهم أحكام كثيرة في هذا الباب...

إلاّ أنّ ما أثارته الآية الآنفة موضوع آخر، وهو النزاع الواقع بين الطائفتين المؤمنين، وليس في هذا النزاع نهوض بوجه إمام المسلمين العادل ولا نهوض بوجه الحكومة الإسلامية الصالحة. وقد أراد بعض الفقهاء أو المفسّرين أن يستفيدوا من هذه الآية «في المسألة السابقة» إلاّ أنّ هذا الإستدلال كما يقول الفاضل «المقداد» في «كنز العرفان» خطأ بيّن. لأنّ القيام والنهوض بوجه الإمام العادل موجب للكفر، في حين أنّ النزاع بيّن المؤمنين موجب للفسق فحسب لا الكفر، ولذلك فإنّ القرآن المجيد عبّر عن الطائفتين بالمؤمنين وسمّاهم أخوةً، فلا يصحّ تعميم أحكام أهل البغي على أمثال هؤلاء!...

ومن المؤسف أنّنا لم نعثر على بحث في الفقه في شأن أحكام هذه الطائفة، إلاّ أنّ ما يستفاد من الآية المتقدّمة بضميمة القرائن الأُخَر وخاصةً ما ورد من إشارات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الأحكام التالية!...

إنّ الإصلاح بين الطوائف المتنازعة «من المسلمين» أمر واجب كفائي.

ينبغي لتحقّق هذا الأمر أن يُشرع أوّلاً من المراحل البسيطة وأن تراعى قاعدة «الأسهل فالأسهل» إلاّ أنّه إذا لم ينفع ذلك فيجوز عندئذ المواجهة المسلّحة بل تلزم أحياناً...

ما يسفك من دم البغاة في هذا السبيل وما تذهب منهم من أموال كلّها هدر، لأنّ حكم الشرع قد امتثل وأُديّت الوظيفة الواجبة، والأصل في مثل هذه الموارد عدم الضمان!

لا حاجة لإذن حاكم الشرع في مراحل الإصلاح عن طريق الكلام والمباحثات، إلاّ أنّه لابدّ من الإذن عند اشتداد العمل ولا سيما إذا انتهى الأمر إلى سفك الدماء، فلا يجوز عندئذ الإقدام بأيّ عمل إلاّ بأمر الحكومة الإسلامية وحاكم الشرع! إلاّ في الموارد التي لا يمكن الوصول إلى حاكم الشرع بأي وجه، فللعدول عندئذ وأهل الخبرة من المؤمنين أن يتّخذوا القرار الذي يرونه...

في حالة ما لو سفكت الطائفة الباغية والظالمة دماً من «الجماعة المصلحة» أو نهبت أموالاً منها، فهي ضامنة بحكم الشرع ويجري القصاص منها في صورة وقوع قتل العمد، وكذلك في مورد تسفك فيه دماء من الطائفة المظلومة أو تتلف منها أموالها فإنّ حكم القصاص والضمان ثابت أيضاً وما يقال من أنّه بعد وقوع الصلح لا تتحمّل الطائفة الباغية مسؤولية الدماء المسفوكة والأموال المهدورة لأنّه لم تشر إليه الآية ـ محل البحث ـ غير صحيح، والآية ليست في مقام بيان جميع هذا المطلب، بل المرجع في مثل هذه الموارد هو سائر الأصول والقواعد الواردة في أبواب القصاص والإتلاف...

حيث أنّ الهدف من هذه المقاتلة والحرب حمل الطائفة الباغية على قبول الحق، فعلى هذا لا تثار في الحرب مسألة «أسرى الحرب والغنائم» لأنّ الطائفتين بحسب الفرض مسلمتان، إلاّ أنّه لا مانع من الأسر مؤقتاً لإطفاء نائرة النزاع ولكن بعد حل النزاع والصلح يجب إطلاق الأسرى فوراً...

قد يتفق أحياناً أن يكون طرفا النزاع باغيين، فهذا الطرف قتل جماعة من القبيلة الأُخرى وسلب ماله، وذلك الطرف قتل جماعة من هذه القبيلة والطائفة وسلب أموالها دون أن يقنع كلّ منهما بالمقدار اللازم من الدفاع سواءً كان الطرفان «الطائفتان» بمستوى واحد من الظلم والبغي أو بعضهما أكثر اعتداءً والآخر أقل!

