الكتاب علوم القرآن عند العلامة آية الله السّيّد محمد حسين الطّباطبائيّ (قده)
 
«
دراسة مقارنة»
تأليف الشيخ عارف هنديجاني فرد
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1434هـ 2013م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 
لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

 

 الباب الثاني

 منهج الطباطبائي: خصائص ومميزات

 الفصل الأول: منهج الطباطبائي في التفسير

 أولاً: منهج تفسير القرآن بالقرآن

 ثانياً: بين منهج الطباطبائي ومناهج المفسرين

 ثالثاً: دلالة السياق في تفسير الطباطبائي

 الفصل الثاني: التأويل والتفسير عند الطباطبائي

 أولاً: تأويل القرآن عند الطباطبائي

 ثانياً: بين التفسير والتأويل

 ثالثاً: الظاهر والباطن عند الطباطبائي

الفصل الثالث: القرآن والراسخون في العلم

 أولاً: علم التأويل والراسخون في العلم

 ثانياً: بين الراسخين في العلم والربانيين

 ثالثاً: القرآن والمطهّرون عند الطباطبائي

 

 

 



 

منهج الطباطبائي: خصائص ومميزات

 

 

 

قال الله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [1].

القرآن باعتباره وحياً إلهياً مطلقاً، هو كتاب نور وهدى ورحمة، وقد جعله الله تعالى دستوراً للمسلمين يهتدون به في أمورهم الدينية والدنيوية لتكون لهم سعادة الدنيا والآخرة. ولا شك في أن هذا القرآن كان وما يزال وسيبقى بحاجة إلى تفسير لما ينطوي عليه من آيات مميزة وخالدة، لا يحيط بها عقل، ولا يستوفيها زمان، وكما قال الرضا (عليه السلام): هو في كل زمان جديد، ويجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر، إلى غير ذلك مما قيل في القرآن وأوصافه. وإذا كانت هناك حاجة لتفسيره، فذلك إنما يكون بهدف اكتشاف حقائقه وأحكامه في ضوء ما يحتاج إليه الإنسان ويتفاعل معه من قضايا وأحداث لها أحكامها في هذا الكتاب العزيز، الذي ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [2] فالتفسير لكتاب الله تعالى هو علم يُبحث فيه عن بيان معاني الآيات القرآنية وألفاظها والكشف عن مقاصدها ومداليلها وخصائصها، وهناك بحث عن التأويل وما يتمايز به عن التفسير، ولذلك نقول:

إن التفسير هو معرفة ما يرمي إليه القرآن ويريد بيانه للناس، وموضوعه هو كلام الله تعالى، والغرض منه حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة ومعرفة معاني النظم، وكما يقول الطبرسي في معنى التفسير بأنه كشف المراد عن اللفظ المشكل [3]، وقد أوضح هذا المعنى الشريف الرضي بقوله: «إن التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودق ولم يعلم بظاهره، أما المحكم الذي يعلم بظاهره فلا حاجة بأحد لتعليمه، لأن أهل اللسان فيه سواء» [4].

لقد بدأ تفسير القرآن الكريم من عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع بدء نزول الوحي، وهو بدأ بشكل علم مدون من زمن الإمام علي (عليه السلام) كما تجمع الروايات، إذ إن رجال هذا العلم يتصلون بسلسلة إليه فلا عجب في ذلك، لأنه باب مدينة علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أدرك المسلمون الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم من خلال حاجة المكلفين إلى فهمها من أجل التبليغ والعمل بالأحكام، وخاصة بعد البعد عن عصر الرسالة والاختلاف بشأن المحكم والمتشابه في الآيات، ووجود الناسخ والمنسوخ، والمجمل، والمبين والعام والخاص، إلى غير ذلك من وجود أحكام وفرائض ومواعظ وحكم وأمثال وقصص، فكان لا بد من فهمها وتبليغها، ومن هنا ازدادت الحاجة للوقوف على المصفى من الأقوال، والثابت في الصدور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام). وقد حصل في تاريخ المسلمين أن اختلف المفسرون في ما ذهبوا إليه من تفسير واختاروه من روايات، وعملوا فيه من أحكام، وذلك بحسب ما كانوا عليه من اختلاف في المنابت والمذاهب، فضلاً عن اختلافهم في علوم اللغة والنحو والإعراب، وفي نقل الأخبار والروايات، كما لا يخفى أيضاً ما زخر به تاريخ المسلمين من شغف بعلم الكلام والفلسفة ما انعكس على تفاسير القرآن، وقد ظهرت أساليب مختلفة في التفسير تعبر عن ميول أصحابها وشغفهم بالعلوم المختلفة، إلى غير ذلك مما شهده تاريخ المسلمين من تحولات علمية وفقهية تنتمي في كثير منها إلى الفرق والمذاهب، أكثر مما تنتمي إلى الإسلام والقرآن.

مما تقدم، نستطيع أن ندخل إلى تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، الذي يعتبر من أروع التفاسير وأهمها في عصرنا بعد تفسير البيان، وهو يعد من التفاسير الحديثة، وقد تجلت فيه العصرية بمفهومها الإسلامي، وذلك من حيث استيعابه لإيجابيات العصر، ولهذا، نجد فيه سمة التعاطي مع القضايا المعاصرة بأصالة فكرية متينة. ولعل من أهم ما تميز به هذا التفسير للطباطبائي هو ارتكازه في تفسيره إلى منهج تفسير القرآن بالقرآن على نحو لم يسبق لأحد من المفسرين أن سلك مسلكه، وذلك إنما كان منه عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن القرآن يُفسر بعضه بعضاً» [5].

لقد جمع الطباطبائي في تفسيره، إلى جانب الأنماط التفسيرية السائدة لدى قدامى المفسرين أموراً مما أثارته النهضة الحديثة في التفسير، فنلاحظ أن العلامة يتصدى لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات بروح إسلامية واعية على أساس وعي كامل لآيات القرآن الكريم، ومما قاله الدكتور الرومي: «إن قراءة متدبّرة في هذا التفسير تجعلك تدرك أن هذا الكتاب لم يؤلف للعامة وحسب، وإنما للعلماء أيضاً لما فيه من بحوث دقيقة وعميقة، ويمكن أن يقال فيه ما قيل في تفسير الكشاف للزمخشري، أنه من أحسن التفاسير لولا ما فيه من الاعتزال، أما هذا التفسير للطباطبائي، فهو من أحسن التفاسير لولا ما فيه من التشيع المتطرف» [6].

فالمفسر اعتمد على كثير من كتب التفسير والحديث والسير والتاريخ واللغة، وكتب وعلوم أخرى، من هذه الكتب، جامع البيان للطبري، والكشاف للزمخشري، ومجمع البيان للطبرسي، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، وأنوار التنزيل للبيضاوي، وروح المعاني للألوسي، إلى غير ذلك من التفاسير التي عبّرت عن اتجاهات أصحابها أكثر مما عبّرت عن روح العصر الذي كتبت فيه، ناهيك عما عبرت عنه من انتماء لفرق ومذاهب، وأدت إليه من اختلافات في وجهات النظر في التفسير لكتاب الله تعالى.

وكيف كان، فإن ما تميز به تفسير الطباطبائي، هو أنه قدم لتفسيره بعرض لألوان التفسير، ومذاهب المفسرين، واختلافهم في التفسير من حيث مسالكهم الأثرية، والكلامية والفلسفية، والصوفية، والعلمية، ثم بين أن المنهج الحق الذي لا بد أن يسلكه المفسر هو تفسير القرآن بالقرآن، لأنه تبيان لكل شيء، وإذا كان القرآن كذلك، فكيف لا يكون تبياناً لنفسه، أو مستنيراً بغيره [7]، يقول الطباطبائي: «وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير، تجد أن الجميع مشترك في النقص، وبئس النقص، وهو تحميل ما انتجته الأبحاث العلمية والفلسفية منه خارج عن مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقاً، وسمي به التطبيق تفسيراً وصارت بذلك حقائق القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات... ولهذا، فإنه لا بد أن تفسّر القرآن بالقرآن، والتدبر المندوب فيه لتشخيص المفاهيم في القرآن نفسه، ثم الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، الذين أقامهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المقام، وأشار إليهم في حديث الثقلين، فقال الطباطبائي: «وهذا الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلمو القرآن وهداته» [8].

خلاصة القول: إن تفسير الطباطبائي له ميزته وخصائصه التي يتفرّد بها عن سواه من التفاسير، وهو ليس تفسيراً شيعياً كما أراد البعض أن يقدمّه، وإنما هو تفسير للقرآن بالقرآن، وإذا كان هناك من اعتراض عليه، فهو إنما يكون على المنهج، وهو المنهج الحق كما بين الطباطبائي لكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أرشد إليه ودلَّ عليه، وذلك يقتضي من الباحثين والمفسرين أن يكونوا أكثر موضوعية في الحكم على هذا التفسير الحديث والعصري للقرآن، والذي خرج به الطباطبائي أكثر ملامسة للحقيقة القرآنية، بعيداً عن التأويلات والإسقاطات التي تميزت بها تفاسير أُخرى، سواء في الماضي، أم في الحاضر، وهذا ما سنعرض له في بحوثنا القادمة إن شاء الله تعالى.


[1] سورة النحل، الآية: 89.

[2] سورة فصلت، الآية: 42.

[3] انظر الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، انتشارات بيدار، إيران، ط1، 1406هـ، 2190 ص56 ـ 60.

[4] را: مع الشريف الرضي، حقائق التأويل، متشابه التنزيل، دار المهاجر، بيروت، ص13.

[5] را: الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، (ت413هـ) تحقيق حسن دركاهي، دار المفيد، بيروت، ط3، 1993، ج21، ص31.

[6] انظر: الرومي، فهد بن عبد الرحمن بن سليمان، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، ط1، 1986، ج1، ص249. وقا: مع الأوسي، علي، الطباطبائي ومنهجه في تفسير القرآن، مطبعة سبهر، طهران، ط1، 1405، 1985، ص59.

[7] را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص11 ـ 12.

أولاً: منهج تفسير القرآن بالقرآن

 

لقد أوضح الطباطبائي في كتابه: «الشيعة في الإسلام» أن القرآن الكريم هو حجة بالذات وسند لحجّية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار [1]، فيما عرض له من تفسير لقوله تعالى: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾، مبيناً أنه إذا لم تكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّية فيما يأتي به عن الله تعالى، فما يكون معنى هذه الآية وقد أوضحنا بما فيه الكفاية ما يرمي إليه الطباطبائي من ذلك في حديثنا عن أُسلوبه في التفسير، ولهذا، فهو يرى أنه لا يمكن أبداً الوصول إلى معارف وأحكام القرآن فيما لو استغنينا عن سنّة المعصومين (عليهم السلام)، لأن آيات القرآن تنطق بحجيتهم، وقد جعل لهم هذا المقام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر، ما يؤكد ضرورة التمسك بحبلهم والاعتصام بهم، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ [2].

وإذا كان الطباطبائي قد تميز في منهجه في كونه سلك سبيل تفسير القرآن بالقرآن كما بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذلك إنما كان من الطباطبائي بهدف البحث في الفضاء القرآني دون سواه لاكتشاف الحقائق والمعارف القرآنية، وبرأيه لو أن المفسرين الذين سبقوه إلى هذه المهمة سلكوا هذا المسلك لاستبان لهم الكثير من أبكار الحقائق القرآنية، ولكنهم سلكوا مسالك شتى، فانتهى الأمر بهم إلى أن يكونوا أسرى مناهج الكلام والفلسفة والتاريخ والرواية، وما إلى ذلك مما هو معهود في كتب المفسرين...

لذا، فإن الطباطبائي يركز على مبدأ في منهجه، وهو أنه ليس بالإمكان تفسير آية من دون الاستعانة بآية أخرى، وثالثة للوصول إلى معاني الآيات وما ترشد إليه، لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [3].

وبما أن القرآن هو كتاب هداية ونور وتبيان لكل شيء، وبما أنه بيّن بنفسه، ويشهد بعضه على بعض، ويفسر بعضه بعضاً، فإنه من غير الممكن أن يلجأ المفسر إلى تبيان حقيقة ومعارف القرآن من خارجه، أو مهتدياً بغيره إليه، وإذا كان الأمر كذلك، فما يكون هذا الشيء الذي نهتدي به إلى القرآن، كما يسأل الطباطبائي؟ [4].

فالطباطبائي في منهجه، كما نلاحظ، ينبه في بداية كل سورة إلى سبب نزولها، وما إذا كانت مكية أم مدنية، ثم يبين الغرض الأساسي الذي عالجته، والأهداف التي حملتها وتعرض لها، ثم يوزع آيات السورة المراد تفسيرها على مقاطع قرآنية، وقد يكون المقطع آية واحدة، أو بضع آيات، مع عرض مقتضب للمفردات ووجوه البيان والإعراب، وغالباً ما يأتي على أقوال المفسرين ليخلص في النتيجة إلى حقيقة ما تتضمنه الآيات من حقائق ومعارف على أساس منهجه في تفسير القرآن بالقرآن. وهو في ضوء هذا المنهج يقوم بتحديد جملة من المفاهيم القرآنية برؤية موضوعية لآيات أُخرى موافقة لها أو معارضة، دون أي تعويل على الروايات المتناقضة، أو المنافية للعقل، وكما يقول الدكتور الأوسي: إن السياق له أثر واضح في تفسير الطباطبائي، باعتباره أحد القرائن الحالية على فهم الكلام، فهو اعتمد أساساً في الكشف عن معاني الآيات وتوضيح ما لابس التفاسير من ذلك، آخذاً بعين الاعتبار ما جاء من رويات عن الأئمة (عليهم السلام) في تأكيد رأيه من خلالها، لكونها حجة كما بينا سابقاً، ثم يخلص من ذلك كله إلى قبول أو رفض ما روي من مظنون السنة التي تعني لديه قول المعصوم وفعله وتقريره [5]، ولأجل أن يتضح ذلك في تفسير الطباطبائي، نلاحظ أنه لم يُدخل البحوث الروائية في صميم تفسيره، بل اختار له الاستقلالية، وإيراد ما روي حول الآيات من تفسير أثري، أو أسباب نزول وغير ذلك، معلقاً على ذلك بقوله: أقول فإن وافقت نتائجه التفسيرية نبه عليها بالتأكيد، وإلاّ كانت موضع ضعف لديه.

لقد استعان الطباطبائي بأقوال الصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات رغم قناعته بأنها فاقدة للحجية بذاتها [6]، هذا فضلاً عما استعان به من رؤية عقلية ومنهج عقلي، إيماناً منه بأنه لا تناقض بين العقل والشرع، وخاصة العقل القطعي لكونه حجة، وإلاّ بطل الوحي، كما بين في كثير من بحوثه العقلية [7]، وأكثر ما يبرز ذلك من الطباطبائي في سياق عرضه لأقوال المفسرين في الجوانب الكلامية والفلسفية، التي أفردها أيضاً في تفسيره، تماماً كما فعل في البحوث الروائية، حيث نجده يبقي على المعنى التفسيري في سياق الآيات القرآنية دون أية ملابسات في الكلام والفلسفة والتاريخ والرواية، إلى غير ذلك مما احتشدت به التفاسير السابقة على الطباطبائي [8]. ولعل من أهم ما يميز منهج الطباطبائي، هو أنه خلا من التعصب، أو الجمود عند الرؤية المذهبية، إذ هو في مناقشته لمسائل التوحيد والإعتقاد والجبر والتفويض، وفي ردوده على المجسمة والمشبهة، وغير ذلك لم يتعصب، أو يقدح فيما يراه مجانباً للحق، وإنما هو يبين أسس وقواعد ووجوه ما يذهب إليه الآخرون عارضاً له بكل موضوعية ليبين تهافته... أما موقفه من النظريات العلمية الحديثة، فإنه ينطلق في موقفه التفسيري من كون القرآن معجز من جميع الجهات ومطلق، فهو آية البليغ والفقيه والإجتماعي والعالم ولجميع الناس، وهو رغم إيمانه بذلك، فلم يُرد لتفسيره أن يُثقل بالنظريات العلمية تأكيداً أو تسويغاً في ضوء الآيات القرآنية، بل اكتفى بعرض الآيات ومدلولات الألفاظ والظواهر مبسطاً القول فيها دونما اكتراث بما حققه العلم الحديث من إنجازات علمية وفرضيات علمية حديثة لأن القرآن، بنظره، ليس كتاب علم أو تاريخ، وإنما هو كتاب هداية وتغيير رغم ما يتضمنه من إشارات علمية.

إن الطريقة التي ارتضاها المفسّر الطباطبائي، هي تفسير القرآن بالقرآن، وتشخيص المصاديق والتعرّف إلى خواص الآيات، ثم فصل الآيات الرئيسية التي تدعم الظواهر عن الآيات الأساسية التي تمثل بواطن القرآن الكريم، والتمييز بين التفسير والتأويل، إلى غير ذلك مما عرض له الطباطبائي في سياق حديثه عن المفهوم والمصداق، وكما يرى الطباطبائي، أن هذا اللون من التفسير ليس غريباً عن المفسرين مطلقاً، إذ قد مارسه المعصومون (عليهم السلام) فيما جاء عنهم لجهة تفسير القرآن بالقرآن، من حيث كونه ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض، كما بين مفسرُنا في مقدمة الميزان [9]. وهذا ما عدّهُ العلماء، قديماً وحديثاً، أول الطرق في تفسير القرآن لقولهم أنه من أراد تفسير الكتاب طلبه أولاً من القرآن، فإن لم يجده طلبه من السنة، فهي شارحة للقرآن وموضحه له، يقول الطباطبائي: «إن تفسير الآية بالآية والتدبر فيها وفي غيرها، والإستفادة من الأحاديث، هو المنهج الأساس الذي توصلنا إليه، وهو حث عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار فيما أثر عنهم... وقد جاء في الحديث النبوي المشهور: من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» [10]، وهناك فرق كبير بين تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالرأي، فهذا الأخير هو المنهى عنه لكونه لا يفي بالحاجات غير المحدودة، وهي المسماة بالطريقة الحديثة» [11].

وهكذا، فإن المحصّل من كلام الطباطبائي، أن المنهى عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن، والإعتماد على الرأي من غير رجوع إلى القرآن أو إلى السنة القطعية، ولازم ذلك وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة، وكونه هو السنة ينافي القرآن ونفس السنة الآمرة بالرجوع إليه، وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه إلاّ القرآن نفسه [12].

وانطلاقاً مما تقدّم، نرى أنه يمكن لأي باحث أن يهتدي إلى عبقرية المفسّر الطباطبائي فيما ارتضاه من طريقة للتفسير أبعدته عن الإطناب في عرض النصوص والشروحات، وأغنته عن مطولات المفسرين، ومن هذه الطريقة كما سيتبين لنا يتفرّع مناحي كثيرة جعلت من منهج الطباطبائي منهجاً أكثر وضوحاً، ويمكن أن نعرض لذلك على الشكل الآتي:

 

 

لقد أورد الطباطبائي كثيراً من الآيات التي تحتاج إلى مزيد من التدبر في الفضاء القرآني للاهتداء إلى ما تنطوي عليه من مدلولات، من هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ [13]، ومن أجل فهم وبيان معنى الآية ﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ﴾ لما فيها من غموض، يرى الطباطبائي أن الاستعانة بآيات أخرى يكشف عن معناها، والذي هو كناية عن عدم اهتمام واعتماد أهل الكتاب على شيء تثبت عليه أقدامهم، بحيث يقدرون على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم، على اعتبار أن من يريد أعمال قوة وشدة وجب عليه أن يعتمد على مستوى يستوي عليه، أو يتصل به، كمن يريد أن يجذب، أو يدفع، أو يحمل، أو يقيم شيئاً ثقيلاً، فإنه يثبت قدميه على الأرض أولاً، ثم يضع ما يشاء، ويضيف الطباطبائي أن هذا يجري في الأمور المعنوية كأفعال الإنسان الروحية، مثلاً، فإن العبودية يتوقف نجاحها على حق التقوى والورع عن محارم الله تعالى لمتانته وقوته، ولا سيما في الرسالات التي هي من الثقل ما لا يتيسّر حمله للإنسان حتى يعتمد على أساس ثابت، ولا يمكنه إقامته بمجرد هوى من نفسه، كما أشار تعالى إلى ذلك بالنسبة للقرآن الكريم:
﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً  [14]، وقوله تعالى: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [15]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾ [16]، وقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [17]، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [18]، إلى كثير من الآيات التي إذا ما أضيفت إلى بعضها استفاد منها المفسر أن إقامة الدين لا تتيسر إلاّ بهداية منه تعالى، ولا يصلح لها إلاّ المتصف بالإنابة التي هي الاتصال بالله تعالى وعدم الانقطاع عنه بالرجوع إليه مرة بعد أخرى، يقول الله تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ  [19]، وعليه، فإن الطباطبائي يخلص من ذلك كله إلى القول، بأن أهل الكتاب فاقدو العماد الذي يجب عليهم أن يعتمدوا عليه في إقامة الدين [20]، الذي هو من الثقل والقوة ما لا يتيسر حمله لكل إنسان، وهذا هو معنى: ﴿ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ [21].

ومن المناحي التي ارتضاها الطباطبائي في تفسيره أيضاً، هو ذهابه إلى المعنى في الآية، ثم يلجأ إلى تعزيزه بقرائن مستفادة من الآية نفسها، أو من آيات أخرى، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ... ﴾ [22]، نرى أن المفسّر اختار أن تكون الخلافة في الآية لله تعالى، وليست لنوع من الموجودات الأرضية، كانوا قبل الإسلام في الأرض، وأن الخلافة ليست مقصورة على شخص آدم (عليه السلام)، بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، وقد أيد الطباطبائي، عموم الخلافة بآيات من القرآن كقوله تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [23]، وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [24]، وقوله تعالى: ﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [25]. وكما نلاحظ الطباطبائي في تفسيره يستعين ببعض الآيات زيادة في الإيضاح للمعنى واستكشافاً للمراد، كما في قوله تعالى: ﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [26]، فهو استعان ببعض الآيات لحصر المستقر إليه تعالى يوم القيامة، إذ لا مستقر إلى غيره ولا ملجأ يلتجأ إليه، وذلك أن الإنسان سائر إليه كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ  [27]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى  [28]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [29]، إلى غير ذلك من الآيات التي فسرّها بالآيات دونما حاجة إلى منهاج آخر لاستبيان معانيها.

إن المتتبع والمتدبر بتفسير الميزان للطباطبائي يجد الكثير من هذا التفسير الذي يرتكز إلى القرآن من دون الاشارة إلى الرواية، أو إلى غيرها مما قد يحتاجه المفسر من لغة وبلاغة وتاريخ، ولكن الطباطبائي ارتضى لتفسيره هذه المنهج لكونه يؤدي بالمفسر إلى الكشف عن المعارف والحقائق القرآنية أكثر من أي نهج آخر، ولعل هذا هو الذي ميز تفسير الميزان عن سواه، وجعل منه تفسيراً جديداً في بابه، حتى أننا نجد الطباطبائي في كثير مما يستطرد فيه من شواهد قرآنية لتأكيد رؤيته وصوابية منهجه، وقد تقدم الكلام في نماذج على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن مراجعة تفسير الميزان للوقوف على هذه الحقيقة المتجلية فيه والمميزة له.

