الكتاب علوم القرآن عند العلامة آية الله السّيّد محمد حسين الطّباطبائيّ (قده)
 
«
دراسة مقارنة»
تأليف الشيخ عارف هنديجاني فرد
إعداد ونشر جمعية القرآن الكريم
الطبعة الأولى: 1434هـ 2013م - لبنان - بيروت
موقع جمعية القرآن الكريم www.qurankarim.org
بريد جمعية القرآن الكريم info@qurankarim.org

 

لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

 

 

 

 الباب الثالث

 علوم القرآن وأثرها في منهج الطباطبائي

 تمهيد الباب

 الفصل الأول: نزول القرآن: أسبابه والأقوال فيه

 أولاً: الإنزال والتنزيل عند الطباطبائي

 ثانياً: المكي والمدني عند الطباطبائي

 ثالثاً: الطباطبائي وأسباب النزول

 الفصل الثاني: النسخ عند الطباطبائي

 أولاً: النسخ التكويني

 ثانياً: النسخ التشريعي

 ثالثاً: نسخ الحكم دون التلاوة

الفصل الثالث: المحكم والمتشابه عند الطباطبائي

 أولاً: المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح

 ثانياً: المحكمات أُمُّ الكتاب

 ثالثاً: المحكم والمتشابه عند الطباطبائي

 الخاتمة

 خلاصة واستنتاج
 المراجع والمصادر

 

 



 

علوم القرآن وأثرها في منهج الطباطبائي

 

 

 

العلوم القرآنية هي مجموعة مباحث في القرآن الكريم. وعناوين يتم الخوض والبحث فيها قبل التعرض لتفسير القرآن وفهم معانيه، ولها ارتباط مباشر بمحتوى القرآن وتفسيره: والمباحث المحورية والرئيسية لهذا العلم، والتي أكثر ما يتطرق إليها العلماء في هذا المجال، هي الحديث عن الوحي، تاريخ نزول القرآن، تاريخ جمع القرآن، القراءات، علم آيات الأحكام، إعجاز القرآن، المحكم والمتشابه، الناسخ والمنسوخ، المكي والمدني، علم أسباب النزول، ويأتي في طليعة هذه المباحث علم التفسير، لكون هذه المباحث ترتبط ارتباطاً قوياً ومباشراً بتفسير القرآن ومحتواه مثل مباحث المتشابه والمحكم، وأسباب النزول، وهناك مباحث لها من الأهمية، بحيث أن الاستناد أو الاستشهاد بالآيات القرآنية لا يكون إلاّ بعد إثباتها، كموضوع «حفظ القرآن من التحريف» وغير ذلك من المباحث...

كما أنه ينكشف لنا بعد التتبع أهمية هذه العلوم التي بلغت إلى حد أنه لا يمكن فهم القرآن بشكل دقيق دون الإطلاع عليها، وهي وحي كما يقول علماء التفسير: «تيسر الفهم الأفضل للقرآن»...

ولهذا، فإن أي مفسر لا يرى نفسه مستغنياً عن علوم القرآن، بل ترى أغلب المفسرين يدونون بعض العلوم القرآنية في بداية مؤلفاتهم قبل شروعهم بالتفسير لارتباطها به، ونحن في هذا الباب من الدراسة سنبين موقف الطباطبائي من بعض هذه المباحث، لاستكشاف بعض ملامح رؤيته في التفسير، وأثر هذه العلوم في منهجه، ذلك نظراً لما تميز به الطباطبائي في تفسيره الميزان، حيث نجد أنه قد تميز في موقفه من المحكم والمتشابه، وفي أسباب النزول، في موقفه من النسخ أيضاً، وهذه هي العناوين الأساسية التي سنتعرض لها في هذا الباب من الدراسة لعلنا نوفق إلى استخلاص نتائج متميزة تخدم الباحثين في علوم القرآن، وخاصة في علم التفسير، لكونه يأتي على رأس هذه العلوم، وكما يقول الأوسي في دراسته عن الطباطبائي: «إن تنوع علوم هذا الفن وتعدد موارده يجعل من الصعب الإحاطة بها جميعاً، كما أن الانسياق وراء مطالبه يجعل من البحث دراسة في علوم القرآن وليس بحثاً في منهج الطباطبائي [1]. وعليه فقد اخترنا بعض العناوين الهامة التي تسهم في الإضاءة على منهج الطباطبائي، وتبين موقفه منها. وهكذا، فإن أي دراسة في علوم القرآن لا بد أن تسهم بالكشف عن منهج التفسير لدى المفسر، وقد سلف منا القول فيما عرضنا له في مباحث التفسير والتأويل عند الطباطبائي، أن المعالجة هادفة إلى إظهار تمايز منهجه عن مناهج المفسرين، وهذا ما اقتضى منا أن نشير إلى أهمية وفرادة منهجه في ما تميز به من أسلوب وخصائص جعلت منه أحدث تفسير قرآني، لكونه انطوى على رؤية كاملة للبحث التفسيري، وحافظ على المبتنيات الروائية والعقلية، بما هي حجج قطعية قدّرها القرآن وجعل منها سبيلاً إليه، ذلك أن القرآن الكريم هو حجة بالذات، وسند لحجية المعصومين (عليهم السلام)، وهذا ما ركز عليه الطباطبائي في تفسيره، إذ إنه اكتفى بالقرآن والسنة، مبيناً أنه لا يمكن أبداً الوصول إلى جميع الحدود الإلهية والمعارف القرآنية مع الاستغناء عن سنة المعصومين (عليهم السلام)، إضافة إلى ما يقدّره القرآن من براهين عقلية، أقامها القرآن نفسه، من حيث كونها أدلة قاطعة لبيان المعارف الإلهية.


لا شك في أن نزول القرآن وتنزيله، هو من المباحث التي كثرت فيها المقالات والإجتهادات، إذ إنه ما من تفسير للقرآن منذ عصر الرسالة وحتى يومنا هذا إلاّ وتجد فيه اهتماماً خاصاً في تفسير وتأويل الآيات القرآنية، بين قائل بأن للقرآن تنزيلان، وقائل بأن له تنزيلات ثلاثة، وقبل أن نعرض لما يراه الطباطبائي في تفسيره لآيات النزول والتنزيل، لا بد من التعريف والتفريق بين هذين المصطلحين لمعرفة ما ينطويان عليه من دلالات، يقول الراغب الأصفهاني: «نزل: النزول في الأصل هو انحِطاطُ من عُلوٍ، يقال نزل عن دابته، ونزل في مكان كذا حط رحلهُ فيه، وأنزلهُ غيرُهُ، قال الله تعالى: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [1]،.. وإنزال الله تعالى نعمهُ ونقمهُ على الخلق وإعطاؤهم إياها، وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، وإما بإنزال أسبابه والهداية فيه كإنزال الحديد واللباس... والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة، أن التنزيل يختصّ بالموضع الذي يشير إليه إنزالُهُ مفرقاً ومرة بعد أخرى، والإنزال عام، فمما ذكر فيه التنزيل قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [2]، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [3]، ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [4]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [5]، وقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ  [6]، وإنما خصّ لفظ الإنزال دون التنزيل لما روي أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماءِ الدنيا، ثم نزَلَ نَجماً فَنَجماً...» [7].

هذه هي خلاصة ما يمكن أن يفرق فيه بين الإنزال والتنزيل، أن الإنزال هو الورود على المكان من علوٍ، وقد يكون هذا الورود عادياً، وقد يكون معنوياً، شأنياً، فيقال مثلاً عن رجل أنه عالي المكان، أو الشأن، بمعنى أنه ذو مكانة رفيعة في أعين الناس، فقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾، إشارة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلقى القرآن من جهة عليا، هي الله تعالى، وقد جاء التعبير عن وحيه بالنزول. فالآية، كما يرى الطباطبائي، تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [8].

وهذا ظاهر في نزوله تدريجياً في مجموع مدة الدعوة. وهذا ما يستفاد منه في بيان الفرق بين الإنزال والتنزيل أن الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي.. [9]. وهنا تجدر الإشارة إلى ما اختلف فيه أهل التفسير، وإلى ما استندوا إليه من روايات وتحليلات لا دليل عليها من القرآن الكريم، من قبيل ما ذهبوا إليه بأن القرآن نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان، ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوماً وعلى مكث في مدة ثلاث وعشرين سنة، وقد أجيب على هذا بأن تعقيب «أنزل فيه القرآن»، بقوله: ﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾، لا يساعد على ذلك، إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين، هذا، وقد عرض الطباطبائي لآراء القوم مفنداً لها، إلاّ أنه لم يأت في كلامه على الرأي القائل بأن للقرآن تنزلات ثلاثة، الأول إلى اللوح المحفوظ، والثاني إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، والثالث تفريقه منجماً بحسب الحوادث... [10]، لكن دفعه لمثل هذه التأويلات للآيات فيما رآه المفسرون في معنى الدفعي والتدريجي، ولجهة قولهم أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان، أن أول ما نزل منه نزل فيه، يجعل الطباطبائي لاحظاً لكل هذه الأقوال مبيناً تهافت الرأي فيها، لكونه من المستبعد جداً أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، لأن الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: ﴿ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، غير صريحة الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه، ولا قرينة تدل عليه في الكلام، فحمله عليه تفسير من غير دليل. يقول الطباطبائي: «إن ظاهر الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله، أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل عليه» [11]. وهكذا، نلاحظ كيف أن الطباطبائي في منهجه قد استدل بظاهر الآيات القرآنية على أن القرآن قد أنزل دفعة إجمالية على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم تدرج نزوله طيلة حياته بعد البعثة، وهذا ما يمكن تعليله بأن الهدف من هذا النزول الدفعي للمرة الأولى، هو تنوير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعارف الإلهية الكبرى، وأسرار الكون العظيمة، ليمتلىء قلبه بالحقائق القرآنية، كما قال الله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [12].

إن الطباطبائي في منهجه يركز على التدبر بالآيات على قاعدة أن هذه الآيات المباركة لا يمكن أن تتناقض فيما بينها، لأن التناقض، كما بينا سابقاً، لا يتوافق مع ميزة الإعجاز التي يتمتع بها القرآن. ولهذا، فإن مقتضى التدبر أن يلحظ النزول الدفعي على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ذهب إليه الطباطبائي بالقول أن الرسول كان على علم مسبق بمحكم القرآن، لنزوله عليه دفعة واحدة، وهذا المعنى يلوح من قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [13]، فإنها وأمثالها من الآيات ظاهرة في أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له علم بما ينزل عليه، فنُهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي [14].

كما يرى المفسّر أيضاً أن الرواية إذا خالفت القرآن تسقط عن درجة الاعتبار حتى ولو كانت مسندة، وقد عرضنا لرأي أحد الباحثين في علوم القرآن: «صبحي الصالح»، في هامش هذه الدراسة، ورأينا كيف أنه يرفض تنزلات القرآن رغم صحة أسانيد هذا الرأي المخالفة لما نطق به القرآن [15]، وهذا ما يركز عليه الطباطبائي في تدبره للقرآن، وفي ظواهر القرآن تحديداً، لكون القرآن الكريم قد أعطى للسامعين حجيّة واعتبار ظواهر الألفاظ، وإذا كان ثمة باطن للقرآن، فإنه لا يُلغي ولا يبطل ظاهره، وإنما هو له بمثابة الروح التي تمنح الجسم الحياة [16]. وعليه، فإنه لا معنى، برأي الطباطبائي، للإنصراف عن ظاهر القرآن والأخذ بروايات مخالفة له، أو متناقضة معه، من قبيل ما يذهب إليه بعض المفسرين من تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، كتلك التي تفسّر القرآن من غير دليل، أو تصرف الكلام عن ظاهره من دون قرينة. إن الذي يعطيه التدبر في الآيات، هو الذي ينبغي أن يكون مهيمناً على كل ما يحيط بالنص، وخاصة في مجال العلوم القرآنية. فالطباطبائي يرى أن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل، كقوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... ﴾ واعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب، أو البعض النازل منه كقوله تعالى: ﴿ كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾، فإن المطر إنما ينزل تدريجياً، ولكن النظر هنا معطوف إلى أخذه مجموعاً واحداً، وكذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ ﴾ [17]. وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي، الذي يقضي فيه بالتفرق والتفصيل والإنبساط، والتدرج هو المصحح لكونه واحداً غير تدريجي ونازلاً بالإنزال دون التنزيل، وهذا الإحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ  [18]. فالإحكام هنا، كما يرى الطباطبائي، مقابل التفصيل، ولكن السؤال يبقى هنا أين أحكمت آياته؟ فالمفسّر يرى أنها أحكمت في اللوح المحفوظ، أو في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [19]، لكن لا على نحو المكان، أو الوعاء، كما فهم بعض المعترضين على كلام الطباطبائي، وهذا ما سبق لنا أن عرضنا له في مبحث القرآن والمطهرون، وإنما على نحو المثل من الممثل، واللباس من المتلبس، والمثال من الحقيقة. إنه بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام، وهذا هو المصحح لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾، إلى غير ذلك، وهذا الذي ذكرنا هو الموجب، لأن يحمل قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾، وقوله: ﴿ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾، على إنزال حقيقة الكتاب، والكتاب المبين إلى قلب رسول الله دفعةً، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدة الدعوة النبوية [20].

لقد أخطأ مَن توجه بالنقد اللاذع للمفسر فيما نسبه له من قول أن كلامه منبعث من ذوق عرفاني ليس فيه جدل واستدلال، وأنه ليس سوى استحسان عقلاني مجرّد [21]، اعتقاداً منه أن الطباطبائي يجهل معنى أن يكون للقرآن شأناً عظيماً عند الله في سابق علمه الأزلي!!؟

ثم إن المعترض على تفسير الطباطبائي ومنهجه في التفسير لم يبين لنا ما يفيده ظاهر الآيات المباركة، التي تفيد معنى الإحكام قبل التفصيل، والإنزال قبل التنزيل، فهو على غربة من هذا الأمر، ويريد أن يحمّل كلام المفسر ما لا يحمله. فالمفسر ـ الطباطبائي، يقول: إن الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل، وهذا الإحكام إنما فصّل في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. فالظاهر من هذه الآيات أن هناك كتاباً مبيناً عرض عليه، وألبس لباس القراءة العربية ليعقله الناس، وإلاّ فإنه، وهو في أم الكتاب، عند الله، عليّ لا تصعد إليه العقول... وفي الآية، كما يرى الطباطبائي، تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين [22].. ولهذا، نجد المفسر يميز بين القرآن المبين والكتاب المبين الذي هو في مرتبة التنزيل. ذلك هو ما يذهب إليه المفسّر في تفسيره، ولم نعثر على ذوقه العرفاني واستحسانه المجرّد، كما رأى بعض المفسرين، إلاّ أن يكون أصل اعتراضهم على كون الطباطبائي قد ذهب في تفسيره بالظاهر من الكتاب مذهب أهل التأويل، الذي زعمه بعضهم له فيما نسبه للطباطبائي من القول بوجود القرآن المذخور في مقابل القرآن المبذول متسائلاً، فما الذي دعا الطباطبائي إلى تسمية ذلك القرآن المذخور ـ فرضاً، تأويلاً ووجوداً عينياً لهذا القرآن الحاضر؟؟ [23].

لا شك في أن هذا التساؤل ليس مبنياً على فهم دقيق لرؤية الطباطبائي فيما رآه من تحقق للقرآن، سواء في أُمّ الكتاب، أم في مجال التنزيل على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يسميه الطباطبائي، بحقيقة الكتاب، ولعلهم لم يطّلعوا على تفسير الطباطبائي لقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [24]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [25]. فالمفسر يشير إلى دلالات ظاهرة في معنى التأويل والتصديق والتفصيل، هذا فضلاً عما تنطوي عليه الآيات من قول للذين نسوه من قبل ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾، وأين التأويل المذخور للكتاب المزعوم بقولهم أنه مدّخر لأيام الجدب؟ والقرآن ظاهر في الدلالة على أن الناس ينظرون تأويله يوم يأتي تأويله، فإن المنتظر تأويله هو ما يراه المفسّر تأويلاً، فإذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو المنتظر تأويله عند مَن يزعم أن التعبير بأُمّ الكتاب، والكتاب المكنون، واللوح المحفوظ، كل ذلك إنما هو تعبير عن علمه تعالى المكنون، الذي لا يطلع عليه أحد اطلاقاً، وهنا نسأل هل هذا تأويل للقرآن، وللآيات الماثلة أمامنا؟ أم أن المنتظر تأويله هو في علم الله تعالى لا يطلع عليه أحد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما يكون معنى قول الذين نسوه قد جاءت رسل ربنا بالحق؟؟؟

لقد بيّن الطباطبائي، أن الآيات الشريفة ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طارئٍ على الكتاب، إذ إن نفس الكتاب شيء، والتفصيل الذي يعرض له شيء آخر، وهم إنما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب، لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه [26]، وسيظهر لهم يوم القيامة فلا ينفعهم وفي هذا إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب، وهنا تكمن عظمة وعبقرية المفسر الطباطبائي، الذي يجعلك تقف أمام حقيقة باهرة، سواء في معنى الإنزال، أم في معنى التنزيل. وإذا لم يتسن لأحد أن يفهم حقيقة إتكاء هذا الكتاب المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجياً على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار عقول العامة،... وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنزالاً فعلّمهُ الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه [27]، فليس له حمل الكلام على غير معناه، أو أن يتهم أحداً في رؤاه. كما أنه إذا لم يكن هناك متسع من الوقت والذهن لأصحاب العقول الحسية، أن يدركوا هذا المعنى، فإن ذلك مما تحتمه الطبيعة المادية التي استكانوا إليها في غربة ذواتهم عن الظاهر والباطن معاً [28].

غاية القول: إن ما ذهب إليه الطباطبائي في معنى الإنزال والتنزيل، يكشف لمن يتأمل ويتدبّر في تفسيره أنه دخل إلى هذا العلم من باب ظاهر القرآن، ولم تكن رؤيته نتيجة ذوق عرفاني أو استحساني، كما زعم بعض المنتقدين لرؤيته، وقوله: «إن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب»، هو في الحقيقة، ما تنبىء به ظواهر الآيات القرآنية فيما جاءت به من استعمالات، سواء في دائرة الإنزال، أم في دائرة التنزيل. فالطباطبائي اختار لمنهجه أن يكون قرآنياً بامتياز، فهو لم يعارض الروايات الواردة في هذا الشأن، كما أنه لم يقبل بالروايات التي تخالف القرآن فيما زعمته من تنزلات مخالفة له. أما القول بأن الكتاب لم يصرح إلاّ بتفريق الوحي وتنجيمه، فهو ينطوي على ملابسات تناقض ظواهر الآيات القرآنية، إذ لم يشرح القائل بذلك ما هو الفرق بين التفريق والتنجيم، فهل المقصود بذلك الإنزال والتنزيل؟ أم أنه تأكيد لمقولة ابتداء النزول في ليلة مباركة، دونما اعتبار لقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ  [29] ؟

كما أن من ذهب إلى اعتبار التفريق والتنجيم لم يبين معنى ودلالة قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [30]، فهل في هذه الآية ما يُفيد النزول الدفعي إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدة الدعوة النبوية؟ وهذا هو ما يراه أكثر المفسرين، أم أن ظاهر هذه الآية يُفيد حقيقة التنجيم والتفريق بحسب الوقائع والأحداث؟

ثم إنه ما معنى أن يقول «صبحي الصالح» إن أسانيد مَن يذهب إلى القول بتنزيلات ثلاثة للقرآن، بأنها أسانيد صحيحة ثم لا يأخذ بها قناعة منه أنّها تخالف القرآن، طالباً إليهم أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجماً بحسب الوقائع؟ فهل له أن يُبين كيفية ابتداء إنزاله في ليلة مباركة، مع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ ؟ أليس في هذه الآية ما يشير إلى علم مسبق للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمحكم القرآن لنزوله عليه جملة ودفعة واحدة؟

إن القول بتفريق الوحي وتنجيمه لعله يكون هو المخالف للقرآن فليتدبر الباحث والمفسر في ذلك، طالما أن صاحب هذا الرأي ينسب لنفسه مخالفة ما اشتهر عليه بين المفسرين، فهو يقول: «ويظهر أن الجمهور كان يجنح إلى هذا الرأي، أي نزول القرآن الدفعي إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعدها منجماً، فالزركشي، كما يقول صبحي الصالح، يقول في هذا الرأي أنه أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون [31] وابن حجر في «فتح الباري»، يصفه بالرأي «الصحيح المعتمد» [32]. ونحن ـ أي صبحي الصالح ـ مع ذلك لم نأخذ به لمخالفته صريح القرآن..!؟، وهنا يكمن العجب في تفريقه وتنجيمه!

لقد بيّن الطباطبائي أنه لا دليل على ما يذهب إليه البعض في أن نزول القرآن في شهر رمضان إنما كان أول ما نزل منه نزل فيه، ويرد عليه: أن المشهور عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث بالقرآن وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوماً، وكيف تخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن؟ على أن أول سورة ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ تشهد على أنها أول سورة نزلت وأنها نزلت بمصاحبة البعثة... وكيف كان فمن المستبعد جداً أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: ﴿ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه، ولا قرينة تدل عليه في الكلام، فحمله عليه هو تفسير من غير دليل [33].

هذا ما أفاده الطباطبائي في أجوبته على ما زعمه القوم نزولاً وتنزيلاً، وهو فيما عرض له من تفسير للآيات توقف ملياً عند الظاهر ولم يحمل عليها من غير دليل، وقد استوفى الكلام رحمه الله فيما بيّنه من تفسير لمجمل الآيات القرآنية مفسراً لها في سياق رؤيته ومنهجه في تفسير القرآن بالقرآن وهكذا، فقد تظهّر لنا كيف أن علوم القرآن تؤثر في منهج الطباطبائي على النحو الذي يثبت أن القرآن يُفسر بعضه بعضاً لا على نحو الاستقلال، وإنما على نحو الاستنطاق للقرآن من خلال التدبر فيه، وملاحظة سائر الأقوال والآراء في مسألة النزول والتنزيل، حتى بلغ الأمر به إلى القول في آراء الكثيرين منهم: «ولست أدري أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام أجزائه ـ تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق والحقيقة بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق [34]

أما القول، بأن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة، ثم نزول الآيات نجوماً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخبار مجعولة لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، فهذا كله رد عليه الطباطبائي، كاشفاً عن أنه خطأ وفرية، لأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يوافق هذه الأخبار على ما عرفت، هذا أولاً.

وثانياً: أن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة [35]، هكذا، فإن الطباطبائي لم يترك لهؤلاء ما يفترون به على حقيقة القرآن ونزوله وتنزيله إلاّ ورد عليه بما يتناسب معه، من خلال القرآن [36]، وليس بما يتناسب مع مزاجٍ شخصي، أو رأيٍ، أو عصبية، أو ذوق عرفاني واستحساني، كما زعم العلاّمة معرفة فيما عرض له من نقدٍ لموقف الطباطبائي، حيث رأى في تأويله تحمّلاً لا طائل منه، ولا دليل عليه، وقد يكون هذا أيضاً من التجنّي على الطباطبائي، لكونه اتخذ من الظواهر القرآنية والحجج العقلية سبيلاً لفهم معارف القرآن، ولعلَّ العلاّمة معرفة فيما اختطّه لنفسه من موقف تجاه الفلسفة والعرفان منعه من الموضوعية في كثير من آرائه ومواقفه [37] وطالما أنّ الروايات بشأن نزول القرآن وتنزيله قد اختلفت وتباينت إلى حدّ الاضطراب، وحيث إن هذه المسألة ليست من مجالات التعبّد في شيء، سواء أقلنا بنزول القرآن جملة واحدة في ليلة واحدة إلى البيت المعمور في السماء الرابعة، كما في روايات خاصة، أو بنزوله إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، كما في روايات عامّة، أو نزل على قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث أعطي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العلم جملةً واحدة، كما في روايات الصدوق، فإنّ هذا كلّه مما يمكن التعقّل فيه، وهذا ما فعله الطباطبائي في منهجه، فاختار التعقّل في فهم الروايات، واحتكم إلى ظاهر قوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه ﴾. وكان موقف الطباطبائي من إنزال القرآن وتنزيله في ليلة القدر، أن حقيقة الكتاب المتوحّدة أُنزلت إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعةً، كما أُنزل القرآن المفصّل في فواصل وظروف على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً تدريجاً في مدة الدعوة» [38]. وكما نعلم أن هذا الموقف لم ينفرد به الطباطبائي وإنما ذهب إليه الفيض الكاشاني كما جاء في مقدمة تفسير الصافي، فرأى أنه أُريد بذلك نزول معناه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم نزل طوال عشرين سنة نجوماً من باطن قلبه إلى ظاهر لسانه كلما أتاه جبرائيل (عليه السلام) بالوحي وقرأه عليه بألفاظه [39].

وهنا نسأل، هل هذا من التحمّل والتأويل بالباطن والعرفان كما يرى معرفة؟ والجواب نعم، هذا هو موقف «معرفة» لكونه يتبنّى الرأي القائل بأنّ القرآن قد تضمّن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لوقت حدوثه عند السبب، كما في قوله تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [40]، أو كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ﴾، إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت بلفظة: «قالوا»، و «قال»، و «جاؤوا» و «جاء» بلفظ الماضي، كما أن فيه ناسخاً ومنسوخاً، وكلّ ذلك لا يتناسب ونزول القرآن جملةً واحدةً في وقتٍ لم يحدث شيء من ذلك [41].

إن ما ذهب إليه «معرفة» وغيره من المفسّرين فيما تعقّلوه من معاني الإنزال والتنزيل لم يتعبّدوا فيه، كما هو صريح قول معرفة في تلخيص التمهيد، إذ إنه يمكن القول في هذا الكلام أيضاً أنه من التأويل بالرأي، لأنه لا يُستفاد هذا المعنى من ظاهر الآيات القرآنية التي تتحدّث في النزول على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبيت فؤاده، ولعلّ ما ذهب إليه الفيض الكاشاني والطباطبائي، هو أقرب للتعقّل مما ذكره «معرفة» وغيره من حصر الإنزال والتنزيل بالوقائع والأحداث، وكأنه هناك من يترقّب الحدث ليكون له موقف منه فيما زعموه من انتظار القرآن لحدوث الأسباب، وكأنّ مسبّب الأسباب هو الإنسان. إنّ الله تعالى هو مسبّب الأسباب، وليس منافياً للعقل أبداً، ولا هو من التأويل، أن يُقال بأنّ إنزال القرآن إنما أُنزل على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبوية. وإذا صحّ هذا القول، فإنّه لا يبقى معنى لما سأله «معرفة» بأنه ما هي الفائدة الملحوظة من وراء نزول القرآن جملة واحدة في إحدى السماوات العُلى، ثم ينزل تدريجاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [42] ؟

 

 

ثانياً: المكي والمدني عند الطباطبائي

 

يجمع المفسرون للقرآن الكريم على أنه لا يمكن فهم القرآن وتفسيره بشكل أفضل دون الإطلاع على مباحث علوم القرآن، على اعتبار أن هذه المباحث والعلم بها، يؤدي إلى تيسير الفهم الأفضل للقرآن. وكما أشرنا في تمهيدنا لهذا الباب في الدراسة، أن وعي العلامة الطباطبائي بهذه العلوم وإحاطته بها آثر في منهجية تفسيره للقرآن، حيث نجده في مبحث المكي والمدني من الآيات يأخذ بالسياق، ويستنطق القرآن للتعرف إلى أجواء الآيات وما تعالجه من مواضيع، وما تكشف عنه من أحداث، أو أشخاص، أو أحكام، أو غير ذلك مما يتعلق بأصول الاعتقاد، ومن خلال ذلك كان المفسّر يتعرف إلى زمان ومكان الآية، وما إذا كانت مكية، أو مدنية، ولعل الذي استلهمه المفسّر من إحاطته بما ترامى من روايات في العلوم القرآنية، سواء في علم أسباب النزول، أم في المكي والمدني. أم في المحكم والمتشابه... إلى غير ذلك من العلوم القرآنية، هو الذي رسم له ملامح منهجه في التفسير، نظراً لما انطوت عليه الروايات من اختلاف وتناقض بلغ بها حد التعارض مع الآيات القرآنية، وخاصة حين بلغ الأمر ببعض المفسرين إلى إسقاط الرواية على النص وتلبيسه إياها على أنها سبب في النزول. فهذا كله أخرج المفسّر من أوهام الروايات، التي اكتنفها، في كثير من الأحيان، التأثير السياسي، ليدخل إلى القرآن سائلاً ومستنطقاً ومفسراً على قاعدة أن القرآن يصدق بعضه بعضاً. وأن الآيات القرآنية تشكل وسيلة مثلى ودقيقة لحل الكثير من المعضلات الموجودة في الأحاديث، وكما يقول المفسر: إن الآيات القرآنية، تعتمد على حقيقة واحدة، وهي الأساس الذي بني عليه بنيان الدين، وهو توحيده تعالى... ولا بد من فهم الآيات القرآنية كلها في ضوء هذه الحقيقة، وقد سميت آياته بالمثاني، لأن بعضها يوضح حال بعض، كما قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [43]، حيث جمع تعالى بين كون الكتاب متشابهاً يشبه بعض آياته بعضاً، وبين كون آياته مثاني [44]. وانطلاقاً من هذه الرؤية، فإن المفسر في علومه القرآنية استهدى بالقرآن للخروج من تناقضات الروايات والأحداث والتاريخ الإسلامي بكل أحداثه وتفاعلاته. وهو إنما اختار منهجية تفسير القرآن بالقرآن لكونه الكتاب المبين، الذي يستطيع المفسر من خلاله أن يهتدي إلى كثير من الحقائق والمعارف، وهذا ما أشار إليه بقوله: «ولو لم ينسَ السابقون هذا الأسلوب الرائد، واستمروا على نهجه، لانكشفت لهم الكثير من الأسرار القرآنية، فهذا الأسلوب سار عليه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)...» [45].