وبالطبع فإنّ الحكم في شأن هذا المورد لم يرد صراحةً في القرآن، لكن يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق إلغاء الخصوصية من الآية محل البحث، وهو أنّ وظيفة المسلمين أن يصلحوا بين الطرفين، وإذا لم يوافقا على الصلح فلابدّ من قتالهم جميعاً حتى يفيء كلٌّ إلى أمر الله، ما ذكرناه آنفاً من أحكام في شأن الباغي والظالم جار في الطرفين...

وفي ختام هذا الكلام نؤكّد مرّةً أُخرى أنّ حكم هؤلاء البغاة منفصل عن حكم الذين يقفون بوجه الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية العادلة، فإنّ لهذه الطائفة الأخيرة أحكاماً أشدّ وأصعب واردة في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي.


الثّاني: أهميّة الأخوة الإسلامية

إنّ جملة: (إنّما المؤمنون أخوة) الواردة في الآيات المتقدّمة واحدة من الشعارات الأساسية و«المتجذّرة» في الإسلام، فهي شعار عميق، بليغ، مؤثر وذو معنى غزير...

إنّ الآخرين حين يريدون إظهار مزيد من العلاقة بمن يشاركهم في المنهج والعمل، يعبّرون عنهم بالرفاق، «أو الرفيق للمفرد» إلاّ أنّ الإسلام رفع مستوى الإرتباط والحب بين المسلمين إلى درجة جعلها بمستوى أقرب العلائق بين شخصين وهي علاقة الأخوين التي تقوم العلاقة بينهما على أساس المساواة والتكافؤ.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوّة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب...

ففي مناسك الحج مثلاً حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والإرتباط والإنسجام والوشائج محسوسة وميداناً للتحقّق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم...

وبتعبير آخر إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعاً بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعاً بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار، بل في العمل والتعهّدات المتماثلة أيضاً، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضاً ولا سيما في ما يخص الجوانب العملية ونحن نذكر هنا على سبيل المثال بعضاً من الأحاديث التالية:

ورد عن النّبي الأكرم (ص) أنّه قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه».(34)           

وورد عنه (ص) أنّه قال: «مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأُخرى».(35)

ويقول الإمام الصادق (ع): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة».(36)

كما نقرأ حديثاً آخر عنه (ع) يقول فيه: «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشّه ولا يعده عدةً فيخلفه».(37) وهناك روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامية المعروفة في ما يتعلّق بحق المؤمن على أخيه المسلم وأنواع حقوق المؤمنين بعضهم على بعض وثواب زيارة الإخوان المؤمنين «والمصافحة والمعانقة» وذكرهم وإدخال السرور على قلوبهم وخاصةً قضاء حاجاتهم والسعي في إنجازها وإذهاب الهم والغم عن القلوب وإطعام الطعام وإكسائهم الثياب وإكرامهم وإحترامهم، ويمكن مطالعتها في أصول الكافي في أبواب مختلفة تحت العناوين الآنفة.

 

وفي ختام هذا المطاف نشير إلى رواية هي من أكثر الروايات «جمعاً» في شأن حقوق المؤمن على أخيه المؤمن التي تبلغ ثلاثين حقّاً!...

قال رسول الله (ص): «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً، لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو!

يغفر زلّته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته، ويرعى ذمّته، ويعود مرضه، ويشهد ميّته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمّت عطسته، ويرشد ضالّته، ويردّ سلامه، ويطيب كلامه، ويُبرّ أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليّه، ولا يعاديه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يُحبّ لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه».