 

 

يرى الطباطبائي أنه يمكن الاستعانة بالقرآن الكريم لتعين مصطلح معين يرد في بعض آياته، كتعيينه معنى الدعاء والاستجابة والتوبة والتوحيد والرزق والعبادة والجهاد، ويعتمد في تعيين ذلك على تجلية الآيات التي تعرضت لها، وهذه الطريقة بالذات تعد من النظرة الموضوعية في التفسير، إذ كثير ما انتقل الطباطبائي في تعيين هذه المواضيع (المفاهيم) ضمن أبحاث قرآنية اعتمد فيها النظرة الموضوعية في القرآن، والتي تسمى بالتفسير الموضوعي، وهو المنهج السليم للكشف عن معاني القرآن [30]، ولهذا المنهج شواهد كثيرة في تفسير الميزان يمكن أن نشير إلى بعضها فيما عرض له الطباطبائي في موضوع الجهاد، حيث رأى أن الله تعالى أمر بالقتال، فقال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ  [31]، وقال تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ  [32]. فالطباطبائي، بموضوعيته المعهودة، يرى تحت عنوان الجهاد الذي يأمر به القرآن، أن القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال، والصبر على الأذى في سبيل الله تعالى، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [33]. وقال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ...  [34]، وكأن هذه الآية تشير إلى قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  [35].

ثم نزلت آيات القتال، فمنها ما نزل بالقتال مع مشركي مكة، ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ  [36]، ومنها ما نزل بالقتال مع أهل الكتاب، كما قال الله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [37]، ومنها ما نزل بالقتال مع مطلق الكفار، كما قال الله تعالى: ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [38]، خلاصة الأمر، أن القرآن يبين أن الإسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة، وهو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها، كما قال الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [39]، وهكذا، فإن إقامة الدين والحفاظ عليه هو أهم حقوق الإنسانية المشروعة، ثم يذكر القرآن أن الدفاع عن هذا الحق فطري ومشروع، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [40]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [41]، وكما نلاحظ أنه تعالى سمى الجهاد والقتال، الذي يُدعى إليه المؤمنون محيياً لهم، ومعنى ذلك أن القتال، سواء أكان بعنوان الدفاع عن المسلمين، أم كان قتالاً إبتدائياً كل ذلك في الحقيقة هو دفاع عن حق الإنسانية في حياتها، على اعتبار أن الشرك بالله تعالى هو هلاك للإنسانية وموت للفطرة [42]... مما تقدم، يمكن القول: أنه ينبغي، كما نفهم من تفسير الطباطبائي، أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من الشرك والوثنية، وإخلاص الإيمان لله تعالى. فالقتال الذي تذكره الآيات ليس عدواناً، وإنما هو إماتة للشرك، أو لإعلاء كلمة الحق، على كلمة الشرك والكفر. وعلى أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله تعالى، وهذا ما تلحظه الآية المباركة لجهة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فهم وإن كانوا على التوحيد، ولكنهم مشركون بالحقيقة، والدفاع عن حق الإنسانية يوجب حملهم على دين الحق [43] والقرآن وإن لم يشتمل على حكم صريح في ذلك، لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلاّ بانجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال، وهو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد، كما قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [44]. وهنا، ربما يتوهم متوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة، لكن هذا ينافيه قوله تعالى: ﴿ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [45]، فإن الاستخلاف، إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال...

وكيف كان، فإن منهجية الطباطبائي في التفسير تتظهّر فيما اعتمده من تفسير موضوعي في باب الجهاد من خلال تفسير القرآن بالقرآن، وربما يتوهم البعض أن الإسلام في تشريعه للجهاد يخرج عن طور النهضات الدينية المأثورة من الأنبياء السالفين، وهذا ما قد تلخص جوابه في أن الدين والإسلام، إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المتتبع للقتل، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من غير المسلمين بدين السيف والدم، أو دين الإجبار والإكراه، وكيف يكون ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [46].

إن التتبع لتفسير الميزان ولمنهج الطباطبائي في هذا التفسير في أي باب من أبوابه، سواء في باب التوحيد والإيمان، أم في باب العمل الصالح، أم في مجال القصص القرآني، لا بد أن يلحظ الانسجام التام في منهجه، وخاصة فيما اعتمده من تفسير موضوعي إلى جانب منهجه الأساس الذي هو تفسير القرآن بالقرآن، وعموماً يمكن القول: إن الطباطبائي فيما ارتضاه من طريقة في تفسير القرآن بالقرآن، استطاع أن يقدم خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في ما كشف عنه من حقائق ومعارف قرآنية، هذا فضلاً عما قام به في تفسيره من ترجيح وموازنة بين الأقوال والآراء السابقة على تفسيره، وهي الموازنة ذاتها التي اعتمدها لرفض الروايات أو قبولها، وذلك كله إنما يكون بسبب علمه الواسع، وإحاطته الكبيرة بالعلوم والمعارف الدينية، وكما يقول الآملي في طريقة الطباطبائي: «كانت الطريقة الفذة التي اعتمدها تفسير الميزان تتمثل في تحديده وتعيينه للآيات الرئيسية والجذرية في القرآن، الأمر الذي كان من شأنه أن يفتح أبواب العلوم في الآيات الأخرى، وهو ما يمكن ملاحظته في روايات المعصومين (عليهم السلام)، ونادراً ما وجد في تفاسير السابقين، وبالتعرّف على الآيات الرئيسية والجذرية لشجرة القرآن الكريم يتضح انعكاس تأثيراتها على الآيات الفرعية الأخرى» [47].

 

 

ثانياً: منهج الطباطبائي ومناهج المفسرين

 

تقدم الكلام في أن تفسير القرآن لم يكن أمراً طارئاً أو حديثاً في حياة المسلمين، وإنما هو ممتد في التاريخ والزمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان لا بد من تفسير القرآن وتعلم الأحكام، والاهتداء إلى آيات الله البينات، ولعله من دواعي التفسير أن الآيات نفسها، رغم فصاحتها ووضوحها احتاجت للشرح والتفصيل للكشف عن أبعادها. ومن أجل هذا، كما يرى سبحاني، قام المسلمون بعد عهد الرسالة بتدوين ما أُثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو الصحابة والتابعين، أو أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في مجال كشف المراد وتبيين الآيات [48]، وهذا لا ينفي كون الآيات جاءت بلغة عربية فصيحة، وقد علمنا أنه ليس معنى أن يكون الكلام عربياً سليماً، وفصيحاً بليغاً إنتفاء الحاجة إلى تبيينه، وهذا نظير ما إذا أراد رجل وصف كتاب أُلف في علم الطبيعة، أو في علم الفيزياء، فيقول: ألف الكتاب بلغة واضحة وتعابير سهلة، فلا يهدف قوله هذا إلى استغناء الطالب عن المعلم، ليوضح له المطالب، ويفسّر له الأحكام، ويقعّد له القواعد...

إن السؤال الذي كان مطروحاً وما يزال، هو لماذا هذا الكم الهائل من التفاسير؟ وهل جميع هذه التفاسير تعبر عن الحقيقة القرآنية وتنطق بها؟ وهل المسلمون بحاجة إلى ذلك؟

أسئلة كثيرة يمكن للباحث في علوم ومعارف القرآن أن يطرحها، ولا شك أيضاً في أن هذه الأسئلة كانت مثار جدل وتأمل عند الطباطبائي، وقد اختار من الأجوبة ما يلائم منهجه في التفسير، إذ هو لم ينف الحاجة إلى هذه التفاسير، وإنما لاحظ عليها وانتقد مناهجها، لكونها أخرجت القرآن عن كونه مبيناً لذاته ولكل شيء، ليكون محتاجاً إلى هذه التفاسير فيما انطوت عليه من روايات وتاريخ ولغة وإعراب، ومباحث ألفاظ، وكلام وفلسفة وتصوف، إلى غير ذلك مما يدفع بالمتأمل والمتدبّر بالقرآن إلى الاعتقاد بأن ما ذهب إليه هذا المفسر أو ذاك، هو المبين والمبيّن لآيات الله تعالى!!

مما تقدم، نرى ضرورةً لايجاز الكلام فيما بين منهج الطباطبائي ومناهج المفسرين من تمايز بهدف توضيح ما هو ملتبس في الرؤية المنهجية التي احتكم إليها المفسرون في تعاملهم مع الآيات القرآنية، لعل ذلك يكون كاشفاً عن حقيقة التمايز بين المناهج التفسيرية من جهة، وبين هذه المناهج ومنهج الطباطبائي من جهة ثانية، لما في ذلك من الأهمية والجدوى في موضوع لا يزال الجدل والكلام فيه قائماً، وقد يكون السؤال الذي يطرح بإلحاح هنا هو، هل أفادت المناهج التفسيرية في الكشف عن الحقائق والمعارف القرآنية، بالطريقة التي تسمح لهذا المفسر، أو ذاك بالخلوص إلى موقف رسالي، أو نظرية قرآنية في هذا المجال أو ذاك؟ أم أنها تسببت بالمزيد من الإلتباسات في فهم النصوص والروايات، لما شاب هذه الأخيرة من اضطراب في النقل والصحة، وما إلى ذلك مما عرض له المأثور وجعل القرآن وتفسيره رهناً له على نحو ما سنبين لاحقاً؟

 

 

لقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ما يسهّل على المسلمين طريقة الاستفادة من القرآن الكريم، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن القرآن يصدق بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض...» [49]، كما روي عن أهل البيت (عليهم السلام): «ذلك القرآن فاستنطقوه...» [50]، وأن القرآن هو في كل زمان جديد، ولم يجعله الله تعالى لزمان دون زمان ولناس دون ناس» [51] إلى غير ذلك من الروايات التي من شأنها أن ترشد المفسّر، سواء أكان ذلك في الماضي، أم في الحاضر، إلى ما ينبغي أن يكون عليه من منهج. ولكن رغم ذلك الوضوح في الهداية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) نجد أن كثيراً من المفسرين قد التبس عليهم الأمر، وبدأوا بتخيّر المناهج لتفسير كتاب الله تعالى، وقد بلغ بعضهم في منهجه إلى حد أن القرآن أصبح سهل الفهم والاستيعاب أكثر من تفاسيرهم، والله تعالى، كما نعلم، يريد بالناس اليسر وليس العسر! وإذا أردنا أن نوغل في قدم التفسير، فإننا نجد ابن جرير الطبري) (ت310هـ) في طليعة التفسير الأثري، الذي اكتفى بنقل الكثير من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة والتابعين في استيضاح النصوص القرآنية، وهو الذي أنبأ في منهجه عن ضرورة التمحيص في الروايات، لكونها مشوبة وغير ثابتة في صدورها كما جاء في مقدمة تاريخه [52]، وقد يكون من المناسب الإيغال في القدم إلى القرنين الأولين من الهجرة، لنجد أن حال المفسرين هو كحال الطبري تماماً، حيث نجد مجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدّي وغيرهم في القرنين الأولين لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئاً غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، وبينها، كما يقول الطباطبائي، روايات دسّها اليهود أو غيرهم، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار، وعثرات الأنبياء وتحريف الكتاب، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث [53].

إن ما ينبغي على الباحث أن يناقشه، وأن يتدبر فيه في مناهج المفسرين، إضافة إلى التساؤل بشأنه، هو الاستغراق في الروايات والإكثار منها، في وقت كان الأجدى فيه هو التأمل فيما تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن طريقة فهم وتفسير كتاب الله تعالى، الذي يُفسر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على بعض، وينطق بعضه ببعض، فلماذا لم يكن الاستغراق في هذا الحديث وأمثاله للتخفيف من غلواء الروايات؟ وهل القرآن يهدي إلى التي أقوم بهذه الروايات، أم أن لهذا القرآن إماماً ينطق به ويترجمه لتتحقق الغاية من إنزاله وتلقيه؟؟

لا شك في أن ضرورة البحث في هذا المجال تحتم على الباحث الإشارة إلى جملة المناهج التي عرفها تاريخ المسلمين، ولو بالإجمال للتعرف إلى أهم ما تميزت به هذه المناهج، وذلك بهدف استخلاص نتيجة فيما يتعلق بمنهج الطباطبائي. هذا المنهج الذي يعود إلى عصر الرسالة في تفسير القرآن بالقرآن، ويكشف في الوقت عينه عن إخفاقات المناهج التفسيرية في ما آلت إليه من نتائج، وعبرت عنه من حقائق، فنقول: إن المناهج التي تعاملت مع القرآن، وهي المناهج الأساسية التي ظهرت في حياة المسلمين، واختلفت فيما بينها إلى حد التكفير، هذه المناهج هي التي أدت في كثير من معطياتها ونتائجها إلى أن تجعل من القرآن مجموعة روايات ناطقة بهذا الشخص أو ذاك! أو مادحة لهذه الفرقة أو تلك، ولعل أكثر المناهج التباساً في هذا المجال، هو منهج التفسير بالمأثور، والذي تعامل معه الطباطبائي بحذر شديد، إلاّ أن تكون الرواية صادرة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) الذين جعلهم الله تعالى أبواباً لمدينة علمه وطهرهم تطهيراً، وهذا ما فرّق فيه الطباطبائي بين أن يكون التفسير للقرآن بالقرآن والسنة، وبين أن يكون التفسير للقرآن بالمأثور الذي لا يتضمن أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله وخالف أحاديث أهل البيت (عليهم السلام). فهذا المنهج في التفسير لا حجيّة له عند الطباطبائي [54]، وكما عرفنا أن هذا المنهج هو أقدم المناهج وأكثرها انتشاراً، وقد حظي هذا المنهج بكثير من الاهتمام من قبل المفسرين، وأخذ طابعاً متشدداً، ورفض مؤيدوه جميع المناهج المخالفة له.

أيضاً من المناهج التي سادت وظهرت في تاريخ المسلمين، المنهج اللغوي، الذي وإن كان ضرورياً لتفسير القرآن، إلاّ أنه ابتعد عن التفسير ليكون مجرد منهج لغوي وروائي هادف إلى إحكام الطوق على المفردات القرآنية [55]، وهذا ما رأى فيه الطباطبائي أمراً في غاية الإلتباس نظراً لما أدى إليه من تعقيد في بيان معنى الألفاظ والمفردات ما صرفه عن المعنى والمعرفة، وعن كثير من الحقائق القرآنية لحساب اللغة والإعراب، ومَن يطالع الفراء (ت 207 هـ) وأبو عبيدة (ت 210 هـ)، وغيرهم يلحظ هذا الاهتمام باللغة والأدب، فكان هذا المنهج أقرب إلى المباحث اللغوية منه إلى المبحث التفسيري، ويمكن أن نجد هذا الحال عند الطبرسي في مجمع البيان، إذ هو اهتم كغيره من المفسرين اللغويين اهتماماً كبيراً بمدلولات الألفاظ ومفرداتها، وفي سرد آراء اللغويين [56]...

فالطباطبائي يرى ضرورة اللغة في التفسير، ولكنه لم يرد لتفسيره الاستغراق في ذلك، بل اكتفى بإيراد اللغة والصور البلاغية في الآيات لبيان نكتة علمية تسهم في إيضاح المعنى، ولهذا نجد كثيراً ما يناقش الزمخشري لكونه إماماً لا يبارى في البلاغة، بهدف تجلية المراد من الآية وبيان معناها، وكما عُرف الزمخشري والرازي وغيرهما ببيان المناسبات والنظم بين الآيات نجد الطباطبائي اهتم بالمناسبة بين الآيات وبيان أوجهها من خلال السياق، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً.

من المناهج أيضاً، منهج التفسير الصوفي، أو الإشاري، ويشمل التفسير العرفاني والصوفي ونحوهما، وقد ذهب البعض إلى عده من أوائل المناهج التفسيرية لوروده في بعض الروايات، وهناك من رد هذا المنهج إلى الإمام علي (عليه السلام) خالطاً بين زهده وتصوفه! في حين يرى الطباطبائي أن هذا المنهج ظهر مقارناً لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي [57]...

أما المنهج العقلي والاجتهادي في التفسير، فحدث ولا حرج، باعتباره منهجاً خلط بين الكلام، والفلسفة واللغة والتصوف، فكان تفسيراً في كل شيء، إلا في القرآن، وهذا المنهج كما يرى الطباطبائي شاع بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الأديان... وبعد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية في زمن السلطة الأموية أواخر القرن الأول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين [58]... وقد حظي هذا المنهج باهتمام أصحاب المناهج العقلية في تفسير الشريعة كالمعتزلة والفلاسفة [59]، وهذا المنهج يقف مقابل المنهج النقلي المتشدد، الذي رفض أي دور للعقل في مجال التفسير، وهنا تبدو المفارقة العجيبة، أن أصحاب منهج التفسير بالمأثور (النقلي) رفضوا المنهج العقلي والفلسفي، ولكنهم اعتصموا بمنهج التفسير بالرأي، الذي نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو منهج، أي التفسير بالرأي، كما يرى العلامة الطباطبائي، مرفوض لكونه عبارة عن ضرب للقرآن بالقرآن [60].

يبقى أن نشير إلى المنهج العلمي في تفسير القرآن، وهو المنهج الذي يحاول الباحثون في كل عصر تفسير القرآن به، والتعاطي مع القرآن وكأنه كتاب علمي يحتوي على نظريات، ويؤسس لقواعد علمية، في حين أن القرآن، كما أشار الطباطبائي، يتضمن إشارات علمية، ولا بد أن تكون علمية وصحيحة، وإن انتهت التجربة إلى خلاف ذلك، لاستحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية [61]، وهذا المنهج في التفسير مؤسس على الاستفادة من العلوم الطبيعية والتجريبية في فهم المراد من آيات القرآن الكريم، وكان ظهوره متأخراً عن المنهج الروائي، وبما أن القرآن ليس كتاباً علمياً، فإنه لا يمكن التكلف في استعمال هذا المنهج في تفسير القرآن نظراً لما قد يؤول إليه من التباسات في العلوم والمعارف والحقائق القرآنية، باعتبار أن الإشارة العلمية شيء، والنظرية العلمية شيء آخر. والحق يقال: إن هذا المنهج لا نرى له أثراً في تفسير ومنهج الطباطبائي، لكونه يُفسر القرآن بالقرآن، ويعطي تفسيراً للعلماء يختلف فيه كثيراً عن المفسرين القدامى، فهو يرى أن العلماء بالله هم الذين يعرفون الله تعالى باسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة، أما العلماء الذين يعرفون حقيقة الخلق، فيما أشار إليه القرآن من آيات علمية، كما في سورة فاطر في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [62].

نلاحظ في تفسير هذه الآية أن أكثر المفسرين قد ذهبوا إلى القول بأن المقصود من العلماء في الآية الكريمة هم أهل العلم بكل ما خلق الله تعالى، وليس فقط علماء الصيام والقيام وحسب، وعلى هذا الرأي جل العلماء والمفسرين، في حين أن الطباطبائي لم يذهب إلى هذا القول رغم أن وحدة السياق بين صدر الآية وعجزها تؤلف نسقاً جدلياً فيها ذكر لبعض خلق الله العجيب، الذي لا يصل إلى معرفته الجهال به، ولعل الطباطبائي في ذلك لم يرد أن يخرج عن سياق التفسير الذي اختاره، حيث حصر العلماء بمن يتفكرون في ما يفضي بهم إلى معرفته تعالى، دونما اعتبار لوحدة النص مع التجربة [63]، وهذا ما تميز به، كما نعلم، الشهيد محمد باقر الصدر، عن السيد الطباطبائي، رغم اتفاقهما في إطار الرؤية الموضوعية في تفسير القرآن الكريم. وهنا يبدو لنا تمايز مهم وكبير بين المفسرين، ويحتاج إلى مزيد تدبر وعناية من الباحثين في علوم القرآن.

 

 

 

إذا كانت المناهج التفسيرية قد اضطربت في ما ارتكزت إليه، واعتمدت عليه من أسس وقواعد، فإن منهج الطباطبائي تمايز عنها في كونه استند إلى القرآن والسنة القطعية، وكما يقول سبحاني: «إنه أسلوب في التفسير لم يرد مثله سوى في أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، فكان العلامة أول من أثار انتباه الأمة الإسلامية إلى أهمية هذا الأسلوب التفسيري الذي عرف فيما بعد بـ (تفسير القرآن بالقرآن)، الذي يهدف إلى إزالة الغموض عن آية بواسطة آية أخرى» [64]. وقد سبق لنا أن أشرنا في طيات كلامنا الماضي إلى أن الطباطبائي قد صدّر كتابه الميزان بالحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي دعا فيه إلى اللواذ بالقرآن في زمن الفتن، وإلى أن القرآن هو الدليل إلى خير سبيل... إلى أن يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): فالقرآن يشهد بعضه على بعض، ويصدق بعضه بعضاً [65]... وهناك الكثير من الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) يرشدون فيها الأمة إلى استنطاق القرآن، كما في حديث علي (عليه السلام): «كتاب تبصرون به وتنطقون وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله تعالى» [66].

فالطباطبائي لم يعمل على تلفيق منهج تفسيري من التجربة التاريخية، ولا مما توصّل إليه المفسرون من مناهج، وإنما اختار هدفاً ومنهجاً تجاوز فيه الأنماط التفسيرية السائدة، وجمع بين نمطي التفسير الموضوعي والترتيبي، وفسّر القرآن بالقرآن، باعتبار أن القرآن هو تبيان لكل شيء، وكونه كذلك، فلا بد أن يكون مبيّناً ومفسراً لنفسه... [67].

وعليه، فإنه لا معنى للقول بأن هذا المنهج التفسيري، هو مورد أخذ ورد، وقبول ورفض بين المفسرين، ذلك أن نهج الطباطبائي هو أقدم منهج، ويرجع استخدامه إلى زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد استخدمه الأئمة (عليهم السلام) وبعض الصحابة والتابعين، ولكن نظراً لما شاب حركة المناهج والتفاسير في تاريخ المسلمين من تداخل، سواء في العلاقة مع السلطة، أم في طريقة استخدام الروايات، أدى إلى أن تكون السيادة لمناهج شتى أصابت في الكثير، وأخطأت في الأكثر بما كانت تعيشه من تأثيرات سياسية واجتماعية لابست حركة التفسير وما تزال تلابسها حتى عصرنا الحاضر... إن الميزة التي انفرد بها الطباطبائي في منهجه وتفسيره لا تقتصر على مجرد تفسير القرآن بالقرآن، والآية بالآية وحسب، بل تميز في كونه منع من تداخل الرأي مع القرآن، وأعطى للبراهين العقلية مكانة متميزة في تفسيره، لأن العقل هو الطريق الموصل إلى أصول المعارف الإسلامية وفروعها، ومنه يمكن الحصول على المسائل الإعتقادية والأخلاقية، وكذا الكليات للمسائل العملية (فروع الدين)، ولكن جزئيات الأحكام ومصالحها الخاصة بها لم تكن في متناول العقل، وخارجة عن نطاقه [68]، ناهيك عما تميز به تفسير الطباطبائي في إجابته على كثير من الإشكاليات الحديثة، التي تتعلق ببعض آيات القرآن إلى جانب حلّه الإشكالات التي كانت تتعارض مع ظاهر الآيات القرآنية ونصوصها امتثالاً لأوامر الأئمة (عليهم السلام)، مخرجاً هذا النوع من الأحاديث من دائرة الصحة والثقة [69]، إلى غير ذلك مما نجده من تمايزات في تفسير الميزان لجهة الفصل بين البحوث القرآنية ذات الصلة بالآيات، وبين البحوث الشخصية التي أفردها الطباطبائي لتكون رأياً خاصاً به، دفعاً لأي التباس يمكن أن يقع، بحيث يتوهم البعض أنه من القرآن وهو ليس من القرآن.