وهكذا، فإن معنى أن يتعرف الباحث إلى ما يذهب إليه الطباطبائي في علم المكي والمدني من الآيات، وما لذلك من أثر في منهجيته، معناه لحاظ ما اختاره الطباطبائي من أسلوب وطريقة للتمييز بين ما هو مكي وما هو مدني، وقبل ذلك لا بد من التعرض إلى الإتجاهات التي كانت سائدة في عصر الطباطبائي، لأن منهجه في التفسير لم يستثنِ هذه الإتجاهات في تفسيره، وإنما توقف عندها ملياً واختار الإتجاه الذي يرى أنه يُفهم قرآنياً بشكل أفضل، وينسجم مع منهجه في كون دلالة السياق في الآيات القرآنية، هي التي توجه المفسر إلى رفع التعارض فيما بين الروايات، أو إلى إسقاطها عن درجة الاعتبار، يقول الطباطبائي: «وللعلم بمكية السور ومدنيتها، ثم ترتيب نزولها أثر هام في البحوث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحليل سيرته الشريفة.

والروايات ـ كما ترى ـ لا تصلح أن تنهض حجة مُعتمداً عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الإعتبار. فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الآيات والاستمداد بما يتحصّل من القرائن والإمارات الداخلية والخارجية...» [46].

هذه هي الحقيقة التي استفادها الطباطبائي من حركة التفسير القرآني في التاريخ الإسلامي، وهي استفادة مبنية على تنازع أهل التفسير فيما اضطربوا فيه من روايات، واختلفوا فيه من اتجاهات. وكما قلنا إنّه لا بد من عرض ما استقرت عليه الإتجاهات التي سلكها أهل التفسير لمعرفة المكي من المدني، وهي ثلاثة اتجاهات رئيسية. أما الإتجاه الأول: فهو الذي اعتبر بهجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصوله إلى المدينة، فرأى أن ما نزل قبل الهجرة، أو في أثناء الطريق قبل وصوله إلى المدينة فهو مكي، وما نزل بعد ذلك، فهو مدني، والملاك، في هذا الإتجاه، هو اعتبار زمني، فما نزل قبل وقت الهجرة، ولو في غير مكة، فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة ولو في غير المدينة حتى ولو نزل في مكة عام الفتح، أو في حجة الوداع، فهو مدني باعتبار نزوله قبل الهجرة.. [47].

أما الإتجاه الثاني، فهو يقول: أن ما نزل في مكة وما يحيط بها، ولو بعد الهجرة، فهو مكي، وما نزل في المدينة وما يحيط بها، فهو مدني، وما نزل خارج البلدين، بعيداً عنهما فهو لا مكي ولا مدني.. [48].

يبقى الإتجاه الثالث، وهو ما كان خطاباً لأهل مكة فهو مكي، وما كان خطاباً لأهل المدينة فهو مدني [49]، وهذا مأخوذ من كلام ابن مسعود: «كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه يا أيها الذين آمنوا فهو بالمدينة، قال الزركشي: «لأن الغالب على أهل مكة الكفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان» [50].

وكما نلاحظ أن هناك اعتبارات عديدة، وآراء مختلفة عند أهل التفسير لمعرفة المكي والمدني، وهذا كله ناشئ من كون ما استندوا إليه من روايات متضاربة لا تصلح أن يعتمد عليها في إثبات شيء من ذلك. وإذا كان هناك من اتجاه اختاره الطباطبائي، فهو اختار الإتجاه الزمني كأساس للتمييز بين المكي والمدني، لكونه هو المشهور. ونحن، كما يرى المفسر، إنما نؤثر الإتجاه الزمني في تفسير المكي والمدني تبعاً لذلك، ولأننا نرى أن وضع مصطلح المكي والمدني على أساس الترتيب الزمني الذي هو أنفع وأهم للدراسات القرآنية [51]. أما فيما يتعلق بمعرفة المكي والمدني، فقد ذهب الكثيرون من أهل التفسير إلى القول بأن السبيل الوحيد إلى ذلك هو ما ورد عن الصحابة في ذلك [52]، وهذا ما رأى فيه الطباطبائي مزيداً من التحير والمتاهة لما هي عليه الروايات من تعارض فيما بينها، وأكد على أن الطريق المتعين للتحقق من ذلك هو التدبر في سياق الآيات، والاعتماد على الروايات القطعية لمعرفة ذلك، دون أن يعني ذلك مجانبة العقل والإجتهاد، كونه من غير الممكن تفسير أي آية من دون الاستعانة بالبراهين العقلية، وسند حجيّة هذا العقل هو القرآن، لكون القرآن نفسه يُقيم الأدلة القاطعة لبيان المعارف الإلهية [53].

فالطباطبائي يرى أنه في سياق محاولة التمييز بين المكي والمدني، بدأ المفسرون بالإعتماد على الروايات والنصوص التاريخية التي تؤرخ السورة، أو الآية، وتشير إلى نزولها قبل الهجرة أو بعدها، وعن طريق تلك الروايات والنصوص التي تتبعها المفسرون استطاعوا أن يعرفوا عدداً كبيراً من السور والآيات وأن يميزوا بينها. وهذا ما لم يكن مستحيلاً على أهل التفسير، لما هي عليه كل سورة، أو آية من خصائص تميز المكي عن المدني [54]، وهذه الخصائص التي تمتاز بها السور والآيات، هي غير أن يكون هناك طريق لمعرفة مواقع النزول أنها كانت بمكة، أو بالمدينة أو بغيرهما، فهذا كما يرى أهل التفسير قليل جداً، لأن الأوائل لم يُعيروا هذه الناحية المهمة اهتماماً معتداً به، سوى ما ذكروه في عرض الكلام استطراداً، وهي استفادة ضئيلة للغاية، ومن ثم يجب لمعرفة ذلك ملاحظة شواهد وقرائن من لفظ الآية، أو استفادة من لهجة الكلام، بالخطاب مع نوعية موقف الموجه إليهم، أكان في حرب، أم في سلم، وعد، أم وعيد، إرشاد، أم تكليف... [55].

لقد اختار الطباطبائي طريق القرآن، باعتباره المتعين لهذا الغرض، وذلك نظراً لأهمية العلم بالسور المكية والمدنية، ولما له من أثر في البحوث المتعلقة بالدعوة النبوية، وهنا تساءل المفسّر هل يركن إلى الروايات المتضاربة إلى حد التناقض لتحصيل هذا العلم، أم أنه يختار سبيل القرآن للتدبر في سياق الآيات، وفي لهجة الخطاب الإلهي الموجه إلى الناس؟

لا شك في أنه مع توفر السور والآيات على خصائص تميز المكي عن المدني، وهي خصائص عامة، يمكن للمفسر أن يهتدي إلى التمييز بينها، ولكن كيف السبيل إلى معرفة مواقع النزول، وترتيب النزول؟ فهذا ما حتم على المفسّر أن يلتمس طريق القرآن للتدبر في سياق الآيات، والاستمداد بما يتحصل من القرآن والإمارات الداخلية والخارجية للعلم بمكية السور ومدنيتها. ومن هنا، نرى أن ما يميز المفسّر عن سواه من المفسرين للقرآن، هو أنه من خلال إحاطته بعلوم القرآن استطاع الاهتداء إلى المنهج الإسلامي القويم في معالجة الكثير من القضايا الإسلامية، فكان منهج تفسير القرآن بالقرآن، لأن الروايات، الكثير منها، لا تنهض بهذه المهمة، ولا بد أن القرآن مبين لغيره، كما هو مبين لنفسه، كما يرى الطباطبائي، وهو من هذه الرؤية وبهدف تحصيل العلم بمكية السور ومدنيها قال الطباطبائي: وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب، أي تفسير الميزان، والله المستعان [56].

هكذا، يتظهّر لنا أثر علوم القرآن، وتحديداً المكي والمدني، في منهج الطباطبائي، لأن الاختيار الذي كان سائداً في تاريخ المسلمين، وفي طريقة وسلوك المفسرين لمعرفة مواقع النزول وترتيب النزول، هو الاعتماد على ما ورد عن الصحابة في ذلك، وهذا ما لا يمكن أن يورث الاطمئنان. أما القرآن، فهو ناهض بهذه المهمة من خلاف التدبر في سياق الآيات، ويمكن التمثيل على ذلك بأن النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات الحرب والدولة، فهي خصيصة موضوعية تدل على أن النص مدني، لأن طبيعة الدعوة في المرحلة الأولى قبل الهجرة لا تنسجم إطلاقاً مع التشريعات الدولية، فمن هنا نعرف أن النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة.. [57].

إن المقياس الذي وضعه الطباطبائي للعلم بالمكي والمدني هو السياق القرآني، بحيث يتم التعرف بأن مضامين هذه الآية أو تلك تناسب ما كان عليه الحال في مكة، فتكون مكية، أو تناسب ما كان عليه الحال في المدينة، فتكون مدنية، ومن خلال التعرف على ذلك، يمكن حينذاك التعرف إلى الناسخ والمنسوخ، لما أجمع عليه أهل التفسير من أن معرفة المكي والمدني لها فوائد، أهمها التعرف على الناسخ والمنسوخ، وذلك إذا وردت آيتان، أو آيات من القرآن في موضوع واحد، وكان الحكم في هاتين الآيتين أو الآيات مخالفاً للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي، وبعضها مدني، فالثاني يكون ناسخاً للأول باعتبار تأخره عنه [58]...

وانطلاقاً من رؤية الطباطبائي في تحديد الطريقة للعلم بالمكي والمدني، يمكن أن تعرض لنماذج من تفسيره الميزان للاستفادة من طريقة تدبره في السياق، يقول الطباطبائي: «وما اختلفوا في مكيته ومدنيته سورة الرعد، والرحمن والجن والصف والتغابن...» [59]، وهو لأجل أن يبين معنى ما يفيده التدبر في السياق لحسم موضوع الجدل والخلاف حول آية من الآيات، يرى أن سورة الرعد مكية كلها على ما يدل عليه السياق، وما تشمل عليه من المضامين، ونقل عن بعضهم أنها مكية إلاّ آخر آية منها، فإنها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام، وعُزي ذلك إلى الكلبي ومقاتل، ويدفعه أنها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ ﴾. وقيل: إن السورة مدنيّة كلها إلاّ آيتين منها وهما قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ﴾، ونسب ذلك إلى الحسن وعكرمة وقتادة، ويدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين، فإنها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة وبعد الهجرة..» [60].

ومن السور أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، يرى الطباطبائي أن سورة (يس) مكية بشهادة سياق آياتها ودلالة مضامينها، إذ إن أغراض السورة بيان الأصول الثلاثة للدين، التوحيد، والنبوة، والمعاد» [61].

كما نلاحظ في تفسيره أيضاً لسورة النساء، فهو يرى أنها مدنية لشهادة مضامين آياتها المتعرضة لجملة من الأحكام، كالزواج والمواريث والصلاة والجهاد... وتعرضها لحال أهل الكتاب، على خلاف ما زعم بعض المفسرين من أنها مكية.. [62].

إذاً، الطباطبائي، كما تبين لنا من رؤية مختصرة فيما ذهب إليه في موضوع المكي والمدني، يحسم الموقف في تفسيره وفي منهجه، معولاً على السياق ومضامين الآيات، طالما أنه يرى أن ما ينقل من روايات عن الكلبي ومقاتل وعكرمة وقتادة، وغيرهم، لا يورث الاطمئنان بل يؤدي إلى القول بخلاف سياق الآيات ومضامينها، وهنا يمكن أن نسأل: مَن تصدق؟ هل تصدق الطباطبائي، أم تصدق الروايات على تضاربها وتناقضها، وقد سبق القول أن الطباطبائي يرى أنها لا تصلح دليلاً وتسقط عن درجة الاعتبار. وهنا تكمن إشكالية كبرى في تاريخ المسلمين، وتحديداً في علم التفسير، حيث نجد أن الطباطبائي يتجاوز مألوفات القوم إلى منهج قرآني لا يمكن إلاّ أن يكون صحيحاً وواضحاً ومفسراً، ومصدّقاً لآياته.. فإذا فرضنا أن المفسر أخطأ في تدبر ما، أو في استخلاص نتيجة ما من دلالة آية أو سورة، فليس معنى هذا أن المنهج هو الذي أخطأ، وإنما الخطأ في تطبيق المنهج. فالقرآن يفسّر بعضه بعضاً، والسنة القطعية تعضده وتأتي بعده، كما يقول الطباطبائي، وهو سند حجيّتها، وهذا يعني أنه إذا لم تكن الرواية حجة قاطعة، فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعرف إلى المكي والمدني، ويبقى السبيل الوحيد إلى ذلك هو القرآن، وهذا ما اختاره الطباطبائي تجنباً لمزالق الروايات التي تجعل من المكي مدنياً، ومن المدني مكياً مع ما يحدثه ذلك من اضطراب فيما يتعلق بأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد، والعام والخاص. فإذا كانت ضمانة هذا العلم وغيره من العلوم القرآنية هي في القرآن فلما لم يلجأ إليه المفسرون، وهذا ما صدّرنا به الكلام عن الطباطبائي، الذي عبر عن ذلك بقوله: «ولو لم ينسَ السابقون هذا الأسلوب الرائد، واستمروا على نهجه، لانكشفت لهم الكثير من الأسرار القرآنية».

ثم إنه، ما هو الملزم لعلماء التفسير أن يتعبدوا بكثير من الروايات، أو أن يقوموا بإسقاطها على القرآن الكريم؟ طالما أن التدبر القرآني ودلالة السياق فيه تكشف عن المكي والمدني، وتمنع من الخطأ فيه فيما لو كان المفسّر متوفراً على الشروط والصفات التي تؤهله للبحوث القرآنية. فهذا القاضي أبو بكر، كما يروي الزركشي، يقول: «كانت العادة تقضي بحفظ الصحابة ذلك، غير أنه لم يكن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك قول. ولا ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله تعالى علم ذلك من فرائض الأمة، وكذلك الصحابة والتابعون لما لم يعتبروا ذلك من فرائض الدين، لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذلك على أسماعهم، وإذا كان الأمر على ذلك ساغ أن يختلف من جاء بعدهم في بعض القرآن، هل هو مكي، أو مدني؟ وأن يعملوا في القول بذلك ضرباً من الرأي والاجتهاد» [63].

وكما يقال، هنا جوهر القول في عبقرية الطباطبائي، وفيما اختاره من طريق للعلم بالمكي والمدني، لأنه لم يرد أن يختلف في القرآن، هل هو مكي أو مدني، إذ كيف يمكن أن يقع الإختلاف، والقرآن لا اختلاف فيه، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾، وهذا هو مرتكز الطباطبائي في منهجه تفسير القرآن بالقرآن. إذ هو تجنب الروايات التي لا تنهض دليلاً، واعتصم بالقرآن بديلاً، ليكون له علم بالمكي والمدني من خلال التدبر بالسياق والمضامين القرآنية. أما أن يتعبد بعض المفسرين بالروايات مع ما هي عليهم من تضارب واختلاط بالسياسة، بسبب ما عايشه التاريخ الإسلامي من أحداث، ثم يكون العلم بالرأي الإجتهاد من دون إحكام الرؤية القرآنية فيما يتعلق بعلوم القرآن، فذلك مما يمنع من الاهتداء إلى السبيل الحق، ويحول دون الوصول إلى المعرفة الحقيقية بمواقع النزول [64]. وقد تبين لنا كيف أن الطباطبائي قد رد على كثير ممن ادعوا العلم بالمكي والمدني، ولكنهم لم يكونوا على شيء من ذلك. وإذا كان من موقف مما ذكره الزركشي عن القاضي أبي بكر، فإنه يمكن القول أن ذلك لم يجعل من فرائض الدين، وأن الرسول لم يقل هذا مكي، وهذا مدني، لكن ليس معنى هذا أن يُختلف في القرآن، أو أن يقال بالرأي والاجتهاد، طالما أن هناك منهجية علمية تؤدي إلى تحصيل المطلوب، وهي منهجية تفسير القرآن بالقرآن التي اهتدى إليها الطباطبائي، وجعلت منه مفسّراً في مصاف المفسرين العظماء، وهذا ما يعترف به كل مَن له باع في العلوم القرآنية، ولكن ما يؤسف له ويعجب منه، هو أن المفسرين تعبدوا بالروايات بمعزل عن تضاربها، واحتكموا إلى الرأي والاجتهاد، ناهيك عما تقلّدوا به في بحوثهم القرآنية، فاستحال عليهم الاهتداء وساغ لهم الاختلاف، فكانوا، كما قال الطباطبائي «فقد اتسع الخرق على الراتق» [65].

 

 

ثالثاً: الطباطبائي وأسباب النزول

 

يرى علماء التفسير والشريعة أن علم أسباب النزول هو من العلوم القرآنية التي لا يُستغنى عنها، مما لها من فوائد اتفق العلماء عليها، إذ من دونها لا سبيل إلى معرفة الأحكام الشرعية، وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: «اعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله: الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمحكم والمتشابه، والرخص من العزائم، والمكي من المدني، وأسباب النزول، فليس بعالم القرآن ولا هو من أهله» [66].

ويرى الطباطبائي، أن الحوادث والأحداث التي وقعت أيام الدعوة، وكذلك الحاجات الضرورية من الأحكام والقوانين الإسلامية، هي التي تسببت في نزول كثير من السور والآيات، ومعرفة هذه الأسباب يساعد إلى حد كبير في معرفة الآية المباركة، وما فيها من المعاني والأسرار [67].

ومما قاله «الواحدي» في أسباب النزول، «إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» [68].

إذن، علم أسباب النزول هو الذي يتكفل بالكشف عن الأحداث التاريخية، والوقائع التي كانت من دواعي نزول النص القرآني، فالنظر في القرآن الكريم، ومعرفة ما نزل منه ابتداءً دون ما سابق أثر، وما نزل منه لسبب سابق، وما نزل مفصحاً عن السبب، أو مجيباً عنه، أو مبيناً لحكمه، ومدى أخذ واقع الآية وما رافقها من ظروف وأحداث وأشخاص بنظر الاعتبار في مدلولها، كل ذلك وما إليه تكفل ببيانه علم أسباب النزول.. [69].

إن ما يعنينا في هذه الدراسة، هو موقف الطباطبائي من أسباب النزول، والآثار التي تركها هذا العلم على منهج وأسلوب المفسّر في تناوله للآيات والروايات. وكما رأينا في دراسة المكي والمدني، فإن الطباطبائي تميز في كونه أخرج العلوم القرآنية من كونها مستغرقة في التاريخ ومتناثرة بالأهواء والآراء، لتكون علوماً قرآنية هادفة إلى فهم القرآن وتفسيره على النحو الذي يصيب الحكمة في ما أنزله الله تعالى، وقد اقتضى هذا الأمر من الطباطبائي أن يكون تفسير القرآن بالقرآن سبيله للوقوف على حقيقة الكثير من النصوص والروايات لنقدها وتمحيصها بما يؤدي إلى معرفة أسباب النزول على حقيقتها، باعتبارها المدخل الحقيقي لعلوم القرآن، وذلك من حيث تأثيرها الواضح فيما جاء في النص من عام وخاص، ومطلق ومقيد، وغيرها، فليس العلم بها لمجرد العلم، وإنما لكونها تخصص العام القرآني وتقيد مطلقه، وتفصل مجمله [70]، وقد تواترت الروايات القطعية في أنه لا يحق لمن لا يعرف هذا العلم أن يفسّر النص القرآني كما بين الإمام الصادق (عليه السلام) [71].

لقد انصبّ جهد الطباطبائي في علم أسباب النزول على تمييز الروايات وفاقاً للآيات والنصوص القطعية، قناعة منه بأن النص القرآني بات محكوماً لكثير من الروايات والآراء التي تحولت من كونها آراءً نظرية لتكون أسباب نزول، وهو من خلال منهجه القرآني استطاع تفنيد الكثير من الروايات، فأسقطها عن درجة الإعتبار، لكونها روايات اجتهادية في جانب، وسياسية في جانب آخر، وهذا ما عبر عنه بقوله: «وإنما أوردت هذه الرواية... ليتبصر الباحث المتأمل أن ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلّها نظرية، بمعنى أنهم يروون غالباً الحوادث التاريخية، ثم يشفعونها بما يقبل الإنطباق عليها من الآيات الكريمة، فيعدونها أسباب النزول، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة، أو آيات ذات سياق واحد، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقل، وإن أوجب ذلك اختلال النظم للآيات وبطلان سياقها... وأضف إلى ذلك، أن لاختلاف المذاهب تأثيراً في لحن هذه الروايات... على أن للأجواء السياسية والبيئات الحاكمة في كل زمان أثراً قوياً في الحقائق، من حيث إخفائها أو إبهامها...» [72].

هذا الكلام من المفسّر يكشف عما آلت إليه الأمور في حياة الناس، وفي مدارس علوم القرآن. إذ باتت النصوص الدينية أسيرة الأهواء المذهبية والسياسية، وليس هذا موقف من الطباطبائي يتفرد به، بل هذا ما ذكره الواحدي في أسباب النزول، كاشفاً عما آل إليه وضع العلماء في زمانه من تساهل في رواية أسباب النزول، يقول: «كأنهم لا يلقون بالاً إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل مَن افترى على الله كذباً، فقال متألماً: وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئاً، ويختلق إفكاً وكذباً، ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية...» [73].

وهكذا، فإن الطباطبائي لم يرد في حياته العلمية، وفي اجتهاده الشرعي، أن يكون معترضاً، أو مراقباً لما شهدته وتشهده الحياة الإسلامية والقرآن الكريم من افتراء تحت عناوين دينية وسياسية، بل حمله وعيه وعلمه واجتهاده على تنقية العلوم القرآنية مما شابها من آراء واجتهادات وتأويلات شتى، فكان منهجه الجديد في تفسير القرآن الكريم ليحكم من خلال مضامين آياته، والتدبر في سياقها على كثير من الروايات والأحاديث التي لا تنسجم مع رؤيته التوحيدية، ولا تعبر عن السنة القطعية التي تفسّر القرآن، كما في الكثير من الأحاديث التي لولاها لما استبان التخصيص في عام [74]، ولا مطلق من مقيد [75]، ولا مُبين من مجمل [76]، وغير ذلك مما لأسباب النزول دخالة عظمى فيه، وأثر كبير في كشفه وبيانه.

كما أن الطباطبائي، فيما اختاره من طريقة وأسلوب ومنهج قرآني، قد وفق أيما توفيق في وضع اليد على كثير من الروايات التي لا تصلح لأن تكون دليلاً، أو سبباً للنزول بسبب تعارضها وتناقضها وضعف أسانيدها، ويمكن لأي باحث أن يتلمس ذلك في تفسير الميزان، وهذا لا يعني مطلقاً أن الطباطبائي قد أحدث توجهاً جديداً في علم أسباب النزول، وإنما حكّم الآيات ومضامينها في هذا العلم، فبدلاً من أن تكون الرواية حاكمة على النص القرآني، جعل النص القرآني حاكماً عليها، خلافاً لما كانت تحدثه السياسة والأطماع، أو تسوِّغه المصالح الإجتماعية والسياسية. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إن قلنا: إن الطباطبائي سار على خطى أسلافه من العلماء في التأسيس على القواعد الشرعية المعتبرة في الأصول والفقه، ولكنه تميز عنهم في منهج تفسير القرآن بالقرآن، الذي على أساسه بنى المفسّر موقفه من رويات أسباب النزول، فإذا لم تكن متواترة، أو قطعية الصدور، فإنه يجب عرضها على القرآن الكريم، عملاً بقول المعصوم (عليه السلام): «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله تعالى، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» [77].

لا شك في أن طريقة الطباطبائي هذه أسقطت الكثير من روايات أسباب النزول عن الإعتبار، وما تبقى مما ينسجم مع روح الآيات يكسب كل الاعتبار والوثوق [78]. على أن هذه الطريقة المبتكرة للطباطبائي، وإن كانت قد تميزت فيما احتكمت إليه من مضامين قرآنية إلى جانب الطرق المعتبرة في دراسة أحوال الرجال والمتون والمسانيد وغير ذلك، ولكنها برّزت الجانب القرآني وسياق آياته لإصدار الأحكام النهائية على الروايات. ومما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن الفرق بين الطباطبائي وغيره من المفسرين ممن ركزوا على مسانيد الروايات، هو أن المفسر يرفض الخبط الذي نظر له السيوطي في الإتقان حول تعدد أسباب النزول، لأنه كثيراً ما يُدّعى صحة المسانيد، وتكون مضامين الروايات مخالفة للنص القرآني، فأيهما يكون مورد القبول. فالمفسر الطباطبائي بمقتضى منهجه كان يهتم بمتون الروايات ويعتبرها أساساً لصحة الرواية أو ضعفها، إن وافقت النص القرآن أو خالفته على الترتيب [79]. أما السيوطي، وغيره من المفسرين، فكانت صحة السند أساساً في قبول الرواية، وقد أورد «صبحي الصالح» في بحثه القرآني عن أسباب النزول ما يثير العجب فيما رواه عن الواحدي، والطبري، والسيوطي، وغيرهم كثير [80]، حيث بلغ الأمر حد الخرافة في روايات أسباب النزول، وهذا ما كان موضع تدبر عند الطباطبائي [81].

مما تقدم، يمكن أن نعرض لعناوين كبرى برّزها الطباطبائي في علم أسباب النزول، وينبغي أن تكون موضع تدبر واهتمام من قبل الباحثين في علوم القرآن، ومن هذه العناوين ما ذكره الطباطبائي من أن الأهداف القرآنية العليا التي هي المعارف العالية والدائمة لا تحتاج كثيراً، بل لا تحتاج أصلاً إلى أسباب نزول [82]، وهنا يبدو لنا فارق أساسي بين الطباطبائي وغيره من المفسرين، وهو وإن لم يكن أساسياً، إلاّ أنه كاشف عن رؤية عميقة للمفسر في مجال أسباب النزول، إذ في الوقت الذي تحدث فيه المفسرون عما نزل ابتداءً [83]، نجد المفسر يتحدث عن أهداف ومعارف عليا لا تحتاج إلى أسباب نزول، وهذا بذاته كاشف عما يرمز إليه المفسّر من تأسيس قرآني، لكونه يرى أن جميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة وهي أصلها جميعاً، وهي التوحيد، كما بينا في مبحث المكي والمدني.. [84].

أما العنوان الثاني، فهو متعلق بسبب النزول وأهمية معرفته، وهو ما نزلت من أجله آية، أو أكثر مجيبة عنه أو حاكية له، أو مبينة حكمه، وهذا ما له أمثلته الكثيرة في القرآن الكريم [85]، وكما تواتر في الروايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أن أكثر الناس قدرة على التفسير، أكثرهم علماً بأسباب النزول، ولهذا كان أمير المؤمنين أقدر الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على تفسير القرآن، لإحاطته علماً بأسباب النزول، وهو القائل «والله ما نزلت آية إلاّ وأنا أعلم فيما نزلت، وفيمن نزلت، وأين نزلت [86]، وهذا ما لم يستسغه صبحي الصالح [87].

من العناوين البارزة التي يتفق فيها الطباطبائي مع المفسرين شكلاً ويختلف معهم في المضمون، هو ما اصطلح عليه في علوم القرآن، بتعدد الأسباب والنازل واحد، أو تعدد النازل والسبب واحد، ففي الأول قد ينزل الشيء أكثر من مرة ويكون معظماً لشأنه وتذكيراً به عند حدوث سببه خوف نسيانه كما ذكر الزركشي [88]، ومثاله كما يرى السيوطي، سورة الإخلاص التي نزلت مرتين، مرة في مكة جواباً للمشركين، ومرة في المدينة جواباً لأهل الكتاب من أهلها. وهكذا، تعددت الأسباب والنازل واحد، وهذا ما كان موضع إنكار للبعض، على رواية السيوطي [89].

أما في الثاني، الذي هو تعدد النازل والسبب واحد، فمثاله قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ  [90]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [91].