وعلى كلّ حال فإنّ واحداً من حقوق المسلمين بعضهم على بعض هو مسألة الإعانة وإصلاح ذات البين كما ورد في الآيات المتقدّمة والروايات الآنفة «وكان لنا في التفسر الأمثل بحث في «إصلاح ذات البين» ذيل الآية الأولى من سورة الأنفال»...(38)

 


  الدرس التاسع: الايمان والعمل الصالح ثمرتهما الجنة


 يتحدث سبحانه وتعالى عن الايمان والعمل الصالح وثمرتهما بقوله:

وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) سورة البقرة


اللغة:

بشر: البشارة هي الاخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقاً لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة وقد قيل للاخبار بما يعمّ أيضاً بشارة كقوله تعالى:«وبشرهم بعذاب أليم» وذلك على سبيل التوسع وهي مأخوذة من البشرة وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر وتباشر الصبح أوله.

جنات: جمع جنة وهي البستان والمراد بذلك الجنة.

أزواج: جمع زوج والزوج يقع على الرجل والمرأة ويقال للمرأة زوجة أيضاً وزوج كل شيء شكله.

خالدون: الخلود الدوام والبقاء.


التّفسير:

خصائص نِعَم الجنّة:

هذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين، على الطريقة القرآنية في التوضيح.

المقطع الأوّل في الآية يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

نعلم أن البساتين التي تفتقد الماء الدائم، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبداً. ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنّة.

وبعد الإِشارة إلى ثمار الجنّة المتنوعة تقول الآية: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ}.

ذكر المفسرون لهذا المقطع من الآية تفاسير متعددة:

قال بعضهم: المقصود من قولهم: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} هو أن هذه النعم أغدقت علينا بسبب ما أنجزناه من عمل في الحياة الدنيا، وغرسنا بذوره من قبل.

وقال بعض آخر: عندما يؤتى بالثمار إلى أهل الجنّة ثانية يقولون: هذا الذي تناولناه من قبل، ولكنهم حين يأكلون هذه الثمار يجدون فيها طعماً جديداً ولذّة اُخرى، فالعنب أو التفاح الذي نتناوله في هذه الحياة الدنيا مثلا له في كل مرّة نأكله نفس طعم المرّة السابقة، أمّا ثمار الجنّة فلها في كلّ مرّة طعم وإن تشابهت أشكالها، وهذه من إمتيازات ذلك العالم الذي يبدو أنه خال من كل تكرار!

وقال آخرون: المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنّة يلقونها شبيهة بثمار هذه الدنيا، فيأنسون بها ولا تكون غريبة عليهم، ولكنهم حين يتناولونها يجدون فيها طعماً جديداً لذيذاً.

ويجوز أن تكون عبارة الآية متضمنة لكل هذه المفاهيم والتفاسير، لأن ألفاظ القرآن تنطوي أحياناً على معان.

ثم تقول الآية: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً}، أي متشابهاً في الجودة والجمال. فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الاُخرى، خلافاً لثمار هذا العالم المختلفة في درجة النضج والرائحة واللون والطعم.

وآخر نعمة تذكرها الآية هي نعمة {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من كل أدران الروح والقلب والجسد.

أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها، فصاحب النعمة يقلقه زوال هذه النعمة، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والإطمئنان. أمّا نِعم الجنّة ففيها السعادة والطمأنينة لأنها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء. وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.


بحوث

1 - «الإيمان» و«العمل»:

في كثير من الآيات القرآنية يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح، حتى كان الاثنين متلازمان دونما افتراق. والحق كذلك، لأن الإيمان والعمل يكمل بعضها الآخر.

لو نفذ الإيمان إلى أعماق النفس لتجلت آثاره في الأعمال حتماً، مثله كمثل مصباح لو أضاء في غرفة لشع نوره من كل نوافذ الغرقة. ومصباح الإيمان كذلك لو شعّ في قلب إنسان، لسطع شعاعه من عين ذلك الإنسان وأُذنه ولسانه ويده ورجله.

يقول تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة الطلاق: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.

ويقول في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور:

 {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ}.

فالإِيمان بمثابة جذر شجرة والعمل الصالح ثمرتها. ووجود الثمر السليم دليل على سلامة الجذر. ووجود الجذر السليم يؤدي إلى نموّ الثمر الطيب.