إذن، منهج الطباطبائي له تأسيساته في الكتاب والسنة، وإذا كان من آراء لا تجد تسويغاً لهذا المنهج، فإن ذلك يعود إلى منهجيّة المفسّر وما يعتقده بالقرآن والسنة والعقل، وهنا لا يسعنا إلاّ أن نشير إلى بعض الأدلة التي ارتكز إليها الطباطبائي في منهجه التفسيري فنقول:

إن الدليل الأول على هذا المنحى للطباطبائي في تفسيره، هو من القرآن الكريم، الذي جعل الله تعالى منه تبياناً لكل شيء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ  [70]. وقال الله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً [71]. وقال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [72]. هذا بعض من الآيات القرآنية التي تحث الناس على التدبر بالقرآن، وكما يقول الطباطبائي: «إنه من الواضح أن القرآن لو لم يكن مفهوماً من العامة، فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها. فالقرآن نور وموضّح لكل شيء، وفي مقام التحدي، يطالب بتدّبر آياته، إذ ليس فيه أي اختلاف أو تناقض، وإذا كان بإمكانهم معارضته والإتيان بمثله فليفعلوا ذلك إن استطاعوا» [73].

أما من السنة الشريفة، فقد استدل الطباطبائي من خلال أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) على صحة تفسير القرآن بالقرآن، وهذا ما تقدم الكلام فيه، ويمكن أن يضاف إليه ما رواه السبحاني عن زرارة ومحمد بن مسلم، وهما من الفقهاء الشيعة المعروفين في عصر الإمامين الباقر والصادق، «قلنا لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي وكم هي؟ قال: إن الله يقول: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [74]، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا: إنما قال: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ، ولم يقل «افعلوا» فكيف أوجب الله ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ قال: «أوليس الله قد قال في الصفا والمروة: ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [75]، ألا ترى أن الطواف واجب مفروض، لأن الله ذكرها في كتابه وصنعهما نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)» [76]. وهكذا نرى أن جملة ﴿ فَلَا جُنَاحَ ﴾ ربما أشارت إلى معنيين اثنين معاً، ولذلك لا ينبغي علينا الاستناد إلى ظاهر الآية دون دراسة بقية الجوانب المتعلقة بها [77].

هناك الكثير من الروايات والنصوص التي يمكن أن يستدل بها على استخدام هذا المنهج، ولكن الذي منع من الدعوة إليه في تاريخ المسلمين هو الاستناد إلى غير السنة القطعية التي تلابست مع كثير من الروايات التي احتوى عليها المأثور وجعلها منهجاً لتفسير القرآن، وهي كما بين الطباطبائي اختلطت بروايات وقصص كثيرة دسّها اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام، وكان لها الدور الكبير في توجيه المناهج، سواء في تفسير القرآن، أم في غيره.

كما لا يخفى أيضاً أن الطباطبائي هو من علماء الأصول الكبار، ويدرك جيداً معنى بناء العقلاء، الذي فسره الاصوليون بقولهم: «هو صدور العقلاء عن سلوك معنى قبال واقعة ما صدوراً تلقائياً، وهم يتساوون في صدورهم عنه، على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وتفاوت في ثقافاتهم ومعارفهم وتعدد في نِحلهم وأديانهم» [78].. وهذا البناء العقلائي يرشد إلى أنه من أجل فهم أي كتاب لا بد من مراعاة القرائن الموجودة فيه، فإذا جاء ذكر أحد المطالب بصورة مطلقة وعامة، وفي مكان آخر بصورة مقيدة وخاصة، فلا بد من النظر إلى الكلام بصورة كلية بوصفه مجموعة كاملة، وهذا هو المقصود ببناء العقلاء، والقرآن غير مستثنى من هذه القاعدة، وهذا ما نسميه باسم تفسير القرآن بالقرآن، والشارع المقدس لم يمنع من هذه الطريقة العقلائية، بل قام بتأييدها طبقاً لما تقدم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الصحابة والتابعين، كما بين الطباطبائي، قد استخدموا هذه الطريقة، ولكنهم ولأسباب كثيرة لم يحولوها إلى منهج ورؤية عامة في سلوكهم العلمي، ولو أنهم كما يقول الطباطبائي، اهتدوا إلى هذه الطريقة وأسسوا لها المنهجية المطلوبة في حياتهم، لاستبان لهم الكثير من أبكار القرآن وحقائقه، ولكنهم استبدلوا، عن قصد أو عن غير قصد، الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكان ما كان من مناهج تفسيرية لا تحصى، وكلها فيما ابتكرته لم تخلص إلى جزء مما خلص إليه الطباطبائي في تفسيره، وليس في هذا الكلام اجحافاً لأحد، نظراً لما تميز به الميزان من معارف وحقائق لم يسبق لمنهج من المناهج في تفسير القرآن أن وصل إليها، وهذا كله يعود الفضل فيه إلى المنهج الذي اعتمده الطباطبائي، ونقول اعتمده لأنه في الأصل هو منهج أهل البيت (عليهم السلام) في ما وجهوا الناس إليه طلباً للمعارف الدينية والقرآنية [79].

وكيف كان، فإن هذا المنهج التفسيري الذي اعتمده الطباطبائي لم يسلم من النقد لا من داخل مدرسة الطباطبائي، ولا من خارجها، فقد وجه إليه النقد ممن يرفضون المسحة العرفانية في التفسير [80]، ويرون فيما يذهب إليه المفسّر من رؤية مثالية استحساناً ظاهراً، وقد تمنّى المفسّر «معرفة» لو أن الطباطبائي لم يتوسّع في تأويله ليجعل من القرآن كتاباً مكنوناً لا يمسّه إلاّ المطهّرون، مقابل وجود قرآنٍ ظاهري يتشكّل من ألفاظ وعبارات ذوات مفاهيم معروفة، وهذا ما علّله بعض الأساتذة المعاصرين بأنّ الرابط بين ذلك القرآن المحفوظ لديه تعالى، وهذا القرآن المعروض على الناس هو رابط العليّة، غير أن هذا كما يرى «معرفة» تكلّف في التأويل، وتحمّل في القول بلا دليل، ولعلّنا في غنى عن البسط فيه والتذييل [81].

أما ما ذهب إليه الأخباريون بشأن هذا المنهج، فنقول: إن مرتكزهم في رفضه هو قولهم بعدم حجية ظواهر القرآن عندهم، وكونهم ذهبوا إلى هذا الرأي، فقد امتنع عليهم القول بذلك انسجاماً مع رؤيتهم، وهذه ليست المسألة الوحيدة التي هي موضع خلاف مع المدرسة الأصولية، بل هناك الكثير مما جمدت عنده المدرسة الأخبارية، ومنعت من تأويله وتفسيره إلاّ في نطاق الرواية، ويمكن لنا أن نحصر ما ذهب إليه هؤلاء بالآتي: فهم يرون أن الروايات دلت على اختصاص فهم القرآن بالنبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وأين هذا الكلام مما ذهب إليه الطباطبائي بأن عامة الناس يفهمون كتاب الله تعالى، وأن العقل يدرك المعارف والأصول الاعتقادية [82].

كما ارتكز هؤلاء إلى ما جاء في القرآن بأن هناك من المضامين الدينية والحقائق القرآنية ما لا يمكن إلاّ للراسخين في العلم استنباطه والوصول إليه، إضافة إلى رأيهم فيما اشتمل عليه القرآن من آيات متشابهة، وهذا يمنع من التمسك بظواهره، وأين هؤلاء مما ذهب إليه الطباطبائي من أن قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ هو من الآيات المحكمة [83].

وعموماً يمكن القول: إن هذه المدرسة الاخبارية في ما أسست له لم تصمد أمام المدرسة الاصولية بسبب جمودها عند الرواية، وضربها للبراهين العقلية، إلى غير ذلك مما اعتمدته لرفض بعض المناهج التفسيرية، سواء كان منهج تفسير القرآن بالقرآن، أم أي منهج عقلي آخر من المناهج التي استوى عليها المسلمون في تاريخهم. ولا شك في أن الأصوليين قد ناقشوا هذه الأدلة، وبيّنوا تهافت الكثير منها، وأظهروا أن تفسير القرآن بالقرآن ليس تفسيراً بالرأي، وكما بيّن السبحاني، أن الطباطبائي تميز في كونه اختار منهجه الفذ ليمنع من التفسير بالرأي الذي نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

نعم، هناك تفاسير كثيرة سميت بتفسير القرآن بالقرآن في تاريخ المسلمين، ولكن تفسير الطباطبائي هو من أهم التفاسير على الاطلاق، لكونه فسر القرآن بالقرآن بشكل كامل خلافاً لمن استخدم هذا المنهج بطريقة جزئية، أو اختار مقتطفات لفهم حكم شرعي، أو مبدأ أخلاقي [84]، ولهذا نلاحظ الشيخ الطوسي مثلاً قد استفاد من هذا الأسلوب، ولكن ليس بالمقدار الذي يصنف معه تفسيره (التبيان) على هذا النهج، بل هو معدود من التفاسير الجامعة بين الأسلوبين العقلي والنقلي.

 

 

ثالثاً: دلالة السياق في تفسير الطباطبائي

 

قال الزمخشري في أساس البلاغة: « ... ومن المجاز: ساق الله إليه خيراً، وساق إليها المهر، وساقت الريح السحاب، وفلان في ساقة العسكر، في آخره، وهو جمع سائق كقادة في قائد، ويقال: تساوقت الإبل: تتابعت، وهو يسوق الكلام أحسن سياق... وقامت الحرب على ساقها، وكشف الأمر عن ساقه...» [85].

وجاء في لسان العرب في شرح مادة (سوق) «ساق الإبل وغيرها يسوقها سوقاً وسوّق وسياقاً... وقال الله تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [86]، والسياق: نزع الروح...» [87]. وقال في المعجم الوسيط: «ساق الله خيراً ونحوه: بعثه وأرسله...» [88].

أما في الإصطلاح، فمعنى السياق، هو بناء كامل من فقراتٍ مترابطةٍ في علاقته بأي جزء من أجزائه، أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة، أو كلمة معينة، وهو ما يسمى بالقرينة الحالية، إذ إنه قد يعبر عن القرينة الحالية بالسياق [89]، نحو قول المتنبي:

فيوماً بخيلٍ تطردُ الروم عنهُمُ ويوماً بجودٍ تطرد الفقر والجَدْبا [90]

فتطرد الثانية مجاز لغوي، والقرينة حالية، لأن الفقر لا يطرد.

وطالما أن البحث هنا في السياق في تفسير الطباطبائي، فيكون المحدد هو الإستفادة من سياق الآيات القرآنية، بحيث يظهر ذلك الارتباط الحاصل بين الألفاظ، أو العبارات، أو الجمل الناتج بسبب الإقتران الواقع بينهما... والسياق له عدة أقسام: فربما يكون السياق، سياق كلمات، أو سياق جمل، أو سياق آيات، وهذا ما سنحاول التعرف إليه في تفسير الطباطبائي نظراً لتميزه في إظهار الحقائق والمعارف القرآنية من خلاله، فنقول: لقد أثر السياق في تفسير الميزان إلى حدّ أنه اعتمد في مناقشته لكثير من الأقوال على سياق الآيات، وقد لازمته الفكرة السياقية في تفسيره، فكانت سمة مميزة له، وهذا يتضح من طريقة تعامل الطباطبائي مع النصوص والروايات التي حفل بها في تفسيره، حيث تراه يحدّد معاني الآيات، وأين نزلت في مكة، أو في المدينة من خلال السياق، ويمكن ملاحظة ذلك في بحوثه الروائية. فالطباطبائي، كمفسر، لم يبتعد عن ظروف الآية الزمنية وعلاقتها بما بعدها من الآيات، وهذا ما سيتضح لنا من خلال بعض النماذج، سواء في الآيات، أم في الروايات.

 

 

قال الله تعالى: ﴿ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ  [91]، قوله: أدراكم به أي أعلمكم به، والعمر بضمتين أو بالفتح فالسكون، هو البقاء. وإذا استعمل في القسم كقولهم لعمري ولعمرك تعين الفتح، وهذه الآية، كما يرى الطباطبائي، تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم، وهو قولهم: «اِئت بقرآن غير هذا»، ومعناها على ما يساعد عليه السياق، أن الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيّتي، فإنما أنا رسول الله، ولو شاء أن ينزل قرآناً غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم، ولا أدراكم به، فإني مكثت فيكم عمراً من قبل نزول القرآن وعشت بينكم وخالطتكم وخالطتموني، فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن، ولو كان ذلك إلي وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك... فليس إلي من الأمر شيء، وإنما الأمر في ذلك إلى مشيئة الله، وقد تعلقت مشيّته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون؟

وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [92] فظاهر السياق أن قوله ﴿ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ بيان لقوله: ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾، ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر، والقضاء إنما يوجب الحسرة إذا كانت بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه وأمنية نفسه، الذي كان يقدر حصوله لنفسه، ولا يرى طيباً للعيش من دونه لتعلق قلبه به، ومعلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه، وإن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه، إلاّ أن تصرفه عنه الغفلة، فيفرّط في جنبه، ولذلك عقب الكلام بقوله: ﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، يقول الطباطبائي: «وفيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية والله الهادي...» [93].

كما استعان الطباطبائي بالسياق لتعين معاني بعض الألفاظ الواردة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ  [94]. فهذا نفي لشأنية الإفتراء عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفي فعليته، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله تعالى، فهناك فرق بين أن تقول: ما كان زيد ليقوم، وأن تقول: لم يقم أو ما قام زيد، إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعد له استعداداً، والثاني ينفي القيام عنه فحسب، وفي القرآن مثله كثير، كقوله تعالى: ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ [95] وقوله: ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [96]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ  [97]، فالسياق يرشد إلى الشأنية وليس إلى الفعلية وهذا قلما التفت إليه أحد من المفسرين، ما يجعل للطباطبائي الفرادة في استفادة المعنى الحقيقي للآية من خلال السياق، سواء من خلال الارتباط الحاصل بين الألفاظ، أو العبارات، أو الجمل... ومن جملة ما استفاده الطباطبائي بالسياق أيضاً ما ذهب إليه في قوله تعالى: ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [98]. وللمفسرين رأيان في هذه الآية:

الرأي الأول، قال: إن معنى اللهو في هذه الآية، هو المرأة والولد وهي إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين، الذين يعتقدون أن لله تعالى زوجة وولداً. أما الرأي الثاني، فذهب إلى أن معنى اللهو هو التسلي، أو الأهداف غير المعقولة، وعلى هذا يكون معنى الآية أن هدف الخالق ليس التسلي، وقد تمسك أصحاب الرأي الثاني بالسياق لرد الرأي الأول، لأن ارتباط الآيات أعلاه سينقطع بالآيات السابقة، فضلاً عن أن كلمة (اللهو) إذا جاءت بعد كلمة (اللعب) فتعني التسلي وليس المرأة والولد [99]، وقد استفاد الطباطبائي من هذه الطريقة في تفسير القرآن بالقرآن، واستدل بمفهوم السياق في كثير من الموارد في تفسير الميزان [100].

ومما يمكن أن نعرض له ونناقش في سياقه، هو ما لم يستو لنا وجه تفسيره عند الطباطبائي في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ  [101]، حيث نرى أن الآية تتحدث في سياق واحد عن العلماء الذين حصرهم الطباطبائي بالعلماء بالله تعالى، وهم الذين يعرفون الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة... والمراد بالخشية حينئذ حق الخشية، ويتبعها خشوع في باطنهم، يقول الطباطبائي: «هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية» [102]. وهكذا، فإن المفسّر يصر على أن السياق لا يفيد أكثر من هذا المعنى، الذي يحصر العلماء بمن خشي الله في صيامه وقيامه ومعرفة صفاته وأسمائه، رغم أن الآية، كما سبق من القول في مبحث مناهج المفسرين ومنهج الطباطبائي، تتحدث عن العلماء بشكل مطلق، الذين يعرفون حقيقة الخلق، ويكتشفون أسراره، سواء في مجال التشريع، أم في مجال التكوين، فلماذا حصر الطباطبائي معنى الآية بمن يعرف الله بأسمائه وصفاته، ويحسم الرأي في كون السياق يستدعي ذلك، في حين أن جل العلماء يذهبون إلى القول بأن العلماء هم مطلق العلماء وليس من يعرف حق الصيام والقيام فقط، وقد قلنا في ما سبق أنه يمكن إعادة النظر فيما ذهب إليه الطباطبائي على اعتبار أن صدر الآية يؤلف مع عجزها نسقاً جدلياً... ولا نرى أن سياق الآية المباركة يحصر العلماء بعلماء الشريعة، لأن كل عالم حقيقة يخشى الله تعالى، سواء أكان عمله في دائرة التكوين، أم في دائرة التشريع، فالكل يقوم باكتشاف أسرار الله في خلقه، فعالم النبات في النبات، وعالم الفيزياء في الطبيعة، وعالم التشريع في القرآن، ولعل السيد الطباطبائي لم يرد أن يخرج من دائرة السياق باستلهام معانٍ من خارج الدلالة القرآنية الظاهرة. كما يمكن القول أيضاً، أن هناك الكثير من السياقات التي يمكن إعادة النظر فيها، لأن الإنسان يتفاعل مع نص مطلق وهادف إلى تبيان الحقيقة، ويمكن للإنسان أن يحيط بأسرار هذا الكتاب الكريم، وإلا فما يكون معنى وفائدة، أنه كتاب لكل ناس في كل زمان، وأنه في كل زمان جديد كما روي عن الرضا (عليه السلام)، حيث يمكن أن يكون مفاد السياق مطلق العلماء، وليس مجرد علماء القيام والصيام وسائر التكاليف والمعارف الدينية. ولا شك في أن الطباطبائي كان متواضعاً في تفسيره، فلم يخلط بين ما يراه دلالة سياقية، يراها مناسبة، وبين ما قد يصحّ أو لا يصحّ تفسير القرآن به من روايات أو آيات، فاكتفى بدلالة السياق على النحو الذي يُظهّر رأيه وفاقاً لدلالات من آيات وروايات أخرى، وهو يشير إلى هذا منعاً لأي التباس، بحيث يُظنّ أن الطباطبائي يريد أن يفرض رأيه على كتاب الله تعالى، مما قد يؤدي سهواً إلى الانضواء تحت عنوان (مدرسة الرأي) [103]... فالطباطبائي عالم في المعقول والمنقول ويخشى الله تعالى حق خشيته، وقد بلغ من التقوى درجة قلما بلغها إنسان عايشه وتفاعل معه علماً وعملاً. ولهذا، نجده دائماً يحرص على أن لا يخلط بين تفسير الآيات وما يراه بشأنها من بحوث اجتماعية، وفلسفية، وروائية.

كما نلاحظ أيضاً أن الطباطبائي (قده) لم يرد أن يجهد طالب الحقائق القرآنية بعروض السياقات التي تفنن فيها علماء اللغة والبلاغة والصرف، وغير ذلك مما اصطلح عليه العلماء قديماً وحديثاً بأنماط السياق المختلفة كما اعتاد بعض المفسرين، كالسياق النحوي واللغوي والصوتي والعرفي والمعجمي والقصصي، أو ما اصطلح عليه بالسياق الخارجي من سياق في المقام والحال، أو السياق الاجتماعي والتاريخي، وسياق الموقف إلى غير ذلك مما يمكن أن يطلب من مظانه. فلم يرد الطباطبائي أن يُغرق تفسيره في هذه السياقات المتعددة والمختلفة فيما بينها ليجعل من تفسيره كتاباً وموسوعة في التفسير، كما فعل أسلافه من المفسرين، وإنما أراد أن يُفسر القرآن بالقرآن على النحو الذي يستطيع معه أن يبين المعاني والحقائق والمعارف القرآنية، التي يجب أن يهتدي إليها الإنسان في طريقه إلى الله تعالى، وكل ما احتاجته هذه الطريقة، وهذا الهدف المقدس استعان به الطباطبائي ليكون تفسيره منسجماً مع هدفه [104]، ولهذا، هو اعتمد السياق واستفاد منه بما يسمح له بيان المراد من الآيات القرآنية، سواء في مجال اللغة أو في مجال الاجتماع، أو في مجال القصص، فكل علم المفسّر انصب على استكشاف الكنوز والمعارف القرآنية، وقد وفق أيما توفيق في ذلك نظراً للبراعة والمعرفة التي تميز بها في الاستفادة من السياق، سواء في مجال الكلمات أو العبارات، أو الجمل، وهذا لا يعني، كما سلف القول، أن الطباطبائي لم يترك شيئاً إلا قدّمه في تفسيره، فهذا مما لا يقدر عليه إلاّ مَن اصطفاه الله تعالى لتلقي كتابه، ويسّره بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوماً لُدّاً.

 

 

لقد استعان الطباطبائي أيضاً بالسياق في قبول الروايات ورفضها، وقد ظهر هذا الأسلوب عنده في روايات أسباب النزول، فهو اعتمد في قبول أكثر الروايات على ما يلائم السياق كما ظهر في تعليقه على ما جاء في تفسير البرهان عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ [105]، يقول الطباطبائي: « إن وقوع الجملة في سياق هذه الآيات وهي مكية يأبى نزولها يوم بدر، أو في أهل بدر [106]، وكما نلاحظ أن الجملة جاءت في قوله تعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾، وهي أيضاً في سياق آيات أهل الجنة، وهي مكية، ولا يساعد السياق على أن تكون نازلة بأحد [107]...

ومن نماذج استعانة المفسر بالسياق لقبول أو رد الروايات، هو إضرابه عن بعض ما روي في أسباب النزول في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً  [108].

يقول الطباطبائي: «إنه في سياق النهي، وقد جمع فيه بين الكافرين والمنافقين، كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمراً لا يرتضيه الله تعالى وكان المنافقون يؤيدونهم في مسألتهم ويلحّون... وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدداً من صناديد قريش بعد وقعة أحد دخلوا المدينة بأمان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم وآلهتهم فيتركوه وإلهه فنزلت الآيات ولم يجبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك وفي البحث الروائي، يرى الطباطبائي، أن الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور السلمي قدموا المدينة بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد فنزلت الآية ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾، من أهل مكة أبا سفيان وأبا الأعور، وعكرمة، والمنافقين ابن أبي وابن سعيد وطعمة، يقول الطباطبائي: وروي إجمال القصة في الدر المنثور عن جرير عن ابن عباس، وروي أسباب أُخر لنزول الآيات، لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها» [109].

كما استخدم الطباطبائي سياق الآيات أيضاً في الترجيح بين الآراء، فمثلاً تراه يقدم ما ورد في روح المعاني في خصوص طلب موسى (عليه السلام) الرسالة لأخيه هارون في قوله: ﴿ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾ [110] أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معيناً لي على تبليغ الرسالة، حيث يقال لمن نزلت به نائبة، أو أشكل عليه أمراً أرسل إلى فلان، أي استمد منه واتخذه عوناً. فالجملة أعني قوله فأرسل إلى هارون، متفرعة على قوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَخَافُ ﴾ وذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدر وعدم الإنطلاق في اللسان توطئة وتقدمة لذكرها، وسؤال موهبة الرسالة لهارون، فهو رأي موسى (عليه السلام)، اعتل بما اعتل به وسأل الرسالة لأخيه ليكون شريكاً له في أمره، معيناً له في التبليغ، لا فراراً من تحمل أعباء الرسالة واستعفاءً منها، قال في روح المعاني: ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع «فأرسل» بين الأوائل وبين الرابعة، أعني قوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ﴾ فأذن بتعلقه بها ولو كان تعللاً لأخر، وهو حسن وأوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ [111].

هذه نماذج مختصرة وواضحة لما قدمه الطباطبائي في باب معنى السياق ودلالاته، سواء في الآيات، أم في الروايات، أم في القراءات، وهذا ما سنقدم نموذجاً عنه فيما يأتي، لكن قبل ذلك لا بد من التركيز على مبدأ وحقيقة أن الطباطبائي جعل من السياق أساساً ومرتكزاً للتمييز بين المكي والمدني، إذ هو يرى أن العلم بمكية السورة ومدنيتها، ثم ترتيب نزولها له أثر هام في البحوث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والمدني والسياسي في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحليل سيرته الشريفة. والروايات ـ كما نرى ـ لا تصلح أن تنهض حجة معتمداً عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.