حيث جاء في سبب هذه الآيات أن أم سلمة قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى الآيات الآنفة الذكر، وبذلك يكون السبب واحداً، وهو سؤال أم سلمة، والنازل متعدداً، وهو هاتان الآيتان من سورة آل عمران والأحزاب. وفي جميع الأحوال، فإن الطباطبائي، لا يرى أن العناوين هي موضوع النقاش والتساؤل، أو القبول والرفض، إنما التطبيقات وما يذكره القوم في روايات غير منسجمة مع النص القرآني ومضمونه، على نحو ما مر معنا أن الآية الواحدة تذكر فيها عدة روايات في أسباب النزول يناقض بعضها بعضاً، ولا يمكن جمعها بشكل من الأشكال [92].

يبقى أن نشير إلى عنوان مهم ذو أهمية كبيرة في منهج الطباطبائي وتفسيره، وهو القاعدة الأصولية التي تقول «إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». فالطباطبائي، كما جميع علماء الأصول، يرى أن السبب الذي نزل إثره الوحي لا يحبس التشريع العام ولا يقيّده، وإنما يكون ذلك السبب مجرّد مثير لنزول الوحي، فيشمله الحكم النازل، ويبقى هذا الحكم على عمومه سارياً على كل الوقائع والأحداث المماثلة لذلك السبب [93]، وكما يرى الطباطبائي. أن ما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على الواقعة، فالمورد لا يخصص الوارد، لأن البيان عام والتعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين، أو الذم في حق أفراد آخرين معلل بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرها على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخرين بعدهم، وهكذا [94].

عموماً يمكن القول: إن المفسر ينطلق في فهم القواعد والأصول من اعتقاد راسخ لديه، أن القرآن نزل هدى للعالمين، وما بينّه من المعارف القرآنية والحقائق الدينية لا يختص بقوم دون قوم، أو بحال دون حال، ولا بعصر دون عصر لعموم التشريع، فالجري عند الطباطبائي، والذي أشرنا إليه في بحوث سابقة، هو عين القاعدة الآنفة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» [95]. ولفظ الجري، كما تقدم معنا، مأخوذ من قول المعصوم، أن القرآن يجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر، وقوله (عليه السلام) «ظهر القرآن تنزيله، وبطنه تأويله». فالقرآن عند الطباطبائي له اتساع من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها، فالآية منه لا تختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكاً كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها وهذا المعنى هو المسمى، بجري القرآن [96] وقد تقدم الكلام في بحوثنا عن معنى الجري والتفسير، حيث بين الطباطبائي، أنه غالباً ما يخطىء بعض المفسرين فيسمون التفسير بالجري، أو الجري بالتفسير، ومن شاء الإطلاع على دقة المفسر في استخدام هذه القاعدة فلينظر إلى البحوث الروائية في تفسيره الميزان [97].

وهكذا، فإن خلاصة ما أفاده المفسّر رحمه الله، أن أسباب النزول هي من الأهمية بحيث لا يمكن أن تفهم الأحكام الشرعية من دونها لما لها من فائدة في إظهار الحقائق والأحكام، ولكن الطباطبائي تبقى له ميزته في كونه استطاع من خلال علم النزول وأسبابه أن يحدث نقلة نوعية في إطار المنهج والرؤية القرآنية، إذ إنه لم يستند إلى الرواية وما تفيده من معنى إلاّ بعد عرضها على القرآن الكريم والتعرف إلى سياقها، فإذا لم يقبلها السياق القرآني طرحها جانباً، وهذا ما جعل من منهجه متميزاً لجهة التفسير والرواية معاً، ولم يسبق لأحد من المفسرين أن خلص إلى نتائج مهمة كالتي خلص إليها الطباطبائي في تفسيره، وإذا كان هذا يدل على شيء فإنه يدل على مدى ما تمتع به المفسّر من قدرات عقلية واجتهادية، أخرجته عن كونه مجرد مفسّر للقرآن، ليكون كاشفاً ومبدعاً لكثير من المواقف والحقائق الرسالية في تاريخ الأمة الحديث...


[1] سورة المؤمنون، الآية: 29.

[2] سورة الشعراء، الآية: 193.

[3] سورة الإسراء، الآية: 106.

[4] سورة الحجر، الآية: 9.

[5] سورة القدر، الآية: 1.

[6] سورة البقرة، الآية: 185.

[7] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم، م.س، ص510.

[8] سورة الإسراء، الآية: 106.

[9] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص15.

[10] يذكر «صبحي الصالح في كتابه: «مباحث في علوم القرآن» عن عامر بن شرحبيل أكبر شيوخ أبي حنيفة أن نزول القرآن بدأ في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، وهو يجمع في هذا الرأي بين قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾. يقول صبحي الصالح: وهذا فهم سديد لا يتضارب مع إخبار الله بإنزال كتابه في ليلة مباركة... إذ يكون المراد أنه تعالى ابتداء إنزاله في «ليلة القدر».. والكلام لصبحي الصالح: «ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إن للقرآن تنزلات ثلاثة... وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة، لأن هذه التنزلات من عالم الغيب، الذي لا يؤخذ فيه إلاّ بما تواتر يقيناً في الكتاب والسنة، فصحة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه... إن كتاب الله تعالى لم يصرح إلاّ بتفريق الوحي وتنجيمه...». را: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، د 1999، ص51.

[11] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص17.

[12] سورة الشعراء، الآيتان: 193 ـ 194.

[13] سورة طه، الآية: 114.

[14] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص17.

[15] را: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، م.س، ص51. فهو يرفض تنزلات القرآن، وعلى القائلين بذلك أن يشيروا إلى سرّ تنزله الثالث الأخير منجماً بحسب الوقائع، وهذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حداً لا تخفى معه عن أحد... ولا يخفى أيضاً على أنّ الباحث ليس لديه دراية بنزول القرآن على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة، بمقدار ما لديه من وعي بأن القرآن ابتدأ إنزاله في «ليلة القدر»، ثم استمر نزوله نجوماً بعد ذلك، متدرجاً مع الوقائع والأحداث، وهو بهذا يخالف ما اشتهر على تسميته بالصحيح المعتمد عند المفسرين، متعصباً لرأيه بأنه لن يأخذ برأيهم لكونه مخالفاً لصريح القرآن، وهو لم يكشف لنا عن صريح القرآن..!؟

[16] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص83.

[17] سورة ص، الآية: 29.

[18] سورة هود، الآية: 1.

[19] سورة الزخرف، الآية: 4.

[20] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص19.

[21] را: معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص466.

[22] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص18.

[23] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م،س، ص465.

[24] سورة الأعراف، الآية: 53.

[25] سورة يونس، الآية: 37.

[26] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص18 ـ 19.

[27] يقول الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ... ﴾، إن الله تعالى عبّر بالإنزال دون التنزيل، لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة وآخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدد وتكثر، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل. را: الميزان، ج3، ص22.

[28] نلاحظ أن المفسر أدرك عمق ما يذهب إليه في تفسيره، فقال: إن معظم الحسيين والمتكلمين في هذا العصر لما انكروا أصالة ما وراء المادة، اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها الدالة على الإنزال والتنزيل وعلى كون القرآن هدى ورحمة ونوراً مبيناً، ومواقع النجوم، وفي لوح محفوظ ونازلاً من عند الله، وفي صحف مطهرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الإستعارة والمجاز، فعاد بذلك القرآن شعراً منثوراً. را: تفسير الميزان، م.س، ج2، ص19.

[29] سورة الشعراء، الآية: 193 ـ 194.

[30] سورة طه، الآية: 114.

[31] انظر: الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1972م، ج1، ص229.

[32] انظر: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، م. س، ص51.

[33] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص167.

[34] م.ع، ص21.

[35] م.ع، ص21 ـ 22.

[36] را: داود العطار، موجز في علوم القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط3، 1995، ص110، 111.

[37] يقول معرفة في اعتراضه على موقف الطباطبائي: «سامح الله التأويل ما أسهله من طريق إلى التخلّص من مأزق البحوث النظرية، ونحن إذ لا نرى مبرراً لهكذا تأويلات غير مستندة إلى دليل...» را: تلخيص التمهيد، م،س، ص82.

[38] الطباطبائي، الميزان، ج2، ص15 ـ 17.

[39] را: تفسير الصافي، ج2، ص42. وقا: مع معرفة، تلخيص التمهيد، ص82.

[40] سورة المجادلة، الآية: 1.

[41] معرفة، تلخيص التمهيد، ص83.

[42] م.ع، ص83.

[43] سورة الزمر، الآية: 23.

[44] الطباطبائي، الميزان، م. س، ج12، ص22.

[45] م.ع، م.س، ج16، ص64.

[46] م.ع، ج13، ص230.

[47] هذا الاتجاه هو المشهور بين علماء التفسير، وقد اختاره الطباطبائي، وأصحاب هذا الإتجاه يرون أن جميع الآيات النازلة في الحروب والأسفار للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بما أنها نزلت بعد الهجرة فكلها مدنيات. انظر: السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد إبراهيم، القاهرة، طبع الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1975م، ج1، ص9.

[48] انظر: الطبرسي، أبو علي، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت 1955م، (لا ـ ت) ج6، ص293.

[49] هذا الاتجاه يرفضه الطباطبائي بشدة، لأنه يقوم على اعتقاد خاطىء بأن الآيات ما يكون منها خطاب لأهل مكة، فهو لأهل مكة، وما كان خطاب لأهل المدينة، فهو لأهل المدينة، وليس هذا بصحيح بنظر الطباطبائي، باعتبار أن الخطابات القرآنية عامة وانطباقها على أهل مكة، أو على أهل المدينة، لا يعني كونها خطاباً خاصاً، وإنما هي بما تشتمل عليه من توجيه، أو نصح، أو حكم شرعي ذات دلالة عامة ما دام اللفظ فيها عاماً، را: الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.ع، ص120 ـ 121.

[50] انظر: الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد إبراهيم، بيروت، دار المعرفة، بيروت، 1972م، ج1، ص187.

[51] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص120.

[52] انظر: الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، القاهرة، المطبعة الفنية، (لا ـ ت)، ج1، ص196.

[53] الطباطبائي، محمد حسين، أسس الفلسفة والمذهب الواقعي، تعريب محمد الخاقاني، بيروت، دار التعارف، ط2، 1988م، ج2، ص57.

[54] يرى الطباطبائي أن هناك خصائص عامة في السور والآيات المكية، فمن خصائص المكية:

1 ـ قصر الآيات والسور وإيجازها وتجانسها الصوتي.

2 ـ الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر...

3 ـ الدعوة إلى الأخلاق والإستقامة.

4 ـ مجادلة المشركين.

5 ـ استعمال السور لخطاب: يا أيها الناس...

هذه خصائص يغلب وجودها في السور المكية ويمكن أن تجد لذلك استثناءات كما في سورة الحج فهي مدنية وتستعمل خطاب: يا أيها الناس.

أما خصائص السور المدنية، فهي تتميز أولاً:

1 ـ طول السورة والآية والتفصيل فيها.

2 ـ تفصيل البراهين والأدلة.

3 ـ مجادلة أهل الكتاب.

4 ـ التحدث عن المنافقين.

5 ـ التفصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسية والإجتماعية والدولية كسورة النساء مثلاً.

يقول الطباطبائي هذه مقاييس إذا حصل الإطمئنان والتأكد من تاريخ السورة، وأنها مكية أو مدنية يمكن الإعتماد عليها. ومن شأن التدبر في السياق القرآني ومضامينه أن يكشف عن المكي والمدني بعيداً عن الروايات المتناقضة والمتعارضة. را: الطباطبائي، الميزان، ج13، ص230، وقا: القرآن في الإسلام، م.س، ص125. وقا: مع السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص68 ـ 69. فالسيوطي يرى أن التمييز بين المكي والمدني، إنما يتم بمراعاة الأسلوب والسياق، فقد ذكر أن ما كان خطابه: يا أيها الذين آمنوا، فهو مدني. وما كان خطابه: يا أيها الناس، فهو مكي، وهذا يرد عليه جملة أمور لا داعي للإطالة فيها.

[55] انظر: محمد هادي، معرفة، تلخيص التمهيد، م.س، ص93. فالعلامة ينقل ما روي عن معرفة المكي والمدني وذكر كلاماً للجعبري، أن لذلك طريقان: سماعي وقياسي، السماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسي بحسب السور: يا أيها الناس، أو: يا أيها الذين آمنوا، إلى غير ذلك، وهذا يدل على مدى الاضطراب، ما يؤكد صحة ما يذهب إليه الطباطبائي في أن الطريق المتعين لمعرفة ذلك هو القرآن والتدبر فيه».

[56] الطباطبائي، الميزان، ج13، م.س، ص231.

[57] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص124.

[58] الطباطبائي، تفسير الميزان، م.س، ج1، ص65 ـ 67، وقا: مع الزركشي، بدر الدين، البرهان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص317. وقا: مع السيوطي، الإتقان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص36.

[59] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج13، ص232.

[60] م.ع، م.س، ج11، ص287.

[61] م.ع، م.س، ج17، ص60.

[62] م.ع، م.س، ج4، ص138.

[63] انظر: الزركشي، بدر الدين، البرهان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص190 ـ 192.

[64] هناك خصائص عامة ذكرها الطباطبائي لمعرفة المكي والمدني، فهو مع استلهام مضمون وسياق الآيات يمكن للباحث أن يهتدي إلى التمييز بين المكي والمدني، وهذه الطريقة المثلى لإتقان هذا العلم، ولكن يبقى الأساس والمرتكز التدبر في سياق السور والآيات القرآنية، خصوصاً إذا ما علمنا أن تحصيل هذا الأمر، إنما كان يحصل بضروب من الرأي والاجتهاد...

[65] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص16.

[66] انظر: الشاهرودي، على النمازي، مستدرك سفينة البحار، (ت: 1405 هـ)، جماعة المدرسين، قم، 1419، ج8، ص200.

[67] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص123.

[68] الواحدي، أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري، أسباب النزول، القاهرة، ط1، 1379هـ، ص4.

[69] العطار، داود، موجز علوم القرآن، م.س، ص122.

[70] لا شك في أن سبب النزول ليس مختصراً بالقاعدة الأصولية التي تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو بأن المورد لا يخصص الوارد، بل نجد أن منهج الطباطبائي يتجاوز ذلك إلى القول بأن سبب النزول بالنسبة للنص النازل يتدخل في عمليات البيان القرآني كلها، فله أثر في تقييد المطلق، وتأويل الظاهر، وبيان المجمل، وتخصيص العام، ويبقى شرط ذلك كله عند الطباطبائي التدبر في السياق القرآني لإحكام الطوق على تناقضات روايات أسباب النزول... كما سنرى لاحقاً...

[71] انظر الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص82. فهو يقول فيمن ضل عن الطريق، ونسي حظاً مما ذكر به، «وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وظنوا أنه الناسخ... ويحتجّوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه... فضلوا وأضلوا».

[72] م.ع، م.س، ج4، ص74.

[73] الواحدي، أسباب النزول، م.س، ج1، ص3 ـ 4.

[74] قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾ المائدة، الآية: 93. فهذه الآية نزلت حين أمر رسول الله أن يُنادى: ألا أن الخمر قد حرمت... فالآية ترفع الجناح عن الذين آمنوا في كل ما طعموا، فلفظها عام، إلا أن سبب النزول بين أنها لأفراد مخصوصين... فلا احتجاج بعموم اللفظ على إباحة شرب الخمر، لأن هذه الآية نزلت بعد التحريم العام للخمر... هذا مثال تطبيقي لأثر سبب النزول، تأمل.

[75] من أمثلة التطبيق لأثر سبب النزول في المطلق والمقيد، وقبل هذا المثال نعرض باختصار لما ذهب إليه علماء الأصول فيما ذكروه عن تقييد إطلاق النص النازل إذا ما توفرت شروط هذا الأمر. الأول: أن يتعارض مطلق ومقيد، والثاني: أن يكون المطلق والمقيد مما اتحد حكمه وسببه باتفاق، أو مما قد اتحد حكمه واختلف سببه، أما فيما يعني التطبيق وأثر سبب التنزيل، فنعلم أن النص قد يأتي مطلقاً ويكون سبب نزوله مقيداً، باعتبار أن أسباب النزول وما نزل لأجلها من جنس نصوص الشرع، فيها العام والخاص والمطلق والمقيد، والتطبيقات كثيرة لهذا الأمر، ولكن من الأمثلة على ذلك، قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، فقوله «فضلاً» مطلق، لأنه نكرة في سياق الإثبات... إلاّ أنه مع العودة إلى سبب النزول، فيتضح أن المراد بيانه، هو ما ورد عن ابن عباس في سبب نزولها، أنه قال: كانت عكاظ ومجنة أسواق في الجاهلية فتأثموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت الآية، فيظهر أن سبب النزول أبان الأمر، واتضحت وظيفة سبب النزول في تقييد المطلق، ومفاد ذلك عدم منافاة الإتجار للإحرام، والحكم في المطلق والمقيد واحد، وهو رفع الحرج. وفي مثل هذه الصورة يحمل المطلق على المفيد ويصبح معنى الآية ليس عليكم جناح أن تتجروا. راجع مجمع البيان للطبرسي، م.س، ج2، ص46، ومما قاله السيد الخوئي: «إن المطلق ليس ناسخاً للمقيد وإن جاء متأخراً عنه. انظر: البيان في تفسير القرآن، م.س، ص305.

[76] وهكذا الحال في أمر سبب النزول في المجمل والمبين، إذ يمكن أن نعرض لمثال تطبيقي عن التيمم، حيث من عادة القرآن أن يشرع أحكاماً بصيغة مجملة كالصلاة التي لم يبين كيفيتها، ولا عدد ركعاتها، أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، ومن آثار أسباب النزول فيما يخص رفع الإجمال عن النصوص، قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾ سورة النساء، الآية: 43. نلاحظ أن حكم التيمم جاء مجملاً، إذ لم تبين الآية القدر الواجب مسحه من اليدين، هل هو الكفان، أو إلى المرفقين، أو إلى الإبطين؟ وهنا يظهر أن سبب النزول الذي أعطى بياناً أزال الإبهام، مما سهل على الأصولي والمجتهد استنباط الحكم الشرعي، حيث روى الكليني (329هـ) عن الصادق الحديث عن أن عمار أصابته جناية فتمعك بالتراب، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا عمار: تمعكت كما تتمعك الدابة؟ فقلت له: كيف التيمم؟ فوضع يداه على الأرض، ثم رفعهما فمسح وجهه ويديه فوق الكف قليلاً. را: الكافي، للكليني، ج3، ص62، بسنده عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى،... عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام). الحديث.

[77] را: الفيض الكاشاني، الحق المبين، (ت: 1390 هـ) الناشر: سازمان جاب دانشكاه، (لا ـ ت)، ج1، ص8.

[78] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص125.

[79] م.ع، ص126.

[80] انظر: صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، م.س، ص138 ـ 139.

[81] لقد اعتمد الطباطبائي مبدأ الترجيح والموازنة بين روايات أسباب النزول، ورد الكثير مما روي عن الصحابة والتابعين في أسباب النزول، ولكنه حينما كان يطمئن لرواية، كان يعتبرها بالإشارة إلى طرق أخرى إن وجدت، وهذا يدل، كما يرى الأوسي، على مدى اهتمامه بروايات أسباب النزول، لاعتقاده بأنها قرائن توضح النص القرآني، وهذا ما يحتاج إلى مزيد تأمل وتدبر لكونه يخالف منهج الطباطبائي في التعامل مع متون الروايات في ضوء السياق القرآني، لأنه وحده الذي كان يورث الطباطبائي الاطمئنان في الروايات الخاصة بأسباب النزول...

[82] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص126.

[83] يرى علماء التفسير، أن ما أنزل ابتداءً غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها، أو وصف بعض الوقائع الماضية، أو الأخبار الغيبية، أو تصوير قيام الساعة، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة، وهذا ما توقف عنده الطباطبائي ملياً، فهي وإن لم تكن مبنية على سبب أو حادثة، وإن كان منها ما بني على سبب كذي القرنين، وأهل الكهف وغير ذلك، إلاّ أن ما توقف عنده الطباطبائي، هو أن ما لم يكن بسبب ارتباط بالسياق القرآني، ويأتي في طليعة هذا السياق ما ذكره الطباطبائي عن المعارف العالية التي تجعل من كل آية على ارتباط وثيق معها، سواء كانت بسبب أم غير سبب...

[84] م.ع، ج10، ص128.

[85] انظر: العطار، داود، موجز علوم القرآن، م.س، ص180.

[86] انظر: المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج35، ص387.

[87] لقد تجرأ صبحي الصالح فيما زعمه من قول أن الإمام علي (عليه السلام) أقسم بأنه يعلم بأسباب النزول، ولكن ذلك لا يعني أن يؤخذ كلامه بالمعنى الحرفي حتى ولو أقسم على هذا... وهذا إن كان صدر عنه، فهو من المبالغة على طريقة العرب... ويختم الصالح كلامه بالقول: وإما أن الرواة قد تزيّدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم... فإن في العبارة نفسها ضرباً من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم، وهم الذين ضربت الأمثال في تواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن الفتيا في الدين». هذا كلامه، را: مباحث في علوم القرآن، م.س، ص132 ـ 133.

[88] الزركشي، بدر الدين، البرهان في تفسير القرآن، م.س، ج1، ص29.

[89] السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، م.س، ج1، ص35.

[90] سورة آل عمران، الآية: 195.

[91] سورة الأحزاب، الآية: 35.

[92] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص124.

[93] العطار، داود، موجز علوم القرآن، م.س، ص133 ـ 135.

[94] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص42.

[95] م.ع، ج3، ص73.

[96] م.ع، ص73 ـ 74.

 

عرف الراغب الأصفهاني النسخ، بأنه إزالة شيء بشيء يتعقّبه كنسخ الشمس الظل، والظل الشمس، والشيب الشباب، فتارة يفهم منه الإزالة، وطوراً يفهم منه الإثبات، وتارة يفهم منه الأمران معاً، ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقّبه، قال الله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [1]. قيل معناه ما نُزيل العمل بها أو نحذِفُها عن قلوب العباد، وقيل معناه ما نوجبه وننزّله من قولهم نسخت الكتاب [2].

لا شك في أن كلام «الراغب» يختصر ما ذهب إليه أهل اللغة في معنى النسخ، فالجميع يرى بأن النسخ هو إزالة شيء بشيء يتعقّبه، وما زاده الراغب ويحتاج إلى مزيد تدبر وعناية، هو قوله، «وتارة يفهم منه الأمران معاً» أي الإزالة والإثبات، على اعتبار أن ما يذهب إليه أهل اللغة في التدليل على معنى النسخ، على سبيل التوضيح هو قولهم: نسخت الشمس الظل، وطالما أن عملية النسخ متبادلة، كما بين الراغب، كنسخ الشمس الظل والظل الشمس، فهذا مما يُفيد الإثبات والإزالة معاً، فكل من الشمس والظل ينسخ الآخر ويثبته، وهذه عبارة تحتاج إلى تدبر على نحو ما أشرنا، وهذا ما صرّح به الراغب بقوله: «ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر، وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى، بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أُخرى، كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة» [3].

وطالما أن الكلام هو في النسخ التكويني، فقد المح الطباطبائي إلى أن النسخ يعم التكوينيات [4]، باعتبار أنه لا شيء ثابت في عالم التكوين، والكل في تحول من شيء إلى شيء، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [5].

وقد سبق للشيخ المفيد (قده) (ت: 413هـ)، أن عرض لمعنى النسخ في كتابه أوائل المقالات، فقال: «أقول: في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله...» [6]. وهكذا، ترى أن الفقهاء لا يفرقون بين النسخ والبداء، سوى أن الأول خاص بالتشريعات اصطلاحاً والثاني بالتكوينيات، فإن كل منهما في مفهومهما الأصلي، وهو تبدل الرأي، ممتنع بالقياس إلى علمه تعالى الأزلي المحيط، بلا فرق [7].

إن إشارة الطباطبائي إلى أن النسخ يعم التكوينيات، تأتي في سياق رؤية موضوعية قرآنية في تفسيره، وهو وإن لم يفرد لهذا الموضوع عنواناً خاصاً في بحوثه، إلاّ أنه قدّم رؤيته المتميزة في تفسيره الميزان، مبيناً أن النسخ في التكوين هو كالنسخ في التشريع تماماً، على اعتبار أن كل شيء في العالمين التكويني والتشريعي إنما وضع لحكمة ومصلحة، وقد بيّن الله تعالى أن ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [8]، فهو الذي ينزل ما شاء، ويأذن فيما شاء، لكنه لا ينزل ولا يأذن في كل آية في كل وقت، فإن لكل وقت كتاباً كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه... [9].

لقد بحث الطباطبائي موضوع النسخ في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، ولعل أحداً من الباحثين لم يلتفت إلى ما تميز به بحثه من عمق في أفق النسخ التكويني، فنلاحظ أن الطباطبائي لم يبحث هذا الموضوع في سياق بحث البداء مثلاً، وإنما أخرجه برؤية أخرى تجاوزت ما أجمع عليه الفقهاء وعلماء الكلام، إلى القول بأن المحو قريب المعنى من النسخ، إذ يقال: نسخت الشمس الظل، أي ذهبت بأثره ورسمه، وقد قوبل المحو في الآية بالإثبات، والمحو هو إزالة الشيء بعد ثبوته برسمه. فالمسألة عند الطباطبائي لا تحتاج إلى تنظير كلامي، أو فلسفي،.. وإنما هي بحاجة إلى تدبّر في كتاب الله تعالى، فإذا فهمنا معنى النسخ التشريعي بأنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس، وهو معلوم عند الله تعالى، فإن النسخ مجاله عند الطباطبائي يعم كل شيء، باعتبار الإطلاق في الآية التي جاءت بمثابة تعليل لقوله تعالى: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾، وإذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية، وكل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية ويثبت آية، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا  [10]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ [11]. وهنا تتجلى خلاصة موقف الطباطبائي التي تربط بين الآيات على نحو لم يسبق لأحد من المفسرين أن جاء بمثله، حيث نجد أن الطباطبائي لم يتحدث عن النسخ بما هو نسخ خاص، وإنما تحدث عنه بنحو مطلق، لقوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾. وبما أن الآيات كلها، سواء أكانت تشريعية أم تكوينية، ترجع إلى أصلها، كما بينا في مبحث الإنزال والتنزيل في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ  [12]، فلا يكون للنسخ معناه الخاص، كما أنه لا ضرورة حينئذ للتمييز بين نسخ الأحكام فنسميه تشريعاً، ونسخ التكوين فنسميه بداءً، بل هو محو وإثبات له أصله الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولا تصعد إليه العقول، ولا تطاله الأيادي، فأمّ الكتاب في قوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ليس تعبيراً مجازياً، كما يقول بعض الحسيين المتكلمين، وإنما هو الأصل الذي ينشأ منه الشيء ويرجع إليه [13]، وهذا هو شأن الكتاب الذي أنزله الله تعالى وألبسه لباس القراءة العربية، ليكون مبشراً ونذيراً وتبياناً لكل شيء، فهو يرجع إلى أصله. يقول الطباطبائي: «فالملخص من مضمون الآية أن لله تعالى في كل وقت وأجل كتاباً أي حكماً وقضاءً، وأنه يمحو ما يشاء من هذا الكتاب وهذه الأحكام والأقضية ويثبت ما يشاء... لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير ولا يقبل المحو والإثبات، وهو الأصل الذي ترجع إليه الأقضية الأخرى وتنشأ منه فيمحو ويثبت على حسب ما يقتضيه هو..» [14]. ولا شك في أن الطباطبائي في تجليه هذا يكون قد حسم الموقف نهائياً في معنى النسخ، سواء في معناه التشريعي، أم في معناه التكويني على أساس قوله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ  [15]، باعتبارها آية مطلقة تطال كل آيات الله تعالى، والأمر يبقى متعلقاً بمشيئة الله تعالى الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فله اختلاف التصرف بمشيئته، بحيث يكون له تعالى تبديل كتاب مكان كتاب ومحو كتاب وإثبات كتاب، وعنده أُم الكتاب، الذي هو أصل كل الآيات، سواء الآيات التي بدلت أو نسخت، أو نسيت، محيت أو ثبّتت، وهو الكتاب الذي قال فيه الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾، المشعر بكون أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب. وعليه، فإنه يكون معنى النسخ عند الطباطبائي، ما ينطوي عليه معنى المحو والإثبات، الذي هو عام بدلالة الإطلاق، وهذا ما بينه المفسّر بقوله: «إن حكم المحو والإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال والأوقات، وهو جميع ما في السماوات والأرض وما بينهما، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [16]، وذلك لإطلاق قوله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُواختصاص المورد بآيات النبوة، كما جاء في السياق القرآني لا يوجب تخصيص الآية، لأن المورد لا يخصص الوارد، وبذلك يظهر فساد قول القائل: إن ذلك في الأحكام، وهو النسخ، أو قول القائل: بأنه في صحائف الأعمال يمحوها الله ويثبت مكانها طاعة أو معصية... الخ» [17].