من الممكن أن يصدر عمل صالح أحياناً عن أفراد ليس لهم إيمان، ولكن ذلك لا يحدث باستمرار حتماً. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإِيمان المتغلغل في أعماق وجود الإنسان، الإِيمان الذي يضع الإِنسان دوماً أمام مسؤولياته.


2 - الأزواج المطهّرة:

ممّا يلفت النظر في هذه الآية أن الوصف الوحيد الذي استعمله القرآن لمدح الأزواج في جنّات النعيم هو أنّها «مطهرة». وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر». وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي.

روي عن رسول الله (ص) أنه قال: «إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنْ. قَيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا خَضْرَاءُ الدّمَنْ؟ قَال: الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ في مَنْبَتِ السُّوءِ».(39)


3 - النِعم المادية والمعنوية في الجنّة:

ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة مثل: جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة، وأزواج مطهرة، وثمار متنوعة، وخلاّن متحابين. ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعماً أهم منها هي النعم المعنوية التي لا نستطيع أن نفهم عظمتها بمقاييسنا، كقوله: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.(40)

وفي آية اُخرى يقول سبحانه بعد ذكر النعم المادية: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.(41)

لو بلغ الإنسان هذه المرتبة حيث يرضى الله عنه ويرضى عن الله لأَحسّ بلذّة لا ترقى إليها لذّة، ولهانت في نظر هذا الإنسان سائر اللذات، عندها يرتبط هذا الإنسان بالله ولا يفكر بما سواه، وهي مرتبة يعجز القلم واللسان عن وصف سموّها وأبعادها.

بعبارة موجزة: كما أن للمعاد جانباً روحياً جسمياً، كذلك نِعم الجنة ذات جانبين أيضاً، كي تكون جامعة وقابلة لاستفادة أهل الجنة جميعاً، كلٌّ على قَدَر كفاءته ولياقته.

 


  الدرس العاشر: لا يتزلزل إيمان المؤمن القوي


 يتحدث سبحانه وتعالى عن إيمان النبي (ص) الذي لا يتزلزل وكذلك عن المؤمنين فيقول:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)  سورة البقرة


اللغة:

آمن: صدق

المصير: جعل مصيرهم ورجوعهم الى جزائه مصيراً إليه


التّفسير:

علائم الإيمان وطريقه:

لقد شرعت سورة البقرة ببيان بعض المعارف الإسلامية والاعتقادات الحقّة واختتمت بهذه المواضيع أيضاً كما في الآية أعلاه والآية التي بعدها، وبهذا تكون بدايتها ونهايتها متوافقة ومنسجمة.

وقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية أنّه حين نزلت الآية السابقة وأنّ الله تعالى يعلم ما في أنفسكم ويحاسبكم بما أظهرتم وأخفيتم في قلوبكم، خاف بعض الصحابة وقالوا: ليس أحدٌ منّا إلاّ وفي قلبه خطرات ووساوس شيطانيّة، فعرضوا الأمر على رسول الله (ص) فنزلت الآية أعلاه، وبيّنت طريق الحقّ والإيمان، ومنهج التضرّع والمناجاة والتسليم لأوامر الله تعالى.

في البداية تقول {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} فهذا المعنى وهذه الخصيصة تعتبر من إمتيازات الأنبياء الإلهيين جميعاً بأنّهم مؤمنون بما جاءوا به إيماناً قاطعاً، فلا شكّ ولا شبهة في قلوبهم عن معتقداتهم، فقد آمنوا بها قبل الآخرين واستقاموا وصبروا عليها قبل الآخرين.

ونقرأ في الآية 158 من سورة الأعراف أنّ هذه الخصيصة تعتبر من صفات الرسول الأكرم ومن إمتيازاته حيث تقول: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ}.

ثمّ تضيف الآية الكريمة: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وهذه الجملة الأخيرة من كلام المؤمنين أنفسهم، حيث يؤمنون بجميع الأنبياء والمرسلين وشرائعهم بخلاف البعض من الناس الذين تقول عنهم الآية 150 من سورة النساء {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.