إن الطريق المتعين لهذا الغرض، برأي المفسّر، هو التدبر في سياق الآيات، والاستمرار بما يتحصل من القرائن والإمارات الداخلية والخارجية [112].

وإذا كان الطباطبائي قد قدم نماذج فيما يتعلق بسياق الآيات والروايات، فإنه كذلك يقدّم انموذجاً في ما يتصل بالقراءات، فهو يفضّل بعضها على بعض على أساس السياق، ففي تفسير قوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [113].

فالمفسر في قراءته لهذه الآية يذكر أن قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ قرىء بنصب يقول، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، وقرىء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين، لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: ﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾، لا يناسب السياق كل المناسبة [114].

لقد اهتم الطباطبائي بالسياق وجعل منه أساساً ومرتكزاً للفهم، لكون المنهج الذي اعتمده في تفسير القرآن بالقرآن يحتم هذا الاهتمام بالسياق لأجل أن يتمكن من فهم المراد من الآيات أولاً، ولتمحيص الروايات ثانياً، ولمعرفة القراءات ثالثاً، وقد قدم نماذج عن كيفية استعانته بالسياق لهذه الغاية. ولعل الدافع إلى ذلك، هو أن الطباطبائي يرى في القرآن تبياناً لكل شيء، ولا بد أن يكون الأصل هو المعنى المستفاد من الآية، ومن ثم الاستفادة بالآية في إثبات حجة ما ثبت في الرواية، والإستعانة بالرواية لتأكيد ما ثبت في الآية، وهذا كله يحتاج إلى وعي كامل بالسياق، سواء في الآية، أم في الرواية، وذلك لما يشكله السياق من قوة خفية تقف وراء المعنى، بل هو مصنع الدلالات، مَثلُه مثل الجاذبية في الطبيعة مع أنها غير منظورة، إلاّ انها تقف وراء معظم الظواهر الفيزيائية فيها...!


[1] انظر الطباطبائي، محمد حسين، الشيعة في الإسلام، م.س، ص77.

[2] سورة الأحزاب، الآية: 33.

[3] سورة النساء، الآية: 82.

[4] الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج1، ص12.

[5] يرى الطباطبائي، أن القرآن هو المصدر الأساسي للفكر الديني الإسلامي، وقد أعطى للسامعين حجّية واعتبار ظواهر الألفاظ، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة، وتعتبر حجة كالآيات القرآنية، ويؤيده قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. سورة النحل، الآية: 44. ورا: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص77.

[6] نقول استعان الطباطبائي بأقوال الصحابة فيما إذا كانت متضمنة أقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أفعاله ولم تخالف أحاديث أهل البيت (عليهم السلام). أما إذا لم تكن كذلك فلا اعتبار لها. وإذا كانت متضمنة لرأي الصحابي فحسب، فليس لها حجيّة، ويعتبر الصحابي كسائر المسلمين... را: الشيعة في الإسلام، م.س، ص79.

[7] يقول الآملي في تظهير الرؤية العقلية للطباطبائي: «ولما كان القرآن يقدّر البراهين العقلية ويحترمها، بل هو نفسه يُقيم الأدلة القاطعة لبيان المعارف الإلهية، وهو كذلك سند حجيّة العقل، فإنه لا يمكن تفسير أي آية من دون الاستعانة بالبراهين العقلية، وبهذا التحليل الموجز تتضح لنا رفعة التفسير الذي كتبه الطباطبائي» را: الآملي، عبد الله، الطباطبائي، مفسراً وفيلسوفاً، دراسات في فكره ونهجه، م.س ص75 ـ 80.

[8] لم يكن موقف الطباطبائي سلبياً اتجاه ما نسميه بالمأثور، بل هو إلى جانب رؤيته العقلية في التفسير أضاف المأثور إلى تفسيره من دون احتشاد، كما فعل أسلافه من المفسرين، بهدف اظهار منهج تفسيري واضح يتفاعل مع رأيه العقلي ويبين نهجه في التفسير، فهو استفاد من المنهج الأثري من خلال طريقته في تفسير القرآن بالقرآن الذي يبقى هو المنهج الأساسي في التفسير...

[9] را: الطباطبائي، الميزان، ج1، م.س، ص12.

[10] را: يوسف البحراني، الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، (ت: 1186هـ)، تحقيق محمد تقي الايرواني، جماعة المدرسين، قم، ج1، ص29.

[11] را: الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص65.

[12] انظر: هادي، معرفة، التفسير والمفسرون، مؤسسة الطبع والنشر في المشهد الرضوي المقدس، ط2، 1426هـ، ج2، ص127. وقا: مع السبحاني، جعفر، المناهج التفسيرية في علوم القرآن، بيروت، دار الولاء، ط3، 1426هـ. ص65.

[13] سورة المائدة، الآية: 68

[14] سورة المزمل، الآية: 5.

[15] سورة الحشر، الآية: 21.

[16] سورة الأحزاب، الآية: 72.

[17] سورة الأعراف، الآية: 145.

[18] سورة البقرة، الآية: 63.

[19] سورة الشورى، الآية: 13.

[20] را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج6، ص54.

[21] سورة المائدة، الآية: 68

[22] سورة البقرة، الآية: 30.

[23] سورة الأعراف، الآية: 69.

[24] سورة يونس، الآية: 14.

[25] سورة النمل، الآية: 62.

[26] سورة القيامة، الآية: 12.

[27] سورة الانشقاق، الآية: 6.

[28] سورة العلق، الآية: 8.

[29] سورة النجم، الآية: 42.

[30] قد يسأل البعض، هل ثمة قاسم مشترك بين رؤية الطباطبائي في المنهج الموضوعي، وبين رؤية الشهيد محمد باقر الصدر لهذا المنهج؟ لا شك في أن رؤية كل منهما تتطابق مع الآخر في اعتبار المنهج الموضوعي، وفي كونه يتجاوز المنهج التجزيئي بخطوة كما يرى الصدر لكونه يُخرج المفسّر من سلبيته مع القرآن ليكون أكثر إيجابية في تحديد ومناقشة المواضيع التي يعرض لها القرآن في ميدان الحياة. فالمفسر من خلاف المنهج الموضوعي يمكنه من خلال تفسير القرآن بالقرآن، كما يرى الطباطبائي، أن يخلص إلى موقف، وإلى تحديد نظرية، أما في التجزيئي، فإنه يكتفي بإبراز عبقريته اللغوية والأدبية والروائية. والحق يقال: إنه مثلما أخرج صاحب جواهر الكلام، محمد حسن النجفي، الفقه من الدائرة الجزئية إلى الدائرة الموضوعية، فكذلك كل من الشهيد الصدر والمرحوم الطباطبائي استطاع كل منهما على طريقته إخراج التفسير من دائرة الآيات المستقلة إلى دائرة الموضوعية، بحيث يكون الموضوع هو الأساس وليس رؤية المفسر بهذه الآية أو تلك. ولعله يمكن القول إن الشهيد الصدر امتاز عن الطباطبائي في كونه عرض للمنهج التوحيدي، الذي يوحد بين النص القرآني والتجربة لا على نحو إخضاع القرآن للتجربة، وإنما على نحو استخلاص المواقف الرسالية اتجاه ما يعيشه الإنسان من تجارب علمية وعملية، اجتماعية وسياسية، وقبل ذلك عقائدية. ولا شك في أن هذا كله يبقى غير ممكن ما لم يفسر القرآن بالقرآن كخطوة أُولى باتجاه الموضوعية، وهذا ما يشكل رؤية منهجية مشتركة بينهما.

[31] سورة البقرة، الآية: 190.

[32] سورة البقرة، الآية: 191.

[33] سورة الكافرون، الآيات: 1 ـ 6.

[34] سورة النساء، الآية: 77.

[35] سورة البقرة، الآية: 109.

[36] سورة الحج، الآية: 39.

[37] سورة التوبة، الآية: 29.

[38] سورة التوبة، الآية: 123.

[39] سورة الروم، الآية: 30.

[40] سورة البقرة، الآية: 251.

[41] سورة الأنفال: الآية: 24.

[42] را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص67، وج6، ص348، وج2، ص63.

[43] م.ع، ج2، ص63.

[44] سورة التوبة، الآية: 33.

[45] قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ... ﴾ سورة النور، الآية: 55.

[46] سورة البقرة، الآية: 256.

[47] را: الآملي، عبد الله، دراسات في فكر الطباطبائي، سلسلة أعلام الفكر والاصلاح في العالم الإسلامي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2012، بيروت، ص97.

[48] را: السبحاني، جعفر، المناهج التفسيرية في علوم القرآن، م.س، ص15.

[49] الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج1، ص15.

[50] الإمام علي، نهج البلاغة، م.س، الخطبة: 192.

[51] الطباطبائي، محمد حسين، القرآن في الإسلام، م.نس، ص28.

[52] را: الطبري، ابن جرير، تاريخ الأمم والملوك (ت310)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج21، ص27.

[53] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص11.

[54] را: الطباطبائي، الشيعة في الاسلام، م.س، ص74.

[55] يمكن للباحث في العلوم القرآنية أن يتأمل فيما هو عليه تفسير الطبرسي من آراء لغوية ونحوية وترجيح فيما بينها، إضافة إلى وجوه الإعراب، وفيما هو عليه تفسير الطباطبائي من ذلك، فهذا الأخير يستفيد من المعطى اللغوي لصالح الحقيقة القرآنية، فلا تجد فيه ما يماثل استطرادات الطبرسي أو الزمخشري أو الرازي، وغيرهم كثير في المجال اللغوي النحوي، بل يكتفي صاحب الميزان بإيراد القدر الذي يساعد في بيان الآية ويزيل من غموضها، وهذا لا يقلل من قيمة الطبرسي، أو غيره، وإنما الغاية من الإشارة إلى ذلك، هي إظهار ما تمايز به الطباطبائي عن غيره من المفسرين...

[56] انظر: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص13.

[57] م.ع، ص15.

[58] م.ع، ص16.

[59] لا شك في أن الطباطبائي يقدر العقل ويرى له الدور الكبير في الكشف عن الحقائق والمعارف القرآنية، وإذا كان له موقف سلبي من منهج التفسير العقلي الذي اعتمده الفلاسفة، فهو لم يتخذ موقفه من العقل وإنما من طريقة اعتماده، على اعتبار أن الفلاسفة ومعهم المعتزلة قد حملوا ما لديهم من أفكار وقبليات فلسفية على الآيات، وهذا ما رأى فيه الطباطبائي خروجاً عن العقل الذي يحترمه القرآن، وكما أسلفنا، فإن الطباطبائي يميز بين الأدلة القاطعة، وبين ما هو رأي، وهذا ما بينه في الميزان بقوله: «إن الكتاب، والسنة القطعية، من مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانياً على بطلان ما برهن على حقيته أولاً. را: الميزان، م.س، ج5، ص258.

[60] هنا فرق كبير بين تفسير القرآن بالقرآن، وضرب القرآن بالقرآن، حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر». را: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، م.س، كتاب القرآن، الباب4، الحديث(1). ومعنى هذا الحديث الصادق، هو أن يقوم الباحث أو المفسّر بتجزئة حقيقة القرآن، التي هي حقيقة واحدة متماسكة، والفصل بين الناسخ والمنسوخ، وقطع الصلة بين العام والخاص، ومن معاني الضرب أيضاً أن نفسر الآية بالهوى، أو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى، أو أن يهمل الباحث ما يوصل صدر الآية بذيلها، أو مَن يعمد إلى تغيير مسار معنى الآية، وتفسيرها بما يخالف معناها... إلى غير ذلك مما يعتبر ضرباً بالرأي...

[61] يستحيل التصادم بين الحقائق القرآنية وبين الحقائق العلمية، لأنهما من مشكاة واحدة، وينبغي أن يكون من المسلمات أن الحقائق القرآنية المتعلقة بأي جانب من جوانب الكون أو الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، إذا كانت قطعية الدلالة، لا يمكن أن تصادمها حقيقة علمية توصّل إليها الجهد البشري... وما يثيره بعض الناس من توهم بوجود تناقض فهو سوء فهم للحقيقة القرآنية بأن يتوهمها قطعية الدلالة ولا تكون كذلك أو سوء فهم للحقيقة العلمية بأن يظنها حقيقة علمية وهي لا تزال في طور النظرية، يقول مصطفى مسلم: «نحن نقول باستحالة وقوع مثل هذا التناقض، لأننا نؤمن بأن القرآن منزل من خالق السماوات والأرض وواضع سننه ومدبّر شؤونه، وأن الحقائق العلمية التي تكتشف هي من صنعه ووضعه في هذا الكون، ولا يليق بحكمة الحكيم الخبير أن يخلق شيئاً على هيئة معينة ثم يخبرنا بخلافها حاشاه سبحانه، وهو القائل تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ سورة الملك، الآية: 14. را: مباحث في إعجاز القرآن، دار القلم، دمشق ط4 سنة 2008 ص163.

[62] سورة فاطر، الآيتان: 27 ـ 28.

[63] يرى الصدر أنه على المفسر أن يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه، يحمل أفكار عصره، والمقولات التي تعلمها في تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسّر أن يفهمه، أن يستشفه، أن يتبينه من خلال مجموعة آياته. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مرتكز هذا المنهج عند الصدر هو أن الحوار مع النص، والاستنطاق له، والجدلية معه، ومن ثم مواكبة الحياة، كل هذا هو الذي يشكل صلب أية نظرية معاصرة. را: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، دار التعارف، بيروت، 1993، ص57.

[64] انظر السبحاني، جعفر، الشمولية عند الطباطبائي، دراسات في فكره ونهجه، مركز الحضارة للتنمية، تأليف مجموعة مؤلفين، تعريب عباس صافي، ط1، بيروت، 2012، ص43.

[65] را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص12.

[66] را: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص75.

[67] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج1، ص9 ـ 11.

[68] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص77.

[69] السبحاني، جعفر، الشمولية عند الطباطبائي، م.س، ص279.

[70] سورة النحل، الآية: 89.

[71] سورة النساء، الآية: 174.

[72] سورة النساء، الآية: 82.

[73] را: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص79.

[74] سورة النساء، الآية: 101.

[75] سورة البقرة، الآية: 158.

[76] را: محمد بن مسعود بن عياش، تفسير العياشي، ج1، م.س، ص288.

[77] را: سبحاني، جعفر، الشمولية عند الطباطبائي، سلسلة أعلام الفكر والإصلاح، مركز الحضارة التنمية الفكرية والإسلامي، م.س، ص49.

[78] الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، دار الهلال، النجف الأشرف، 1427هـ، ص197.

[79] را: معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، مشهد، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، 1426هـ، ج2، ص1026.

[80] انظر: معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، دار الميزان، بيروت، ط1، 1991، ص467. فهو يتهم الطباطبائي بشدة ويرفض مسحته العرفانية في التفسير، يقول: فما الذي دعا الطباطبائي إلى القول بوجود قرآن مذخور ـ فرضاً ـ تأويلاً ووجوداً عينياً لهذا القرآن الحاضر؟ وهل يصح إذا كان للشيء وجودان، وجود مبذول ووجود محفوظ، أن يطلق على وجوده الآخر عنوان التأويل لهذا الوجود؟ إن هذا إلاّ كلام منبعث من ذوق عرفاني، بعيد عن مجال الجدل والإستدلال، نعم سوى استحسان عقلي مجرد!!!

[81] م.ع، ج1، ص40.

[82] را: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص74.

[83] يقول الآملي: «كان الطباطبائي مطلعاً وعارفاً بجميع مُحكمات القرآن الكريم، ولطالما صرح بأن أكثر الآيات المحكمات وضوحاً هي قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾. را: الآملي، عبد الله، الطباطبائي، فيلسوفاً ومفسراً، م.س، ص73.

[84] من التفاسير التي أخذت بهذا المنهج: تفسير الفرقان في تفسير القرآن للدكتور محمد الصادقي الطهراني، وتفسير آلاء الرحمن للشيخ محمد جواد البلاغي، تفسير القرآن للشيخ عبد الكريم الخطيب، تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن للشيخ محمد أمين مختار. را: معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون، ج2، م. س، ص1025 ـ 1027.

[85] الزمخشري، جار الله أبو القاسم محمد بن محمد، أساس البلاغة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001، ص375.

[86] ابن منظور، لسان العرب، إعداد يوسف خياط، نديم مرعشلي، دار لسان العرب، بيروت (د.ت) ج2، ص242.

[87] المعجم الوسيط، قام باخراجه إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، مطبعة مصر: 1960، ص210.

[88] معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، د. مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، بيروت، 1984، ص288.

[89] ناصيف اليازجي، العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، بيروت.(د ـ ت)، ج2، ص337.

[90] انظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير القرآن، التحرير والتنوير، ط الدار التونسية، تونس، 1984، ج11، ص193.

[91] سورة يونس، الآية: 16.

[92] سورة مريم، الآية: 39.

[93] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج14، ص50.

[94] سورة يونس، الآية: 37.

[95] سورة يونس، الآية: 74.

[96] سورة الشورى، الآية53.

[97] سورة العنكبوت، الآية: 40.

[98] سورة الأنبياء، الآية: 17.

[99] انظر: مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت ط1، 2007، ج13، ص370 ـ 371.

[100] يقول الطباطبائي: «وحجة الآيتين ـ كما ترى ـ تعتمد على معنى اللعب واللهو، واللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان... وإذا كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية، فهو من مصاديق اللهو هذا. را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج14، ص260.

[101] سورة فاطر، الآية: 28.

[102] الطباطبائي، الميزان، م.س، 17، ص43.

[103] السبحاني، جعفر، الشمولية عند الطباطبائي، م.س، ص50.

[104] لاحظ مثلاً كيف أن الطباطبائي ينشد الفائدة من تفسيره، فهو لا يتعصب لموقف أو رأي حتى ولو كان لأهل مدرسته، فتجده يورد لعلماء الشيعة نصوصاً ويفندها سياقياً، فيقول فيما رواه تفسير القمي في قوله تعالى: ﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾، حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تخضع رقابهم يعني بني أمية وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الأمر، يقول الطباطبائي: وهذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي والصدوق في كمال الدين والمفيد في الارشاد، والشيخ الطوسي في الغيبة، والظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه. را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج15، ص253.

[105] سورة الحجر، الآية: 47.

[106] الطباطبائي، الميزان، مأخوذ بتصرف، م،ص، ج12، ص176.

[107] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج12، ص176.

[108] سورة الأحزاب، الآية: 1.

[109] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج16، ص287.

[110] قال تعالى: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ﴾ سورة الشعراء، الآيات: 10 ـ 14.

[111] سورة القصص، الآية: 34.

[112] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص120.

[113] سورة البقرة، الآية: 214.

[114] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص162.


 



 

 

 

أولاً: تأويل القرآن عند الطباطبائي

 

التأويل في اللغة من: أوّل الكلام وتأوله: دبّره وقدّر، وأوله وتأوله: فسّره، وقوله عزَّ وجل: ولمّا يأتكم تأويله، أي لم يكن معهم علم تأويله، وهذا دليل على أن علم التأويل ينبغي أن ينظر فيه... وفي حديث ابن عباس: اللَّهم فقههُ في الدين، وعلّمه التأويل... والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، وقال أبو منصور: وقال أَبو منصور: يقال أُلْتُ الشيء أؤوله إذا جمعته وأصلحته فكان التأويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه [1]، فالتأويل هو ضربُ من حركة مرتدّة تحاول الرجوع باللفظ إلى معاني غير موضوعة له... فالتأويل يعتمد على آليات التفسير المذكورة ليوظفها لأجل إضاءة النص... أي الوقوف على النص على ما تدل عليه لحظة التلقي بين النص والمتلقي مع لحظة وعي النص ورتبته... [2]. أما التفسير، فهو في اللغة، البيان، فسر الشيء يفسره، بالكسر، وتفسرُه بالضم - فسرا وفسره أبانه، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ، الفسِر: كشف المغطى عن اللفظ المشكل... [3].

لا شك في أن تأويل القرآن، هو من أكثر المسائل أهمية وتعقيداً في تاريخ الإسلام والمسلمين ولعله يصح القول: إن تاريخ المسلمين هو تاريخ التأويل والتفسير، بل وحروب التأويل والتفسير، حيث جاء في الأثر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل على تنزيل القرآن وعلي (عليه السلام) قاتل على تأويله، وكما جاء في كتاب العين: نحن ضربناكم على تنزيله، فاليوم نضربكم على تأويله [4].

يقول الطباطبائي في دقته المعهودة في معنى التأويل: «التأويل من الأول وهو الرجوع، فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، وتأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه» [5].

إن الذي ميّز الطباطبائي في تفسيره للقرآن، وكذلك في تأويله، هو أنه يرى للقرآن مرجعاً أصلياً ثابتاً في أُمّ الكتاب لا يتغيّر ولا يتبدل، وهو إنما أُنزل بهدف الإنذار والبشارة، كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ سورة مريم، الآية: 97.

هذه هي حقيقة القرآن عند الطباطبائي، والتأويل والتفسير عنده ينطلقان من هذه الحقيقة، وكما سوف نرى أن المفسّر لم يذهب في مذاهب الفقهاء وأهل التفسير قديماً وحديثاً ليختلف معهم فيما هو بحاجة إلى تفسير، وفيما هو بحاجة إلى تأويل، وإنما يحسم الجدل في هذه المسألة بالقول: «إن ما يذكُره القرآن بكلمة (التأويل) لم يكن مدلولاً للفظ، بل حقائق وواقعيات أعلى شأناً من فهم عامة الناس، وهي الأساس للمسائل الاعتقادية والأحكام العملية للقرآن، نعم إن لكل القرآن تأويلاً، ولا يدرك تأويله عن طريق التفكر مباشرة، ولا يتضح ذلك من ألفاظه، وينحصر فهمه وإدراكه بالأنبياء والصالحين من عباد الله، الذين نزهوا أنفسهم من كل رجس، فإنهم يستطيعون إدراكه عن طريق المشاهدة، نعم إن تأويل القرآن سوف ينكشف يوم القيامة» [6].

فتأويل القرآن، كما يرى الطباطبائي، هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه، باعتباره الأصل له، هناك حيث تتجلى حقيقة القرآن الثابتة. وإذا كان القرآن قد ذكر لفظ التبشير والإنذار في موارد من كلامه، كما قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً [7]، فذلك إنما هو تنزّل بالحق فيما أُخبر به العباد وأُنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن النبوة حق، وأن الله يبعث من في القبور، وبالجملة كل ما يظهر يوم القيامة من أنباء النبوة وأخبارها [8].

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [9]، أي لا يتوصل إليه الفهم الاعتيادي ولا يبلغه... [10].

ومن هنا، فإن ما قيل: إن التأويل، في الآية السالفة، هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة، التي هي مطابقات، اسم مفعول أخبار الأنبياء والرسل والكتب، ويرده أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال وعما سيقع يوم القيامة. وأما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام، فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، وكذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق، فإن تأويلها معها، وكذا ما دل على قصص الأنبياء والأمم الماضية، فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله، لا إلى قسم خاص من آياته، كما قال الله تعالى ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ وهذا كاشف عن أن أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب.

يقول الطباطبائي في كتابه الشيعة في الإسلام: إن القرآن كله له تأويل [11]، وليس فقط الآيات المخبرة عن الصفات وبعض الأفعال المشهودة يوم القيامة، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [12]. أي ترى الأشياء كلها بالعيان يوم القيامة، وهذا ما أشار إليه تفصيلاً في كتابه الميزان، بقوله: «فالآيات، كما ترى، تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب» [13].