والحق يقال: إن ما قدمه الطباطبائي في معنى النسخ في تفسيره يمكن أن يكون قد حسم جدلاً فقهياً وكلامياً عمره مئات السنين، وذلك إنما كان منه بفضل تدبّره في آيات الله تعالى، والتي لم نجد أحداً ممن بحث في مجال ومعنى النسخ من أسس على هذا الفهم الجديد للمحو والإثبات، لأن مجمل البحوث، لا تزال تتحدث عن النسخ التكويني في إطار مباحث البداء، وترى فيه جائزاً ومستحيلاً كالنسخ التشريعي، مقتصرة في البحث عما إذا كان يجوز إطلاق البداء عليه تعالى أم لا يجوز، على نحو ما بُين في مباحث البداء، حيث فسّر قوله تعالى بالمحو والإثبات في مجال نسخ الأحكام في حين أن الآية، كما بين الطباطبائي تلحظ كل ما يطال عالم التغيّر والأحداث بما ضرب له من آجال وأوقات، وخص به من أحكام وقضاء كلها تعود إلى الأصل الثابت، الذي لا يتغير ولا يتبدّل، لقوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾. إن لله تعالى في كل شيء آية، وهذه الآيات هي بين محو وإثبات، سواء كانت في التشريع أم في التكوين، وبذلك يفهم معنى النسخ والبداء معاً...

إن أدنى تأمل فيما انتهت إليه مباحث المتكلمين والفقهاء في معنى النسخ يمكن أن يقاربها التباحث في إطار التنظيرات الكلامية التي كانت سائدة، والتي كانت تفرضها منهجيات فقهية وكلامية خاصة بزمانها، ومكانها. ولهذا، فإن أدنى مقاربة للنصوص، فلا بد أن تظهر التمييز في الرؤية والمنهج، فضلاً عن المضمون ويمكن لنا أن نقارب هذه الرؤية بما ذهب إليه ابن شهر آشوب في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾، بأن الظاهر فيها لا يدل على أن الذي يأت يكون ناسخاً، بل هو إلى أن يكون غير ناسخ أقرب، ومعنى نأت بخير منها، أي أسهل عليكم في الأمر والنهي، فذلك خير لكم [18]، وهذا هو مفاد قوله تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾، فأين هذا التفسير للآية مما ذهب إليه الطباطبائي في تفسيرها وفقاً لمنهجية تفسير القرآن بالقرآن؟ هناك أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في سياق البحث عن النسخ، أو عن البداء، وكل ما يطرح يمكن أن تجد له أجوبة فيما عرض له الطباطبائي في تفسيره، والتي تتوافق مع كثير من النتائج التي خلص إليها الفقهاء والمتكلمون في بحوثهم عن البداء وما يجوز فيه وما لا يجوز، وقد تجد في بحوث الشيخ الطوسي في التبيان [19]، أو في بحوث السيد الخوئي في البيان [20]، ما يشير إلى جدوى المعالجات، إلاّ أنك في بحوث الطباطبائي تلحظ تمايز المنهجية لجهة التحول في جميع الرؤية والإفاضة في إعطاء البحث بعده القرآني الموضوعي، الذي استطاع المفسّر من خلاله ملاحظة الآيات في عالم تنزّلها من حيث هي ثابتة، أو مبدّلة، ناسخة أو منسوخة، على أن لله تعالى في كل شيء قضاءً ثابتاً لا يتغيّر، الذي عناه بقوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، وبهذا يظهر، كما يرى الطباطبائي، فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغير [21]... فالقضاء ينقسم إلى ما هو ثابت وغير ثابت على نحو ما تقدم في بحوث الإنزال والتنزيل... وإذا كان الفقهاء، وخاصة الإمامية، قد عالجوا موضوع النسخ، أو البداء [22]، وبيّنوا أن هذا مما يمكن معالجته ضمن علاقة الفعل الإنساني بالعلم الإلهي، فهم لم يبتعدوا كثيراً عما أفاده الطباطبائي، ولكنهم لم يتحدثوا عن نحوين من القضاء، كما أنهم لم يلحظوا معنى أن يكون حكم المحو والإثبات عام بجميع الحوادث، وإن كانوا قد بيّنوا أن الظهور والتغير إنما هو مختص بلوح المحو والإثبات، وليس بالعلم الإلهي المشمول بأم الكتاب، والذي هو أصل جنس الكتاب بلغة الطباطبائي، فهذا العلم عندهم ثابت لا يتغيّر بأي نوع من أنواع التغيير، ولعل أصل التمايز بين الرؤيتين، هو أن الفقهاء ذهبوا إلى القول بالقضاء على أنحاء ثلاثة: قضاء الله لم يطلع عليه أحداً من الخلق، وقضاء أخبره الله للأنبياء والملائكة بأنه سيقع حتماً، وقضاء ثالث أخبر الله تعالى بوقوعه في الخارج إلاّ أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء [23]. وكما بين الطباطبائي، أن القضاء الذي لم يُطلع عليه أحداً، هو الذي عناه بقوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾. أما القضاء المتغير، فهو قضاء المحو والإثبات، وظهور أمر منه تعالى ثانياً بعدما كان الظاهر منه خلافه أولاً، فهو محو الأول وإثبات الثاني، والله سبحانه عالم بهما جميعاً، والكتابان ـ كما يرى الطباطبائي ـ أي كتاب المحو والإثبات وأم الكتاب، إما أن يكونا أمرين تتبعهما مراحل وجود الأشياء، وهما مرحلتان [24]، إحداهما تقبل المحو والإثبات، والأخرى لا تقبل إلاّ الثبات، وإما أن يكونا عين تلك المرحلتين، وعلى أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعدما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه... [25]. وهكذا، نجد أن الطباطبائي لا يُبدي اهتماماً بالقضاء الثالث الذي ذهب إليه الفقهاء، مستدلاً على ذلك بما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيما رواه عنه ابن سنان، أن الله يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وعنده أُم الكتاب، وكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، وليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه إن الله لا يبدو له من جهل [26]. بيد أن ما يذهب إليه المفسّر (الطباطبائي) في إطار المحو والإثبات لا يخرجه عن أن يكون له رأيه بالنسخ بمعناه التشريعي، وهذا ما سيكون موضع بحث لاحقاً، إلاّ أنه فيما خلص إليه في مبحث المحو والإثبات من حيث هو حكم عام لجميع الحوادث، يجعل من بحثه أكثر وضوحاً لاعتباره المحو قريب من النسخ، وأنه ما في الكتاب آية، وكل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية ويثبت آية، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ [27]. وإذا كان للنسخ هذا المعنى عند الطباطبائي، فإنه لا يكون إلاّ وفاقاً لما تقتضيه مصالح العباد والسنن الطبيعية في الوجود، لأن الإنسان ليس له حالة ثابتة في وجود هو أيضاً متغير، فهو يزول من حال إلى حال، وكذلك كل ما يحيط به، فليس له ثبات إلاّ من حيث كونه متغيراً، ولا تغير له إلاّ من حيث كونه ثابتاً، يقول الطباطبائي: «لا دليل على تخصيص الآية الكريمة: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، من جهة اللفظ البتة. وللآية إطلاق لا ريب فيه، فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، وما من شيء قيس إلى زمانين في وجوده إلاّ لاح التغير في ذاته وصفاته وأعماله، وفي عين الحال إذا اعتبرت في نفسها، وبحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة. فإن الشيء لا يتغيّر عما وقع عليه، فللأشياء المشهودة جهتان، جهة تغيّر تستتبع الموت والحياة والزوال والبقاء... وجهة ثبات لا تتغير مما هي عليه، وهما إما نفس كتاب المحو والإثبات وأُم الكتاب، وإما أمران مترتبان على الكتابين وعلى أي حال الآية تقبل الصدق على هاتين الجهتين» [28].

ولا شك في أن مما يؤيّد كلام الطباطبائي هو أن النسخ قائم في سنن الطبيعة، وهو سنة جارية فيها وظاهر في الجمادات والنباتات والحيوانات، وفي الإنسان أيضاً، فترى النواميس الطبيعية تقتضي أن يكون الهواء ساكناً في هذه الساعة، ثم يحدث ما يغيره، فتنسخ هذه الحال رياح تحدثها، وأمطار ترسلها... والإنسان هو من أكثر الكائنات تغيراً وتحولاً في جهة من جهاته، أفلا تكون من حكمة الخالق جل شأنه، أن يعدل الأحكام ويبدل الآيات على حسب قابليته في كل حال من أحواله... إن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً، وكان على كل شيء مقتدراً، وقد قضت حكمته أن يتدرج الإنسان في وجوده، وفي مطاوي زمانه ومكانه، ليكون له الكمال في كدحه، فإذا ما بدا له أن أمراً تغير، أو آية تبدّلت، فليس له أن يحكم بالبداء والظهور [29]، بحيث يكون الأمر علماً بعد جهل، أو ظهوراً بعد خفاء. فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً، فلا ينسب له الرأي الجديد، الذي هو مستحيل عليه، فهذا مما ينطبق على البشر فيما يكون منهم من آراء وتشريعات وأحكام وأعمال. أما الله تعالى، فهو العالم بالمصالح الواقعية التي تقتضي أن يكون للناس هذا الحكم أو ذاك، وذلك بحسب ما هم عليه من حاجات وتبدلات، وغير ذلك ما هو معهود من تاريخ التحولات والتبدلات البشرية...

وإذا كان علماء اللغة قد استقر رأيهم في معنى النسخ بأنه الازالة، أو الإثبات، أو هو الأمرين معاً، فإن ذلك يجري على التكوين كما يجري في التشريع، وقوله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [30]، إنما هو ناظر إلى العالمين معاً. وقوله تعالى: ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، إنما هو ناظر إلى ثبات علمه تعالى، بما هو علم مطلق، بكل ما هو كائن ويكون بحيث لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء، وهذا ما أفادنا به السمع، وإلا فإن أحداً ما كان ليقول شيئاً فيما لا تحتويه الألفاظ، ولا تدركه العقول، ولكنه سبحانه، كما أفاد الشيخ المفيد، صيّرنا إلى ذلك بالسمع. وعليه، فإن معنى أن يكون عنده بأم الكتاب، معناه أن التكوين مشمول في هذا الكتاب، فلا تغيَّر فيه، ولا تبدل لديه، ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، وكما قال الله تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾ [31]، وقوله تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ [32].

وهكذا، فإن معنى النسخ في التكوين هو هذا، أن ما سمته التغير والتبدل لا بد أن تكون له أحكامه التكوينية، كما تكون له أحكامه التشريعية، وقد لحظ الطباطبائي هذا القول بما أفاده في تفسيره من كون النسخ لا يختص بالتشريع، وإنما يشمل التكوين، لأنه ليس الإنسان وحده هو الذي يتغيّر، وإنما كل شيء يتغيّر ويتبدّل في عالم الكون والفساد، مما يقتضي أن تكون لهذا العالم أحكامه وتشريعاته أيضاً على نحو ما أفاد أهل اللغة من أن الشمس تنسخ والظل ينسخ، وهذا ما يجري على الليل والنهار وعلى كل حركة الوجود والزمان، على اعتبار أن الزمان هو مقدار الحركة ليس إلاّ.

فالطباطبائي لم يتميّز عن أسلافه فيما ذهب إليه في معنى النسخ التكويني، وإنما هو بمنحاه العقلي وروحه العرفانية أعطى تلويناً آخر للآيات القرآنية، ولمعنى تبدل الآيات، سواء أكانت آياتٍ أنفسية أم آيات آفاقية، والكل عنده مشتمل على المصلحة، سواء أكان ناسخاً، أو منسوخاً. أما ما عند الله تعالى في أُم الكتاب، فهو مما لا تناله العقول، ولا تلبسه المفردات والألفاظ، وإنما هو علم ثابت لا يتصف بأي نوع من أنواع التغيّر، وهذا مذهب الإمامية قاطبة فيما أجمعت عليه في معنى النسخ والبداء، سواء في عالم التكوين، أم في عالم التشريع.

 

ثانياً: النسخ التشريعي

 

تبين لنا مما سبق أن علوم القرآن مما لا يستغنى عنها في تفسير القرآن، وقد رأينا في المباحث السابقة أن الطباطبائي فيما أسس له من مواقف ورؤى قرآنية، إنما كان نتيجة اهتمامه بعلوم القرآن، فأثرت في منهجه التفسيري إلى حد أنه ما كان ليستطيع أن يقدم على تفسيره العظيم لولا أنه استوعب هذه العلوم، ورأى أن فيها ما يوجب على كل مفسر أن يتخذ من القرآن حكماً في قبول أو رفض ما تناهى إليه القوم في كثير من الآراء والنظريات الدينية، فضلاً عما انتهوا إليه من تفاسير قرآنية تجاوزت المئات، وهي بدل أن تكشف الكنوز القرآنية والحقائق الدينية نجدها في الكثير مما انتهت إليه قد أعمت الكثير من هذه الحقائق، وذلك بسبب الإنصراف عن المقاصد، والإنحياز للمذاهب على نحو ما طالعتنا به الكثير من التفاسير القرآنية، التي رأى الطباطبائي أنه كان من الممكن، فيما لو اهتدت إلى المسالك الصحيحة، أن تتقدّم الكثير في مجال الرؤى الدينية، ولكنها غفلت عن ذلك فآل بها الأمر إلى أن تكون مجرد مناظرات وتأويلات في اللغة والبلاغة والرواية، وغير ذلك مما لا بد منه في التفسير، إلا أنه لا ينبغي أن يكون مقصوداً بذاته، كما فعل الكثير من المفسرين.

وانطلاقاً من ذلك، فإن الطباطبائي وجد في علوم القرآن سبيلاً إلى تحقيق الغاية المرجوة، وقد سبق لنا أن عرضنا لتأثير كل من علم المكي والمدني، وعلم أسباب النزول على منهج الطباطبائي في التفسير، وفي هذا المبحث سنبين أثر علم الناسخ والمنسوخ في منهجه نظراً لما لهذا المبحث من أهمية في علوم القرآن، إذ من دونه تستحيل الأحكام، وتزلّ الأقدام، على اعتبار أن الناسخ والمنسوخ له ارتباط وثيق بعلم أسباب النزول، ويأتي في طليعة العلوم القرآنية التي لا بد من الإحاطة بها للاهتداء إلى ما أمر الله به ونهى عنه. ومن هنا تتبدى لنا خطورة الناسخ والمنسوخ، ومما روى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال لبعض متفقهة أهل الكوفة: أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال: فبم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيِّه. فقال له الإمام (عليه السلام): «أتعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم. قال: لقد ادّعيت علماً، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهله» [33].

ومما تجدر ملاحظته في الحديث المتقدم عن الصادق (عليه السلام) أنه سأل عما إذا كان يعرف الناسخ من المنسوخ دون غيره، رغم أنه (عليه السلام) في أحاديث كثيرة تواترت عنه ضمن كلامه ضرورة معرفة علوم القرآن الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمحكم والمتشابه... وإذا كان لهذا التخصيص من معنى في سؤاله لفقيه أهل العراق، فهو الإشارة إلى أهمية علم الناسخ والمنسوخ وتقدمه على سائر علوم القرآن الأخرى.

كما نلاحظ أيضاً، أنه ما من فقيه أو مفسّر، أو أصولي، إلا وأعطى هذا العلم أهميته، فالعلماء يصدّرون كلامهم دائماً بالقول: إنه لا يجوز لأحد أن يفسّر القرآن إلاّ بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، مستدلين على ذلك بما قال الإمام علي (عليه السلام) لرجل في جامع الكوفة، وقد تحلق حوله الناس يسألونه، وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالخطر، فقال له الإمام (عليه السلام) أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال(عليه السلام): هلكت وأهلكت [34].

وهكذا، فإن ما سنحاول التعرف إليه في هذا المبحث هو ما أضافه السيد الطباطبائي في علم الناسخ والمنسوخ، وأثر هذا العلم في منهجه التفسيري، حيث سبق لنا أن ذكرنا أن لعلوم القرآن دوراً مميزاً وبارزاً في منهج المفسّر، وهذا ما يبرزه المفسّر في تفسير الآيات المباركة التي تتحدث عن النسخ، كقوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [35]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ  [36].

وقد لا يكون من المبالغة في شيء القول بأن الطباطبائي أضاف شيئاً جديداً ومميزاً عما ذهب إليه المفسرون في تفسير هذه الآيات المباركة، وقد تبدى هذا الجديد فيما عرض له المفسّر في معنى الآية والنسخ، وأن الآيات في إطلاقها تطال كل ما هو تشريعي وتكويني، هذا فضلاً عما ذهب إليه بقوله أن الآية قد تكون ذات جهة واحدة، وقد تكون ذات جهات كثيرة، فإذا ما نسخت في جهة، فإنه يكون لها من جهاتها الأخرى كل معانيها، كالآية في القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها، مع ما لهذا المعنى من ارتباط بالسياق القرآني وما يقدمه من مدلولات في إطار الكشف عن المراد بالظاهر من الآيات المباركة، إلى غير ذلك مما ذهب إليه المفسر في معنى التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن، والنسبة بين الناسخ والمنسوخ، واختلافها عما بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، إضافة إلى ما رآه من اشتمال كل من الناسخ والمنسوخ على المصلحة، إلى غير ذلك مما جعل من الطباطبائي أصولياً ومفسراً في آن واحد، خلافاً لما زعمه البعض أن الطباطبائي غلّب الطابع الفلسفي والعرفاني في تفسيره على الطابع الأصولي والفقهي. فإذا صح أن المفسر لم يتطرق إلى المباحث الفقهية، فذلك مما ذكره بنفسه في مقدمة تفسيره. أما أنه لم يُعطِ علم الأصول حقه، فذلك مما زعمه آخرون ولم يتثبتوا منه، وهذا ما سيكون موضع اهتمامنا في هذا المبحث. فنقول: إن الطباطبائي لخص كلامه في تفسير ما تقدم من آيات قرآنية على النحو الآتي:

أولاً: إن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات، وهذا ما عرضنا له في البحث السابق.

الثاني: إن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ.

ثالثاً: إن الناسخ مشتمل على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة.

رابعاً: إن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة...

خامساً: إن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص، وبين المطلق والمقيد [37]... وقبل أن نعرض لهذه العناوين بشيء من الإيجاز المفيد، لا بد أن نتحدث عما أجمع عليه الفقهاء فيما يتعلق بشروط النسخ، لأنه كثيراً ما اشتبه على بعض الباحثين تحديد معنى النسخ، ولعل ما أشار إليه الخوئي في بيانه كافٍ لتحديد هذا المعنى، فهو يقول: «النسخ هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع في الأحكام التكليفية أم الوضعية.. وإنما قيدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها... فإن هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمى نسخاً، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد.. [38].

ولتوضيح ذلك يقول السيد الخوئي: إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت:

أحدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء [39].

ثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعية خارجاً [40].

ولا شك في أن المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ في المعنى المتنازع فيه. رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء، وخالف في هذا اليهود والنصارى، فادعوا استحالة النسخ... هذا فيما يعود إلى معنى النسخ في الاصطلاح. أما فيما يعود إلى شروط النسخ، فقد أوضح الفقهاء في مجال هذا البحث، أن من شروط النسخ أن يتحقق الآتي:

أولاً: تحقق التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن، بحيث لا يمكن اجتماعهما في تشريع مستمر، تنافياً ذاتياً [41]. أما في صورة عدم التنافي بين آيتين، كما في آية الإنفاق وآية الزكاة، فلا نسخ أصلاً [42].

ثانياً: أن يكون التنافي كلياً على الإطلاق لا جزئياً وفي بعض الجوانب، فإن هذا تخصيص في الحكم العام، وليس من النسخ في شيء [43].

ثالثاً: أن لا يكون الحكم السابق محدداً بأمد صريح، حيث الحكم بنفسه يرتفع عند انتهاء أمره، من غير حاجة إلى نسخ، وهذا ما عبر عنه السيد الخوئي بارتفاع الموضوع خارجاً، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان.

رابعاً: أن يتعلق النسخ بالتشريعات، إذ لا نسخ فيما يتعلق بالأخبار...

وهكذا الإباحة الأصلية ترتفع بحدوث التشريع من غير أن يكون ذلك نسخاً، حيث تلك الإباحة لم تكن تشريع، وإنما كانت بحكم العقل الفطري (البراءة العقلية)، فموضوعها: عدم التشريع فترتفع بالتشريع، عموماً يمكن القول: إن هذه الشروط مشمولة بما ذكره السيد الخوئي في معنى النسخ وعدمه، وقد فصلنا القول فيها لمنع الاشتباه، وتحقيق الغاية من هذا البحث عن السيد الطباطبائي لمعرفة ما إذا كان السيد متمايز عن سواه فيما يعود إلى أثر هذا العلم في منهجه، وما هو الجديد في رؤيته التفسيرية على علم الناسخ والمنسوخ. ولهذا، فإن أول ما ينبغي الإشارة إليه هو قول الطباطبائي بأن وضع حكم مؤقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم ثم وضع الحكم الدائم وإبدال الحكم المؤقت به، شيء ثابت لا إشكال فيه [44].

إن أهم ما ذهب إلي الطباطبائي في علم الناسخ والمنسوخ، هو أنه لا يرى أن السنة بنوعيها المتواتر والآحاد تنسخ القرآن [45]، وهذا الذي يذهب إليه المفسّر وإن لم يكن جديداً، إلاّ أنه بنى على رؤية تفسيرية جديدة للآيات لم تكن ملحوظة عند قدماء الفقهاء كالشيخ المفيد، الذي لم يكن يرى أن القرآن ينسخ بالسنة، بل القرآن ينسخ بعضه بعضاً، والسنة تنسخ به، كما تنسخ السنة بمثلها من السنة [46]...

فالطباطبائي يرى أن هذا النسخ، فيما لو قال أحد به، مخالف للأخبار المتواترة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إليه، وهذا قول نسب أيضاً للشافعي، الذي رأى أن كتاب الله إنما ينسخ بالكتاب، وهكذا السنة لا ينسخها إلاّ سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [47].

إذاً المقياس عند الطباطبائي لمعرفة الناسخ والمنسوخ هو القرآن الكريم، لكونه الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو تبيان لكل شيء، ومن شأن التدبر فيه التحقق من طرفي الناسخ والمنسوخ اللذين يتحقق بهما النسخ، كما مر معنا في البند الثاني مما عرضه الطباطبائي. فهو يرى في تفسيره، ووفاقاً لمبتنياته الأصولية، أن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي، هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما. وقد ميز الطباطبائي بين الرافع للتنافي الحاصل بين الناسخ والمنسوخ من جهة وبين الرافع للتنافي الحاصل بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين من جهة أخرى باعتبار الثاني هو قوة الظهور الموجودة في الخاص والمقيد والمبين بالنسبة لما يقابلها من العام والمطلق والمجمل [48]... ولا شك في أن تركيز المفسّر على تمييز الناسخ والمنسوخ عن سائر العلوم الأخرى، إنما يأتي في سياق اعتباره أن القرآن لا ينسخ بالسنة بنوعيها المتواتر والآحاد، وأن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى، فمرة تكون هذه الآية الناسخة ناظرة إلى الحكم المنسوخ ومبينة لرفعه، ومرة أخرى تكون هذه الآية الناسخة غير ناظرة إلى الحكم المنسوخ، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة [49]. ولهذا، نجد المفسّر يعقد فصلاً كاملاً من بحوثه الروائية لتبيان تهافت ما ذهب إليه المفسرون وعلماء الأصول بشأن نسخ قوله تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ [50]، فهو يرى أن ما ذهبوا إليه من قول بأن هذه الآية نسخت بآية المؤمنون: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾، لا يصلح للنسخ باعتبارها مكية، وآية المتعة مدنية، يقول الطباطبائي: «ولا تصلح المكية لنسخ المدنية... وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق... ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ، بل نسبة العام والمخصص، أو المطلق والمقَيّد... نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص، لكن هذا مع ضعفه غير منطبق على مورد الكلام، وذلك لورود آيات الطلاق، وهي العام في سورة البقرة، وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة... فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال...» [51].

وفي هذا النص، كما أسلفنا سابقاً، يظهر المفسّر، مناقشة مع الأصوليين فيما ذهبوا إليه في معنى النسخ والتخصيص [52]، ويحصر مراده في الآيات القرآنية، انسجاماً مع منهجه في التفسير، ثم يعقّب ذلك بالبحث الروائي ليبين أن النسخ بالسنة مما لا يستقيم لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة، الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه، والرجوع إلى الكتاب، فالسنة، على ما يبدو، من كلام المفسر، مفسرة للكتاب وليست ناسخة له، وقد ذهب السيد الخوئي، وغيره من الفقهاء إلى خلاف ذلك، على اعتبار أن الإجماع القطعي الذي يعني عند الإمامية، الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، الذي هو سنة في أصله [53].

أما فيما يتعلق بكلام الطباطبائي أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة، فهذا مما عرض له المفسّر في سياق الحديث عما يكون من تنافٍ بين الناسخ والمنسوخ بحسب الظهور اللفظي، فتكون الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، ولتوضيح موقفه من النسخ نراه يميز ويفرق بين النسخ وبين سائر العناوين الأخرى في عموم وخصوص ومجمل ومبين، على اعتبار أن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ هو الحكمة والمصلحة التي يشتمل عليها [54]، فلا يرى ثمة تعارض أو تناقض فإن قلت: فما تقول: في النسخ الواقع في القرآن وقد نص عليه القرآن نفسه ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾، وهل النسخ إلا اختلاف النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المعارضة في القول؟ يجيب الطباطبائي: «النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر، كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم، وإنما هو ناشئ من الإختلاف في المصداق من حيث قبول انطباق الحكم يوماً لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوماً آخر لتبدل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكماً آخر، ومن أوضح الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومىء إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ [55] يقول الطباطبائي: انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة [56]، والآيات المنسوخة، كما يرى الطباطبائي لا تخلو من إيماء إلى النسخ، كما في قوله تعالى: ﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [57]، المنسوخ بآية القتال، وقوله تعالى: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ [58]، المنسوخ بآية الجلد، فقوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾، وقوله: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، لا يخلو من إشعار بأن الحكم مؤقت مؤجل سيلحقه نسخ، ولا يعني هذا أن ما يفيد الغاية في الآيات المنسوخة هو مبنى النسخ لدى المفسر، وإنما هو مشعر به وملوح إليه، إذ إن الغاية تعد من المخصصات الكلامية، وهذا ما يراه المالكية والشافعية والحنابلة، أما الحنفية، فهم لا يعتبرونها مخصصات، وإنما هي جزء من الكلام متصلة به لا غنى لها عنه، ولا استقلال لها من دونه [59].

بهذا أجاب الطباطبائي على ما يعنيه التنافي بين النصوص، أو على ما إذا اقتضى أحد الدليلين المتساويين في القوة نقيض ما يقتضيه الآخر، إذ هو يرى أن التعارض هو في الظاهر، وليس تعارضاً حقيقياً، لأن كلام الله تعالى منزه عن الإختلاف، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [60]. فالتعارض عند المفسر، هو مبنى النسخ، ويمكن من خلال التدبر في كتاب الله تعالى، أن يرفع التعارض، وكما يقول الأوسي في بيان هذا المعنى عند الطباطبائي: إنه في الواقع لا يوجد تعارض حقيقي بين آيات الكتاب، إذ إن ترتب النسخ على وقوعه دليل على أنه لم يبق بين النصين تعارض حقيقي من حيث أن الحكمين أحدهما منسوخ بالآخر يجب أن يختلف زمن العمل بهما، فاتحاد الزمان بين الحكمين، وهو شرط لتحقق التعارض، مانع من النسخ، واختلاف الزمن فيهما، وهو شرط لوقوع النسخ، مانع من التعارض [61].

وهكذا، فإن معنى تحقق المصلحة هو أن ينظر دائماً إلى اختلاف المصاديق من حيث قبول انطباق الحكم أو عدمه، لأن المصلحة كامنة سواء في النسخ، أم في المنسوخ، ولهذا، نجد أن الطباطبائي يعرض لكيفية التنافي بينهما، أي بين الناسخ والمنسوخ، فيرى أنه بحسب الصورة هو منافٍ له، ويرتفع التناقض بينهما لجهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة، فإذا توفي نبي وبعث نبي آخر، وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر، كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه ناموس الطبيعة في الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل أفراد الإنسان. وهكذا الحال فيما إذا نسخ حكم ديني بحكم آخر، فإن هذا النسخ مشتمل على مصلحة الدين، وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت... [62].