المؤمنون لا يرون تفاوتاً بين رسل الله من جهة أنّهم مرسلون من قبل الله تعالى، ويحترمونهم ويقدّسونهم جميعاً. ومعلوم أنّ هذا الموضوع لاينافي مقولة نسخ الشرائع السابقة بواسطة الشريعة البعديّة، لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ تعليمات الأنبياء وشرائعهم من قبيل المراحل الدراسيّة المختلفة من الإبتدائية والمتوسطة والاعدادية والجامعة، فبالرغم من أنّها تشترك جميعاً في الاُصول والمباديء الأساسيّة، إلاَّ أنّها تختلف في السطوح والتطبيقات المختلفة، فعندما يرتقي الإنسان إلى مرحلة أسمى فإنّه يترك البرامج المعدّة للمرحلة السابقة ويأخذ بالبرامج المعدّة لهذه المرحلة، ومع ذلك يبقى إحترامه وتقديسه للمرحلة السابقة في محلّه.

ثمّ تضيف الآية أنّ المؤمنين مضافاً إلى إيمانهم الراسخ والجامع فإنّهم في مقام العمل أيضاً كذلك {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.

(سمعنا) وردت في بعض الموارد بمعنى فهمنا وصدّقنا من قبيل هذه الآية، أي أنّنا قبلنا دعوة أنبيائك بجميع وجودنا وعلى إستعداد تام للإطاعة والإتّباع.

ولكن يا إلهنا وربّنا نحن بشر وقد تتسلط علينا الغرائز والأهواء وتجرّنا إلى المعصية أحياناً، ولهذا ننتظر عفوك ونتوقع منك المغفرة لأنّ مصيرنا إليك.

وبهذا يتناغم الإيمان بالمبدأ والمعاد مع الإلتزام العملي بجميع الأحكام الشرعيّة والدساتير الإلهيّة.


العقاب على النسيان والخطأ:

لماذا الدعاء لأن يغفر الله الذنوب المرتكبة نسياناً أو خطأً ؟

فهل الله يعاقب على مثل هذه الذنوب ؟

في الجواب لابدّ من القول بأنّ النسيان يكون أحياناً من باب التماهل والتساهل من جانب الإنسان نفسه. بديهيّ أنّ هذا النوع من النسيان لا يضع المسؤولية عن الإنسان، كما جاء في القرآن.

{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} (42) وعليه فإنّ النسيان الناشيء عن التساهل يوجب العقاب.

ثمّ لابدّ من ملاحظة أنّ هناك فرقاً بين النسيان والخطأ. فالخطأ يقال عادة في الاُمور التي تقع لغفلة من الإنسان وعدم انتباه منه، كأن يطلق رصاصة ليصيد صيداً فتصيب رصاصته إنساناً فتجرحه. أمّا النسيان فهو أن يتّجه الإنسان للقيام بعمل ما ولكنّه ينسى كيف يقوم بذلك، كأن يعاقب المرء إنساناً بريئاً ظنّاً منه أنّه المذنب، لنسيانه مميّزات المذنب الحقيقي.

{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} البقرة 286.

«الإصر» عقد الشيء وحبسه. وتطلق على الحمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة. وكذلك العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان. ولهذا تطلق هذه الكلمة على العقاب أيضاً.

وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين: الأوّل أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعة الله، وهذا هو ما ورد على لسان النبيّ (ص)بشأن التعاليم الإسلامية، إذ قال «بعثت بالشريعة السهلة السمحة».

هنا قد يسأل سائل: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلماذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها ؟

في الجواب نقول: تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر.

وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الإمتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة 286). ونرى في الفقرة السابقة صيغة (لاتحمل)، وهنا نرى عبارة (لا تحمّل)، فالأُولى تستعمل عادة في الاُمور الصعبة، والثانية فيما لا يطاق.

{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ} البقرة 286.

«عفا» بمعنى أزال آثار الشيء، وأكثر استعمالها مع الذنب بمعنى محو آثار الإثم، وتشمل الآثار الطبيعية والآثار الجزائية والعقوبات.

أمَّا «الغفران» فتعني أن يصون الله العبد من أن يمسّه العذاب عقوبة على ذنبه.