ولذلك، كما يرى الطباطبائي، ذكر بعضهم أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي، الذي يعتمد عليه الكلام، وهو أن مورد الأخبار المخبرة عن صفات الله وأسمائه ومواعيده وكل ما سيظهر يوم القيامة، وفي مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج، كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [14]. فإن تأويل إيفاء الكيل وإقامة الوزن، هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع، وهو استقامة أمر الاجتماع الإنساني، يقول الطباطبائي: «إن ظاهر الآية أن التأويل أمر خارجي وأثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل وإقامة الوزن، لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله: ﴿ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ... ﴾. فالتأويل أمر خارجي هو مرجع ومآل لأمر خارجي آخر، فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجية، كما في الأخبار، أو تعلقها بأفعال، أو أُمور خارجية، كما في الإنشاء، لها تأويل. فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء. هذا أولاً،

ثانياً: إن التأويل وإن كان هو المرجع الذي يرجع ويؤول إليه الشيء، لكنه رجوع خاص، لا كل رجوع، فإن المرؤوس يرجع إلى رئيسه وليس بتأويل له، والعدد يرجع إلى الواحد وليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقاً... [15].

فالقرآن، كما يرى الطباطبائي، هو المصدر الأساس للفكر الإسلامي، وهو الذي يعطي الاعتبار والحجيّة للمصادر الدينية الأخرى، لذا يجب أن يكون قابلاً للفهم لعامة الناس [16]، وإذا كان هناك من معنى للتدبّر الذي حثّ الله عليه العباد، كما في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [17]، فهو هذا المعنى، أن الله تعالى أنزل القرآن نوراً بيناً، وبياناً لكل شيء، وطالب بالتدبّر به لأجل أن يكون مفهوماً لدى العامة، فإذا لم يكن كذلك، فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها، وقد رد الطباطبائي على من زعم أن المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، ورأى أن لازم وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها، الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات، ومرجعه إلى أن في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلاّ بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، وهذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيرا  [18].

وهكذا، فإن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدل عليه الآية، سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلاً له، بل أمر خارجي مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل والباطن إلى الظاهر [19]. ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة واحدة بقوله: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾. فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات، كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه، نظير رجوع الضرب إلى التأديب، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج [20]...

يقول الطباطبائي: «إن التدبر في آيات خاصة في آيات القيامة، يعطي أن المراد هو ذلك أيضاً في لفظة التأويل في قوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ...، وقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ...، فإن أمثال قوله تعالى: ﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب وأنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية، التي نعهدها في الدنيا... فرجوع أخبار الكتاب والنبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة، ليس من قبيل رجوع الأخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل. فالتأويل للرؤيا، أو للحكم، أو للمصلحة شيء، وتأويل الكتاب شيء آخر، كما قال الله تعالى: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾» [21].

إن للتأويل في تفسير الطباطبائي ميزة خاصة، وفهم دقيق لم نألفه في كتب المفسرين، وقد فند الطباطبائي آراءهم في كل ما ذهبوا إليه، وخصوصاً فيما خلطوا به بين ما هو تأويل للمتشابه من الآيات، وبين ما هو تأويل لجميع القرآن، وهذا ما بيّنه الطباطبائي بوضوح فيما أشار إليه بخصوص ما ورد من آيات قرآنية تتضمن معنى التأويل، مبيِّناً أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة. فالتأويل عند الطباطبائي لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل، فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلاً [22].

وكيف كان، فإن فلسفة الطباطبائي في تأويل القرآن تقوم على رؤية ومسلمة ثابتة عنده، وهي أن القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن تناله العقول، أو يعرضه التقطع والتفصل، لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتاباً مقروءاً وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إليه ما دام الكتاب في أمّ الكتاب، وأم الكتاب هذا، هو المدلول عليه يقول الله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [23]، وقوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [24]. فالقرآن عنده يصدر من ناحية تعجز أفهام الناس عن الوصول إليها، والتوغل فيها، فلا يدركها إلاّ من كان من المخلصين وعباده المقربين، وأوليائه الصالحين، وأهل بيت النبي (عليهم السلام) خير مصداق لذلك [25].

إن قول الطباطبائي الذي صدّرنا به هذا المبحث، أن التأويل هو الرجوع، فتأويل المشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، بأن يرجع المتشابه إلى المحكم، كما قال الله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [26].

أما تأويل القرآن، فهو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه، وهذا ما تم التعرض له في سياق هذا المبحث، حيث بيَّن الطباطبائي أن المحصّل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم، وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرّقة المقطّعة ولا المعاني المدلول عليها بها، وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية والنفوس غير المطهرة [27].

لا شكّ في أن ما يذهب إليه الطباطبائي في إطار هذه الرؤيا كان موضع انتقاد من قبل بعض المفسّرين، حيث رأوا أنه يمكن قبول ما عرض له المفسّر في التأويل في عرف القرآن من حيث هو حقيقة يتضمّنها الشيء، ويؤول إليها، ويبتني عليها، كتأويل الرؤيا وهو تعبيرها، وتأويل الحكم وهو ملاكه، وتأويل الفعل وهو مصلحته وغايته الحقيقية، وتأويل الواقعة وهو علّتها الواقعية. أما بخصوص ما ذهب إليه من توسّع فيما فرضه للقرآن من تأويل خارج دائرة الفهم والدراية وافتراض وجود للقرآن محفوظ لا تمسّه الأفهام، فذلك مما لا يمكن التوافق معه عليه، وهذا ما ردَّ به العلاّمة «معرفة» فيما توجّه به من نقد لنظرية التأويل عند الطباطبائي، آخذاً عليه توسّعه في المدلول، ومتهماً إياه بالعرفانية والاستحسان [28].

هناك مزاعم كثيرة في التأويل، فمنهم من يعتبره تفسيراً، كما هو في عرف السلف، ومنهم من يعتبره شيئاً وراء المفاهيم الذهنية والتعابير الكلامية، وهذا ما يرى الطباطبائي له وجهاً لكون القرآن كله ذي تأويل، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾. فالتأويل عنده هو لمجموع الكتاب، وليس ما ذهب إليه كثير من المفسرين في اعتبار التأويل تفسيراً، أو مجرّد صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح لدليلٍ يُقترنُ به، وقد عُرف هذا النوع كما يذكر المفسّر «معرفة» عند ابن تيمية، الذي رأى أن المتأوّل عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي يدّعيه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر. كما نُسب إلى ابن تيمية أيضاً القول بأن التأويل هو نفس المراد بالكلام، فإن كان طلباً فتأويله العمل المطلوب نفسه، وإن كان خبراً، فتأويله نفس الشيء المخبر به [29].

لقد أوضح الطباطبائي في نظريته، أن التأويل لا يختصّ بآيات دون أخرى، وإنما هو للقرآن كلّه، للمُحكم والمُتشابه، وهذا الرأي مؤسس على كون القرآن لمّا يأتي تأويله بعد، خلافاً لما ذهب إليه السلف في اعتبار التأويل مرادفاً للتفسير والبيان، حيث كانوا يعتبرون تأويل القرآن هو تفسيره وتبيينه، أو هو مجرّد ردّ المتشابه من الآيات إلى المُحكم منها، وهذا ما لم يرَ فيه الطباطبائي تأويلاً، لأن المتشابه عنده هو المتشابه في مراده لا لكونه ذا تأويل، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً [30]. أما التأويل، فهو ليس من مداليل الألفاظ، وإنما هو حقيقة عينية خارجية، بحيث أن كل ما ورد في القرآن من حكم وآداب وتكاليف وأحكام كلها تعود إليه، إذ تُنتزَعُ منه وتنتهي إليه في نهاية المطاف، وبهذا يكون التأويل للقرآن في جميع آياته الكريمة، ما يعني أن الطباطبائي يميّز بين التأويل بما هو حقيقة يتضمّنها الشيء ويؤول إليها، كتأويل الرؤيا، والحكم، والأفعال، والوقائع، وبين التأويل بما هو حقيقة تنتهي إليها سائر الآيات المباركة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾، وكما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ... ﴾، المُشعِرِ بكون أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب. وعليه، فإنه لا معنى لحصر التأويل بردّ المتشابه إلى المُحكم، ولا لاعتبار التأويل مجرّد نفس المراد بالكلام، سواءً أكان طلباً أم خبراً، كما رأى ابن تيمية وغيره ممن اعتبروا أن التأويل هو نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلية. فالطباطبائي يرى للتأويل هذا المعنى، إلاّ أنه لا يراه تأويلاً بالمعنى المطلق، وإنما هو تأويل بنحوٍ خاص يختصّ به التفسير. وأما التأويل فهو حقيقة عينية خارجية وليس من مداليل الألفاظ.

 

ثانياً: بين التفسير والتأويل

 

عرفنا، فيما سبق، أن الطباطبائي لا يرى للتأويل معنىً خاصاً، أو أنه لا يحصرهُ بردّ المتشابه إلى المحكم، وإنما يقول بأن للقرآن تأويلاً، وهو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام الإلهية والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، «وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام، وتسقط دون الارتقاء إليه العقول، إلاّ نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوّه. وهذا غاية ما يريده الله تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه، الذي هو بيان كل شيء، ومفتاحه التطهير الإلهي، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [31]. فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير... [32].

كما تقدم الكلام أيضاً في ما ذهب إليه الطباطبائي في تفسيره من سورة آل عمران في تفسير المحكم والمتشابه في الآية، ورأى أن التأويل المذموم الذي يذكره ويذمه القرآن غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ، بناء على أن التأويل في اللغة معناه أن يُرجع باللفظ إلى معاني غير موضوعه في أصل الوضع، كما تقدم الكلام في اللغة، وإنما التأويل المذموم هو تأويل الآيات ابتغاء الفتنة، ومن دون إرجاع المتشابه إلى المحكم، فإذا تم إرجاع المتشابه إلى المحكم، فلا يكون تأويلاً حتى ولو خالف ظاهر اللفظ، يقول الطباطبائي: «إن رد المتشابه إلى المحكم وبيانه ليس من التأويل في شيء، والتأويل غير التفسير» [33]، وهذا ما رد به الطباطبائي على من زعم السكوت عن الإثبات بعد النفي، حيث رأى البعض أن الإثبات بعد النفي خلاف ظاهر اللفظ، هو من التأويل الذي حرّم الله ابتغاءه في قوله: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، بناء على الوقف على ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾. بل تعدى بعضهم، كما يرى الطباطبائي إلى مطلق التفسير فمنعه قائلاً، كما نقله الألوسي، أن كل مَن فسّر فقد أوّل ومن لم يفسّر لم يؤول، لأن التفسير هو التأويل [34]، وهذا ما يرفضه الطباطبائي لجهة أن التفسير غير التأويل، ذلك أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم التي تدل عليه الآية، سواء أكان مخالفاً لظاهرها، أم موافقاً، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، ولا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلاً له، وقد فصّل الطباطبائي الكلام بالتفصيل فيما رد به على القائلين بأن التفسير هو التأويل، فقال: «إن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها، أي تفسيرها، أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام، وليس في القرآن آيات كذلك، بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآناً ليناله الأفهام، ولا مناص لصاحب هذا القول إلاّ أن يختار، أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام، ويرد عليه، أنه لا دليل عليه، ومجرد كون التأويل مشتملاً على معنى الرجوع، وكون التفسير أيضاً غير خال من معنى الرجوع، لا يوجب كون التأويل هو التفسير، كما أن الأم مرجع لأولادها، وليست بتأويلٍ لهم، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويلٍ له» [35].

فالتفسير كما بين أهل اللغة، هو الإبانة، والكشف عن اللفظ المشكل، والتأويل: هو ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. وإذا كان للتفسير هذا المعنى، فلا يكون له معنى التأويل، الذي هو من الأمور الخارجية، فلا يكون تفسيراً، وقد بين الطباطبائي أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً من خلال إرجاع المتشابه إلى المحكم، وهذا ما يفيده المعنى اللغوي للتفسير لا بما هو تأويل كما زعموا وإنما بما هو إبانة وكشف، وليس ذلك من التأويل في شيء، وهذا ما شرحه الطباطبائي بقوله: «وكون التفسير أيضاً غير خال من معنى الرجوع، لا يوجب كون التأويل هو التفسير». فالأم مرجع ولكنها ليست بتأويل، وإرجاع المتشابه إلى المحكم ليس تأويلاً حتى يكون التأويل خاصاً بالمتشابه، فهو للمحكم والمتشابه معاً [36]، فلكل آية من آيات الله تعالى تأويل، والتفسير غير هذا تماماً. فإذا كانت النشأة اللغوية لكل من التفسير والتأويل متقاربة بل واحدة، وإلى هذا أشار ابن منظور بقوله: «وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن التأويل، فقال: التأويل والمعنى والتفسير واحد» [37]. فالتأويل أعمّ من أن يكون تفسيراً، والآيات لا توجب تخصيص التأويل بآية دون أُخرى، طالما أن القرآن قد ميز بين التفسير والتأويل، فقال: «وأحسن تفسيراً»، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ... ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ... ﴾. وعليه، فإنه لا معنى لما فسر به قوم التأويل بالتفسير، أو لما قالته طائفة أخرى من المفسرين، أن المراد بالتأويل، هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعدما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع [38].

لقد رفض الطباطبائي، كما يقول الأوسي وآخرون، أن يكون التأويل من قبيل صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المرجوح بدليل، وأوضح أن معنى قولهم هذا هو ما اعتقدوه من أن المتشابه ما أُريد به خلاف ظاهره، ووصفه بأنه اصطلاح محض، ولا يمكن استفادته من قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ [39]. وقد سبق الكلام فيما رد به الطباطبائي على مَن زعم أن كل مَن فسّر، فقد أوّل، مبيناً أن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله، وليس المراد من التأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً وإنما أريد بها معانٍ تعطيها لها آيات أخر محكمة والقرآن يفسر بعضه بعضاً [40].

يرى علي الأوسي في دراسته لمنهج الطباطبائي، أن ما يذهب إليه الطباطبائي من قول في التأويل من حيث هو حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية، هو عين موقف ابن تيمية من التأويل [41]، وهذا الموقف قد لا يكون على قدر من الصحة نظراً لوجود تمايز كبير بين الموقفين، ونحن بالإمكان تسجيل بعض الملاحظات حول ما ذهب إليه الأوسي، فنقول: إن هذا صحيح من حيث أن التأويل هو الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم، أو موعظة، أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، ولكن الأوسي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما عرض له الطباطبائي في سياق رؤيته لما جرى بين النبي موسى (عليه السلام) والخضر، فيما أجاب به هذا الأخير على ما اعترض عليه موسى (عليه السلام): ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾. فالذي أريد من التأويل، كما يقول الطباطبائي، في هذه الآيات، هو رجوع الشيء إلى صورته وعنوانه، نظير رجوع الضرب إلى التأديب [42]... وهذا ما ينبغي أن يكون موضع تأمل عند الباحثين، نظراً لكون التأويل عند الطباطبائي يجاوز ما يذهب إليه ابن تيمية، وذلك من حيث أنه لا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلاً له، بل أمر مخصوص خارجي نسبته إلى الكلام نسبة الباطن إلى الظاهر، وهذا ما عرض له الطباطبائي في كتابه الشيعة في الإسلام من أن الكتاب تم تقريبه إلى الأذهان، من حيث هو كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت، ولا يناله إلا مَن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً [43].

مما تقدم، نستطيع القول: إن الطباطبائي عالج الرؤية التفسيرية وميزها عن التأويل. وعرض إلى أقوال القدامى والمحدثين فيما عرّفوا به التفسير والتأويل، فقال: «من جملتها أن التفسير أعم من التأويل، أو أن التفسير بيان معنى اللفظ، الذي لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً، وهناك آراء أُخرى من قبيل القول: إن التفسير هو بيان المعنى المقطوع من جهة اللفظ، والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها.

ومن جملتها، كما يعرض لها الطباطبائي، أن التفسير بيان دليل المراد، والتأويل بيان حقيقة المراد. ومن جملتها، أن التفسير بيان المعنى الظاهر في اللفظ، والتأويل بيان معنى المشكل...» [44]، إلى غير ذلك مما عرض له الطباطبائي في وجوه التعريف بالتفسير والتأويل، ورده على أصحابه، إذ لم ير أن هذه الوجوه قد أصابت الحقيقة المبحوث عنها في القرآن، لكونها خلطت بين التفسير والتأويل، وجعلت من أحدهما مساوقاً للآخر، أو مختلفاً عنه فيما يُبحث عنه من آيات قرآنية يقال أنها متشابهة، ولا بد من تأويلها على قاعدة أن في القرآن آية أُريد فيها ما يخالف الظاهر، وهذا ما اعتبره الطباطبائي توهماً. وإن أدنى تدبّر في الآيات لا بد أن يكشف عن أن التأويل يتميز عن التفسير في كونه تأويلاً للقرآن كله، وأن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة [45]. كما يرى الطباطبائي أيضاً أنه لا ضرورة لحصر التأويل بالمتشابه من الآيات بحيث ترد إلى المحكم، كما يزعم بعض القدامى والمتأخرين من المفسرين، وإنما هو لجميع القرآن، سواءاً كان متشابهاً أم محكماً، على اعتبار أن التأويل غير التفسير، وأن التأويل هو حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بينته، بحيث لو فرض تفسير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من مضامين [46]، وذلك من منطلق أن القرآن النازل شيء، والقرآن، الذي هو في أُم الكتاب شيء آخر، فهذا الأخير مما لا تناله العقول. أما القرآن النازل، فقد ألبسه الله تعالى لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في أم الكتاب المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [47].

 

 

ثالثاً: الظاهر والباطن عند الطباطبائي

 

يقول الطباطبائي: «إن القرآن الكريم بألفاظه وبيانه، يوضح الأغراض الدينية، ويُعطي الأحكام اللازمة للناس في الإعتقادات والعمل بها، ولكن لا تنحصر أغراض القرآن بهذه المرحلة، فإن في كنه هذه الألفاظ وهذه الأغراض، تستقر مرحلة معنوية، وأغراضٌ أكثر عمقاً».. فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في القرآن: ظاهره أنيق وباطنه عميق [48]، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن القرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطن، إلى سبعة أبطن» [49]، فالأصل في هذه الروايات هو التشبيه الذي قد ذكره الله تعالى في سورة الرعد [50]، والذي يشبه فيه الإفاضات السماوية بالمطر الذي يهطل من السماء...» [51].

لا شك في أن ما يعرض له الطباطبائي في موضوع الظاهر والباطن ليس جديداً عنده، وإنما هو حقيقة إسلامية أشار إليها القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [52]، وقد اختلفت التأويلات بشأن هذه الآية، فمن الفرق من ذهب إلى القول بالباطنية متجاوزاً للظاهر نهائياً، ومن الفرق من ذهب إلى القول بالباطن والظاهر معاً، وأنه ما من ظاهر إلاّ وله باطن. والمدرسة الإمامية التي ينتمي إليها المفسّر تقول بالباطن والظاهر معاً، وتعمد إلى تأويل الآيات والأحاديث وفاقاً لما يتناسب مع ظاهر الشريعة، ولا ترى أن للباطن طريقته للتعبير عنه، كما فعلت الصوفية وأصحاب القطب وغيرهم، ممن اعتبرهم الطباطبائي قد جانبوا الصواب، وهذا ما أشار إليه في مقدمة كتابه الميزان [53]، ثم عقب على كلامه موضحاً في تفسيره للآيات في المجلد الخامس من تفسيره [54]، إذ هو يرى أن المتصوفة انشغلوا بالسير في باطن الخلقة دون عالم الظاهر، خلافاً لقوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... ﴾ [55]، فهم ـ أي الصوفية ـ اهتموا بالتأويل ورفضوا التنزيل... حتى آل الأمر بهم إلى تفسير الآيات بحساب الجمل، ورد الكلمات إلى الزبر والبينّات والحروف النورانية والظلمانية، إلى غير ذلك [56].

وإذا كان الطباطبائي لم يفرد بحوثاً خاصة في تفسيره للظاهر والباطن على طريقة أهل السير والأسرار، فذلك لم يمنعه من وضوح الرأي والموقف فيما يتعلق بهذا الموضوع، لكونه يشكل جانباً مهماً من الأحاديث النبوية، كما في الحديث الذي عرض له الطباطبائي في مقدمة تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن للقرآن ظهراً وبطناً، وكما في الحديث عن علي (عليه السلام): «ما من آية إلاّ ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العبد بها» [57]. فهناك أحاديث وروايات كثيرة يرويها الشيعة الإمامية، ويفسّرها الطباطبائي، ولكنه يُبقي عليها في الرؤية المعنوية التي تستقر عندها، على اعتبار أن القرآن بألفاظه وبيانه يُعطي الأحكام اللازمة للناس في الاعتقاد والعمل بها، ثم يتم العبور إلى الباطن من خلال الشريعة، وهذا ما فهمه عنه المستشرق هنري كوربان [58]، وكثير من الباحثين والمفسرين [59]. وكما نلاحظ في تفسير الميزان، أن منهج الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن عكس الظاهر على الباطن، والباطن على الظاهر، وميز بين من يعرف القرآن ويتحد معه، وبين مَن عرف القرآن بالمشاهدة، وبين فئة ثالثة تستدل بآيات الأنفس والآفاق، ولكل فئة من هذه الفئات حركتها ومعناها في الباطن والظاهر، وهذا ما لم يلتفت إليه بعض الباحثين في منهج الطباطبائي، ولعل إشاراته إلى قوله تعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا... ﴾ التماس لهذا المعنى في الظاهر والباطن، ذلك أن الناس يختلفون فيما هم عليه من قدرات، ويتفاوتون بما لديهم من استيعاب للمعارف السماوية، فمن تجلى له الباطن لم يخرجه عن الظاهر، ومن تجلى له الظاهر أدخله إلى الباطن. فهما، كما يرى الطباطبائي، كالروح والجسد، فإذا ما تلى حكم وجوب الصلاة، فإن الظاهر والباطن هما اللذان يؤديان هذا الواجب، فيكون ظاهر الحكم هو إقامة هذه العبادة الخاصة، لكن بحسب الباطن يدركون أن هذه الصلاة يجب أن تتحقق بقلوبهم وبكل وجودهم، فيحدث لهم الفناء في عبادة الله وحده، بعد أن يكون قد تحقق الإنتهاء عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [60].

إن المفسّر الطباطبائي، لا يرى في الباطن طريقة إلى تجاوز الحياة، كما فعل الصوفية، أو أهل الباطنية ممن احتكروا الأسرار، وغابوا عن الظواهر، ظناً منهم أن الشريعة سرُ، وسرها سر، وظاهرها باطن، وباطنها باطن، كما وصّفها كوربان، وإنما هو، برأي الطباطبائي، باطن يتكامل مع الظاهر، لكون الإسلام دين كامل وشامل، ولا بد أن يكون لظاهره معنى الحياة والإصلاح وغير ذلك مما لا تستقيم العبادة إلاّ به، يقول الطباطبائي: «إن باطن القرآن لا يُلغي ولا يبطل ظاهره، بل إنه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة، وبما أن الإسلام دين عام شامل وأبدي، فهو يهتم أولاً وقبل كل شيء بإصلاح المجتمع البشري، ولا يتخلى عن الأحكام الظاهرية التي مؤداها إصلاح المجتمع، وكذا لا يتخلى عن الاعتقادات البسيطة التي تعتبر حارسة للأحكام المشار إليها» [61].