وانطلاقاً مما تقدم، نرى أن المفسر يرد الكثير من دعاوى الناسخ والمنسوخ من خلال القرآن وليس من خلال أي شيء آخر، لكونه يرى كفاية بالقرآن لقبول أو رد الأخبار، ومن جملة ما رده كما بين في تفسيره، دعوى ابن عباس أن قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ ﴾، ﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾، منسوخة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾، وقد رد الطباطبائي دعوى النسخ لكون النسبة بين الاثنتين ليست نسبة الناسخة إلى المنسوخة، مبيناً أن الآية الثانية لا تنافي في مضمونها مضمون الآية الأولى، فإن الأكل في الآية الأولى المجوزة مقيد بالمعروف، في حين أن الثانية محرمة بالظلم، ولا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف، وتحريم الأكل ظالماً. وعليه، فإن الآية غير منسوخة [63].

وهنا تبدو لنا ملاحظة عجيبة، وهي كيف يمكن أن يطمئن الباحث إلى ما يختزنه التاريخ الإسلامي من روايات بشأن الناسخ والمنسوخ، طالما أن ابن عباس لم يتمكن من تمييز الناسخ من المنسوخ، أو أنه لم يعرف كيف يميز بين ما هو معروف، وما هو ظلم؟ وهذا ما يتهمه به الطباطبائي [64]، ولعل هذا هو منشأ أن يأخذ الطباطبائي بعلوم القرآن إلى القرآن، ليكون سبيله الوحيد إلى معرفة الناسخ والمنسوخ، وغيره مما اختلف فيه بين المسلمين، والذي لا يزال موضع خلاف بينهم حتى عصرنا الحاضر، وهو سيبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. هذا ملخص عام لما أثبته الطباطبائي فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، سواء في عالم التكوين، أم في عالم التشريع. أما فيما يتعلق بصنوف النسخ الأخرى في القرآن، من قبيل نسخ الحكم والتلاوة معاً، أو نسخ التلاوة دون الحكم، وغير ذلك، فهذا مما لا سبيل إليه عند الطباطبائي، لكونه يؤسس علومه القرآنية على أساس متين، وهو قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [65].

فالطباطبائي لا يكترث في تفسيره للقرآن ولا في موقفه الأصولي لما حاول بعض القدامى من أهل الحديث أن يثبتوه في مصنفاتهم بأن هذا النوع من النسخ، ونعني به نسخ الحكم والتلاوة معاً، قد وقع في القرآن بأن تسقط منه آية ذات حكم تشريعي، ولكن الطباطبائي لا يرى ذلك صحيحاً، وهو مرفوض عنده على اعتبار أن القرآن قد أسقط هذه الدعاوى، بقوله تعالى: ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [66]. وقد فصل الكلام السيد الخوئي في الرد على هذه المزاعم، مبيناً أن هذا الأمر شيء غريب، ولا يمكن الالتزام به، لأن من شأن الالتزام به القول بتحريف القرآن، بأن آية ذات حكم تشريعي، كانت تتلى حتى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم نسيت أو سقطت، وهذا ما تنكره جماعة المسلمين قاطبة، فضلاً عن الطباطبائي الذي جعل مرجعه في الحكم على هذا كله القرآن الكريم، فإذا ما قلنا بوقوع ذلك، فكيف السبيل إلى علوم قرأت لا يداخلها ريب، أو إلى أحكام شرعية مطمئن إليها. ثم أين هذا كله من قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [67].

هناك صنف آخر من صنوف النسخ، وهو القول بنسخ التلاوة دون الحكم، وهذا أيضاً مرفوض عند الطباطبائي، لكونه على غرار الصنف الأول بلا فرق، لأن القائل به إنما يتمسك بأخبار آحاد زعمها صحيحة الاسناد، ساهياً عن أن نسخ آية محكمة لا يمكن إثباته بأخبار آحاد لا تفيد سوى الظن، وإن الظن لا يُغني عن الحق شيئاً. وكما نعلم أن مفاد هذا النسخ هو سقوط آية من القرآن كانت تقرأ، وكانت ذات حكم تشريعي، ثم نسخت ومحيت، لكن حكمها بقي مستراً غير منسوخ، وهذا يعني فيما يعنيه، إذا ما التزم به أن تكون هناك آيات منسية، ويعمل بها، وهذا قول صريح أيضاً بتحريف القرآن، وهذا ما عبر عنه السيد الخوئي القول: «أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، كما أن القرآن لا يثبت به، وذلك لأن الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها، لا تثبت بخبر الواحد، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم في القرآن، وأنها نسخت؟ نعم جاء شخص بآية الرجم وادّعى أنها من القرآن، لكن المسلمين لم يقبلوا منه، لأن نقلها كان منحصراً به، فلم يثبتوها في المصاحف، لكن المتأخرين التزموا بأنها كانت منسوخة التلاوة باقية الحكم» [68].

لا شك في أن هذا النوع من النسخ يرفضه الطباطبائي، ويرى فيه تحريفاً للقرآن، وقد تحدى الله بعدم وجود الاختلاف فيه، فالآية تفسّر الآية، والبعض يبين البعض، والجملة تصدق الجملة، ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الاتقان والمتانة، فكيف يمكن إثبات هذا النسخ بخبر جاء من هنا وهناك؟ وعموماً، فإن السنة بنوعيها المتواتر والآحاد لا تنسخ القرآن [69]، وفي مطلق الأحوال، فقد أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، باعتبار أن الظني لا يقاوم القطعي فيبطله، على ما أفاد الشاطبي [70].

 

ثالثاً: نسخ الحكم دون التلاوة

 

تقدم الكلام في أن الطباطبائي يرى أن التنافي بين النصين إنما هو التعارض الظاهر وليس التعارض الحقيقي، لأن كلام الله تعالى جل جلاله منزه عن الاختلاف، وأن الحكمين فيما إذا كان أحدها منسوخ بالآخر يجب أن يختلف زمن العمل بهما، فاتحاد الزمان بين الحكمين، وهو شرط تحقق التعارض، مانع من النسخ، واختلاف الزمن فيهما، وهو شرط لوقوع النسخ، مانع من التعارض. كما رأينا أيضاً أن الطباطبائي ميز بين الرافع للتنافي الحاصل بين الناسخ والمنسوخ من جهة، وبين الرافع للتنافي الحاصل بين العام والخاص، والمطلق والمقيد باعتبار أن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ هو تحقق المصلحة الموجود بينهما.

فالنسخ عند الطباطبائي ليس من المناقضة في القول، ولا هو من قبيل الاختلاف في النظر والحكم، وإنما هو ناشئ من الاختلاف في المصداق من حيث قبول انطباق الحكم أو عدمه لوجود مصلحة [71]. وعليه، فإن مقتضى القول بأن النسبة بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص، وبين المطلق والمقيد، أو بين المحكم والمتشابه أن يتنبه الباحث أو المفسر، كما يرى الطباطبائي، إلى تحقق المصلحة الموجودة، كما فرض في مثال النبي أو الإمام إذا توفي، وهو آية من آيات الله، فإن إماماً آخر يخلفه، فتنطبق مصلحة الدين.. على مصلحة الوقت، أو كما هو الحال في حكم العفو في أول الدعوة، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام، إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى، وينطوي على إيماءات وتلميحات إلى النسخ. وفي ضوء هذا الذي تقدم، يمكن أن نتحدث عما يراه الطباطبائي في معنى نسخ الحكم دون التلاوة، الذي يرى الطباطبائي مثله مثل سائر المسلمين الذين أجمعوا عبر العصور على أن الآية من ناحية مفادها التشريعي منسوخة، ولكنها تبقى ثابتة في الكتاب الكريم يقرؤها المسلمون، وهذا ما عرض له السيد الخوئي في البيان أيضاً. ولكن قبل أن نعرض لآراء العلماء لا بد من التوقف عند رأي الطباطبائي فيما ذهب إليه في معنى الآية، فهو يقول: «إن كون الشيء آية تختلف باختلاف الأشياء. والحيثيات والجهات، فالبعض من القرآن آية لله تعالى باعتبار عجز البشر عن الإتيان بمثله، والأحكام والتكاليف الإلهية آيات له تعالى... والموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها، وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه... وأنبياء الله وأوليائه آيات له تعالى، باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل والعمل، ولذلك كانت الآية تقبل الشدة والضعف، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [72] ومن جهة أخرى، كما يرى الطباطبائي، الآية ربما كانت ذات جهة واحدة، وربما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها، كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك» [73].

وهذا الكلام من الطباطبائي، وهو من غرر كلامه في تفسيره «الميزان»، يؤكد أن الذين ذهبوا إلى القول بنسخ التلاوة دون الحكم، أو الذين قالوا بنسخ الحكم مع التلاوة معاً، هم إنما ذهبوا شططاً في القول وجهلاً في الدين، لكونهم لم يفهموا معنى قوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ على اعتبار أن النسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها، كما يرى المفسر، بل الحكم حيث علق على الوصف، وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾، مما أفاد أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث أنها آية مع حفظ أصله، فبالنسخ يزول أثره من تكليف، أو غيره مع بقاء أصله، وهذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله: ﴿ مَا نَنسَخْ ﴾ فيكون معنى النسخ هو الإذهاب عن العين، كما يكون معنى الإنساء الإذهاب عن العلم [74]، وهذه الإفاضة من المفسّر تكشف عن أنه لا يمكن أن يكون النسخ إذهاباً للأصل أو إمحاءً له، بدليل، كما نفهم طبعاً، أن النبي أو الإمام ينسخ أحدهما الآخر مع اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة. فإذا كانت التوراة قد نسخت بالإنجيل، وإذا كانت الشرائع كلها قد نسخت بالقرآن، فليس معنى هذا ذهاب الأصل، وإن كان قد ذهب الأثر، أو التكليف في حدود ما نسخته الشريعة الإسلامية، إذ كيف يكون نسخاً للأصل، وقد دعا الإسلام إلى الإيمان بالنبي عيسى (عليه السلام) وبكل الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ بل وأكثر من ذلك ألا ترى أنه لا يكتمل إيمان امرىء إلاّ بالإيمان بالله ورسله وملائكته دونما تفريق بينهم؟ أليس في ذلك اشتمال للمصلحة، فضلاً عما في هذه الآيات من وجوه لم تنسخ لما لها من أثر في حياة الأمم في كل زمان؟

هذه كلها أسئلة تطرح على من ذهب إلى القول جهلاً، أو خطأً بأن الإذهاب إنما حصل للأصل، كما حصل للأثر أو التكليف، على اعتبار أن هناك جهات كثيرة في الآيات لم تنسخ ولها معناها ومصلحتها، على الأقل، فيما ذهب إليه الطباطبائي من أن الآية تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها. وهذا هو القرآن المستور بين دفتين فيه الناسخ والمنسوخ، فيما يعود إلى التشريع وأحكامه دونما الأخبار، إلاّ أن هذا الناسخ والمنسوخ له موقعه في الآيات، سواء فيما يأتي قبله أم بعده، ولهذا نجد أن الطباطبائي في تفسيره يركز على السياق ودلالاته، سواء اللغوي، أم النحوي، أو غير ذلك من أنماط السياق التي لا بد منها في تفسير القرآن، وما من دلالة سياقية إلاّ وتلحظ بمعزل عن الناسخ والمنسوخ، كما نفهم طبعاً، لأن السياق كاشف عن الحقيقة، وقد اعتمده الطباطبائي، فتراه يرفض الكثير من الروايات والدلالات لكونها لا تستفاد من السياق، وهذا ما أثبته الطباطبائي في بحثه الروائي عن الناسخ والمنسوخ فيما روى عن أمير المؤمنين أنه قال: نسخ قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ قوله عزَّ وجل: ﴿ ... وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾، أي للرحمة خلفهم [75]. وقد بين الطباطبائي أن الدلالة فيها على أخذه بالنسخ أعم من النسخ في التشريع، باعتبار أن الآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الأولى، بمعنى أن الآية الثانية تثبت للخلق غاية، وهي الرحمة، والآية الأولى تثبت غاية العبادة للجميع... [76].

إن قول الطباطبائي بأن النسخ في الآية هو أعم من التشريع، هو ما ينبغي التأمل فيه في سياق فهم الناسخ والمنسوخ في القرآن وما ينطوي عليه من مصالح آنية أو مستقبلية قد لا يلتفت إليها العباد، فكيف لهم أن يتجرأوا على الله بادّعاء النسخ للحكم والتلاوة، أو التلاوة دون الحكم، إلى غير ذلك مما زعموه، ويؤدي إلى القول بتحريف القرآن، سواء من حيث أرادوا ذلك أم لم يريدوه.

مما تقدم، نخلص إلى القول بأن ما أجمع عليه المسلمون من نسخ للحكم دون التلاوة هو الحق الحقيق، لأنه يُبقي على الأصل ويحفظ الغاية والمصلحة من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية التي لا تحفظ من دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن يقوم مقامها شيء تحفظ به تلك المصلحة، ويستدرك ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد، فتكون الآية بديلاً فلا تفوت المصلحة دونما توهم بأن شأنه تعالى كشأن عباده وإنما لكونه ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت، أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه، كما قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [77].

وكيف كان، فإن القول بنسخ الحكم دون التلاوة، عرض له الفقهاء على نحو يؤكد شمول النسخ للأحكام التكليفية والوضعية ولكل أمر بيد الشارع رفعه ووضعه بالجعل التشريعي بما هو شارع، ما يعني شمول النسخ تلاوة القرآن على القول به، باعتبار أن القرآن هو من المجعولات الشرعية [78]. ولكن بما أن القول بذلك يؤدي إلى القول بتحريف القرآن، فإنه لا يمكن أن يصار إليه إلاّ بدليل قطعي، يقول المظفر: «إن نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع إلى القول بالتحريف لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي، سواء أكان نسخاً لأصل التلاوة، أو نسخاً لها ولما تضمنته من حكم معاً، وإن كان في القرآن ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة، كقوله الله تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ [79]، ولكن ليست الآية صريحة بوقوع ذلك، ولا ظاهرة، وإنما أكثر ما تدل عليه إمكان الوقوع [80].

ولا شك في أن الذي يهمنا في هذا المبحث هو ما يراه الطباطبائي في إمكان هذا النسخ، طالما أن إجماع الفقهاء وعلماء الأصول على أنه لا يصح الحكم بنسخ آية من القرآن إلاّ بدليل قطعي، سواء أكان النسخ بقرآن أو بسنة أو إجماع، هذا مضافاً إلى إجماعهم على أن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، وكل هذا قطعي لا شك فيه، ويبقى المبحوث فيه هو تشخيص موارد الناسخ والمنسوخ في القرآن، والقواعد الأصولية التي ننتفع بها في هذا المجال، هي أن الناسخ إن كان قطعياً أخذنا به واتبعناه، وإن كان ظنياً فلا حجة فيه، ولا يصح الأخذ به لما تقدم في الإجماع على عدم جواز الحكم بالنسخ إلاّ بدليل قطعي، ولهذا أجمع الفقهاء قاطبة على أن الأصل عدم النسخ عند الشك في النسخ دونما اعتبار لحجيّة الاستصحاب، كما ربما يتوهم البعض، بل حتى من لا يذهب إلى حجيّة الإستصحاب يقول بأصالة عدم النسخ، وما ذلك إلاّ من جهة هذا الاجماع على اشتراط العلم في ثبوت النسخ [81].

وإذا كان المبحوث عنه في هذه الدراسة هو موقف الطباطبائي من نسخ الحكم دون التلاوة، الذي لا دليل قطعي عليه، كما أسلفنا، فقد رأينا أن الطباطبائي لا يقول بنسخ السنة للقرآن، سواء المتواتر منها أو الآحاد، وهذا ما يقتضي منا أن نعرض لما فصله الفقهاء في نسخ الحكم دون التلاوة طالما هم متفقون على جوازه إمكاناً، وعلى تحققه بالفعل، حيث توجد في القرآن آيات منسوخة وآيات ناسخة، ومما بيّنه الفقهاء أن لهذا النسخ أنحاءً ثلاثة فصلّها السيد الخوئي على النحو الآتي:

أولاً: إن الحكم الثابت في القرآن ينسخ بالسنة المتواترة، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم (عليه السلام) وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلاً ونقلاً، فإن ثبتت في مورد فهو المتبع، وإلا فلا يلتزم بالنسخ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، وهذا ما استشكل عليه الطباطبائي بقوله إن القرآن لا ينسخ بالسنة، سواء المتواتر أو الآحاد، وذلك نظراً لكون الأول قطعي، والثانية ظنية، وقد أجيب عليه بأن مفروض الكلام ما إذا كانت السنة متواترة وقطعية الصدور أيضاً. وهذا ما لا سبيل إليه عند الطباطبائي طالما هو يجعل من القرآن مرجعاً لقبول أو رد الأخبار والمرويات. فكيف يُنسخ بها؟ وهو الدليل على صحتها وقبولها ورفضها وفاقاً لمبدأ الطباطبائي ومنهجه في التفسير فقال: «وأما النسخ بالسنة ـ ففيه بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة، الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إليه...» [82].

ثانياً: إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، ومبينة لرفعه، وهذا القسم أيضاً مما لا إشكال فيه، وقد مثلوا عليه بآية النجوى، وهذا ما رأى فيه الطباطبائي، بأن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ هو تحقق المصلحة الموجودة بينهما، وهذا ما لا يختلف فيه مع أحد، ولكنه تميز فيما عرضه لناحية شمول كل من الناسخ والمنسوخ للمصلحة، على نحو ما بين في معنى نسخ الآية وما يكون لها من جهة أو جهات.. [83].

ثالثاً: إن الحكم الثابت بالقرآن، ووفقاً للسيد الخوئي طبعاً، ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ولا مبيّنة لرفعه، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، وهنا تثور ثائرة الطباطبائي على نحو ما سنرى، كون من يذهب إلى هذا الرأي، يعتقد بوجود التنافي الحقيقي بين الآيتين، وهذا ما عبر عنه السيد الخوئي بقوله: «إن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً  [84]، ولعل السيد الخوئي لم يلتفت إلى ما قد يثار من إشكالات حول ما يذهب إليه لجهة قوله: «والتحقيق أن هذا القسم من النسخ غير موجود في القرآن» [85]. ولا شك في أن ما يذهب إليه السيد الخوئي قد يصح فيما لو كان بين الآيات تنافياً كلياً لا جزئياً وفي بعض الوجوه، لأن الأخير أشبه بالتخصيص منه إلى النسخ المصطلح، وإن كان البعض قد قال بنسخ العام للخاص ونسخ المطلق للمقيد، الذي يرى السيد الخوئي أن المطلق لا ينسخ المقيد وإن جاء متأخراً عنه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أحداً لم يذهب إلى القول بالتنافي الحقيقي بين الآيات، وعلى فرض أنه موجود، فمن يستطيع الوقوف عليه إلاّ بنص من المعصوم، وهذا ما كان مثار تأمل وبحث عند السيد الطباطبائي، الذي رأى أن التنافي بين النصين في النسخ إنما هو التعارض الظاهر، وليس التعارض الحقيقي، لأن كلام الله تعالى وبمثل ما قال السيد الخوئي: «منزه عن الاختلاف، كما قال الله تعالى، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ على ما بينهما من اختلاف في الرؤية والموقف من حقيقة التنافي أو ظاهره!؟ وكما بيّن الطباطبائي أن النسخ ليس من المناقضة في القول... وكذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم، وإنما هو ناشئ من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله انطباق الحكم يوماً لوجود مصلحة فيه وعدم قبوله الانطباق يوماً آخر لتبدل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكماً آخر.

وكما بينا سابقاً، أن التعارض الظاهر هو مبنى النسخ في آيات الكتاب الكريم عند الطباطبائي. وهكذا، فإن ما ذهب إليه السيد الخوئي لا يمكن حمله على الالتباس، وإنما هو، كما يرى «معرفة» في تلخيص التمهيد، يجعل منه مستمسكاً لنكران هذا النحو من النسخ [86]، ويُجيب عليها، أنه لا تنافٍ بين الناسخ والمنسوخ في متن الواقع، وإنما هو تنافٍ ظاهري، وهذا ما عبر عنه الطباطبائي، ولعل «معرفة» تأثر به، إذ الحكم المنسوخ هو في الحقيقة حكم محدود في علم الله من أول تشريعه، غير أن ظاهره الدوام، على ما بين في علم الأصول، ومن ثمّ كان التنافي بينه وبين الناسخ المتأخر شكلياً محضاً، وهذا كله إنما يصح فيما لو وقف المفسّر أو الفقيه على حقيقة هذا التنافي، وعلم بأسباب النزول على النحو الذي يمكنه من معرفة المتقدم والمتأخر من الآيات الناسخة، إذ لا عبرة كما يقول «معرفة» بثبت آية قبل أخرى في المصحف، فهناك الكثير من الآيات الناسخة المتقدمة في ثبتها على المنسوخة، كما في آية البقرة، الآية: 234 [87] من السورة ذاتها، وهي ناسخة لآية الاجتماع إلى الحول، كما في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ... ﴾ [88] وهذا إجماع [89].

عموماً يمكن القول: إن الاضطراب الحاصل في هذا العلم لا يحسمه إلاّ القرآن والسنة القطعية لكونها مفسرة للقرآن، إذ لا قرآن من دون سنة. وعليه، فإنه يبقى على الباحث أن يدرك رؤية وموقف الطباطبائي، فيما اختاره من أسلوب ومنهج للتفسير، ذلك أن المفسّر قد أقلقه التضارب في علوم القرآن فاختار منهج التفسير القرآني للوقوف على الحقائق القرآنية واكتشاف معارفها والحكم من خلال القرآن على كل ما اختلف بشأنه طالما أن المعصوم (عليه السلام) قد أرشد إلى الأخذ بالقرآن والعرض عليه، على قاعدة: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله تعالى، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به..» [90].


[1] سورة البقرة، الآية: 106.

[2] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات الفاظ القرآن الكريم، م.س، ص511.

[3] م.ع، ص512.

[4] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص249.

[5] سورة الأعراف، الآية: 54.

[6] الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، ( ت: 413ه )، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1983هـ، ص91.

[7] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص404.

[8] سورة الرعد، الآية: 38.

[9] الطباطبائي، للميزان، م.س، ج11، ص377.

[10] سورة البقرة، الآية: 106.

[11] سورة النحل، الآية: 101.

[12] سورة الزخرف، الآية: 4.

[13] الطباطبائي، الميزان، م.س، ص378.

[14] م.ع، ص379.

[15] م.ع، ص379.

[16] م.ع، ص379.

[17] م.ع، ص380.

[18] انظر: المازندراني، محمد بن علي بن شهراشوب، متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، قم، ط3، 1410هـ، ج2، ص152.

[19] الطوسي، الشيخ أبو جعفر، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق أحمد العاملي، النجف، 1364هـ، ج1، ص12.

[20] الخوئي، السيد أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط3، 1974، ص386.

[21] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج11، ص380.

[22] السيد الخوئي يبدأ كلامه في مبحث البداء بالتمييز، فهو يقول: «بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام، وهو في أفق التشريع، وبمناسبة أن النسخ كالبداء، وهو في أفق التكوين...». م.ع، ص386.

[23] م.ع، ص387.

[24] يقول الطباطبائي في هاتين المرحلتين: إن للأمور والحوادث وجوداً بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة، أو شرط، أو مانع ربما تخلف عنه، ووجوداً بحسب ما تقتضيه أسبابها وعللها التامة، وهو ثابت غير موقوف ولا متخلف. الميزان، م.س، ج11، ص384.

[25] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج11، ص384.

[26] م.ع، ص384.

[27] سورة النحل، الآية: 101.

[28] م.ع، ص378.

[29] يقول السيد الخوئي، باتفاق مع السيد الطباطبائي، أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف التي يحيط بها العلم الإلهي. را: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص386.

[30] سورة الرعد، الآية: 39.

[31] سورة ق، الآية: 29.

[32] سورة الرعد، الآية: 8.

[33] انظر الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، ص48.

[34] انظر الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج27، ص47.

[35] سورة البقرة، الآية: 106.

[36] سورة الرعد، الآية: 39.

[37] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص249.

[38] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص278.

[39] يقول الخوئي: إن الحكم في هذه المرحلة يكون مجعولاً على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام ـ مثلاً ـ فليس معناه أن هنا خمراً في الخارج، وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج، فهو حرام في الشريعة، سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلاّ بالنسخ. را: السيد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص278.

[40] إن ثبوت هذا الحكم في الخارج، كما يرى الفقهاء بمعنى أن الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعه خارجاً، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج فإن الحرمة المجعولة في الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلاً فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء: وإنما الكلام في القسم الأول: رفع الحكم عن موضوعه...

[41] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص417.

[42] إن تشريع الإسلام للإنفاق في سبيل الله ثابت مستمر، مندوب إليه في الإسلام، والزكاة واجبة، ولا تنافي بين استحباب الأول ووجوب الأخيرة أبدياً.

[43] معلوم عند الفقهاء أن المطلق ليس ناسخاً للمقيد وإن جاء متأخراً عنه. والعام ناسخ للخاص، ومما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن آية القواعد من النساء لا تصلح ناسخة لآية الغض (سورة النور، الآية: 31) بعد أن كانت الأولى أخص من الثانية والخاص لا ينسخ العام، بل يخصِّصه بما عداه من أفراد الموضوع، وهكذا تحليل السمك والجراد لا يكون نسخاً لآية تحريم الميتة، حتى ولو فرضنا صدق الميتة على السمك، الذي أخرج من الماء حياً فمات...

[44] الطباطبائي، القرآن في الإسلام، م.س، ص50.

[45] م.ع، الميزان، م.س، ج4، ص282.

[46] انظر: الشيخ المفيد، أوائل المقالات، م.س، ص144.

[47] انظر الأوسي، علي، الطباطبائي ومنهجه في التفسير، م.س، ص224، نقلاً عن الرسالة، للشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمود شاكر، مصر، 1358هـ، ط1، ص106.

[48] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص250.

[49] سنتحدث لاحقاً عما يعنيه التنافي بين الناسخ والمنسوخ بحسب الظهور اللفظي، والذي لا يكون تعارضاً حقيقياً...

[50] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص280 ـ 281.

[51] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص280 ـ 281.

[52] يفترق النسخ عن التخصيص، أن الأول قطع لاستمرار التشريع السابق بالمرة. أما التخصيص فهو قصر الحكم العام على بعض أفراد الموضوع وإخراج البقية عن الشمول، قبل أن يعمل المكلفون بعموم التكليف. فالنسخ اختصاص للحكم ببعض الأزمان، والتخصيص اختصاصه ببعض الأفراد. ذاك تخصيص أزماني، وهذا تخصيص أفرادي ولا يشتبه أحدهما بالآخر. فكل من النسخ والتخصيص أداة كشف عن المراد الحقيقي للمشرّع الأول الحكيم.

[53] انظر: السيد الخوئي، التبيان في تفسير القرآن، م.س، ص286.

[54] يرى الأوسي في دراسته عن الطباطبائي، أن المفسر في موقفه من دعاوى النسخ يؤيد ما يتفق وفرض التنافي بين الناسخ والمنسوخ بحسب الظهور اللفظي، ففي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾، ذكر المفسّر أنها منسوخة بقوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾، وهذا في الواقع ينسجم مع فرض المفسر بأن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ هو تحقق المصلحة الموجودة بينهما، فإعراضهم عن المناجاة يُفوّت عليهم كثيراً من المنافع والمصالح العامة، ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلى النفع الخاص بالفقراء وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله. را: الأوسي، علي، الطباطبائي، ومنهجه في التفسير، م.س، ص227.

[55] سورة النساء، الآية: 15.

[56] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص69.

[57] سورة البقرة، الآية: 109.

[58] سورة النساء، الآية: 14.

[59] انظر مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم، القاهرة دار الفكر العربي، 1963، ج1، ص114.

[60] سورة النساء، الآية: 82.

[61] الأوسي، علي، الطباطبائي ومنهجه في التفسير، م.س، ص225.

[62] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص249.

[63] م.ع، ج4، ص178.

[64] مما يرده الطباطبائي من دعاوى النسخ هو ما ذهب إليه المفسرون في قوله تعالى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ... ﴾ أن الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ﴾ وقد رد الطباطبائي هذه الدعوى، بقوله: ولا وجه لهذا النسخ، وإن الآية الأولى بيان كلي لحكم المواريث، ولا تنافي بينها وبين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها. را: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص211.

[65] سورة النساء، الآية: 82.

[66] سورة فصلت، الآية: 42.

[67] سورة الحجر، الآية: 9.

[68] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص285.

[69] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص275.

[70] انظر: الشاطبي، أبو اسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، شرح الشيخ عبد الله دراز، مصر 1388هـ، ج3، ص106.

[71] تقدم الكلام في أن النسخ إنما يطال الثابت في الشريعة من الأحكام، والذي هو الثبوت الواقعي الحقيقي، في مقابل الثبوت الظاهري بسبب الظهور اللفظي، ولذلك، كما بينا سابقاً، ميز الطباطبائي بين الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ، وبين الرافع للتنافي الحاصل بين العام والخاص، والمطلق والمقيد... وقد أجمع علماء الأصول على رفع الحكم ـ الثابت بظهور العموم والإطلاق ـ بالدليل المخصص أو المقيد لا يسمى نسخاً، بل يقال له: تخصيص أو تقييد أو نحوهما، باعتبار أن هذا الدليل الثاني المقدم على ظهور الدليل الأول يكون قرينة عليه وكاشفاً عن المراد الواقعي للشارع، فلا يكون رافعاً للحكم إلاّ ظاهراً، ولا رفع فيه للحكم حقيقة بخلاف النسخ. انظر: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، 1990م، ج2، ص48.