وعليه، فإنّ استعمال الكلمتين يفيد أنّ المؤمنين طلبوا من الله أن يزيل الآثار التكوينية والطبيعية لزللهم عن أرواحهم ونفوسهم، لكي لا تصيبهم عواقبها السيّئة. كما أنّهم طلبوا منه أن لا يقعوا تحت طائلة عقابها. وفي المرحلة الثالثة يطلبون «رحمته الواسعة» التي تشمل كلّ شيء.

{أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} البقرة 286.

وفي آخر دعواهم يخاطبون الله على أنّه مولاهم الذي يتعهّدهم بالرعاية والتربية ويطلبون منه أنّ يمنحهم الفوز والإنتصار على الأعداء.

في هاتين الآيتين خلاصة لسورة البقرة كلّها، وهما تهدياننا إلى روح التسليم أمام ربّ العالمين، وتشيران إلى أن المؤمنين إذا أرادوا من الله أن يغفر لهم زلاَّتهم وأن ينصرهم على الأعداء كافّة، فلابدّ لهم أن ينفذوا برنامج «سمعنا وأطعنا» أن يقولوا: إنَّنا سمعنا دعوات الداعين وقبلناها بكلّ جوارحنا وإنّنا متّبعوها، ولن ندخّر وسعاً في حثّ السير على هذا السبيل. وعندئذ لهم أن يطلبوا الإنتصار على الموانع والأعداء.

إنّ تكرار كلمة «ربّ» أي الذي يلطف بعباده ويربّيهم يكمل هذه الحقيقة. ولهذا حثَّنا أئمة الدين في أحاديثهم على قراءة هاتين الآيتين، وبيّنوا ما فيهما من أبواب الثواب. فإذا تناغم اللسان والقلب في تلاوتهما ولم تكن التلاوة مجرّد ألفاظ تجري على اللسان، تغدو حينئذ برنامجاً حياتياً، فإنّ تلاوتهما تربط بين القلب وخالق الكون، وتضفي الصفاء على الروح وتكون عاملاً على التحرّك والنشاط.

يستفاد جيّداً من هذه الآية أنّ (التكليف بما لايطاق) لا يوجد في الشريعة المقدّسة، لا في الإسلام ولا في الأديان الاُخرى، والأصل هو حريّة الإنسان وإرادته لأنّ الآية تقول: أنّ كلّ إنسان يلاقي جزاء أعماله الحسنة والسيئة، فما عمله من حسنات فسيعود إليه، وما ارتكبه من سيئات فعليه، ومن هذا المنطلق يكون طلب العفو والمغفرة والصفح.

وهذا المعنى يتطابق تماماً مع منطق العقل ومسألة الحسن والقبح، لأنّ الله تعالى حكيم ولا يمكن أن يكلّف العباد بما لا طاقة لهم به، وهذا بنفسه دليل على نفي مسألة الجبر، فكيف يحتمل أنّ الله تعالى يجبر العباد على إرتكاب الذنب والإثم وفي نفس الوقت ينهاهم عنه ؟!

ولكنّ التكاليف الشاقّة والصعبة ليست بالأمر المحال كما قرأنا عن تكاليف بني إسرائيل الشاقّة، وهذه التكاليف أيضاً ناشئة من أعمالهم وعبارة عن عقوبة لما ارتكبوه من آثام.

 




 

(27)  مجمع البيان: ج10 / ص331.

(28)  الدر المنثور: ج6 / ص246.

(29)  مجمع البيان: ج10 / ص316.

(30)  تفسير البرهان: ج 4/ ص353 ذيل الحديث.

(31)  مجمع البيان: ج9 / ص132.

(32)  تفسير القرطبي: ج9 / ص6136.

(33)  الميزان: ج18 / ص342.

(34)  المحجة البيضاء: ج3 / ص332.

(35)  المحجة البيضاء: ج3 / ص332.

(36)  اصول الكافي: ج2 / ص133 / ج3.

(37)  اصول الكافي: ج2 / ص 133 / ج3.

(38)  بحار الأنوار: ج74 / ص236.

(39)  الوسائل: ج14 / ص19.

(40)  سورة التوبة / 72.

(41)  سورة البينة / 8.

(42)  السجدة / 14.