والحق يقال: إنه لا يفهم من فلسفة الطباطبائي، ولا من منهجه في التفسير والتأويل، الذي تقدم الكلام فيه، أنه يستغرق في الباطن والظاهر لدرجة أن يكونا سراً من الأسرار، أو طريقة تتجافى بأهلها عن المجتمع والناس، سواء أكان المخاطب بهذه الشريعة المتحد معها كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، أم المشاهد لجمال الله وجلاله والمنجذب إليه فيما خصّه الله به، أم كان ممن اقتصرت مرتبته على طريقة الإستدلال بالآثار وفيما رآه بالأنفس والآفاق. فالمفسّر يرى أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم [62]، والكل له ظاهره وباطنه، بحيث لا يستقل أحدهما عن الآخر فيما يكون في الحياة من سلوك، وهذا ما جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) حينما سأله عمران بن أعين عن ظهر القرآن وبطنه، فقال: «ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك» [63]. وطالما أن المفسّر لا يُعطي للباطن معنىً مستقلاً عن الظاهر، ولا يرى مدخلية له إلاّ من خلال الأحكام النازلة للناس في الاعتقاد والعمل معاً، وأن الباطن لا يُلغي الظاهر ولا يبطله، فهذا يدلل على أن الطباطبائي قد فهم مدلول الآيات القرآنية جيداً لجهة ما تعطيه من أبعاد كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾، على نحو يفهم منه أن الله تعالى هو الظاهر المطلق، وهو الباطن المطلق الذي يتوجه إليه العباد في ظاهرهم وباطنهم، بحيث يكون لهم من ذلك الظاهر النسبي والباطن النسبي، هذا ما بينه الطباطبائي بوضوح لجهة قوله: «إن الظهر والبطن أمران نسبيان، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره، وبالعكس كما جاء في رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) بقوله له: يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن، وظهراً وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن. إن الآية تكون أولها في شيء، وأوسطها في شيء وآخرها في شيء» [64]. وهذا كلام متصل، كما يرى المفسّر، ينصرف إلى وجوه [65]. وكما جاء في معاني الأخبار عن الصدوق، أنه لا ينحصر الظهر والباطن بما في الخبر، فإن هناك أخباراً جمة تدل على أن للقرآن معاني طولية حسب اختلاف الأفهام ودرجات الإيمان والمعرفة، وفي بعضها أن لبطنه بطناً إلى سبعة أبطن، والظاهر أن المراد بالبطن في هذا الخبر التأويل، كما أن المراد بالظاهر التنزيل... [66].

إن مرتكز البحث والتفسير للباطن والظاهر عند الطباطبائي، هو قوله تعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا... ﴾، وطالما عرفنا أن للقرآن معاني طولية بحسب اختلاف الأفهام ودرجات ومراتب المعرفة، فإن هذا يكشف عما يريد أن يذهب إليه الطباطبائي في تأويل معنى الظهر والبطن إذ هو يرى، كما سبقه إلى ذلك صدر المتألهين، أن الأودية هنا هي تشبيه لما هم عليه الناس من اختلاف في درجات اكتساب المعرفة، ولعل المفسّر هنا تأثر بتفسير صدر الدين (الشيرازي) لهذه الآية، فرأى أن العلم كبحر أُجري منه أودية، ثم أخرجت الأودية الأنهار، ثم أُجريت من الأنهار جداول، ثم أُجريت من الجداول سواقي، فالوادي لا يحتمل البحر والنهر لا يحتمل الوادي، والجدول لا يحتمل النهر، فبحور العلم عند الله، فأعطى الرسل ومن يجري مجراهم منها أودية، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطى العلماء جداول صغار إلى عامة المتعلمين على قدر طاقتهم، ثم أجرى هؤلاء إلى من يليهم بحسب طاقتهم [67]. والنتيجة، كما يرى الطباطبائي، هي أن العلم في دورته هو من الله تعالى إلى الله تعالى، تماماً كما هي دورة الماء من البحر إلى البحر. وهكذا، تختلف مراتب الناس ودرجاتهم في الباطن والظاهر، وهذا ليس من التأويل في شيء، وإنما هو من التفسير الذي يطاله الإنسان فيما لو تدبّر القرآن واستوى على شيء من الفهم منه. وبحق نقول أين هذا مما ذهبت إليه الباطنية، أو أهل الصوفية ممن الهتهم التراكيب واستغرقتهم الإشارات إلى حد تعطيل الظاهر والباطن معاً!؟ وكما جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبباً شرحاً، وجعل لكل شرح علماً، وجعل لكل علم باباً ناطقاً عرفه من عرفه، وجهله مَن جهله، ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله ونحن» [68].

لقد تطرق بعض الباحثين عن الطباطبائي إلى موضوع الظاهر والباطن، فكان رأيهم جمعاً لرأيه دونما توقف عند حقيقة الموقف، الذي يتخذه الطباطبائي في حقيقة الظاهر والباطن، وقد زعم هؤلاء أن المفسّر أحال الكثير من الروايات إلى الجري الذي لا يعتبره تفسيراً، وإن كان يستبطن أحياناً ما عرف بالباطن الذي يقابل الظاهر، وهذا ما أشار إليه الطباطبائي بقوله: «وقد يعتبر بطن القرآن مثل الجري أحياناً» [69]، ولكن هؤلاء الباحثين سهوا عن أن الطباطبائي في منهجه وفيما يتخذه من مواقف، سواء في التأويل، أم في التفسير، في الظاهر، أم في الباطن، هو لا يغادر القرآن، وإنما يجوب في فضائه لفهم الآيات والروايات، معولاً على جاذبية السياق، وهذا ما يحتم على الباحثين ملاحظته جيداً كيما يتمكنوا من فهم الموقف الحقيقي للطباطبائي [70]، فهذا الأخير لم يكن شيعياً في تفسيره، وإنما كان قرآنياً بامتياز، وقد قبل ظاهر الشريعة كسبيل إلى باطنها، لأن الإنسان مكلف بالأعمال الظاهرية، فإذا ما أحسن القيام بها، فإنها تؤدي به إلى الاستقرار في المعنوية، لقوله: «فإن في كنه هذه الأعمال والأغراض الدينية تستقر مرحلة معنوية، وأغراض أكثر عمقاً» [71]. وعليه، فإنه لا معنى لأن نفهم الظاهر والباطن عنده من خلال انتماء الرواية إلى هذه المدرسة أو تلك، أو إلى هذه الفرقة أو تلك، بل ينبغي فهم الطباطبائي في سياق ما اختاره من منهج، الذي نرى أنه لم يتمكن من خلال السياق، ولا من خلال تمييزه بين التأويل والتفسير، أن يحسم الجدل والموقف في كثير من الآيات قبل الروايات، كما في سكوت المفسّر على قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ... ﴾، إلى غيرها من الآيات، التي أحالها إلى البطن دون أن يعرف ظاهراً لها. وهذا أمرٌ جد طبيعي فيما لو عرفنا أن الطباطبائي لم يكن طامحاً لأن يكون تفسيره مطلقاً، ومحيطاً بكل ما هو متشابه، سواء في الآية، أم في الحديث. ولهذا، قال: «إنه لا يوجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية» [72].

وكيف كان، فإن أفهام المسلمين تعددت في الباطن وتباينت المسالك منذ عصر الرسالة إلى وقتنا الحاضر، فمنهم من اعتبر أن باطن القرآن هو المقصود دون ظاهره، ومنهم من رأى عكس ذلك، ومنهم مَن اكتفى بالاشارة إلى لحن القول في غربة الأنانية. وبما أن القرآن أرشدنا إلى التدبر في آياته، فإنه لا بد من النظر بعيداً عن الهوى والرأي، بحيث يكون الاستنطاق للقرآن من أهله هو الحكم، وهذا ما فعله الطباطبائي وغيره من المفسرين، الذين أخلصوا لله في دينهم، في ظاهرهم وباطنهم، فاعتبروا الباطن والظاهر معاً، وحافظوا على أصول الإيمان والمعارف الحقة، التي جعلها الله تعالى مسلكاً حقيقياً إليه، ولهذا يقول الطباطبائي: «ولا نجد دليلاً على أنه يقصد من كلمات القرآن غير المعاني التي تدركها من ألفاظه وجمله، وللكشف عن باطن القرآن اعتبر المفسّر أمرين هما: الأول: ظواهر الآيات نفسها، والثاني: ظواهر الشريعة، وبالتالي، لا يكون الباطن مناقضاً لمعطيات ظواهر القرآن وحقائق الشريعة» [73].

إن هذا ما قضت به الشريعة، وما كلف به العباد، فيما أمر به ونهى عنه، وقد فسرت السنة النبوية القطعية هذا الأمر بما دعت إليه من اعتبار لظواهر القرآن والسنة. وكما بين المفسر أن هذا لا ينافي أنه تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها، والطريق إليها حق، ولكن الطريق إنما يكون باستعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير، وهو في هذه العبارة يؤكد على المنهج، الذي اعتمده بأن يكون التدبّر وفاقاً لقواعد الكتاب والسنة، وقد عبر عن ذلك بقوله: «وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر، والظاهر عنوان الباطن وطريقه، وحاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه، أو تساهل في أمره، أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة، وهو القائل: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾... فإن إرادة الظاهر لا تنفي إرادة الباطن، وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر...» [74]. وإذا كان بعض المتصوفة، قديماً وحديثاً، أو من تسموا بأهل الباطن وليسوا به، قد ادعوا أُموراً وكرامات نورانية، وخرجوا عن ظواهر القرآن والسنة، وعما يرشد إليه العقل القطعي، الذي هو حجة كالوحي تماماً، فإن هؤلاء قد جمدوا عند الحروف والرسوم، وساعدهم على ذلك مَن التمسوا الحق من دون تأويل ولا تفسير، خوفاً من أن يقولوا على الله غير الحق، كما زعموا أن مَن فسّر فقد أوّل، هذا فضلاً عما سلكوه من سبل في نفي التجسيم دون أن يُثبتوا، فقالوا: الاستواء معروف بلا كيف... إلى غير ذلك مما عرض له الطباطبائي في تفسيره، فهؤلاء جميعاً تاهوا عن الباطن والظاهر معاً، فأدى بهم ذلك إلى التلهي بأسرار زعموا أنها من فيوضات الرحمة، وبركات النور، وكما يقول الطباطبائي: «ولو كان الأمر على ما يدّعون وكان ما يزعمونه هو لب الحقيقة، وكانت الظواهر قشوراً لأسرارهم، لكان مشرّع الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها، كما يعلنون، وإن لم تكن هي الحق ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [75].

يظهر مما تقدم، أن المفسّر يقدم الظاهر المتبادر من ألفاظ الآية بالنظرة الأولية، وما يقف عليه من باطن لا يسميه تفسيراً، لأن التفسير يكشف عن ظاهر اللفظ. وبناء عليه، فالمراد لديه هو الظاهر وليس الباطن، ولعله بذلك يؤسس لرؤية جديدة في التفسير، قد تكون مخالفة لما ذهب إليه أكثر مفسري الشيعة الإمامية، حيث إن الرؤية الشيعية اضطربت فيما نسميه بالتأويل والتفسير، فكان لا بد أن تأخذ بالآيات والروايات على أساس التأويل للمتشابه، والتفسير بالمأثور: وأكثر ما نجد هذا عند العياشي في تفسيره [76]، وفي تفسير القمي [77]، من قبيل ما روي عن الفضيل بن يسار، قال سألت أبا جعفر عن هذه الرؤية: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله» [78]، ولعل الطباطبائي التفت إلى ما تتضمنه الرواية من تأويل وتفسير، فحملها على الجري والانطباق انسجاماً مع موقفه بأن ما يأتي من خارج السياق والتفسير يكون جرياً وانطباقاً، أما حقيقة التأويل فلا يعلمها إلاّ الله تعالى، ولا بد من سلوك طريق الظواهر القرآنية، وكشف الإبهام عن الآية من خلال التعرف إلى سبب النزول أولاً. ولهذا، تجد المفسّر يعقّب على جري القرآن في حياة البشر، في كونه ينطبق في التنزيل على الجري وعد المصاديق، والجري عنده هو عين القاعدة الأصولية المعروفة، بأن «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وبهذا يجري القرآن على الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يقف عند المناسبات الأولى لنزول آياته...

إن ما تميز به الطباطبائي، هو أنه فصل بين ما هو متشابه وما هو تأويل من جهة، وأعطى الأولوية للظاهر من جهة ثانية، حيث قدم المتبادر من ألفاظ الآية بالنظرة البدائية، على اعتبار أن التفسير وحده هو الذي يكشف عن ظاهر اللفظ، وعليه فإن المراد لديه هو الظاهر وليس الباطن [79]...

وهنا يمكن أن نشير إلى خلاصة نؤكد فيها على أن منهج الطباطبائي في تفسير القرآن بالقرآن، حتّم عليه الاستغراق فيه لجهة أن يكون القرآن هو المبين والكاشف عما يمكن أن يلتبس على الباحث والمتدبر والمفسّر، باعتباره تبياناً لنفسه، كما هو تبيان لكل شيء. ومقتضى هذا المنهج أن لا يخرج إلى التفسير بالرواية على نحو ما جاء في المأثور عن الشيعة الإمامية من تفسير بالمأثور، أو بالعقل والنقل معاً، كما ظهر الأمر في تفسير كل من الطبرسي والطوسي، ولهذا نجد الطباطبائي يقر قسماً مما روي في تفسيره، على أنها ليست من التفسير، وإنما من المصاديق الباطنية للألفاظ القرآنية، وأحياناً نراه يسكت عن قسم آخر منها لسكوت القرآن عنها، وأحياناً يكتفي بالبحث الروائي دون أن يكون له رأي أو موقف. وهذا كله يعود، كما سبق القول، إلى أن مقتضى التفسير أن يلحظ السياق تأكيداً على الظاهر من الألفاظ. أما ما عدا ذلك، فإنه يدخله في دائرة الجري، والإنطباق، أو يكتفي بالقول: إنه من الباطن، كما فعل في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴾، فعلق على ذلك بقوله: «وهو من البطن» [80].


[1] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج1، ص172.

[2] زاهد، عبد الأمير، مقدمات منهجية في تفسير النص القرآني، مطبعة الضياء، النجف الأشرف، 2008م، ص65.

[3] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج5، ص3412.

[4] م.ع، ج1، ص. ن.

[5] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص27.

[6] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص85.

[7] سورة مريم، الآية: 97.

[8] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص28.

[9] سورة الزخرف، الآيتان: 3 ـ 4.

[10] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م، س، ص85.

[11] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص84.

[12] سورة يونس، الآية: 39.

[13] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص53

[14] سورة الإسراء، الآية: 35.

[15] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص28.

[16] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص84.

[17] سورة محمد، الآية: 24.

[18] سورة النساء، الآية: 82.

[19] يبين الطباطبائي هذا المعنى بإيراده لقصة النبي موسى (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام): ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾، وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾، والذي نبأه لموسى (عليه السلام) صور وعناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاثة كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور والعناوين، وتلقى بدلها صوراً وعناوين أُخرى أوجبت اعتراضه بها عليه. فالموارد الثلاثة، هي قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾. والذي تلقاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا وعناوينها، قوله تعالى: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾، وقوله تعالى: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾، وقوله تعالى: ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾. والذي نبأ به الخضر من التأويل قوله تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾.

[20] را: الميزان، م.س، ج3، ص28 ـ 29.

[21] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص31.

[22] يقول الطباطبائي: إن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم، أو موعظة، أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ، بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله تعالى بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب، فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع، كما قال تعالى: ﴿ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾، فالقرآن لم يستعمل لفظ التأويل التي استعملها إلاّ في المعنى الذي ذكرنا. را: الميزان، م.س،ج3، ص57. وقا: مع الشيعة في الإسلام، المفسر، م.س، ص85. فهو يُعطي في هذا الكتاب المزيد من الأمثلة والتوضيحات لتقريب الفهم من خلال أمثلة حسية لم يأت عليها في كتاب الميزان.

[23] سورة الرعد، الآية: 39.

[24] سورة البروج، الآية: 21 ـ 22.

[25] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص87.

[26] سورة آل عمران، الآيتان: 7.

[27] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص63.

[28] معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون، م.س، مجلد 1، ص31.

[29] يرى ابن تيمية في سياق الحديث عمّا بين التأويل والتفسير من فروق، أن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوّره في القلب، غير معرفة التأويل في كتاب الله. فالشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في البيان، فإذا عُرف الكلام وتُصوِّرَ معناه في القلب وعُبِّرَ عنه باللسان، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الأول عرف الثاني. راجع: معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون، م.س، ص38 مأخوذ عن ابن تيمية بتصرّف.

[30] يقول الطباطبائي: «إن المتشابه إنما كان متشابهاً لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل، فإن التأويل يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً، فللمتشابه مفسر وليس إلاّ المحكم، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ (القيامة، آية 23)، فإنها متشابهة، وبإرجاعها إلى قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ (الشورى، آية: 11)، وقوله تعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾، (الأنعام، الآية: 103)، يتبين: أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي». را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص50.

[31] سورة المائدة، الآية: 6.

[32] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج23، ص67.

[33] م.ع، الميزان، م.س، ج14، ص130.

[34] م.ع، الميزان، م.س، ج14، ص130.

[35] م.ع، ج3، ص54.

[36] م.ع، ج3، ص74.

[37] را: ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج1، ص172.

[38] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج23، ص51.

[39] سورة آل عمران، الآية: 7.

[40] يرى الطباطبائي، أن الإحكام والتشابه وصفان لآية الكتاب من حيث أنها آية دالة على معرفة من المعارف الإلهية، والذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم سبيل، ولا ممتنع الفهم إما بنفسه، أو بضميمة غيره إليه، وكيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية، ولا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف بأنه كتاب هدى، وأنه نور، وأنه مبين... هناك خلط بين معنى المتشابه وتأويل الآية كما مر. را: الطباطبائي، الميزان، م. س، ج3، ص41.

[41] يقول الأوسي: «هناك معنى ثالث للتأويل ذهب إليه ابن تيمية، وهو: أن المراد بالتأويل هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلباً، كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً كان نفس الشيء المخبر عنه. وعليه فالتأويل هو نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أو مستقبلية... وهذا الكلام، كما يرى الأوسي، هو عين موقف الطباطبائي من التأويل. را: علي الأوسي، الطباطبائي ومنهجه في تفسيره، معاونية الرئاسة للعلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي، ط1، 1405هـ، 1985م، ص205 ـ 206.

[42] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص290.

[43] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص85.

[44] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص53.

[45] م. ع، م.س، ج3، ص31.

[46] قد يقال: إن ما تذهبون إليه فيه تجاوز لرأي الطباطبائي في التأويل، وإنكم تحمّلون كلامه ما لا يحتمل من المعنى، فإذا صح هذا، فإن المعوّل عليه في المحكم، هو قول الطباطبائي: «وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله بعلمه». انظر الطباطبائي، الميزان، ج3، ص53، ونحن إنما نذهب إلى الفهم لموقف الطباطبائي من منطلق أن التأويل في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾، أنه سبحانه وتعالى أراد بالتأويل ههنا: الجزاء على الأعمال، يقول الشريف الرضي في حقائق التأويل: «فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره، لأن الجزاء إنما هو الشيء الذي آلوا إليه وحصلوا عليه. را: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، مؤسسة البعثة، إيران 1406هـ، ص125.

[47] سورة البروج، الآيتان: 21 ـ 22.

[48] انظر الكليني محمد بن يعقوب، أصول الكافي، موسوعة روائية،(ت: 329)، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365هـ، ج2، ص599.

[49] انظر: الإحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللألي (840 هـ)، دار سيد الشهداء، قم، 1405 هـ، ج4، ص107.

[50] قال تعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ سورة الرعد، الآية: 17.

[51] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص83.

[52] سورة الحديد، الآية: 3.

[53] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص13.

[54] م.ع، الميزان، ج5، ص287.

[55] سورة فصلت، الآية: 53.

[56] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص10.

[57] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص85. وقا: مع صدر الدين الشيرازي، مفاتيح الغيب، صححه محمد خواجوي مؤسسة مطالعات، إيران، (لا ـ ت)، ص485.

[58] يقول كوربان في تاريخ الفلسفة الإسلامية: «إن الذين زعموا أو يزعمون وقف تعاليم الأئمة على الظاهر، أي على بعض مسائل الفقه والطقوس يعرضون عما هو جوهر التشيع ويتجاهلونه. إن التوكيد على الباطن لا يعني مطلقاً النسخ الخالص للشريعة ولحرفية النص وظاهره...» انظر: هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت. ط3، 1983، ص85.

[59] را: دراسات في فكر الطباطبائي ومنهجه، مجموعة مؤلفين، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، تعريب عباس صافي، بيروت، 2012م، ص111.

[60] سورة العنكبوت، الآية: 45.

[61] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص83.

[62] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص84.

[63] م.ع، الميزان، م.س، ج3، ص85.

[64] م.ع، ج3، ص85.

[65] م.ع، ص85.

[66] انظر: الصدوق، الحسين بن موسى بن بابويه، معاني الأخبار(ت: 381هـ)، تحقيق على أكبر الغفاري، انتشارات اسلامي، ط 1361هـ، ص259.

[67] را: صدر الدين الشيرازي، شرح أصول الكافي، تحقيق عمر خواجوي، مؤسسة مطالعات، إيران، (لا.ت)، كتاب الحجّة ص547.

[68] م.ع، ص545.

[69] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص52.

[70] م.ع، ص53.

[71] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص83.

[72] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج15، ص389.

[73] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص24.

[74] م.ع، ص25.

[75] م.ع، الميزان، ج5، ص288.

[76] را: محمد بن مسعود العياشي، (320 هـ)، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران (لا ـ ت).

[77] القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القرآن، صححه وعلق عليه طيب الموسوي، دار الكتاب، قم، إيران، (لا ـ ت).

[78] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص83.

[79] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص52.

[80] م.ع، الميزان، م.س، ج19، ص103.


 



 

 

 

أولاً: علم التأويل والراسخون في العلم

 

 

لا شك في أن الذي يحتم البحث في هذا الموضوع لمعرفة ما بين علم التأويل والراسخين في العلم من اتصال، هو أن الطباطبائي، كما ذكرنا سابقاً، قدّم رؤية جديدة في مجال التفسير والتأويل معاً، إذ أنه أخرج التأويل من كونه خاصاً بالمتشابه من الآيات، ليكون للقرآن كله، كما قال الله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ﴾، والآيات كما يقول الطباطبائي، تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب [1].

فهذه الآية تشير إلى المحكم والمتشابه، وعلم التأويل، والرسوخ في العلم، وهي التي ارتكز إليها الطباطبائي لتقديم رؤيته في موضوع التأويل، خالصاً منها إلى التأكيد على النتائج الآتية.

أولاً: إن مقتضى ما اختاره الطباطبائي من منهج لتفسير القرآن بالقرآن، أن تكون له نتائج متمايزة، سواء أقلنا أنه غلّب الرؤية العقلية والعرفانية في تفسيره، أم حافظ على الطريقة التقليدية في التفسير، فهو من دون أدنى شك لم يخرج عن المألوف فيما اختاره من قواعد منهجية وعقلية في تفسيره، وإن كان تميّز في كونه أعطى لظهور النص بعده لكون القرآن يُفسّر بعضه بعضاً، ويصدّق بعضاً بعضاً، هذا فضلاً عن كونه تبياناً لكل شيء، وهو كونه كذلك، فلا بد أن يكون مبيناً لنفسه... الخ.