[72] سورة النجم، الآية: 18.

[73] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص247.

[74] م.ع، ص247.

[75] م.ع، ص251.

[76] م.ع، ص252.

[77] سورة البقرة، الآية: 107.

[78] يميز علماء الأصول بين المجعولات الشرعية والمجعولات التكوينية، ولا يشمل النسخ الاصطلاحي المجعولات التكوينية التي بيده تعالى رفعها ووضعها بما هو خالق الكائنات.

[79] سورة النحل، الآية: 101.

[80] انظر: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، م.س، 49.

[81] م.ع، ص52.

[82] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص282.

[83] م.ع، الميزان، ج1، ص247.

[84] سورة النساء، الآية: 82.

[85] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص287.

[86] يقول السيد الخوئي: «ولكن كثيراً من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا كانت إحدى الآيتين قرينة عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى، كالخاص بالنسبة إلى العام، وكالمقيد بالإضافة إلى المطلق، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشببها، ومنشأ هذا قلة التدبر، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمعناه اللغوي، واستعماله في ذلك وإن كان شائعاً قبل تحقق المعنى المصطلح عليه، ولكن إطلاقه ـ بعد ذلك، مبني على التسامح لا محالة». را: البيان في تفسير القرآن، م.س، ص287.

[87] قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ... ﴾ البقرة، الآية: 234.

[88] سورة البقرة، الآية: 240.

[89] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، 431.

 

كان القرآن وما زال وسيبقى الكتاب الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية البشر إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، فهو الكتاب المبين، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ظاهره أنيق وباطنه عميق، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). كتاب يجري في حياة البشر مجرى الشمس والقمر إلى غير ذلك مما وُصف به القرآن، الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [1]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً  [2].

لقد سبق الكلام منا أن لعلوم القرآن أثراً كبيراً في منهج التفسير عند الطباطبائي، ولعل من أكثر المباحث اهتماماً وظهوراً في تفسيره، هو مبحث المحكم والمتشابه، الذي أدلى المفسّر فيه بدلوه مبيناً ومفنداً ومفسراً وشارحاً لكل الآراء والمذاهب، التي ذهبت مذاهب شتى في التأويل والتفسير، وهذا ما كان موضع اهتمامنا في الباب الثاني من هذه الدراسة، وقد شئنا الفصل بين مبحث التأويل ومباحث المحكم والمتشابه، لكون التأويل والتفسير يمكن أن يبحثا معاً، ومن غير الممكن علمياً ومنهجياً أن يتم الخلط بين المحكم والمتشابه من جهة، وبين التأويل والتفسير من جهة ثانية [3]، فكانت الخطة أن نفرد المحكم والمتشابه في مبحث علوم القرآن وأثرها على منهج الطباطبائي. وإذا كان البعض يرى أن في هذا التقسيم خللاً ما، فذلك مما يمكن تبريره أيضاً لكون البحوث القديمة والجديدة ما زالت تربط بين المتشابه والتأويل، وهذا ما خالفه المفسّر في منهجه ما اقتضى منا الفصل بين المباحث في هذه الدراسة على هذا النحو، مفضلين أن يدرس المحكم والمتشابه في باب علوم القرآن وما تركته من أثر على منهج المفسّر في تفسيره للقرآن بالقرآن.

وطالما أن هذا المبحث هو من صميم البحوث القرآنية، فإنه يمكن البدء مما يمكن اعتباره تأسيساً للدراسة، ونعني بذلك التمييز بين ما هو قطعي الصدور، وما هو غير قطعي، على النحو الذي يساعد في منهجة هذه الدراسة لإيصالها إلى النتائج المتوخاة منها.

فالقرآن كما يجمع المسلمون هو الحجة القاطعة بين الله تعالى والعباد، وهو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية بما تضمنته آياته من بيان ما شرعه الله للبشر. وأما ما سواه من سنة أو إجماع، أو عقل، فإليه ينتهي ومن منبعه يستقي، وكما يقول علماء الأصول: إن الذي يجب أن يعلم أنه قطعي الحجة من ناحية الصدور فقط لتواتره عند المسلمين جيلاً بعد جيل. وأما من ناحية الدلالة فليس قطعياً كله، لأن فيه متشابهاً ومحكماً. ثم المحكم: منه ما هو نص، أي قطعي الدلالة، ومنه ما هو ظاهر تتوقف حجيته على القول بحجية الظواهر. ثم إن فيه ناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، ومجملاً ومبيّناً، وكل ذلك لا يجعله قطعي الدلالة في كثير من آياته [4].

هذا هو التأسيس الذي ينبغي أن ننطلق منه في مبحث المتشابه والمحكم، لكون الطباطبائي هو ممن يركّزون على حجيّة الظواهر في تفسيره، كما في قوله: «إن القرآن الكريم قد أعطى للسامعين حجيّة واعتبار ظواهر الألفاظ، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة بعد القرآن مباشرة، وتعتبر حجة كالآيات القرآنية» [5]، ومما لا بأس بذكره أيضاً في هذا السياق للتدليل على حجيّة ظواهر الكتاب، ما قاله السيد الخوئي، إن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا: أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافي الغرض من إنزال القرآن ودعوة البشر إلى الإيمان به [6].

إذن، المحكم والمتشابه في القرآن لا يتمّ البحث فيه من خارج ظواهر الكتاب، وإن كان هناك طرق أخرى لفهم المعارف الدينية، على اعتبار أن للقرآن باطناً أيضاً، ولكن هذا الباطن لا يُلغي ولا يبطل ظاهره، بل إنه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة، ولا يمكن، كما يرى الطباطبائي، التخلي عن الأحكام الظاهرية التي مؤداها إصلاح المجتمع... [7].

وهكذا، فإن هدفية هذه الدراسة تكمن في تبيان ما استقاه المفسّر في توجيه منهجه، وذلك من خلال ما أعطاه المفسّر للمحكم والمتشابه من مدلولات أخرجت هذا العلم من كونه ألغازاً وتأويلاً، لتجعل منه علماً محكماً في مؤداه ونتائجه. وهذا ما ستكشف عنه هذه الدراسة، حيث نجد أن الطباطبائي قد فنّد معظم الأطروحات والتأويلات التي أحاطت بالمحكم والمتشابه في القرآن، وقد وجدنا أن أكثر البحوث تغمض النظر عن جديد الطباطبائي في هذا المجال، رغم أنها تردد كلامه وتفتخر بما يذهب إليه، ولكنها لا تركز على جديده فيما خلص إليه من نتائج بسبب ما تراه من تحمّل وتأويل في كلام الطباطبائي في علوم القرآن، وخاصة في علم المحكم والمتشابه.

 

أولاً: المحكم والمتشابه في اللغة والاصطلاح

 

يقول ابن منظور: «حكم» الله تعالى أحكم الحاكمين، وهو الحكيم له الحُكمُ، وهي من صفات الله تعالى: الحكم والحكيم والحاكم، ومعاني هذه الأسماء متقاربة، والله أعلم بما أراد بها، وعلينا الإيمان بأنها من أسمائه. و«حكم» معناها الشيء الذي أحكم أصله ومنع منعاً «أُحكِمت آياته»، بحيث لا يمكن نفوذ شيء إليه، حتى يفصّله، «ثم فصلّت»، وفي الحديث صفة القرآن، وهو الذكر الحكيم، أو هو المحكم الذي لا اختلاف فيه، وفي حديث ابن عباس: قرأت المحكم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يريد المفصّل من القرآن، لأنه لم يُنسخ منه شيء. وقيل: هو ما لم يكُن متشابهاً، لأنه أحكم بيانُهُ بنفسه، ولم يفتقر لغيره، والعرب تقول: حكمت وأحكمْت وحكّمت بمعنى منعت ورَدَدتُ. قال الأصمعي: أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها ترد الدابة. وكل هذه المعاني تفضي إلى الإتقان وتدل عليه... [8].

أما المتشابه، فهو من شبه، فيقال، الشِّبهُ والشَّبهُ والشبيهُ: المِثلُ، والجمع أشباه، وأشبه الشيء الشيء ماثلهُ... والمتشابهات من الأمور المشكلات، والمتشابهات: المتماثلاتُ.

والشُّبهة: الإلتباس. وأمور مُشتبهةُ ومُشبِّهة: مشكلةُ يُشبهُ بعضُها بعضاً... وشبّه عليه: خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره، وفي التنزيل العزيز: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾. قيل: معناه يشبه بعضها بعضاً... [9].

وقال الراغب الأصفهاني: «الحقيقة هي في المماثلة من جهة الكيفية كاللون والطعم وكالعدالة والظلم، والشُبهة هو أن لا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عيناً أو معنى. قال وأتُوا به متشابهاً، أي يشبه بعضه بعضاً لوناً لا طعماً وحقيقة، وقيل متماثلاً في الكمال والجودة... والمتشابه في القرآن ما أُشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا يُنبىء ظاهره عن مراده...» [10].

إذاً المحكم، ما لم يكن متشابهاً، لأنه أحكم بنفسه، ولم يفتقر لغيره والمتشابه هو ما اشتبه بعضه ببعض واحتاج إلى غيره لبيانه وتفسيره، وقد فصّل القرآن معنى الإحكام دون تفصيل، باعتبار أن الكتاب كله محكماً، كما أوضح في المتشابه، فقال الله تعالى: ﴿ مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ [11]، هذا من حيث وصف الكتاب كل الكتاب. أما من حيث الآيات، فجاء البعض محكماً، والآخر متشابهاً، كما قال الله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [12]، يقول الطباطبائي: «إنه تعالى وصف كتابه بأحكام الآيات، لكن اشتمال الآية، ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾. على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من الحالات التي كان عليها الكتاب قبل النزول، وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزؤ والتبعض بعد بتكثر آياته، فهو إتقان قبل وجود التكثر، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد...» [13].

لقد أكثر أهل اللغة من استعمال الأحاديث في التدليل على المحكم والمتشابه، ولعل أكثرهم اجتهد في ذلك من خارج دلالة النصوص، يقول ابن منظور: «وفي الحديث عن صفة القرآن: آمنوا بمتشابهه، واعملوا بمحكمه، المتشابه: ما لم يُتلقَّ معناه من لفظه، وهو على ضربين: أحدهما إذا رد إلى المحكم عُرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى معرفته. فالمتتبع له مبتغ للفتنة، لأنه لا يكاد ينتهي إلى شيء تسكن نفسه إليه» [14]. وهكذا، فعل الراغب أيضاً في مفرداته، إذ هو قسّم الآيات إلى محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه [15].

ولا شك في أن أهل اللغة أيضاً قد خلطوا بين اللغة والإصطلاح، وأفردوا بحوثاً في معنى المحكم والمتشابه، لا ليستدلوا على المراد اللغوي، وإنما للإفادة في مجال التأويل والتفسير، كما فعل الراغب وابن منظور وغيرهم، في حين أن الآية القرآنية محكمة، وترشد إلى أن المحكم والمتشابه يفسّر بعضه بعضاً، فلا يبقى اشتباه في التمييز، كما قال الراغب، ولا يكون متشابه لا سبيل إليه كما ذهب ابن منظور، لأن «أم الكتاب» كفيلةٌ بأن لا يبقى متشابهاً فيما لو لم يرد ابتغاء التأويل ابتغاء الفتنة. فإذا ما رد المتشابه إلى المحكم، فتصير المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها، وكما يقول الطباطبائي: «إن هذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه، ويتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فإن الآية محكمة بلا شك ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً» [16].

كما بين أهل اللغة أيضاً أن التشابه إنما هو تماثل وتوافق أشياء مختلفة واتحادها في بعض الأوصاف، كما قال ابن منظور: وأشبه الشيء بالشيء ماثله، وهذا ما وصف الله تعالى به كتابه، بقوله تعالى: ﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾، فيكون المؤدى، هو أن التماثل له اعتبار في سياق الكتاب كله، أما من حيث هو متشابه مع غيره، فذلك ما تقابل مع الإحكام، فيكون المحكم هو المعبر عنه، فلما كل هذه الضروب التي عرض لها الراغب في مفرداته [17]؟ طالما أن المحكم والمتشابه يجري على القرآن بأكمله بخلاف المعنى الإصطلاحي المتداول بين المتكلمين والمفسرين، الذين يفصلون بين الآيات، ويجعلون للمتشابه منها تأويلاً خاصاً، في حين أن لهذه الآيات مرجعاً ترجع إليه وتستبين من خلاله، ولعلّ ما ذكره ابن منظور معبراً عن هذا المعنى فيما رواه عن الضحاك أنه قال: المحكمات ما لم يُنسخ، والمتشابهات ما قد نسخ [18]، وهذا يكشف، كما سنبين لاحقاً، كيف أن كثيراً من المفسرين قد فصلوا بين المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، رغم أن الآيات القرآنية لا تتحدث عن هذا الانفصال، وإنما تتحدث عن آيات هي أم آيات أُخر، وبالرجوع إليها يعود القرآن كله محكماً، كما يرى الطباطبائي [19].

وعموماً يمكن القول: إن معنى المحكم والمتشابه في اللغة والإصطلاح متداخل إلى حد أن أهل اللغة قد استفادوا من الآيات القرآنية فيما أسّسوا له من مفردات مبيّنة، كما هو الحال في لسان العرب، فقالوا: «وأما قوله تعالى: ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً، فإن أهل اللغة قالوا معنى متشابهاً يشبه بعضُه بعضاً في الجَودة والحُسن، وقال المفسرون: متشابهاً يُشبه بعضه بعضاً في الصورة، ويختلف في الطعم، ودليل المفسرين قوله تعالى: ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ، لأن صورته الصورة الأُولى، ولكنّ اختلاف الطعم مع اتفاق الصورة أبلغ وأغرب عند الخلق، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان نهاية في العجب...» [20].

إذن، ليس هناك كبير فرق فيما اصطلح عليه في المحكم والمتشابه، فالأول أُحكمت آياته من جهة إتقانه قبل تفصيله في أم الكتاب، ثم أحكمت على نحو التفصيل في عالم التنزيل، فكانت بإزاء آيات أخر متشابهات وممتنعة عن التشابه في المراد، وكذلك الحال في ما هو متشابه مثاني متماثل في آياته من حيث البلاغة والإعجاز والنظم وغير ذلك مما يمنع من المفاضلة بين أجزائه، ولكن بعض آياته قد تشابه في المراد منه فترجع إلى أم الكتاب لتكون محكمة، ولعله هذا هو سر المقابلة في قوله تعالى: ﴿ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾، أن يكون الإحكام غاية المراد، بحيث يشهد الكتاب بعضه على بعض، ويُفسر بعضه بعضاً، وقد بين ابن منظور في لسان العرب هذا المعنى في الآيات التي نزلت في ذكر يوم القيامة، فقال: «فهذا الذي تشابه عليهم، فأعلمهم الله الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر لو تدبّروه، قال الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [21]، أي إذا كنتم أقررتم بالإنشاء والإبتداء فلما تنكرون البعث والنشور...؟» [22].

 

ثانياً: المحكمات أُمُّ الكتاب

 

لقد توقف الفقهاء والمفسرون وعلماء الكلام كثيراً عند قوله تعالى: ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، فقال الزمخشري: «أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها» [23]، وقال عبد الله شبر: «أصله، يرد إليها غيرها وأفرد أم على إرادة كل واحد، أو المجموع..» [24]، وقال الشريف الرضي: «كيف جمع سبحانه بين قوله: ﴿ هُنَّ ، وهو ضمير جمع، وبين قوله: ﴿ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ وهو اسم لواحد، فجعل الواحد صفة للجمع؟ وهذا فتٌ في عضد البلاغة، وثلم في جانب الفصاحة...» [25].

وقال الطباطبائي: «إن الإضافة في قوله «أُمُّ الكتاب» ليست لامية كقولنا: أُمُّ الأطفال، بل هي بمعنى من قولنا: نساء القوم وقدماء الفقهاء، ونحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أُمُّ آيات أخر، وفي إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة...» [26].

إن قول الطباطبائي أن المحكمات غير مختلفة في أنفسها، لدليل واضح على أن المفسّر ينسجم مع رؤيته بأن حقيقة الكتاب هي واحدة في أُم الكتاب، الذي عبر عنه تعالى بالإنزال دون التنزيل، وهذا ما عرضنا له في بحث الإنزال والتنزيل، حيث رأينا أن المفسّر يتحدث عن القرآن في مقابل حقيقة الكتاب، أو الكتاب المبين، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [27]، وحقيقة الكتاب هي بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة، وهذا هو المصحح لأن يُطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ [28]. إن ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن المفسّر يرى أصل الكتاب في اللوح المحفوظ، والكتاب الذي أنزل على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، تمَّ إلباسه لباس العربية ليكون مقروءاً وميسراً بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للهداية، هو الكتاب الذي فصّل بعد أن كان محكماً غير مفصَّل، كما قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾، حيث صدّر الكلام بإنزال، لأن المقصود، كما يرى الطباطبائي، بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل وخواصه، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة وأخرى متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها. فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدد وتكثر، فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل [29]. وعليه، فإن ما يراه المفسّر في أم الكتاب في دائرة التنزيل غير ما يراه له في اللوح المحفوظ، أو في أُم الكتاب حيث أحكمت آياته قبل أن يطرأ عليه التبعّض والتكثر. فكون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة، كما يرى المفسّر، ناهيك عن إفراد كلمة الأم من غير جمع، فذلك إنما يؤكد عمق رؤية المفسّر لجهة أن الأم ـ بما هي أصل ـ واحدة، سواء في دائرة الإنزال، أم في دائرة التنزيل، وهذا الأصل هو المرجع، الذي في ضوئه يكون المتشابه محكماً ومقروّاً ومفهوماً بعد أن لم يكن مفهوماً، لأن الغاية من تنزل الكتاب أن يكون له أصل ثابت واحد مؤتلف يرجع إليه، سواء أكان متشابهاً في ظاهر لفظه، أو في إبهامه، على اعتبار أن التشابه قد يكون في سمو المعنى وعلو المستوى، فليس دائماً الحديث عن المتشابه من حيث كونه غريباً أو متردداً بين معنى وآخر [30].

لذا، فإن ما يريد بيانه المفسّر هو إخراج المتشابه عن كونه سرّاً يستدعي من الإنسان الإيمان به دون العمل، كما زعمت جماعة أن كون الآيات محكمة وأم الكتاب، وكونها أصلاً في الكتاب، وعليها تبتني قواعد الدين وأركانها، فيؤمن بها ويعمل بها، وليس الدين إلاّ مجموعاً من الاعتقاد والعمل، وأما الآيات المتشابهة، فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولوها لا يعمل بها، بل إنما يؤمن بها إيماناً... [31]، وهذا ما يرى فيه الطباطبائي خروجاً عن الأصل، عن أم الكتاب، لأن مقتضى إرجاع المتشابه إلى المحكم بيان المراد للاعتقاد والعمل بكل ما فصّله الكتاب، وهذا ما بيّنه الشريف الرضي في جوابه على سؤال كيف جعل الواحد صفة للجمع، ولماذا جاء قوله تعالى ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ﴿ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾، ولم يقل أمهات الكتاب، فقال: «فالأم هنا بمعنى الأصل الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، لأن المحكم أصل للمتشابه يقدح به فيظهر مكنونه، ويستثير دفينه، وعلى ذلك سميت والدة الإنسان أمّاً، لأنها أصله الذي منه طلع وعنه تفرّع...» [32].

فالقول بأن المتشابه هو للإيمان دون العمل منافٍ تماماً لمنطوق النص ومفهومه، حيث تجد أن الذم إنما يكون لاتباع المتشابه بمعزل عن إرجاعه للمحكم بغرض ابتغاء الفتنة والإضلال، وتأويل القرآن وفاقاً للهوى، فإذا لم يكن الإتباع والتأويل ابتغاءً للفتنة، وكان الرجوع إلى المحكم، فإن الإتباع حينئذ يكون بالإيمان والعمل، ومن هنا يظهر، كما يرى المفسر، أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملاً واعتقاداً، ويبقى الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الإتباع إتباعاً للمحكم ولا ذمّ فيه [33].

إن مقتضى وجود الأصل الذي هو مرتكز الكتاب للعلم والعمل، أن يكون الأصل الذي هو أُم الكتاب حاكماً على حركة الإنسان، فلا يقال بأن المتشابه بحاجة إلى التأويل، وهذا التأويل يتعذر الوصول إلى فهمه، كما هو مذهب الكثير من المفسرين قديماً وحديثاً. وبما أنه يتعذر فهمه، فنؤمن به دون العمل به [34]. وهذا إذا ما وقع، فإنه يؤدي إلى أن يكون الأصل، الذي هو أم الكتاب، غير معمول به وغير مرجوع إليه، بحيث تكون النتيجة خلافاً لما أمر الله به تعالى، هذا فضلاً عما يؤدي إليه ذلك من تأويل للكتاب وفاقاً للرأي، وكما بين مغنية، أنه ليس من شرط المتشابه أن لا ترجى معرفته، وإلاّ لما كان الله تعالى قد أمر بإرجاعه إلى المحكم ليكون موضوعاً للإيمان والعمل معاً بخلاف من يطلب المتشابه لمرض في قلبه وفساد في قصده [35].

إن المفسّر في منهجه يؤصّل لحقيقة المحكم والمتشابه في القرآن، فكان هذا العلم مثله مثل سائر علوم القرآن دافعاً للطباطبائي لإعادة النظر في منهج التفسير على النحو الذي استطعنا أن نكشف عنه بالمستطاع من القدرة والفهم، إلاّ أن الثابت لدى أكثر المفسرين والباحثين هو أن المفسّر أخرج المتشابه من دائرة التأويل التي كان معمولاً بها ومركوناً إليها باكتشافه لحقيقة التأويل من حيث هو تأويل لكل الكتاب، وليس للمتشابه وحسب، وهذه المنهجية الجديدة مرتكزة إلى ما يراه المفسّر من أصل له معناه، سواء في عالم الإنزال، أم في عالم التنزيل، هذا فضلاً عما سنبينه لاحقاً من معنى لهذا الأصل فيما خصّه به المفسّر من تمايز في المحكم والمتشابه في الآيات، ليزيل الالتباس عن حقيقة هذا العلم من حيث هو علم محكم وهادف إلى الهداية.

لقد أثبت المفسر أن إنزال الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾، إنما كان بقصد بيان بعض أوصاف الكتاب النازل بخواصه، كما عبر المفسّر، وهو أنه مشتمل على آيات محكمة وأخر متشابهة ترجع إلى المحكمات وتبين بها، فإذا كان للانزال هذا القصد، وهو حق لا لبس فيه، فكيف يفرد المتشابه عن المحكم لتأويله، أو لتعليق العمل به؟ وهل هذا معناه غير أن يكون القرآن بعيداً عن أصله، وغريباً عن مراده؟ والحق يقال: إن هذا الكتاب مثلما أنه خصّ بأم الكتاب في عالم ما قبل التفصيل وحيث الإحكام، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾، فهو كذلك خص في عالم التنزيل والتفصيل والتفريق والتنجيم بأم الكتاب أيضاً ليكون محكماً وهادياً ومبشراً ونذيراً. وإذا كان لا بد من القول بالتأويل، فإن تأويل الكتاب هو تفصيل الكتاب كما بين الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ... ﴾، وقوله الله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [36]، حيث رأى المفسّر بأن أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب [37]، فهو لا يختص بالآيات المتشابهة، بل لجميع القرآن تأويل، فللآية المحكمة تأويل، كما للآية المتشابهة تأويل... [38].

وهكذا، فإن معنى الرجوع إلى المحكمات من حيث هي أصل وأم الكتاب ليس مؤداه، كما يرى المفسّر أن لا يكون هناك متشابه في القرآن بحجة أنه كتاب هداية عامة، وبيان للناس وتبيان لكل شيء، وإنما مؤداه أن كل ما يحتاج إليه العباد من معارف وأحكام وبيان يكون محكماً لديهم وإلاّ انتفى أن يكون المحكم محكماً، وقد فُرض مُحكم، وهذا خُلف، باعتبار أن الأصل هو الذي تحدث منه التفريعات، وليس العكس. وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل على أن أصل الكتاب ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ هو تأويل تفصيل الكتاب بما هو محكم ومتشابه، وقد أكد الطباطبائي هذا المعنى فيما عبر عنه في تفسيره، فقال: «إن معنى الأمومة الذي دلّ عليه قوله تعالى: ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسّرت به الأم، فإن في هذه اللفظة أعني الأم عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعّض، فلا تخلو اللفظة من الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرّع على المحكمات، ولازمه كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات» [39].

ولا شك في أن ما يذهب إليه المفسّر، هو في غاية المعنى والدقة، لكونه يرى بالتفرّع عن الأصل إحكاماً لكل ما هو متشابه، وبذلك تتحقق الغاية، فيكون الدين إيماناً وعملاً، دون أن يعني ذلك انتفاءً كلياً لما هو بحاجة لرجوع، سواء إلى عقل، أو لغة، أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية [40]، وهذا ما أكده السيد الخوئي بقوله: «إن لفظ المتشابه واضح المعنى، ولا إجمال فيه، ولا تشابه، ومعناه أن يكون للفظ وجهان من المعاني، أو أكثر، وجميع هذه المعاني في درجة واحدة بالنسبة إلى ذلك اللفظ، فإذا أطلق اللفظ احتمل في كل واحد من هذه المعاني أن يكون هو المراد، ولذلك فيجب التوقف في الحكم إلى أن تدل قرينة على التعيين، وعلى ذلك فلا يكون اللفظ الظاهر من المتشابه» [41].

إن الغاية، من مبحث المحكمات عند الطباطبائي، كما نلاحظ، هي القول بأن أصل الكتاب بما هو محكم ويرجع إليه في المتشابه من شأنه أن يُبقي على ظواهر الألفاظ بحيث تكون هي المدخل لفهم الشريعة، خلافاً لما إذا اعتمدنا التأويل في المتشابه، فإنه قد يُخرج، فيما لو جعل، الكثير من المعاني من دائرة الألفاظ المألوفة، والتي جعلت أساساً في فهم الشريعة وسبيلاً إليها، ولهذا، قال الطباطبائي: إن للمتشابه مفسّر وليس إلاّ المحكم [42]، باعتباره الأصل، ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ وهذه اللفظة تؤكد، كما يرى الطباطبائي، على مرجعية هذا الأصل في فهم المتشابه، الذي هو متشابه في مراده، لا لكونه ذا تأويل [43]، وهذا هو الشيء الذي خلص إليه منهج الطباطبائي في مبحث المحكم والمتشابه، حيث نرى أن المفسر قد استند إلى القرآن في توهين الكثير من الآراء في هذا العلم، وكشف عن حقائق جديدة لم تكن مألوفة في العلوم والمعارف القرآنية، ولعل الفضل في ذلك كله يعود إلى المنهج الذي اختاره المفسّر في تفسيره القرآن بالقرآن، ليؤكد على أن هذا الكتاب يفسّر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على بعض، وهو كونه كذلك، فلا بد أن يكون نوراً وهادياً وتبياناً لكل شيء، وخاصة في مجال المعارف والعلوم والأحكام الإلهية، التي تبنى عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فلا يعقل أن يكون فيه آيات متشابهات لا يتحصّل العلم بها، وقد بين الكتاب أن الأصل فيه هو الإحكام والبيان، وأن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه على النحو الذي يؤدي إلى تحقيق الغاية مما أنزل لأجله الكتاب، بحيث تتحقق أوصافه، وتتبين مراميه وخواصه، لأن المقصود من الإنزال، كما بين المفسّر، أن يكون الأصل في التنزيل مقروءً مبيناً، ومفصلاً تفصيلاً، تحقيقاً للغاية المرجوة، وقد لا يكون من الخطأ القول: إن السر كامن في أن أم الكتاب في اللوح المحفوظ، تيسّر بلسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون بشيراً ونذيراً، وقد خص الكتاب بأم الكتاب ليكون سراً في الأرض كما هو سر في السماء، حيث هو لديه في أم الكتاب لعليّ حكيم.

 

ثالثاً: المحكم والمتشابه عند الطباطبائي

 

لقد عرض الطباطبائي في تفسيره الميزان لوجوه. الرأي في المحكم والمتشابه، وقد بلغت عنده أكثر من أربعة عشرة وجهاً، في حين بلغت عند غيره أكثر من عشرين وجهاً على ما يذكر صاحب تفسير الأمثل، «الشيرازي» [44]. وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل على مدى استيعاب صاحب تفسير الميزان لوجوه الرأي، وحقيقة الاختلاف في علم المحكم والمتشابه وغيره من علوم القرآن ما حتم عليه أن يعيد النظر فيما انتهى إليه القوم، ويقوم وفاقاً لمنهجه في التفسير باستخلاص الرأي، والتعريف بحقيقة المشكلة التي تسببت بهذا الكم الهائل من التفسيرات لحقيقة المحكم والمتشابه، هذا فضلاً عما اختلفوا فيه لجهة تفسير أو تأويل المتشابه والغاية منه، ذلك هو الموقف الذي سنحاول استخلاصه مما عرض له الطباطبائي في تفسيره، لنرى ما إذا كان قد خلص إلى نتيجة منشودة في هذا المجال، وما إذا كان المفسّر قد أضاف رؤية ومذهباً جديداً إلى مَن سبقه من المفسرين؟ ولكن الإنصاف يقضي القول بأن المفسّر حقق نتائج باهرة في بحوثه، إذ إنه استطاع كما بينا في مقدمة هذا البحث الفصل بين المحكم والمتشابه وبين التأويل، والذي كان الخلط بينهما سبباً في شدة الإختلاف واشتداد الانحراف، وقد انسحب هذا النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة والتابعين، وكما يرى الطباطبائي، أن السبب العمدة في ذلك كان عدم التمييز في البحوث بين المحكم والمتشابه والتأويل [45]. فكان على المفسّر كما ينسب لنفسه أن يُحدث هذا الإنفصال ليخرج المتشابه من دائرة التأويل ويضعه في ما خصّه القرآن به من عودة إلى المحكم، الذي هو أصل الكتاب، وأم الكتاب، فيرتفع التشابه، وهو إنما يرتفع بتفسير المحكم له، وأما كون المنسوخات من المتشابهات، فهو كذلك، ووجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم وبقائه، ويفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع... [46].

وقبل أن نعرض لوجوه الرأي التي توقف عندها الطباطبائي فيما يخص هذا المبحث، لا بد أن نتوقف قليلاً عندما تواتر الحديث عنه من أسئلة حول المتشابه والحكمة من وجوده في القرآن، وذلك بعد أن ألمحنا إلى وجوه من الرأي، بأن هناك من قال: إن القرآن كله متشابه، أو أنه لا متشابه في القرآن [47]، إلى غير ذلك مما اختلف فيه قديماً وحديثاً. وكان السؤال الأبرز في سياق المحاججة أنه إذا كان المطلوب هو الهداية وعموم الهداية، فلما هذا المتشابه، وقد أجاب الطباطبائي على كثير من هذه الأسئلة بما هو معهود منه من الحكمة والتدبر في القرآن، فقال: إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس، بل تعم جميع الطوائف والطبقات، وهذا ظاهر في الكتاب، وإذا كان ثمة اختلاف في الأفهام وعموم أمر الهداية، فذلك مما يمكن التعرف إليه من مساق الأمثال في القرآن بما ضربه الله تعالى من الآيات عن طريق الإشارة والكناية والتشبيه، حيث قال تعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [48]. وبالجملة، كما يرى الطباطبائي أن المتحصل من الآية القرآنية، أن المعارف الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب، من دون تقييد بكمية ولا كيفية، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدّر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق [49]، وهكذا هو النور والعلم والحق وكل شيء أنزله الله تعالى. فالناس ينقسمون فيه، ويصدّرون عنه بحسب ما يكون لديهم من استعدادت لتلقي هذه الفيوضات والمعارف، إذ لا بخل في ساحته، ولا نقص في خزائنه، وكما يقول الطباطبائي: «ومصالح الأحكام هي روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة، وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي، وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهوراً ثم يسرع في الزوال، وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكماً أخر، هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي [50].

فالمحكم والمتشابه عند الطباطبائي فيما خُصَّا به من بيانات لفظية ينزلان إلى سطح الأفهام، فمنهم من لا يدرك إلاّ الحسيات، ومنهم من يدرك فوق ذلك، لأن المعارف من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة، فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدّر بأقدارها، وهي تمر بالأذهان المختلفة، وكل يكون له بحسب ما يتسع له من اللفظ والمعنى، فيما يكون منه من استعداد وتلقي. ومن هنا يظهر، كما يقول الطباطبائي، أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف دون متن الأحكام والقوانين الدينية [51]. ولا شك في أن لهذا الكلام مجازه وحقيقته، ولكنه قابل للتحقق فيما لو علمنا أن الله تعالى أراد للإنسان الهداية بحسب ما يكون له من قدرة على تلقي المعارف المرادة، سواء في دائرة المحسوس أم في دائرة القلب والعقل، وغير ذلك مما يتمايز فيه البشر ويتفاضلون فيه، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾، ثم يخلص الطباطبائي إلى القول: «فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة، وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالإحكام الواقع في آية أخرى، وبذلك يندفع الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة بغرض هداية الإنسان» [52].

هذا بخصوص ما قد يرد من سؤال بشأن الهداية والمراد من التشابه في القرآن. أما عن وجوه الرأي فيما خلص إليه أهل التفسير، والتي تجاوزت العشرة آراء، فإن الطباطبائي يلخص هذه الوجوه على النحو الذي يؤدي إلى المقصود من عرضها وبيان مقاصدها فيما رأته من قوله وحق في المحكم والمتشابه. وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الطباطبائي، وقبل أن يعرض لوجوه الرأي، وبهدف بيان موقفه ونتائج بحوثه، يؤسس لعرضه بما عنون به منهج تفسيره بأن القرآن ليس فيه اختلاف، وهو يفسّر بعضه بعضاً، يقول: «إن كل من يتدبّر في آيات الله من أوله إلى آخره، لا يشك في أن ليس بين هذه الآيات آية إلا وفيها دلالة على المدلول، إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، وهذه المعاني الملتبسة لا تخلو من حق المراد بالضرورة وإلاّ بطلت الدلالة، وهذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبياً عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع وتوحيده، وبعثة الأنبياء وتشريع الأحكام والمعاد ونحو ذلك، بل هو موافق لها، وهي تستلزمه وتنتجه وتعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة. فالقرآن بعضه يبين بعضاً، وبعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر...» [53].

ثم إن الطباطبائي فيما يؤسس له في معنى المحكم والمتشابه في القرآن، هو ينطلق في تأسيساته في ضوء حكمه على مناهج المفسرين الذين لم يهتدوا إلى المنهجية السليمة، التي تؤهلهم للكشف عن حقائق هذا العلم، وقد استفاد الطباطبائي مما عرضوا له، لكن لا على نحو التقليد والرواية، وإنما على نحو الدراية، باعتبار أنه وجد الخلل في مناهج المفسرين فأثر ذلك إيجاباً على رؤيته، ما جعله قادراً على تجاوز مناهجهم ليكون له منهجه الخاص في تفسير القرآن. ومن هنا جاء تأثير علوم القرآن كافة على منهجه، فكان منهجاً قرآنياً متميزاً أخذ بعلوم القرآن إلى القرآن بمنهج القرآن، ولم يأخذ بالقرآن إلى ما أسّسوا له في علومهم ولم يسلم من اجتهادات الرأي، وروايات حكم على كثير منها المفسّر بالتضارب والسقوط وفقاً للقرآن فيما ركز عليه من سياق ودلالة وتفسير وتأويل.

لقد أحكم المفسّر منهجه في علم المتشابه والمحكم من خارج علم التأويل، كاشفاً عن أن هذا العلم هو لكل القرآن، أما فيما يخص المحكم والمتشابه، فإن دليله هو قول الله تعالى: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾، وهو في مناقشته وتوهينه لوجوه الرأي في المحكم والمتشابه، القديمة والحديثة، أحكم منهجه في كون المراد بالمحكمات هي المتضمنة للأصول، من حيث هي الأصل والمرجع، المسلّمة من القرآن، وبالمتشابهات الآيات التي تتعيّن وتتضح معانيها بتلك الأصول [54]، وهذا ما حتم بل أوجب أن يكون الكلام في المحكم والمتشابه بعيداً عن التأويل الذي أُحكم المتشابه به لقرون من الزمن، ولا تكاد تجد تفسيراً أو منهجاً قديماً أو حديثاً، إلاّ وخلط بين المتشابه والتأويل غير ملتفت، سواء عن قصد أم عن غير قصد، إلى ما يعنيه الأصل الثابت الذي ينبغي أن يرجع إليه المتشابه.

فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول مُتعرّقة، وفروع متفرقة، سواء فيه المعارف القرآنية وغيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟

قلنا: وجهه أحد أمرين- الكلام للطباطبائي- فإن المعارف التي يُلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عاليه خارجة عن حكم الحس والمادة، والأفهام العادية ولا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي، وبين غيره كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معانٍ هي من أوصاف الأجسام وخواصها، وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة والجسم عن المورد، وهذا مما يطرد في جميع المعارف والبحوث غير المادية والغائبة عن الحواس... [55].

بالتأكيد ليست هذه هي التأسيسات الوحيدة التي ارتكز إليها الطباطبائي في مناقشة آراء المفسرين في المحكم والمتشابه، بل هناك الكثير، ولكننا اخترنا هذا التأسيس باعتباره الأصل والمرتكز في تفنيد آرائهم، وهو الأصل الذي دعا الله تعالى إلى الإحتكام إليه في فهم المتشابه ولهذا، نجد المفسر يطالعنا في بحث المحكم والمتشابه بالآيات القرآنية دون غيرها، وقد ابتدأ كلامه بأن الإحكام والتشابه من الألفاظ المبيّنة المفاهيم في اللغة، وقد وصف بهما الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾، لكن قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾، لما اشتمل على تقسيم آيات الكتاب إلى محكم ومتشابه، علمنا أن المراد بالإحكام والتشابه غير ما يتصف به تمام الكتاب، فكان من الحري البحث في معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات، بعد أن جاءت أقوال ربما تجاوزت العشرة، وهي الآتية:

أولاً: أن المتشابه هو الحروف المقطعة.

ثانياً: أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور والمتشابهات غيرها.

ثالثاً: أن المتشابه هو ما يسمى مجملاً والمحكم هو المبين.

رابعاً: أن المتشابه هو الآيات المنسوخة، والمحكمات هي الآيات الناسخة.

خامساً: أن المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل وتدبّر [56].

سادساً: أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي، أو خفي، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة ونحوه [57].

سابعاً: أن المحكم هو آيات الأحكام، والمتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضاً.

ثامناً: أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل التأويل إلاّ وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل التأويل أوجهاً كثيرة [58].

تاسعاً: أن المحكم ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة.

عاشراً: أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان والمحكم خلافه.

الحادي عشر: أن المحكم ما يؤمن به ويعمل به والمتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به.

الثاني عشر: أن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله تعالى: كالعليم والحكيم، والخبير، وصفات أنبيائه.

الثالث عشر: أن المحكم ما للعقل إليه سبيل والمتشابه بخلافه.

الرابع عشر: أن المحكم ما أريد به ظاهره والمتشابه ما أُريد به خلاف ظاهره [59].

الخامس عشر: أن المحكم ما أجمع على تأويله والمتشابه ما اختلف فيه [60].

السادس عشر: أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره، سواء أكان الإشكال من جهة اللفظ أم من جهة المعنى [61].

هذه هي جملة الآراء التي عرض لها المفسّر في سياق مناقشة المحكم والمتشابه، وقد لا يكون من الضروري والمناسب أن نعرض لجملة المناقشات التي عرض لها المفسّر، وإنما قد يكون من الضروري أن نتعرَّف إلى خلاصة الرأي، ومن ثم معرفة ما إذا كان المفسّر قد أضاف جديداً، سواءً في الرأي، أم في إصابة الحق فيما ادعى أنه الحق الحقيق في منهجه، طالما هو قد أبعد التأويل عن المتشابه ورده إلى الأصول المسلّمة، وهذا ما ينبغي أن يكون موضع اهتمام الباحثين في علوم القرآن، لكونه رأياً جديداً لم يسبق لأحد المفسرين أن عرض له على هذا النحو من خلال التأسيس للمتشابه والمحكم معاً، على اعتبار أن الكتاب كله هو مخصوص بالتأويل، فيكون المحكم مساوياً للمتشابه في هذا الأمر، بعد أن كان المحكم عند المفسرين غير ملحوظ فيما ادّعوا له تأويلاً [62]، أو اغتربوا في تفسيره تأصيلاً، فكان للطباطبائي موقفه المتميز فيما عرض له في منهجه القرآني، حيث رأى أن الآيات ذاتها تنقسم إلى محكم ومتشابه، وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها. هذا فضلاً عما رآه المفسّر من تأويل للمحكم والمتشابه معاً في سياق أم الكتاب، أو ما سماه المفسّر بالأصول المسلّمة. ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا بأن المفسّر قد أجاد وأفاد فيما عرض له لجهة وجود المتشابه في القرآن والأسباب الموجبة له، وهذا ما تفيده حقيقة المقابلة بين المحكم والمتشابه، والتي تدلل على أن حقيقة الرجوع للمتشابه إنما هي رجوع بيان ليس إلاّ. على اعتبار أن الإحكام والتشابه هما وصفان يقبلان الإضافة والإختلاف بالجهات، بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة، ومتشابهة من جهة أخرى، على أنه من الضروري الإشارة إلى أن أحداً من المفسرين لم يلتفت إلى هذا الوجه عند الطباطبائي، وقد يكون المانع من ذلك هو ملاحظة المتشابه فيما اعتبروه تأويلاً، فأخرجوا المحكم لكونه لا يحتاج إلى تأويل، فآل الأمر إلى أن يكون المحكم في جانب والمتشابه في جانب آخر فاستحال الرجوع، واتسع الخرق وعجز الراتق!!

وانطلاقاً مما تقدم، فإنه يمكن أن نشير إلى شيء من التطبيق الذي عرض له الطباطبائي في سياق رد المتشابه إلى المحكم على النحو الذي يفيد النفي والإثبات معاً، وهذا ما عرف عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، الذين ارتكز الطباطبائي إلى نصوصهم فيما رد به على وجوه الآراء، ومن جملة هذه النصوص ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾، إن الله تعالى وصف بذلك نفسه، وكذلك هو مستولٍ على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملاً له، ولا أن يكون حاوياً له، فهو حامل العرش، ونقول من ذلك ما قال الله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾. يقول الطباطبائي: «قوله (عليه السلام) ثبّتنا من العرش والكرسي ما ثبته، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآيات المتشابهة في القرآن مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وآياته الخارجة عن الحسّ بإرجاعها إلى المحكمات، ونفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى، وإثبات ما ثبت بالآية، وهو أصل المعنى المجرّد عن شائبة النقص والإمكان التي نفاها المحكمات..» [63]. ولا شك في أن المفسّر بهذا المثال قد أوضح معنى أن يكون المتشابه راجعاً إلى المحكم في النفي والإثبات معاً، خلافاً لمن ذهب بالمتشابه إلى حد التأويل أو إلى حد التعطيل أو التجسيم، أو التشبيه إلى غير ذلك مما استكانت له الفرق الإسلامية في تاريخها. إن هذه الفرق، على اختلافها في المنبت والمذهب والتأويل، كانت تذهب في التأويل، أو في التفسير على رأي من يذهب إلى التمييز بينهما، إما إلى الإثبات، وإما إلى النفي. أما الطباطبائي فيما اقتبسه عن أهل البيت (عليهم السلام) فهو ينفي ويثبت بمقتضى رد المتشابه إلى المحكم، فإذا كان المتشابه يقول بالاستواء على العرش، فإن المحكم ينفي الاستواء بالمعنى المادي، كما في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [64]، وقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [65]، هذه الآيات تنفي الجسمية وخواصها عنه تعالى. ومما تجدر ملاحظته هنا، هو أن الطباطبائي أخذ على الصحابة والتابعين ما كانوا يرجعون إليه، سواء في النفي، أم في الإثبات، فهو يرى أنهم في غير الأحكام والمعارف من الدين مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وغيرها، إنهم ينفون عنه تعالى لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه ويسكتون عن المعنى الإثباتي الذي يبقي بعد النفي [66]... ولكن هذا مدفوع بأن طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المأثورة عنهم هي الإثبات والنفي معاً، والإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإثبات والدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث، فلتراجع في مظانها [67].

فالمفسّر لم يتجاوز هذه الطريقة، بل استفاد منها إلى حد أن بحوثه الروائية في الميزان، تنطوي على كثير من الاستدلالات التي هي بأهمية تفسير الميزان، بل هي ميزان آخر في التفسير، وتحتاج إلى منهجية جديدة للخروج بنتائج هائلة تنطوي عليها هذه البحوث الروائية، وخاصة في مجال الاستفادة من الروايات التي استدل بها المفسر على المحكم والمتشابه في القرآن، ونكاد نقول على سائر علوم القرآن، لكون المفسّر في تظهير منهجيته الجديدة اعتمد على البحوث الروائية، حيث نجد إصراراه على غرر الأحاديث التي تثبت أن التفسير هو غير التأويل الذي يذهب إليه الكثير من المفسرين، إلى غير ذلك من المسائل التي اعتمدها المفسّر لتسويغ اطروحة أن القرآن والقرآن وحده هو محور حركة الوجود، ولا يسع الإنسان إلاّ أن يستفيد من منهجه للكشف عن أبكار الحقائق التي لا تزال مغمورة في عالمي التكوين والتشريع معاً. لذلك، نرى أن المفسر فيما يتعلق بالمحكم والمتشابه يعود قروناً إلى الوراء لإثبات حقيقة أن الصحابة والتابعين لم يفلحوا في الاستفادة المطلوبة من القرآن، بل اخفقوا لأنهم لم يرجعوا إلى القرآن والناطقين به حقيقة ليعرفوا أن ما نفوه كان يفترض فيهم أن يثبتوه ليصح القول منهم أنهم يرجعون بالمتشابه إلى المحكم، وهم حينما أخفقوا في هذا الأمر سرى ذلك بهم إلى سائر علوم القرآن، وخاصة إلى الناسخ والمنسوخ، على اعتبار أن الآيات هي متقابلة بين محكم ومتشابه وليست متقابلة بين ناسخ ومنسوخ، أو مكي ومدني، أو غير ذلك مما لا بد منه لفهم القرآن الكريم.

إن المفسّر يأخذ على أصحاب المذاهب سكوتهم عن الإثبات بعد النفي بسبب اختلال الرؤية والموقف فضلاً عن المنهج في معنى المحكم والمتشابه، فالمفسّر يرى أن الذي دعاهم إلى هذا الأمر، هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرّم الله ابتغاءه في قوله تعالى: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾. بناء على الوقف ﴿ إِلَّا اللَّهُ ﴾، بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه على قاعدة أن مَن فسّر فقد أوّل، ومن لم يفسّر لم يؤول، لأن التأويل هو التفسير، يقول الطباطبائي: «لقد تقدم الكلام في المحكم والمتشابه بيان أن التأويل الذي يذمه تعالى غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ وأن رد المتشابه إلى المحكم وبيانه به ليس من التأويل في شيء وكذا أن التأويل غير التفسير... [68].

يبقى أن نقول: إن المفسّر فيما ذهب إليه في بيان معنى المحكم والمتشابه مؤسسٌ على الكتاب والسنة القطعية وإلا كان الأمر تفسيراً بالرأي. وعليه، فإن معنى رد المتشابه إلى المحكم لا يكون فقط فيما نثبته من أسماء وصفات وأفعال، وإنما يكون أيضاً فيما ننفيه، لأن المحكم وظيفته أن تبقى للأسماء معانيها المجردة في حدود ما تبينه المحكمات. أما أن يكتفي البعض في رد المتشابه إلى المحكم من خلال سلوك طريق التأويل، وكذلك مما يمكن أن يؤدي إلى الخروج بالبحوث عن سياقاتها، وخصوصاً في فهم الكتاب العزيز والسنة النبوية، هذه السنة الكاشفة والمبنية هي التي مكّنت المفسّر من ولوج التفسير والتأويل معاً، ولو أن أهل الآراء سلكوا هذا السبيل، سبيل النفي والإثبات لبلغوا المرام، ولكنهم اكتفوا بالإثبات، فقالوا بالعلم أنه عدم الجهل، فعطلوا الذات والأسماء والصفات عن معانيها، ومن خرج منهم إلى التأويل فسرّها بمعان مخالفة للظواهر من كل ما احتمله عقل أو نقل، ما أدى إلى أن يكون المتشابه أكثر تشابهاً، والمحكم غير مؤوّل ولا مفسّر، فكانوا حيارى في زلزال من الأمر وفي بلاء من الشك، كما هو حال أكثر الفرق الإسلامية، وقد عرض الطباطبائي لبعضها في تفسير الميزان، أمثال الطائفة المفوّضة، أو الطائفة المسماة بالمؤولة، وكما يقول المفسّر: ولقد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوّغ له ولا دليل يدل عليه. إن الكتاب لم ينزل ألغازاً وتعمية، ثم الحديث فيه محكم ومتشابه كالقرآن وإبقاء المتشابه في القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث، هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث، وقد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه [69]...!؟

وختاماً يمكن القول: إن الطباطبائي قدم جديده في المحكم والمتشابه، وقد أثبت أن القرآن يُغني عن كثير من الوسائل والطرق التي اتبعها القوم، ولو أن أهل التفسير سلكوا طريق القرآن وأرجعوا المتشابه إلى المحكم، لاكتشفوا الكثير من الحقائق [70]، ولكنهم أوّلوا الآيات والأحاديث واعتمدوا الرأي فضل الكثير منهم عن سواء السبيل، وعظم الخطب، واستبد الشك وكان ما كان مما لا طائل من ذكره، ولا تعويل على معرفته...


[1] سورة هود، الآية: 1.

[2] سورة الإسراء، الآية: 9.

[3] يقول الطباطبائي: «إن القوم اختلفوا في المقام، وشاع الخلاف، واشتد الانحراف... والسبب العمدة في ذلك هو الخلط بين البحث عن المحكم والمتشابه وبين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلافاً واختلالاً عجيباً في عقد المسألة وكيفية البحث والنتيجة المأخوذة منه... انظر: الميزان، ج3، ص37.

[4] انظر: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، م.س، ج2، ص47.

[5] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص77.

[6] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص264.

[7] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص83.

[8] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج2، مادة «حكم»، ص952.

[9] م.ع، ج4، مادة: «شبه»، ص2190.

[10] الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، م.س، ص260.

[11] سمي القرآن «مثاني» لأنه تثنى فيه القصص والأخبار والمواعظ والأحكام، ويثنى أيضاً في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه.

[12] سورة آل عمران، الآية: 7.

[13] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص22 ـ 23.

[14] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج4، ص2190.

[15] الراغب الأصفهاني، المعجم، م.س، ص261.

[16] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص24.

[17] لقد عرض الراغب لضروب من المحكم والمتشابه، وهي: المتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إما من جهة غرابته نحو الأبِّ وَيَزفُّون، وإما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد والعين، والثاني: يرجعُ إلى جُملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب، ضرب لاختصار الكلام، نحو: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ﴾، وضرب لبسط الكلام، نحو: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، وضرب لنظم الكلام، نحو: ﴿ .... أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاً (1) قَيِّماً ﴾ تقديره، الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً... والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب، من جهة الكميّة كالعموم والخصوص نحو: ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾، والثاني من جهة الكيفيّة، كالوجوب والندب، والثالث من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ، والرابع من جهة المكان، نحو: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾، والخامس من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلاة... وهذه الجملة إذا تصورت عُلِم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم... را: المعجم، م.س، ص261.

[18] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ج4، ص2190.

[19] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج4، ص23.

[20] ابن منظور، لسان العرب، م.ع، ص.ن.

[21] سورة يس، الآية: 78 ـ 79.

[22] ابن منظور، لسان العرب، م.س، ص.ن.

[23] الزمخشري، أبي القاسم جار الله محمود بن عمر، الكشاف، م.س، ج1، ص332.

[24] شبر، عبد الله، تفسير القرآن الكريم، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2009م، ص85.

[25] يقول الشريف الرضي في الجواب على سؤاله: «إن المراد بذلك كون هذه الآيات باجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض في إنزالها، أُماً للكتاب، وليست كل واحدة أماً بانفراده، فلما كان الأمر على ما قلنا جاز وصف الواحد بالجمع، إذ كان في تعلق بعضه ببعض وأخذ بعضه برقاب بعض بمنزلة الواحد، ولأنه تعالى: لو قال أمهات الكتاب، لذهب ظن السامع إلى أن كل واحدة من الآيات أم للجميع، وليس المراد ذلك، بل المراد أن الآيات بأجمعها أماً للكتاب دون بعضها، لأن المراد بكونها أماً للكتاب أن بها يعلم ما هو المقصود بالكتاب من معالم الدين، وذلك لا يرجع إلى كل واحدة من الآيات، بل يرجع إلى جميعها. فالأم هنا بمعنى الأصل الذي يرجع إليه ويعتمد عليه...». را: حقائق التأويل، م.س، ص122.

[26] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص23.

[27] سورة الزخرف، الآية: 4.

[28] سورة البروج، الآية: 22.

[29] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص22.

[30] معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص452.

[31] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص50.

[32] الشريف الرضي، حقائق التأويل، م.س، ص122.

[33] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص26.

[34] م.ع، ص28.

[35] انظر: مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت ج2، ط3، 1981، ص13.

[36] سورة يونس، الآية: 39.

[37] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج2، ص18.

[38] م.ع، ج3، ص31.

[39] م.ع، ص50.

[40] يقول الطباطبائي: «إن اشتمال الآيات القرآنية على معانٍ مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلاّ من حرم نعمة التدبر، إلاّ أنها جميعاً مداليل لفظية مختلفة من حيث الإنفهام وذكاء السامع المتدبر وبلادته... را: الميزان، م.ع، ص55.

[41] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، م.س، ص272.

[42] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص73.

[43] م.ع، ص31.

[44] يذكر الشيرازي الإحتمالات في تفسير المتشابه في القرآن، فهي عند الطبرسي في مجمع البيان خمسة احتمالات، وعند الرازي في التفسير الكبير أربعة احتمالات، وفي تفسير المحيط عشرين قولاً تقريباً في تفسيرها، وعند الطباطبائي، كما سنرى، ستة عشر قولاً، ونرى الشيرازي يبسط القول إلى احتمال واحد، وهو ما تتشابه أجزاؤه، وينحل هذا التشابه بعرضه على المحكم. را: الشيرازي ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط1، 2007، ج2، ص199.

[45] الطباطبائي، الميزان. م.س، ج3، ص37.

[46] م.ع، ص79.

[47] انظر: معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، م.س، ص445 ـ 450.

[48] سورة الرعد، الآية: 17.

[49] الطباطبائي، م.ع، ج3، ص71.

[50] م.ع، ص72.

[51] م.ع، ص72.

[52] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص73. ورا: أيضاً مبحث المفسّر في إجابته عن السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه، ج3، ص65. يقول الطباطبائي في جوابه على سؤال عن سرّ اشتمال الكتاب على المتشابه، فهو يعرض لوجوه ثلاثة تستحق الذكر والإيراد. الوجه الأول، يرى أن سبب ذلك هو تمحيص القلوب في التصديق به، وهذا ما يذكره الزمخشري في تفسيره. والثاني: هو بعث العقل على البحث لكونه أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان. والثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة، فاشتمل الكتاب على ما يلائم الخاصة والعامة، وهذا ما يرى فيه الطباطبائي مخالفة لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فكيف نقوم بتقسيم الناس بين ما له محكم وما له متشابه. ويختم المفسّر كلامه بالقول: إن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناشئ عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل، أي المحكم والمتشابه معاً. را: الميزان، م.س، ج3، ص67. وقا: مع الزمخشري، الكشاف، م.س، ج1، ص333.

[53] م.ع، ص25.

[54] م.ع، ص35.

[55] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج3، ص25.

[56] يرى الطباطبائي في هذا الوجه، أنه إذا كان المراد من كون الدليل واضحاً لائحاً أو محتاجاً إلى التأمل والتدبر كونه مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة، أو بديهي وعدم كونه كذلك، كان لازمه كون آيات الأحكام والفرائض ونحوها من المتشابه لفقدان الدليل العقلي اللائح الواضح، وحينئذٍ يكون اتباعها مذموماً مع أنها واجبة الاتباع، وإن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب وعدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة لا على وتيرة واحدة، وكيف لا؟ وهو كتاب متشابه مثاني، ونور، ومبين، ولازمه كونه الجميع محكماً وارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب، وهو خلاف الغرض وخلاف النص، انظر: الميزان، ج3، ص40. وهو رد في غاية الأحكام على من ذهب إلى هذا التقسيم بين المحكم والمتشابه.

[57] نلاحظ أن هذا الرأي يخلط بين المتشابه وتأويل الآية، ويجيب عليه الطباطبائي: أن ما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، ولا الوقوف عليه مستحيل، وما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة وسائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابهاً، ج3، ص41.

[58] هذا الرأي نسب للشافعي، وكأن المحكم فيه ما لا ظهور له إلاّ في معنى واحد كالنص والظاهر القوي في ظهوره، والمتشابه بخلافه.