ثانياً: لقد خلص الطباطبائي إلى نتيجة في تفسيره مثيرة للجدل فعلاً، إذ هو أخرج التأويل من كونه خاصاً بالمتشابه ليكون للقرآن كله، كما ذكرنا سابقاً، وهذا ما عبر عنه بقوله: «إن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة» [2].

ثالثاً: يرى الطباطبائي أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ، بل هو من الأمور الخارجية العينية، واتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق. وأما إطلاق التأويل وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلاً على كونه هو المراد من قوله تعالى: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ... ﴾، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل [3].

هذه هي خلاصة الموقف الذي انتهى إليه الطباطبائي في بحوثه عن التأويل في تفسير الميزان، ولعله موقف متميز لجهة ما انطوى عليه من تقدم في الرؤية في مجال فهم النص القرآني، إذ كان المعهود في التفريق عند العلماء بين التفسير والتأويل، هو أن الأول توضيح ما لجانب اللفظ من إبهام، والثاني ما فيه من مثار الريب وقد استعمل بشكل ثانوي فيما لم يكن ظاهراً بذاته، وإنما يتوصل إليه بدليل خارج، وهو ما عبر عنه بالبطن، كما يعبّر عن تفسيره الأولي بالظهر، فيقال: تفسير كل آية ظهرها، وتأويلها بطنها، والتأويل بهذا المعنى الأخير عام لجميع أي القرآن... [4].

إن التأويل، سواء أكان بمعنى توجيه المتشابه، أم بمعنى ثانوي، كما عبّر «معرفة» في تلخيص التمهيد [5]، المعبّر عنه بالبطن، هو من قبيل المعنى والمفهوم الخافي عن ظاهر الكلام، وبحاجة إلى دلالة صريحة من خارج ذات اللفظ، وهذا ما قال فيه الطباطبائي أنه مولد نشأ بعد نزول القرآن، وحينما يكون الأمر متعلق بكون الآيات ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، فهذا أمر يمكن فهمه من السياق القرآني، وليس مما ذكر في معنى التأويل، ولا دليل عنده على كون المراد من قوله تعالى: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، هو ما ذكر من معاني التأويل المطلقة، التي تولدت بعد نزول القرآن، وهذا الرأي للطباطبائي، كما نعلم، ولّد رداً عنيفاً من بعض العلماء والمفسرين عليه لكونه يأخذ بالتأويل إلى مصاف الرؤية العقلية والفلسفية، ويمكن ملاحظة هذا الإعتراض فيما ذهب إليه «معرفة»، في كتابه التلخيص...

ولعلنا لا نخطىء القول أيضاً، بأن رؤية الطباطبائي وموقفه من التأويل ناشئة من كون ما استقر في الأذهان، هو أن التأويل إنما يكون في المتشابه القرآني، وليس هذا هو المعنى الحقيقي للتأويل فيما لو أردنا الوقوف عند ظواهر الآيات القرآنية، وخاصة ظاهر الآية المتقدمة، يقول الطباطبائي «ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه، لقربه كما هو الظاهر أيضاً في قوله تعالى: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وقد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصوراً على الآيات المتشابهة، ومن الممكن أيضاً رجوع الضمير إلى الكتاب، كالضمير في قوله تعالى: ﴿ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [6].

فالطباطبائي يرى أن التأويل هو لجميع القرآن، للمحكم والمتشابه، فما معنى أن يستقر رأي العلماء والمفسرين عند توجيه المتشابه، وإرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ في الوقت الذي يمكن فيه تفسير القرآن وفقاً لجميع آياته باعتبار أنه يفسّر بعضه بعضاً، ومبين لنفسه...؟

إن إرجاع المتشابه إلى المحكم في القرآن شيء، وتأويل القرآن شيء آخر، وهنا يكمن الالتباس الحقيقي، الذي يثير الجدل ويجعل من تأويل الطباطبائي موقفاً فريداً في بابه، وغريباً في مؤداه، ذلك أن التفسير للقرآن بالقرآن لا يحتاج إلى تأويل من خارج ظواهر الألفاظ، باعتباره أمراً خارجياً عينياً، وليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ [7].

انطلاقاً مما تقدم، نرى أن الطباطبائي في تفسيره لآية آل عمران: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾، يرى أن ظاهر الحصر في الآية يفيد أن العلم بالتأويل مقصور على الله تعالى. وأما الراسخون في العلم، فظاهر الكلام أن الواو للاستئناف بمعنى كونه طرفاً للترديد، الذي يدل عليه صدر الآية: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾، ويخلص الطباطبائي إلى القول بأن الناس في الأخذ بالكتاب، قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه، ومنهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: آمنا به كل من عند ربنا، وإنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب ورسوخ العلم [8].

إذاً، التأويل مقصور على الله تعالى، وهذه الآية كما نعلم كانت ولا تزال مثار جدل عند المفسرين، وستبقى كذلك طالما هناك مَن يفسّر القرآن ويتدبر فيه، رغم كون الآية محكمة، إذ لو كانت متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ  [9]. وإذا كانت هذه المسألة في التفسير والتأويل قد أخذت هذا المنحى بين أن تكون عطفاً للتشريك، أو استئنافاً للكلام، فقد يكون من المناسب جداً أن نلاحظ المسألة في سياق آخر تستطيع من خلاله كشف حقيقة العلاقة بين التأويل والرسوخ في العلم، على اعتبار أن الله وحده هو العالم بالتأويل، وإذا كان هناك من قول للراسخين في العلم، فهو إنما يكون منهم من حيث هم راسخون في العلم، ويعرفون أن المحكم والمتشابه من عند الله تعالى، ويؤمنون به، ويقولون آمنا به كل من عند ربنا، ما يعني أن المفسرين غالباً ما كانوا يحدثون المشكلة، وينصرفون عن الظواهر القرآنية، تارة بالبحوث اللغوية، وطوراً بالأنماط السياقية، إلى غير ذلك مما تطالعنا به كتب المفسرين، وقد بين الطباطبائي أن الأمر يمكن التدبر فيه وفاقاً لمنهج تفسير القرآن بالقرآن، بحيث يقال مثلاً: إن الله يعلم الغيب، كما قال الله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [10]. فالظاهر من الآية أنها تحصر الغيب بالله تعالى، ومثلما ورد الاستثناء في آية الغيب ورد في آية التأويل، فلا منافاة في ذلك كما يرى الطباطبائي [11].

فلماذا هذا الاضطراب في التفسير والتأويل، طالما أن القرآن كاشف عن حقيقة هذا الأمر بدلالة الظاهر؟

إن الإضطراب ناشئ من كون المطلوب في البحث والتفسير هو التأويل، لما اعتقدوه من آيات متشابهة تحتاج إلى تأويل وتوجيه دون المحكم، وهذا ما حسمه الطباطبائي بقوله: «إن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده ومدلوله، وليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزاً عن المحكم بأن له تأويلاً، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها ومتشابهها كما مر بيانه، على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها، وما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معانٍ تعطيها لها آيات أخر محكمة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً...» [12].

هنا تبدو لنا عبقرية المفسّر فيما يذهب إليه من بيان في معنى التأويل والرسوخ في العلم. بأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً. وإذا كانت الآية فيما هي عليه من ظهور تحصر التأويل بالله تعالى، فذلك لا يمنع من أن يكون الراسخون في العلم كذلك، طالما أن ظهور آيات أخرى تفسر ذلك وتعطيه بعده الحقيقي في القرآن، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شؤون الراسخين في العلم، وهو الوقوف عند الشبهة والإيمان، مقابل الزائغين قلباً، وبين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضاً منهم عالمون بحقيقة القرآن وتأويل آياته... [13].

وعلى فرض أن الآية، أو العطف في الآية يُفيد التشريك كما رأى «معرفة» وغيره فيما رد به على الطباطبائي متهماً إياه بالذوق الأدبي والمسحة العرفانية، لكونه وافق الإمام الرازي على أن العلم بالله تعالى مقصور عليه تعالى، فليس من تسويغ اطلاقاً لذلك، طالما هو انطلق في رده من سؤال، هل يستطيع أحد أن يقف عند تأويل المتشابهات، بل وعلى تأويل آي القرآن كله؟ وقد أجاب على سؤاله من فوره، أنه لا شك في أن القرآن كما هو مشتمل على آيات محكمات، مشتمل على آيات متشابهات... [14].

وهنا تكمن الإشكالية الكبرى التي نرى الخطأ فيما افترضه المعترض، حيث أن الطباطبائي يرى ذلك، ولكنه لا يرى في رد المتشابه إلى المحكم تأويلاً حتى يؤخذ عليه ذلك، فهذا من التفسير وليس من التأويل. ثم إنه ما معنى هذا التعصب للعطف والتشريك في ظل هذا الاحتدام التاريخي في تفسير هذه الآية، وخاصة فيما لو علم المعترض أن الشريف الرضي قد عرض لجميع الوجوه والآراء بشأنها، وهو أول مَن عرض للرأي بخصوص مَن قال بالتشريك، شارحاً لقول يزيد بن المفرغ الحميري:

فالريح تبكي شجوها     والبرق يلمع في غمامه» [15].

وإذا كان ذلك سائغاً، كما يقول الشريف الرضي، في اللغة، وجب حمله على موافقة دلالة الآية، في وجوب رد المتشابه إلى المحكم، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه... فما هو جديد المفسّر «معرفة» إذن؟؟

وكما نلاحظ أن المرتكز فيما عرض له الشريف الرضي هو رد المتشابه إلى المحكم، وكأن أحداً يناقش في ذلك؟

فأصل المناقشة هو التأويل وما إذا كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله، أم أن التأويل محصور بالله تعالى؟

هناك مَن توجّه بالنقد الشديد واللاذع لمنهج الطباطبائي ورؤيته فيما عرض له، سواء في فهمه للتأويل، أم في مَن له حق التأويل، على اعتبار أن المفسر «معرفة»، قال: «لا يعدو كونه ـ أي التأويل ـ مسحة عرفانية غير مستندة، ومن ثم هي غريبة شذّت عنه...» [16]. ولعله أخطأ في تعبيره، لأن منهج الطباطبائي، كما فهمنا هو أن التأويل محصور بالله تعالى، هذا ما يقضي به ظاهر الآية الشريفة: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ... ﴾، وهذا ما سهى عنه المعترض «معرفة» [17]. والحق يقال: إن الطباطبائي أسس لرؤيته بإحكام انطلاقاً من إيمانه بأن القرآن أُحكمت آياته ثم فصلّت من لدن حكيم خبير، فهي حيث أحكمت ما كان بإمكان أحد أن ينالها بفهم، ولكن بعد أن فصلّت ويسّرت بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال الله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً  [18]، ووفقاً لهذه الآية، وغيرها من الآيات، كما يرى الطباطبائي، فإن القرآن الكريم يصدر من ناحية تعجز أفهام الناس عن الوصول إليها، فلا يدركها إلاّ مَن كان من المخلصين وعباده المقربين، وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خير مصداق لذلك... وما يذكره القرآن بكلمة «تأويل» لم يكن مدلولاً للفظ بل حقائق وواقعيات أعلى شأناً من فهم عامة الناس، وهي الأساس للمسائل الإعتقادية والأحكام العملية للقرآن... [19].

هذا هو ما يراه الطباطبائي، ولعل كثيرين التبس عليهم هذا التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله تعالى، ومن ارتضى له التأويل، لأن حق التأويل لا يعلمه إلاّ الله تعالى، وعليه، فإنّه يمكن فهم نظرية الطباطبائي في التأويل في ضوء منهجه، بحيث يمكن القول: إن التأويل للقرآن إنما يكون حيثُ أحكم القرآن، أما حيث فصل ونزَّل فله التفسير، لكونه كتاباً مبيناً وهدىً للعالمين، وتبياناً لكل شيء، وإذا كان للقرآن هذا المعنى وهذا النزول، فلا بد أن يكون مبيناً لنفسه، ولهذا، نرى أن الروايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) تتحدث عن تفسير وتصديق القرآن لبعضه البعض، عن أن ظاهره أنيق وباطنه عميق، ولعل البعض يريد أن يسمي البطن للقرآن تأويلاً، كما سُمي ظهره تنزيلاً، لقول المعصوم (عليه السلام): «ظهره تنزيله وبطنه تأويله»، وهذا ما اعتبره بعض المعترضين على نظرية الطباطبائي بالتأويل الثانوي، مقابل اعتباره توجيه المتشابه تأويلاً أساسياً... وهذا ما لا يرى فيه الطباطبائي تأويلاً، وإنما هو جري وانطباق. أما التفسير، فهو الذي جاءت به الروايات وأحكمته الآيات، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ في عالم النزول، كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ في عالم الإحكام والاتقان. هذا من جهة.

أما من جهة أُخرى، فليس لأحد من الباحثين في علوم القرآن أن يتوجه بالنقد لمنهج الطباطبائي، لكونه قال بالوقف وحصر التأويل بالله تعالى بناءً على الظاهر من اللفظ، وذلك نظراً لما هو معهود من تباين في الآراء والقراءات، هذا فضلاً عن وجود آراء تفسيرية تقبل بالقراءتين، كما بين الشريف الرضي في حقائق التأويل [20].. ومن هنا، فقد تصح قراءة الوقف.. ومعظم هذه القراءات والتفسيرات تدور حول مرتكز أن هناك متشابهاً ينبغي رده إلى المحكم، ويحتاج إلى تأويل وهذا ما رفضه الطباطبائي من منطلق منهجه في التفسير بأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ولا يؤول بعضه بعضاً، على اعتبار أن الله تعالى يريد لكتابه أن يكون معقولاً، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. وهذا ما عبر عنه الطباطبائي بقوله: «... لو لم يكن هذا القرآن مفهوماً لدى العامة، فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها...» [21].

وهكذا، فإن ما فهمه البعض عن الطباطبائي أنه يقول بالحيثية المكانية للقرآن في اللوح المحفوظ، أو في أم الكتاب، فقد ذهب مذهباً شططاً فيما اعتبره مسحة عرفانية، أو لوحةً مادية أو معنوية [22]. فالطباطبائي لم يتوهم المكان في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾. إن فهم كلام الطباطبائي على هذا النحو، هو تبسيط إن لم يكن تسفيهاً للرأي، ولعل مَن ذهب إلى هذا الفهم صادر في قوله عن موقف سلبي اتجاه نظرية الطباطبائي، سواء في التأويل، أم في علم الراسخين في العلم، في حين كان المطلوب من هؤلاء أن يتعمّقوا جيداً في موقف الطباطبائي، ليكونوا أكثر إنصافاً، ويدركوا أن التأويل عند الطباطبائي ليس ذاك الذي يعني توجيه الكلام، أو مداليل الألفاظ، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير، ولا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الذي عناه تعالى بقوله: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ... ﴾ فالقرآن بعد أن تنزّل نجوماً، وصار معقولاً، وتيسّر بلسان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) جعله الله تعالى نوراً يُفسّر بعضه بعضاً، فقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ... ﴾، فهم إنما يكونون كذلك فيما لو ابتغوا خلاف ما أمر الله تعالى به. أما إذا لم يبتغوا تأويله، وعادوا بالمتشابه إلى المحكم، فلا يكون ذلك منهم تأويلاً...

غاية القول: إن ما يراه الطباطبائي، هو ما سبق لكثير من المفسرين أن رأوه وتوقفوا عنده في تفسير هذه الآية، فمنهم مَن قال بالعطف، ومنهم مَن قال بالوقف، ويبقى الفرق بين المفسرين والطباطبائي، هو أن هذا الأخير توقف ملياً عند الظواهر، وفسّر القرآن بالقرآن، وحصر التأويل بعلم الله تعالى إلاّ مَن ارتضى من رسول، أو إمام أن يطلعه سواء على التأويل، أم على الغيب، وقد بين الطباطبائي أنه يفهم من ظواهر الكتاب ما جعل للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) من مرجعية علمية للمعارف الإسلامية، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة وتعتبر حجة كالآيات القرآنية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [23].

وانطلاقاً من ذلك، فقد رأى الطباطبائي أن أهل البيت (عليهم السلام) هم الراسخون في العلم، ولكن لا من خلال ظاهر آية: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، بل من ظواهر قرآنية أخرى، وهذا ما يقتضيه منهجه في تفسير القرآن بالقرآن، الذي يفسّر بعضه بعضاً. أما التأويل، فهو لا يختص بالآيات المتشابهة، بل هو لجميع القرآن للمحكم والمتشابه معاً، وهو حقيقة ـ أي التأويل ـ محصورة بالله تعالى، كما أنه لا ينبغي الخلط بين معنى المتشابه وتأويل الآيات، وهو في ما يذهب إليه يدعو الباحث إلى التأمل فيما روي عن المعصوم، عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهم السلام): «أن رجلاً قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) هل تصف لنا ربنا نزداد له حباً ومعرفة؟ فغضب وخطب الناس... قال واعلم يا عبد الله: أن الراسخين في العلم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنا به كل من عند ربنا».

يقول الطباطبائي: «قوله (عليه السلام) واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم، ظاهراً في أنه أخذ الواو في قوله تعالى: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ﴾ للاستئناف دون العطف، كما استظهرناه من الآية، ومقتضى ذلك الظهور لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به... وقوله (عليه السلام) فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره، ولم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم» [24].

 

ثانياً: بين الراسخين في العلم والربانيين

 

تبين لنا في مبحث الراسخين في العلم أن الطباطبائي قد استدل بظواهر القرآن على علمهم بالتأويل، لكونهم حجّة بعد القرآن مباشرة، وإن كان لا يرى من ظاهر قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ... ﴾، أن الآية تفيد التشريك، كما زعم آخرون في كون الراسخين في العلم عنوان بنفسه يستدعي أن يكون المنسوب إليهم من جنس ما يتناسب والمعرفة الكاملة، فرعاية المناسبة هي التي تستدعي وجوب التشريك، ليكون الراسخون في العلم عالمين بتأويل المتشابهات [25]، وكما قلنا: إن هذه المسألة في التفسير تجاذبت فيها الآراء منذ مئات السنين، ويكفي أن نشير هنا إلى أن منهجية الطباطبائي هي الجديدة فيما انتهى إليه من موقف، سواء أكان في مجال التأويل، أم في مجال التفسير.

ولا شك في أن الحديث عن الراسخين في العلم في القرآن، وفي تفسير الطباطبائي يستدعي منا أن نتعرف إلى موقفه من الربانيين، وما إذا كانوا هم الراسخين في العلم؟ أم أنهم يتمايزون عنهم في سياق الرؤية القرآنية لكل منهما؟ يقول الراغب الأصفهاني: «رسوخ الشيء ثباته ثباتاً متمكناً... [26].

والراسخ في العلم المتحقّق به الذي لا يعرضُهُ شُبهة. فالراسخون في العلم هم الموصوفون بقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ...  [27]. وقال الشريف الرضي في بلاغته المعهودة في معنى الراسخين... «هذه استعارة، المراد منها المتمكنون من العلم تشبيهاً برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوانة، وهو أبلغ من قوله الثابتون في العلم...» [28].

أما في معنى الرباني، فقد قيل الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام، يقال، كما في المفردات، رَبَّهُ وَرَبَّاه ورَبَّبهُ... ولا يقال الربُ مطلقاً إلاّ لله تعالى المتكفل بمصلحة الوجودات، نحو قوله تعالى: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾، والرّبانيّ قيل منسوب إلى الرَبَّان، ولفظُ فعلان من فَعِلَ يُبنى نحو عطشان... وقيل منسوب إلى الرّبِّ الذي هو المصدر، وهو الذي يَرُبُّ العلم كالحكيم... فالرباني كقولهم إلهي، قال علي (عليه السلام): «أنا رباني هذه الأمة، والجمع ربانيون...» [29].

وهكذا، فإن اختلاف المفردة القرآنية في سياق الاستعمال لا بد أنها تحمل مدلولات مختلفة لجهة ما ترمز إليه، وخصوصاً فيما لو اعتمدنا منهجية الطباطبائي في الأخذ البدائي بظواهر الكتاب والسنة، فالله تعالى قال: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾، ولم يقل: «وما يعلم تأويله إلاّ الله والربانيون» باعتبار أن الراسخ هو ربّاني، في حين أن الرباني قد لا يكون راسخاً... الله تعالى قال: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ...  [30] ولم يقل: لولا ينهاهم الراسخون في العلم... الله تعالى قال: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ  [31]. ولم يقل يحكم بها الراسخون في العلم والأحبار مثلاً. وهنا لا بد من التوقف عند رؤية الطباطبائي لنرى ما إذا كان يتمايز عن سواه فيما ذهب إليه من رؤية في تفسيره في معنى الراسخين في العلم، ولعلنا نستطيع الاختصار في الطريق إليه إذ هو يأخذ بغرر الأحاديث، كما يأخذ بغرر الآيات، يقول: «روي عن علي (عليه السلام) أنه قيل له: هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا، والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ أن يعطي الله عبداً فهماً في كتابه. أقول ـ والكلام للطباطبائي ـ وهو من غرر الأحاديث، وأقل ما يدل عليه: أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم...» [32].

مما تقدم، يمكن طرح السؤال الآتي: هل الراسخون في العلم هم الربانيون؟ أم أنهم مختلفون عنهم ولهم حيثية ظاهرة وباطنة مختلفة؟

ثم إنه لا بد من الملاحظة أيضاً أن الطباطبائي في تفسيره لم يأت على ذكرهما معاً في سياق واحد، بل نراه، كعادته في الموضوعية المعهودة عنده، يتحدث عن عصمة الربانيين والراسخين معاً، كما نلاحظ أيضاً أن الطباطبائي فيما سوّغ به لقوله بأن ظاهر آية ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ مقصور في الآية على الله تعالى، لكونه لو أراد سبحانه وتعالى التشريك بالعطف، لكان من أفضل الراسخين ـ حينذاك ـ هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان من حقه أن يفرد بالذكر تشريفاً بمقامه، كما في قوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [33]. كان حق الكلام، كما عرفت، أن يقال: وما يعلم تأويله إلاّ الله ورسوله والراسخون في العلم، هذا وإن أمكن أن يقال: إن قوله في صدر الآية ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾، يدل على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عالماً بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانياً [34].

فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما يرى الطباطبائي، هو بالتأكيد من الراسخين في العلم، وعالم بالتأويل، إذ كيف يمكن أن يتصور أن ينزل القرآن على قلبه وهو لا يدري ما أريد به، ولكن بما أن الحديث هو عن الراسخين في العلم وما يكون بينهم وبين الربانيين، فذلك ما استدعى أن نعيد طرح الرؤية للإستفادة في استخلاص الموقف فيما ذهب إليه الطباطبائي في هذا السياق، فهو يرى مثلاً أن للربانيين والأئمة - وهم البرازخ بين الأنبياء والأحبار - العلم بحق الكتاب والشهادة عليه بحق الشهادة [35]. فالآية (44) من سورة المائدة: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ... ﴾ ، ظاهرة في إعطاء حق الشهادة. وهي، وإن كانت نزلت في بني إسرائيل، لكنها تدل على أن ذلك لكون التوراة كتاباً منزلاً من عند الله تعالى مشتملاً على هدى ونور، أي المعارف الاعتقادية والعلمية، التي تحتاج إليها الأمة، وإذا كان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ والشهادة اللذين لا يقوم بهما إلاّ الربانيون والأئمة، كان هذا حال كل كتاب منزل من عند الله... [36].

وغير خفي أيضاً على متدبر في القرآن أن يعرف أن علماء أهل الكتاب قد خصوا بهذا التعبير أيضاً، حيث قال الله تعالى: ﴿ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ [37]، وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل على أنه حيث ذكر الراسخون في العلم لم يذكر الربانيون، والعكس صحيح أيضاً، ما يؤكد رؤية الطباطبائي، في أنه لو كان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل، لكان أفضل الراسخين هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان من حقه أن يفرد بالذكر، وبما أن هذا لم يحصل، لا لأن الرسول ليس عالماً بالتأويل، وإنما لأن الله تعالى أوقف التأويل المطلق عليه تعالى إلاّ مَن ارتضى من رسول أو إمام، فلا يكون التشريك ظاهراً ولعله يمكن الاستفادة في هذا السياق من قوله تعالى: ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ... ﴾، حيث نجد أن الله تعالى أفرد النبيون عن الربانيين والأحبار، وقد قال علي (عليه السلام): «نحن الراسخون في العلم» [38]، أو كما قال (عليه السلام): «أنا ربّاني هذه الأمة»، ما يؤكد أن الراسخين هم الربانيون، وأن في كل أمة راسخ في العلم والدين يدفع عنه الأباطيل، ويحق الحق، ويحفظ الكتاب، ويكون عليه شهيداً، كما قال الطباطبائي: «وهذا الحفظ ثم الشهادة على الكتاب لا يتمَّان إلا مع عصمة ليست من شأن غير المعصوم من قبل الله تعالى... فهذا الحفظ والشهادة غير الحفظ والشهادة اللذين بين الناس، بل من قبيل حفظ الأعمال والشهادة التي في قوله تعالى: ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [39].

وإذا كانت هذه الآيات قد نزلت في بني إسرائيل، فإن العبرة تبقى بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأن المورد لا يخصص الوارد، فإذا كان ظهر القرآن تنزيله وبطنه تأويله، كما قال المعصوم، فلا بد أن يكون هناك عموم أبدي ثابت تنطوي عليه الآية والذي هو بطنها، وقد عبر الطباطبائي عن ذلك برؤية عقلية واضحة، أنه إذا كان المستدعي لهذا الحفظ ولهذه الشهادة أن لا تكون: إلاّ بالربانيين والراسخين في العلم، فإن هذا هو حال كل كتاب منزل من عند الله تعالى مشتمل على معارف إلهية وأحكام عملية وبذلك يثبت المطلوب [40]. وكما يقول الباقر (عليه السلام): «ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم ماتوا ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر...» [41].

إن ما بين الربانيين والراسخين هو هذا، أن الرباني كما هو في معناه الحقيقي هو صانع للفعل ومدبّر له على نحو ما بين الراغب في مفرداته، فهو ما بين النبي والناس، وذلك بحسب الترتيب المأخوذ في الآية، والأحبار هم العلماء دون الربانيين، وقول المعصوم فيما روي عنه من دور تربوي «يربون الناس بعلمهم»، ظاهر في أن أهل البيت (عليهم السلام) يأخذون لفظ الرباني من مادة التربية دون الربوبية، وهذا هو بالذات دور ووظيفة الراسخ في العلم ـ بما هو امتداد للنبوة أنه يتنزل في علمه ليكون مربياً ومعلماً وصانعاً. كما قال (عليه السلام): «إنا صنائع ربنا والناس بعدُ صنائع لنا» [42]. وهذا لا ينافي، كما يقول الطباطبائي، تكليف الأحبار ـ العلماء ـ بالحفظ والشهادة كونهم امتداداً حقيقياً ونوعياً للأنبياء والربانيين، وقد أخذ الميثاق منهم بذلك، لأنه ثبوت اعتباري شرعي غير الثبوت الحقيقي، الذي يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط والخطأ، والدين الإلهي كما لا يتم من دون هذا لا يتم من دون ذاك [43]. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو ما أفاض فيه الشهيد محمد باقر الصدر في بحوثه عن الشهادة والخلافة، حيث رأى ما يراه الطباطبائي لجهة الثبوت النوعي الاعتباري للعلماء والفقهاء في حق الامتداد للإمام المعصوم في أثناء غيبته [44]، إذ لا بد أن يكون له هذا الامتداد لحفظ الشريعة، ولكن الفرق بين الصدر والطباطبائي، هو أن الأول أفاض في الترجمة العملية لدور العلماء في الحياة، وذلك إنما كان منه بمقتضى رؤيته ومنهجه في التفسير، والذي اكتفي فيه بالموضوعية والرؤية التوحيدية مع التجربة الإنسانية. أما الطباطبائي، فقد اختار لمنهجه أن يكون مقتصراً على تفسير القرآن بالقرآن دونما الخوض في التجارب والتأسيسات العملانية، وإن كان قد قدم رؤيته في مجال النظرية السياسية في كتابه «نظرية السياسة والحكم في الإسلام» [45] بشكل مستقل عن تفسير الميزان، وهذا ما يمكن للباحث أن يستخلصه من كافة بحوث الطباطبائي في الميزان، وخاصة البحوث العقلية والسياسية والإجتماعية والعقائدية التي أفرد لها جزءً كبيراً من تفسيره [46].

 

ثالثاً: القرآن والمطهرون عند الطباطبائي

 

لقد تقدم الكلام في أن الطباطبائي لا يرى أنه من معاني التأويل رد المتشابه إلى المحكم، وإنما هو عين خارجية، أو هي الواقعية التي جاء الكلام اللفظي تعبيراً عنها، وكما قال الطباطبائي: «نعم إن لكل القرآن تأويلاً، ولا يدرك تأويله عن طريق التفكر مباشرة، ولا يتضح ذلك من ألفاظ، وينحصر فهمه وإدراكه بالأنبياء والصالحين من عباده... فإنهم يستطيعون إدراكه عن طريق المشاهدة. نعم إن تأويل القرآن سوف ينكشف يوم تقوم الساعة...» [47].

وإذ لم يكن ثمة خلاف حول ما يراه الطباطبائي في موضوع إدراك القرآن من قبيل الأنبياء والصالحين، فليس معنى هذا أن كلام الطباطبائي كان مفهوماً لكثيرين ممن أشكلت عليهم رؤية الطباطبائي لمكانة القرآن في اللوح المحفوظ، أو لما تميز به المطهرون، ولهذا نجد من المفسرين والباحثين من اعترض على تأويل الطباطبائي أولاً، وعلى ما يراه من مكانة للقرآن في اللوح المحفوظ ثانياً. ومن جملة هذه الاعتراضات ما ذهب إليه السيد «معرفة» في كتابه التلخيص، بقوله: «أما رأي سيِّدنا الطباطبائي، فلا يعدو توجيهاً لطيفاً... وتبدو عليه مسحة عرفانية غير مستندة، ومن ثمَّ فهي غريبة شذّت عنه... ثم لنفرض أن وراء هذا القرآن الذي بأيدينا قرآناً آخر، ذا وجود مستقل فما هي الفائدة المتوخّاة من ذلك، وهل هناك مَن يعمل به... إلى أن يقول متسائلاً: فما الذي دعا هؤلاء إلى تسمية ذلك القرآن المذخور ـ فرضاً ـ تأويلاً، ووجوداً عينياً لهذا القرآن الحاضر؟ وهل يصح وجود قرآن مبذول ووجود قرآن محفوظ؟ أو أن يطلق على وجوده الآخر عنوان التأويل لهذا الوجود» [48]؟.

كما أننا نجد الأستاذ العزيز يعترض على كلام الطباطبائي بخصوص وجود القرآن في اللوح المحفوظ، ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ  ﴾... سورة الزخرف (4) ويعقّب قائلاً: «إنما جاءت هذه الاستفادة الخاطئة من توهم المكان في قوله تعالى: «لدينا»... [49].

لا شك في أن ما ذهب إليه الأستاذ في اعتراضه يضعنا إزاء إشكاليات ذات قيمة فيما لو كان الباحث، وهو مفسر للقرآن أيضاً مدركاً تماماً لما يذهب إليه الطباطبائي، أو مصيباً فيما وصّف به كلامه من مسحة عرفانية، ولوحات مكانية، مادية أو معنوية. أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك، فإن هذا مما يقتضي منا ونحن نبحث في منهج وتفسير وفلسفة الطباطبائي أن نعرض لحقيقة الموقف، ولجوهر ما يذهب إليه المفسر في رؤيته عن التأويل، وقد سبق لنا أن عرضنا لشذرات من ذلك، ونكمل الآن بالتأكيد على الحقائق الآتية.

أولاً: إن السيد المعترض لم يقرأ جيداً ما ذهب إليه الطباطبائي في كتابه الشيعة في الإسلام، ثم إنه تجاهل تماماً ما ذهب إليه المفسر في كتابه الميزان عن القرآن وأوصافه، وخاصة قوله تعالى: ﴿ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾، وقولنا: إنه لم يقرأ إنما نعني به تجاهل ما أسس له الطباطبائي في إطار رؤيته التفسيرية للقرآن، وخاصة في مجال حقيقة وأوصاف القرآن الكريم، فهو يقول: «إذا افترضنا أن هناك في الكون واقعيات ليست بمادة (وواقع الأمر هكذا)، فهناك من البشر لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد في كل عصر من لهم القدرة على إدراكها ومشاهدتها، وهذه الأمور لا يمكن توضيحها للآخرين عن طريق البيان اللفظي والفكر الإعتيادي، ولا يسعنا الإشارة إليه إلاّ بالتمثيل والتشبيه...» [50].

ثانياً: لم يبين لنا المعترض تجليات المسحة العرفانية، أو اشتباه الطباطبائي فيما هو المقصود بقوله تعالى (لَدَيْنَا)، وهل مقصود الطباطبائي غير أن القرآن هو كتاب مكنون محفوظ مصون عن التغير والتبديل، وهو اللوح المحفوظ، لا يمسه إلاّ المطهرون، وكما يقول الطباطبائي: «اسم مفعول من التطهير، وهم الذين طهّرهم الله تعالى، وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمسّ الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث، أو الحدث كما هو ظاهر...» [51].

نعم، هناك تجليات عقلية باهرة للطباطبائي في تفسيره، وهذا مما أمر الله تعالى به، إذ في القرآن كما يرى المفسر ما يزيد على الثلاثمائة آية تدعو الناس إلى التفكر أو التذكر، أو التعقل [52].

يقول الطباطبائي: «ونرى القرآن من جهة أخرى في كثير من الآيات يدعو إلى الحجيّة العقلية، وذلك بدعوة الناس إلى التفكر والتدبر في الآفاق والأنفس، وهو يسلك الاستدلال العقلي في بيان الحقائق» [53].

ثالثاً: يرى المعترض أن الطباطبائي يتحدث عن قرآن مبذول، وقرآن محفوظ، وهو مأخوذ بكلام الطباطبائي بأن لهذا القرآن تأويلاً، وكأن الإستاذ «معرفة» لم يلتفت إلى قوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [54] وهذه الآية، كما يرى الطباطبائي تتحدث عن رؤية الأشياء عياناً يوم القيامة [55]، فالتأويل عند الطباطبائي للقرآن ليس من خارج هذه الرؤية، ولكن البعض يريد أن يفهم التأويل للكتاب على أنه إخراج اللفظ عن ظاهره بقرينة، أو الكشف عن مثير للريب، أو مداليل ألفاظ، رغم أن هذه كما يقول الطباطبائي، قد وضعت لتلبية حاجات المجتمع المادي، إذ أن الإنسان مضطر في حياته الإجتماعية لكي يفصح عما في ضميره من مفاهيم إلى أبناء نوعه، ولهذا نجد أن التفاهم لا يحصل بين أفراد صمّ وعمي... وعلى هذا، فإن وضع الكلمات، وتسمية الأشياء ما كان إلاّ لرفع الاحتياجات المادية، وقد اصطنعت الكلمات للأشياء والأوضاع المادية التي تقع في متناول الحس، أو على مقربة من المحسوس... [56]، وهنا السؤال: من أين جاء المعترض على الطباطبائي بما رآه من مادية ومسحة عرفانية، أو أوعية للقرآن افترضها المعترض وسماها بالاستفادة الخاطئة؟.. مما تقدم، نخلص إلى القول بأن الطباطبائي يلحظ وجودين للقرآن، وجود مفهوم ومعقول للإنسان، ووجود آخر غير معقول له، وهذا ما يعرض له القرآن في سورة الواقعة. وبما أن الله تعالى يسرّ هذا القرآن بلسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون بشيراً ونذيراً، فليس معنى هذا أن وجود القرآن المثالي إذا صح التعبير لم تعد له حيثية وجود إلا من حيث ما له من شأنية عظيمة عند الله في سابق علمه الأزلي، لأنّه إذا لم تكن له هذه الحيثية الوجودية التأويلية التي رآها الطباطبائي للقرآن، فما هو الذي يأتي تأويله يوم القيامة؟ وهنا يجيب الطباطبائي بعيداً عن المسحة العرفانية: «إن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام لا تناله العقول: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾، وإنما أنزل بجعله مقروّاً عربياً رجاء أن يفهمه الناس، فإن قلت: ظاهر قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ إمكان تعقل الناس له تعقلاً تاماً، فهذا الذي نقرؤه ونعقله، إما أن يكون مطابقاً لما في أم الكتاب كل المطابقة، أو لا يكون، والثاني باطل قطعاً كيف وهو تعالى يقول: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ ﴾، ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾. ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾، فنعين الأول ومع مطابقته لأم الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولاً لنا وما في أم الكتاب عند الله غير معقول لنا؟

يقول الطباطبائي: «يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أُم الكتاب نسبة المثل والممثل، فالمثل هو الممثل بعينه، لكن الممثل له لا يفقه إلاّ المثل فافهم ذلك» [57].

فالطباطبائي، كما نلاحظ، لا يتحدث عما زعمه بعض المفسرين عن كتاب مسطور مذخور ليوم آخر كالطعام يدّخر لإيام الجدب، أو المال يكنز ليوم الحاجة والافتقار! نعم هو تحدث عن وجود تأويلي عيني من خارج مداليل الألفاظ، وهذا الوجود لا يمسه إلاّ المطهرون، وهذا ما سنتوقف عنده بنحو من المقاربة، لأن الطباطبائي يخالف كثيراً من المفسرين في ما يذهب إليه في تفسيره، إذ هو يرى أن التطهير مناسب للمسّ العلمي دون الطهارة من الخبث أو الحدث، بعد أن اختلف المفسرون في كون هذه الجملة، هل هي صفة القرآن، أم صفة لكتاب مكنون، ولعل ما يعجب منه هو أنه كيف يمكن أن نتحدث عن صفة للقرآن تأتي في سياق مجموعة صفات مصدّرة بقسم عظيم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [58]، كيف يمكن لهذه الصفة أن تأتي بمعنى حسي في سياق وصف ليس فيه للمادة أو الحس، أو القراءة، بما هي قراءة مكتوبة، أي معنى مفهوم، إلاّ من حيث هي ألفاظ أفتى الفقهاء بضرورة الطهارة قبل مسها كما ذهب الزمخشري وغيره من المفسرين؟!

لا شك في أن تنزّل الكتاب من لدن علي حكيم لا بد أن يكون له سياقه المعرفيّ في القلب والعقل والروح، ولهذا قال تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ... ﴾ ـ سورة الشعراء، والقلب هنا لا بمعنى القلب الصنوبري المألوف لدينا، وإنما هو القلب الذي يتسع له وجود القرآن، سواء من حيث هو آيات وسور مفصلة، أم حيث هو قرآن له تأويله في قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهنا تكمن الطهارة المعرفية التي عبر عنها القرآن، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [59].

لذا، فإن من لا يفهم معنى ﴿ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾، فإنه لن يفهم حتماً ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾، الذي جاءت باستعمال المصدر بما هو توكيد للفعل من جميع جهاته وحيثياته، ومن حيث ما جاء في المطهرين كإسم مفعول من التطهير، باعتبار أنه إذا قلنا هذا الماء طاهر، غير ما نقول إن هذا الماء طهور، فالطهور طاهر في نفسه ومطهر لغيره، أما الطاهر، فهو طاهر وليس مطهراً لغيره، وهذا هو سياق ومعنى أن يكون المقصود بالمس، المس العلمي وليس أي مس آخر. وهكذا، فإنه غالباً ما تخون أنماط السياق اللغوي والدلالي والمعجمي والصرفي بعض المفسرين، فيقول: لا ينبغي مسه إلاّ من هو على طهارة، يعني مس المكتوب منه، أو أن يذهب بعض آخر إلى تخصيص التطهير بالملائكة كما عن جُلِ المفسرين، ولا وجه لهذا التخصيص كما يرى الطباطبائي لكونه تقييداً من غير مقيد [60]، أو أن يذهب البعض إلى القول بأن لا ناهية، إلى غير ذلك مما زعمه كثير من المفسرين، وكأن القسم والوصف للقرآن إنما نزل للملائكة، أو لتعليم الناس، بهذا القسم وهذه الأوصاف الجليلة والعظيمة كيف يتطهرون من الحدث المادي، وهم يعلمون أن القرآن إنما يُسِّرَ لأجل تعقُّله كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ما يؤكّد أنها أوصاف تعني الروح والعقل والقلب قبل أن تعني أي مسٍّ مادي، أو حسي، وبهذا يستقيم المعنى السياقي في تعظيم القرآن، وهذا هو فهمنا لخلفية السياق المعنوي، والذي نرى أنه قد ينسجم مع ما رآه الطباطبائي. والله أعلم.


[1] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص28.

[2] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص31.

[3] م.ع، ج3، ص31.

[4] انظر: معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، دار الميزان، بيروت، ط1، 1991، ج2، ص461 ـ 462.

[5] م.ع، ص463.

[6] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص32.

[7] يقول معرفة في رده على الطباطبائي فيما عرض له من معاني التأويل: «فهذه أربعة معان للتأويل استعملت في سبعة عشرة موضعاً من القرآن، ولم يكن واحد منها بمعنى العين الخارجية إطلاقاً...!؟». را: تلخيص التمهيد، م.س، ج2، ص466.

[8] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص32.

[9] م.ع، ج3، ص24.

[10] سورة الجن، الآية: 26 ـ 27.

[11] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص24.

[12] م.ع، ج3، ص44.

[13] م.ع، ج3، ص33.

[14] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص468.

[15] انظر مبحث الشريف الرضي في حقائق التأويل، فهو يعرض لأقوال العلماء في هذه الآية بعد ذكره طرفاً من الخلاف ومما عرضه الرضي ما يأخذ به «معرفة» في تلخيصه، فهو لم يأت بشيء جديد، وقد يصح القول منا بأن ما عرض له الرضي من وجوه القول والاستدلال في كلامه لا يخلو من تأويل وتعميق في وجوه اللغة، رغم أن هذا ليس مطلوباً لمعرفة ظواهر الكتاب التي تمت مراعاتها بدقة في منهج الطباطبائي، الذي ميز بدقة بين التفسير والتأويل، في حين نجد الرضي يستعملهما في سياق واحد، يقول: «لأن معنى التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودق ولم يُعلم بظاهره، وهذه صفة المتشابه، وأما المحكم الذي يعلم بظاهره، فلا حاجة بأحد إلى تعليمه، لأن أهل اللسان فيه سواء...» را: حقائق التأويل. م.س، ص133. وكلامه كاشف عن حقيقة التأويل للمتشابه دون المحكم، ونظرية الطباطبائي في تفسيره تجعل من التأويل مختلفاً عن التفسير، فضلاً عما تراه من رد للمتشابه للمحكم لا على النحو التأويل، وإنما على نحو أن القرآن يُفسر بعضه بعضاً... والتأويل هو لجميع آيات القرآن ولا يعلمه إلاّ الله تعالى، كما هو ظاهر الحصر في الآية المباركة.

[16] معرفة، محمد هادي، التمهيد، م.س، ص466.

[17] م.ع، ص467.

[18] سورة مريم، الآية: 97.

[19] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص85.

[20] الشريف الرضي، حقائق التأويل... م.س، ص134.

[21] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، ص79.

[22] را: معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص467، ما كنا نعتقد أن يبسّط «معرفة» كلام الطباطبائي إلى هذا المستوى، إذ هو ينسب إليه أنه توهم الوعاء في أمّ الكتاب، «وإنما جاءت هذه الاستفادة الخاطئة من توهم المكان من قوله تعالى «لدينا»، ويشرح للطباطبائي بثقة تامة أن لهذا القرآن شأناً عظيماً عند الله في سابق علمه الأزلي...!؟

[23] سورة النحل، الآية: 44.

[24] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص80.

[25] الطباطبائي يحسم الجدل في موضوع التأويل، يقول: «إن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأما في هذه الآية، فلا دلالة لها على ذلك...». را: الميزان، م.س، ج3، ص59.

[26] الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (لا ـ ت)، ص200.

[27] سورة الحجرات، الآية: 15.

[28] الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، دار الأضواء، بيروت، ط2، 1986، ص122.

[29] الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ القرآن، م.س، ص201.

[30] سورة المائدة، الآية: 63.

[31] سورة المائدة، الآية: 44.

[32] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص82.

[33] سورة البقرة، الآية: 285.

[34] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص32.

[35] م.ع، ج5، ص372.

[36] م.ع، ج5، ص372.

[37] سورة النساء، الآية: 162.

[38] يقول الطباطبائي: «أما قوله (عليه السلام) نحن الراسخون في العلم، كما في رواية للعياشي عن الصادق (عليه السلام)، الراسخون في العلم هم آل محمد (عليهم السلام) وهذه الجملة مروية في روايات أخر أيضاً، فجميع ذلك من باب الجري والانطباق...» را: الميزان، م.س، ج3، ص81.

[39] سورة البقرة، الآية: 143.

[40] الطباطبائي، الميزان، م،س، ج5، ص372.

[41] انظر تفسير العياشي، م.س، ج1، ص11. را: بحار الأنوار، المجلسي، ج92، م.س، ص94.

[42] هناك روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) يستفاد منها الظهور، كما في قوله عن الصادق (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم ونعلم تأويله. وإذا كانت هذه الروايات لا تخلو من ظهور في العطف على المستثنى في قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾، فلا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه، فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه، وهو كان شائعاً في الصدر الأول بين الناس. را: الميزان،د ج3، ص81.

[43] الطباطبائي، الميزان، ج5، ص371.

[44] انظر محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، دار التعارف، بيروت، 1990، ص133. يقول الصدر: «النبي والإمام معيّنان من الله تعالى تعييناً شخصياً. وأما المرجع فهو معين تعييناً نوعياً، أي أن الإسلام حدد الشروط العامة للمرجع وترك أمر التعيين والتأكيد من انطباق الشروط إلى الأمة نفسها».

[45] را: الطباطبائي، محمد حسين، نظرية السياسة والحكم في الإسلام، الدار الإسلامية، ط بيروت، ط1 1982م.

[46] يقول الطباطبائي في خلاصة لرأيه السياسي: «نحن نملك أدلة خاصة على تشريع أصل مسألة السياسة الحكومية والولاية، ونملك أدلة أخرى على تعيين الأشخاص الذين يقومون بمهام هذا المنصب، ومع عدم التمكن من هذا الشخص الخاص بهذا الأمر، لا يسقط عنا حكم السلطة والحكومة رأساً. را: نظرية السياسة، م.س، ص66.

[47] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص85.

[48] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص466 ـ 467.

[49] م.ع، ص468.

[50] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص86.

[51] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج19، ص142.

[52] قال تعالى: ﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾. قال الطباطبائي: «أريد بالعقل الإلتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله والإهتداء العقلي إلى أنه حق، ومن الواجب أن يخضع الإنسان للحق، ومما تفيده الآية هو وجوب تعقل الحق وإلاّ كان سبباً مباشراً لدخول جهنم». انظر: الميزان، ج19، ص353. وقوله تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.

[53] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص73.

[54] سورة يونس، الآية: 39.

[55] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص87.

[56] م.ع، ص86.

[57] م.ع، الميزان، م.س، ج18، ص86.

[58] سورة الواقعة، الآية: 77 ـ 78.

[59] سورة الأحزاب، الآية: 33

[60] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج19، ص143.