[59] هذا الرأي شائع عن المتأخرين، وعليه يبنى اصطلاحهم في التأويل: أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام، وكأنه المراد، بحسب المفسر طبعاً، من قال: إن المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.

[60] هذا الرأي يستلزم أن يكون جميع الكتاب متشابهاً. لأن المراد بالإجماع والإختلاف كون مدلول الآية يختلف فيه أو لا يختلف فيه من حيث كون الآية هي موضوع النظر والاختلاف.

[61] هذا الرأي منسوب إلى الراغب الأصفهاني وقد عرضنا له في مبحث اللغة والاصطلاح، وقد ناقشه الطباطبائي مستفيضاً فيه، مبيناً وجوه الرأي التي ذهب إليها الراغب. را: الميزان، م.س، ج3، ص77.

[62] قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن المفسّر هو أيضاً أعطى للمحكم والمتشابه تأويلاً متميزاً قد لا يوافقه عليه أحد من المفسرين، وهو ما زعمه أن للآيات الشريفة وراء ما نعقله ونقرأه من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد، وهو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم، وهو الذي تعتمد وتتكي عليه معارف القرآن المنزل ومضامينه، وليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة ولا المعاني المدلول به عليها، وهذا هو بعينه التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته. وكما بينا سابقاً أن المفسّر «معرفة» اعترض على هذا الرأي للطباطبائي ورأى فيه مسحة عرفانية بعيدة عن الاستدلال، وهي تكاد تكون أقرب إلى الاستحسان منها إلى الاستدلال.

[63] مقصود الطباطبائي في أصل المعنى المجرد، هو المعنى الذي يبقى ببقائه الإسم، وبعبارة أخرى مداره صدق الإسم وإن تغيّرت المصاديق واختلفت الخصوصيات، وتمثيلاً عن ذلك، يقول الطباطبائي: مثال ذلك السراج ظهر أول يوم وهو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل ومصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة دسمة ويشتعل رأسها فتشتعل بما تجذب من الدسومة وتضيء ما حولها، ثم انتقل هذا الإسم إلى الشموع والمصابيح النفطية، ولم يزل ينتقل من مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي، الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي ولا هيئته شيء أصلاً غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة وبذلك يسمّى سراجاً حقيقة. ونظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسماً لمثل الفأس من النحاس، وهو اليوم يطلق حقيقة على المدافع والقنابل، وقد سرى هذا النوع من التحول والتطور إلى كثير من وسائل الحياة والأعمال التي يعيشها الإنسان في حياته. را: الميزان، م.س، ج14، ص129.

[64] سورة الشورى، الآية: 11.

[65] سورة الصافات، الآية: 159.

[66] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج14، ص128.

[67] م.ع، ص130.

[68] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج14، ص130 ـ 131.

[69] م.ع، ج14، ص132.

[70] يشير الطباطبائي في بحوثه إلى خطأ كبير وقع فيه المفسرون، بل وأكثر الفرق الإسلامية، وهو أنهم احتاطوا في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه وصفاته تعالى، حيث اقتصروا على النفي في غير إثبات، في حين أنهم لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب والسنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش والكرسي والحجب والقلم واللوح وكتب الأعمال وأبواب السماء وغيرها، بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش والكرسي والقلم واللوح وغير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد وهو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة والإمكان، وهنا يسأل الطباطبائي: فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له السمع والبصر واليد والساق والرضا والأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة والإمكان، وبين الآيات التي تثبت له عرشاً وكرسياً ولوحاً وقلماً وهي توهم الحاجة والإمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى، وهو قوله تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، وبين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية، وهو قوله تعالى: ﴿ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ مثلاً؟ را: الميزان، م.س، ج14، ص130 ـ 131.


 



 

خلاصة واستنتاج

 

أجمع العلماء والمفسرون على أن القرآن هو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية، وأما ما سواه من سنّة، أو إجماع، أو عقل، فإليه ينتهي ومن منبعه يستقي، فهو الحجة القاطعة، والمعجزة الخالدة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا مما لا يختلف فيه إثنان من المسلمين [1]. وإذا كان للقرآن هذه الحجة القاطعة من حيث صدوره لتواتره عند المسلمين جيلاً بعد جيل، وإذا كان له هذا الإعجاز الخالد، فإن هذا لا يعني نفي المصادر الأخرى للفكر الصحيح والحجج الواضحة، كما يرى الطباطبائي [2]، حيث أن القرآن قد دعا إلى إعمال العقل لتحصيل المعرفة وتحقيق الإيمان، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ [3]. ولا شك في أن هذه القيمة للعلم في القرآن تركت أثرها في منهجية المفسّر، على اعتبار أن القرآن قد وضع الإنسان، وخاصة الإنسان المسلم أمام طرق للوصول إلى المفاهيم والمعارف الدينية، وهذه الطرق، كما يرى المفسّر، هي الظواهر الدينية والحجج العقلية [4]. وهكذا، فإن العقل هو حجّة تستند إلى القرآن الكريم، وتصدر عنه وتنتهي إليه، ومن غير الممكن أن تتعارض حجيّة العقل مع حجيّة الوحي، لأن العقل والوحي حجّتان لله تعالى، كما قال المعصوم (عليه السلام): «يا هشام: إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول» [5].

لقد اخترنا أن تكون خاتمة هذه الدراسة خلاصة لما تميز به منهج الطباطبائي من تقدير واعتبار للبراهين العقلية [6]، وهذا ما عبر عنه تلميذ الطباطبائي الشيخ الآملي بقوله: «ولما كان القرآن الكريم يقدّر البراهين العقلية ويحترمها، بل هو نفسه يُقيم الأدلة القاطعة لبيان المعارف الإلهية، وهو كذلك سند حجيّة العقل، فإنه لا يمكن تفسير أي آية من دون الاستعانة بالبراهين العقلية، وبهذا التحليل الموجز تتضح لنا رفعة التفسير الذي كتبه الأستاذ العلامة» [7]. إن من أسرار تميّز منهج المفسّر، هو اعتباره للعقل لكون القرآن حافلاً بإقامة الأدلة والبراهين لهداية الناس إلى سبيل الله تعالى: ﴿ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾، ومن الفطرة إلى البراهين، وقد عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن هذا المعنى بقوله: «فبعث فيهم رُسُله، وواتر إليهم انبياءهُ ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكرُوهُم منسيِّ نعمته... ويُثيروا لهم دفائن العقول...» [8].

فالطباطبائي، كما تبين لنا في بحوث علوم القرآن التي تقدم الكلام فيها، اعتمد القرآن حجةً بالذات وجعل منه سنداً لحجيَّة المعصومين (عليهم السلام)، حيث تجده يركّز في تفسيره على العقل وإلى جانبه الروايات القطعية الصدور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام)، ما أعطي لتفسيره هذا التميّز على النحو الذي ظهر فيه، وهذا ما لم يسبق لأحد من المفسرين أن سلك طريقه، كما بين المفسّر في مقدمة تفسيره [9].

كما يمكن الإشارة أيضاً إلى أن المفسّر ورغم إيمانه بحجيّة العقل، فهو لم يسلك منهجية التفسير العقلي الخالص، أو المنهج الفلسفي المجرّد، وإنما فسّر القرآن بالقرآن مستنداً إلى حجيّة العقل القطعي وبيانات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) الذين جعلهم الله تعالى مراجع لفهم معارف القرآن الكريم، هذا فضلاً عما يراه المفسّر من ضرورة عرض الروايات على القرآن لقبولها، أو رفضها عملاً بقوله المعصوم: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به» [10].

إن مرتكز ومستند الطباطبائي في تفسيره، هو أن القرآن فيه تبيان كل شيء، ويفسّر بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [11]. وإذا كان القرآن تبياناً لكل شيء، فلا بد أن يكون مبيناً لنفسه [12]، وهذا ما جعل المفسّر يخوض غمار التفسير وفاقاً للظواهر الدينية والحجج العقلية معاً للوصول إلى المفاهيم والمعارف الدينية دونما استغراق في البحوث الفلسفية، أو العقلية، أو الفقهية، مقتصراً في منهجه التفسيري على الإشارة إلى مواضع الخلاف الفقهي، وهو حيثما كان يرى ضرورة لبحث فلسفي، أو اجتماعي، أو روائي، كان يلجأ إلى إفراد بحوث خاصة لهذه الغاية منفصلة عن تفسير الآيات القرآنية، وذلك إنما كان منه بهدف معرفة معنى الآيات وما تنطوي عليه من مداليل وأحكام ومعارف دينية، لأن ملاحظته الأساسية على من سبقه إلى تفسير القرآن، هي ما احتشد في هذه التفاسير من بحوث في اللغة والتاريخ، وغير ذلك مما كان يخرج التفسير عن كونه تفسيراً ليجعل منه تاريخاً، أو بحثاً روائياً، أو لغوياً...

وانطلاقاً من ذلك، ترى أن الطباطبائي قد تميز في إعمال العقل والتفكير في تفسيره، إيماناً منه بأن القرآن قد حضّ أتباعه على ذلك، وهذا ما أشار إليه المفسّر، بقوله: «إن في القرآن ما يزيد على ثلاثمائة آية قرآنية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر، أو التعقل، أو التذكر، أو تلقن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة لإثبات حق، أو لإبطال باطل، كقوله تعالى: ﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ... ﴾ [13]، أو تحكي الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر الأنبياء...» [14]. كما بين الطباطبائي أيضاً، أن القرآن هو الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يعرّف للإنسان العلم والمعرفة بطريقة استدلالية، ويعتبر أن الحجة العقلية والاستدلال المنطقي من الأمور المسلّمة [15]. وهنا يمكن أن تطرح ملابسة قديمة عرضت لها البحوث الفلسفية والكلامية في تاريخ المسلمين، وهي تتعلق بالإيمان والاستدلال، وبما إذا كان على الإنسان أن يؤمن قبل أن يستدل، أو أن يستدل قبل أن يؤمن، وهذه منهجية اختلف فيها الفلاسفة والمتكلمون قديماً وحديثاً، حيث رأى الفلاسفة ضرورة أن يستدل الإنسان على معارفه ليكون إيمانه برهانياً. أما المتكلمون، فقد عرّفوا منهجية علم الكلام بأنها الدفاع عن العقائد الإيمانية بالحجج العقلية [16]، في حين نرى الطباطبائي يسلك مسلك الفلاسفة فيما اعتمده من تفكير عقلي ومنطقي في تفسيره، دونما استغراق في هذه المنهجية على نحو ما بينا سابقاً، وإنما بالمقدار الذي يفي بالمضامين ودلالات الآيات وما تظهره من حجج وبيّنات. فالمفسّر يقول بضرورة تقبل المعارف الإسلامية ثم الانتقال إلى الاحتجاج العقلي، واستنتاج المعارف الإسلامية منها، وهذا ما كان موضوع مناقشة مع المفكر الفرنسي «هنري كوربان»، حيث قال الطباطبائي: «محّصوا في الاحتجاج العقلي واستنبطوا منه صحة المعارف، ومن ثم يكون القبول والرضا» [17].

فالمفسّر يرى أن الإدراك العقلي الذي يحيل إليه القرآن الكريم، ويبني على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شر أو خير، إنما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة، مما لا يتبدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان، ولا يختلف فيه إثنان، وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل على أن الإنسان مفطور على التفكر والتعقل، وقد جاءه الوحي لإثارة دفائنه، وتحقيق مصالحه، وهدايته إلى سبيل كمالاته، وكما يقول الطباطبائي: «لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل إلاّ تفاصيل ملاكاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر ﴾ [18]، إلى غير ذلك من الآيات [19].

إن ما يؤسّس له الطباطبائي في منهجيته العقلية واستدلالاته البرهانية إنما هو يؤسس له في ضوء حجيّة الكتاب والسنة والعقل، لأن أهل البيت (عليهم السلام) هم سباقون إلى هذا التفكير العقلي والمنطقي، وقد عرض المفسّر لما تواتر عن الإمام علي (عليه السلام) من خطب وأقوال رصينة تحتوي على كنوز من الأفكار الفلسفية. وهذا إنما كان قبل عصر الترجمات والتعرف إلى الفلسفة اليونانية في أوائل القرن الثاني للهجرة. إن ما نعرفه عن أهل البيت (عليهم السلام) وما أرشدوا إليه من حقائق يؤكد على صحة هذا المنهج، فهي لم تخلُ من التفكير العقلي والفلسفي الذي انتقل إلى تلاميذهم. وإذا كانت بعض الفرق الإسلامية، كالأشاعرة والمعتزلة وغيرهما من الفرق قد عرفت هذا النحو من التفكير، فذلك إنما كان بفضل الفلسفة اليونانية وتأثيراتها على المتكلمين الذين راموا تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتين الأشاعرة والمعتزلة [20]... أما الفقهاء الشيعة، فهم تمسكوا بأهل العصمة الذين أمروا أتباعهم وتلاميذهم بأعمال العقل والتفكير، وفي هذا السياق يعرض الطباطبائي لموقف يرى فيه أن الذين عرفوا الصحابة، واطلعوا على ما عندهم، فهم يعلمون جيداً أن من بين الآثار التي تنسب إلى الصحابة وهي بالآلاف لم نجد أثراً واحداً يشتمل على التفكير الفلسفي، بل ينفرد الإمام علي(عليه السلام) بخطابه وبيانه المبهر في معرفة الله تعالى بأنه يتصف بالتفكير الفلسفي العميق [21]، كما قال (عليه السلام): «إن الله تعالى سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله» [22]، إلى غير ذلك مما عرف عنه من خطب متواترة في التوحيد ومعرفة الله تعالى.

نعم، لقد حاول الطباطبائي إثبات هذا المنحى من التفكير العقلي من خلال القرآن والسنة وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، خلافاً لما زعمه البعض بأن هذه الأصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت (عليهم السلام)، أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة [23]، أو لما رآه بعض آخر بأن هذا السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين [24]...، وقد رد المفسّر على هذه المزاعم في تفسيره الميزان، مؤكداً على أن الإدراك العقلي الصحيح، هو منهج أهل البيت (عليهم السلام)، وقد نطق به لسان الوحي. وإذا كان البعض قد رأى خلاف ذلك، ونسب إلى المفسّر تغليب النزعة العقلية، أو العرفانية في تفسيره، فذلك مما لا يستقيم مع المنهجية التي اعتمدها المفسّر، لأنه لم يتجاوز في ما أسّس له، وفيما اعتمده من مقدمات برهانية، وتفكيرات عقلية القرآن والسنة، طالما أن جميع المفسرين يجمعون على أن آيات القرآن الكريم في الكثير منها تدعوا إلى اتباع هذا المنهج العقلي في التفكير، وتشكل دافعاً أصلياً لظهور هذا المنحى العقلي في تعقل الأصول والمعارف الدينية، تماماً كما هي ـ أي الآيات القرآنية ـ تقف وراء ظهور العلوم النقلية في الإسلام [25]. وإذا كان البعض من المتفلسفة قد زعم أنه لا حاجة في فهم وتعقل البيانات الدينية إلى تعلم المنطق والفلسفة، لكونه معروفاً لدى أهل اللسان، فذلك مما يمكن اعتباره مصادرة على المطلوب، لأنهم يتجاهلون حقيقة أن القرآن من ناحية الدلالة ليس قطعياً كله، وإنما هناك ما هو نص قطعي الدلالة، وهناك ما هو ظاهر وتتوقف حجيّته على القول بحجيّة الظواهر [26]... ثم إن فيه محكماً ومتشابهاً، وناسخاً ومنسوخاً... وكل ذلك لا يجعله قطعي الدلالة في كثير من آياته، ويمنع من القول بالوقوف على ما يتلقاه الفهم العادي من تلك الظواهر الدينية من غير أن يؤولها أو يتعداها إلى غيرها، وهذا ما يراه الحشوية والمشبهة وعدة من أصحاب الحديث [27].

فالمفسّر يرد على ما زعمه الكثيرون من رفض الكتاب والسنة للمنهج العقلي، ويدعو إلى ضرورة اتباع الطريق الذي وضعه القرآن للمسلمين، وهو طريق التفكير والاستدلال المنطقي بعيداً عن التقليد، وعما زعمه الجاهلون الذين آثروا التقليد على العقل والتفكير، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ... [28]. فالتصديق والإيمان يجب أن يحصل الإنسان عليه، بدليل أو حجة، لا أن يكون إيماناً مسبقاً، ثم إقامة الأدلة وفقاً له، «فالفكر الفلسفي طريق يدعمه القرآن ويصادق عليه» [29]، وهذا ما تدعو إليه الآيات القرآنية، فيما أرشدت إليه من دعوة إلى استعمال الطرق العقلية الصحيحة، منعاً للتقليد، وتعقلاً للإيمان، كما قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ ﴾ [30]، وقد أفاد الطباطبائي أن أولي الألباب هم ذوو العقول، وأن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق، وآيته صفة اتباع الحق [31]، كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [32]، يقول الطباطبائي: «أريد بالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله، والاهتداء العقلي إلى أنه حق، ومن الواجب أن يخضع الإنسان للحق، وإن مما تفيده الآية، هو وجوب تعقل الحق وإلاّ كان سبباً مباشراً لدخول جهنم... [33].

إذن، الطباطبائي، كما رأينا، لم يُغلّب النزعة العقلية في منهجه وتفسيره، ولكنه جعل منها أساساً ومرتكزاً لفهم الكثير من الآيات والروايات على اعتبار أن العقل والقلب والشرع كلها طرق أمر الحق باتباعها وفاقاً للأصول والقواعد الشرعية واللغوية والعلمية الحقة، وليس وفاقاً للرأي والإجتهاد فيه، وغير ذلك مما يمكن إدخاله في دائرة الهوى والاستحسان، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». أما إذا روعي التفسير العقلي فيما يحتاج إليه من أدوات لازمة له، بحيث تتوفر الشروط التي لا بد منها في عملية التفسير، وهي العلوم التي لا بد من الإحاطة بها كاللغة والتاريخ وعلوم القرآن والفقه والأصول والعقائد وعلوم أخرى تجاوزت عند المفسرين الخمسة عشر علماً، فهذا مما أمر الشارع به ودعا إليه من باب العقل والمنطق وأصول التفكير الصحيح، لأنه من المستحيل كما بين الطباطبائي أن يخالف الحكم الشرعي حكمي العقل والفطرة، أو يخالف حكم العقل حكمي الشرع والفطرة، أو يخالف حكم الفطرة حكمي العقل والشرع، فهذه أمور ثلاثة، هي كالسلسلة تدعم وتقوي بعضها بعضاً، فإذا غاب منها ركن غابت ـ الأركان الأخرى، وجاءت النتائج على غير ما ينبغي أن تكون عليه من حق وخير، وخاصة فيما لو اختل العقل المخاطب [34]، والذي هو علامة الحياة كما في كثير من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، التي تعطي للعقل مكانته في الفهم والحياة، كما في الكافي مرفوعاً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «مَن استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملته عليها واغتفرت فَقْدَ سواها، ولا اغتفر فقد عقل ولا دين، لأن مفارقة الدين مفارقة للأمن، فلا يُتهنَّأ بحياة مع مخافة، وَفقْدَ العقل فقد الحياة ولا يقاس إلاّ بالأموات» [35]، وكما جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك... أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أُعاقب، وإياك أُثيب» [36]. وهناك الكثير من الروايات التي تفسّر معنى أن يكون العقل مخاطباً وحجّة لله تعالى، فلا يعقل أن يكون المنطق والاستدلال طريقاً لمخالفة صريح الكتاب والسنة، أو وسيلة لسد أبواب أهل العصمة ولهذا، اختار المفسّر منهجية العقل في تفسيره، لأن الوحي هو خطاب مع هذا العقل لإثارته وهدايته، وعليه المعوّل في قبول ما هو من الدين، وخاصة في مجال المعارف الاعتقادية والفروع العملية. أما أولئك الذين تنكّروا لحجيّة العقل، ورأوا بالتفكير والمنطق خروجاً عن الدين [37] أو أصابهم الدور، سواء في العقل، أم في الشرع، فهؤلاء، كما يرى الطباطبائي، هم في حيرة من أمرهم، نظراً لما سهوا عنه من أصول وقواعد وبديهيات، حيث توهموا أنه كيف يمكن الاستدلال على حجية المقدمات التي قامت عليها الحجج العقلية بالمقدمات العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي، وبعبارة أخرى لا حجة على حكم العقل إلاّ العقل نفسه، وهذا دور مصرح به فلا محيص في المسائل الخلافية من الرجوع إلى المعصوم، يقول الطباطبائي: «هذا أسخف تشكيك أورد في هذا الباب، وإنما أُريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرح عن زعمه، ثم لما عاد إلى حكم الشرع لزمه أن يستدل عليه بحكم العقل وهو الدور، أو بحكم الشرع وهو الدور، فلم يزل حائراً يدور بين دورين، إلاّ أن يرجع إلى التقليد وهو حيرة ثانية [38].

وانطلاقاً مما تقدم، نرى أن تأسيسات الطباطبائي من بديهيات عقلية، واستدلالات برهانية لا تفارق منهجه في التفسير، وكان لها الأثر البارز في علوم القرآن عنده، ما أضفى على منهجه النزعة العقلية، التي حتمت خروج منهج المفسّر من الرتابة والتقليد إلى اكتشاف الكثير من الكنوز القرآنية، وهذا كله جاء وفاق القواعد والأصول الشرعية الحقة، ولعل هذا هو الذي ميز منهج الطباطبائي وأسلوبه في تفسير القرآن بالقرآن، هذا المنهج الذي تميز أيضاً في أنه جعل السنة محوراً ومرتكزاً في تفسيره، لأن القرآن هو سند هذه السنة تماماً كما هو سند حجيّة العقل والأدلة القطعية. وعليه، فإنه قد يصح القول بأن للعقل أثراً كبيراً في منهجية الطباطبائي نظراً لكونه، برأي المفسّر، هو الأساس والطريق الحقيقي الموصل إلى أصول المعارف الإسلامية وفروعها العملية، ولكن جزئيات الأحكام ومصالحها الخاصة بها لم تكن في متناول العقل، وخارجة عن نطاقه، وهذا ما شرحه تلميذ الطباطبائي بقوله: «كان العلامة الطباطبائي يمتلك إلماماً في التفكير العقلي، ولذلك فهو يقوم بتفسير كل آية من آيات القرآن بطريقة يستعين بواسطتها بأي دليل، أو تأكيد يمكن العثور عليه بين المبادىء العقلية فيما يخص المعارف العقلية وليس الأحكام العبادية، كاستدلال أو دليل على ذلك، فإذا لم يعثر على أي دليل ضمن البحوث العقلية، فإنه كان يفسّر الآية المطلوبة، بحيث لا تتعارض مع أي دليل عقلي قاطع...» [39]. بيد أن هذا التأسيس المنهجي الذي اختاره الطباطبائي باعتماد العقل والتفكير في آيات الله تعالى، لم يحصره في النظرية الاسلامية، أو في الأحكام النظرية والبديهات العقلية، بل تجاوز ذلك إلى نقد الكثير من النظريات والرؤى الفلسفية والمناهج الوضعية، التي تناهت إليه في أجواء النهضة العلمية التي سادت أوروبا، والتي كان مبتدؤها في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الانكليزي «فرنسيس بيكون» الذي اختار الاستقراء بديلاً للمنطق الأرسطي، ودعا إلى تجاوز النظريات الدينية إلى مصادر معرفة تقوم على الحس والعقل، بحيث تكون التجربة هي مقياس كل شيء في حياة الناس، وهذا ما كان مثار جدل بين الطباطبائي والفيلسوف الفرنسي «هنري كوربان»، الذي كان على تواصل دائم معه، وقد قيل أن كتاب «الشيعة في الإسلام» [40]، هو متضمن لكثير من الحوارات التي كانت تجري بين الطباطبائي والمحاورين له مثل «كوربان» وغيره من العلماء، حيث كان المفسّر يرد على كثير من النظريات العلمية التي تقوم على استبعاد الدين عن الحياة، اعتقاداً من أصحابها بأن الدين يحول دون تحقيق سعادة الإنسان، ويحدّ من نفوذ العلم والعلماء، ما تسبب باختيار التجربة بديلاً للدين، وهذا ما أسّس له «فرنسيس بيكون» [41] في كتابه الأوركانون، الذي كان المنطلق لمنهجية جديدة تعتمد الحس والتجربة، ولا شك في أن أدنى تأمل في تفسير الميزان يلحظ ردود المفسّر على هذه النظريات بجملة من البحوث الفلسفية التي عقدها لتهفيت مزاعم الوضعيين وما اعتمدوه من مناهج في معاداة الدين والأخلاق والغيب، ويمكن ملاحظة هذا الأمر بدقة في تفسير الآيات الأولى من سورة البقرة التي أعقبها المفسر ببحثه الفلسفي مباشرة، باعتبار أن السورة المباركة تبدأ بقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [42]، حيث قدم الغيب على الصلاة والزكاة، فما كان من المفسّر إلاّ تبيان أن مصادر المعرفة هي الدين والوحي والعقل والحس، ولا يمكن استبعاد الدين والوحي لكونهما يشجعان على العلم، ويحثان على التجربة، وعلى اكتشاف قوانين الطبيعة خلافاً لما زعمه «بيكون»، و«مل» [43]، وغيرهما. فالدين برأي الطباطبائي يهدي إلى التي هي أقوم، أي إلى الطريقة والمنهج القويم في الحياة، ولا يمكن أن يكون هناك طريق ومنهج وفكر هو أقوم مما يدعو إليه الدين والوحي. فالغيب عند الطباطبائي هو الحقيقة التي يجب أن تتجلى في كل شيء، سواء في الآفاق، أم في الأنفس، كما قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [44]. وهذا هو سر تقديم الغيب على سائر ما ينبغي اعتقاده والقيام به من واجبات وفروض دينية وعلمية، كما قال علي (عليه السلام) ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه»، مما يدلل على أن الغيب ليس حائلاً بين الإنسان والعلم. فإذا كانت البحوث الإسلامية وغير الإسلامية قد قصّرت في إبراز الدور العقلي والفلسفي، وأخفقت في مجال التفكير والاستدلال المنطقي، واستكانت إلى كثير من الفرق التي تعادي العلم وتمتنع عن استنطاق النصوص القرآنية، ولم تهتدِ إلى حقائق الوجود، سواء في التكوين، أم في التشريع، فذلك ليس معناه أن الدين أو الوحي، أو العقل، هو سبب ذلك، أو أنه هو الذي يحول دون سعادة الإنسان في الحياة. فالمنهج القويم عند الطباطبائي هو ما بينه الدين والوحي، وما أسس له الأنبياء والأئمة المعصومون (عليهم السلام) في طريق الهداية والتغيير معاً. إن الدين والوحي، كما يرى المفسر، هو الأساس والمرتكز الذي ينبغي الاحتكام إليه في البحث عن الحقائق، سواء في مجال العلوم الطبيعية، أم في مجال العلوم الإنسانية والدينية، وهو لتأكيد هذه الحقيقة نراه يفنّد مزاعم الوضعيين في بحوث الفلسفة، ويظهر مدى التناقض الحاكم في نظرياتهم العلمية [45]، على اعتبار أن نجاح التجارب وتطور العلم ليس دليلاً على نفي الغيب، وعلى عدم صحة الإيمان، وقد سوّغ المفسّر هذا المعنى بقوله أنه لا يوجد كتاب ديني قد أعطى العقل والعلم من الأهمية مثل ما أعطى القرآن من ذلك، فالخلل ليس في النظرية الإسلامية، وإنما هو فيما اعتمده الناس من طرق إليها، ولو أنهم اهتدوا إلى طريقها السليم التي تدعو إليه لما جهلوا حقيقة ما تدعوهم إليه، وتحثهم على الإتيان به من علم ومنهجية قويمة سليمة، سواء في مجال العمل، أم في مجال الفكر، أم في مجال الاعتقاد.

لقد بيّن المفسّر أنه لا يمكن التأسيس للمعرفة بعيداً عن الوحي والدين والعقل، وهنا تكمن مسؤولية العلماء، سواء في مجال الطبيعة، أم في مجال المعارف الدينية، باعتبار أن العالم وظيفته اكتشاف قوانين وحقائق الوجود، وليس انتاج القوانين والحقيقة، فهذه الأخيرة لا تصنع ولا تنتج وإنما هي كامنة، ومنهجية الحق لا بد أن تكشف عنها، كما قال علي (عليه السلام) «هو الله الحق المبين، أحق وأبين مما ترى العيون... لم تبلغه العقول» [46]. فالله تعالى هو الذي حقق الوجود، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو الصانع والمدبر والخالق لأسرار وحقائق هذا الوجود، كما قال الله تعالى: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [47]، وهذا ما يدلل على أن صناعات البشر ليست إبداعاً، وإنما هي اكتشاف العالم، وطريق ذلك هو العلم والعقل والحس. أما الموقف من الغيب، فهو مما لا ينبغي الذهاب إليه بالنكران، لأن غاية ما يمكن القول فيه أنه ممكن الوقوع إذ لا سبيل إلى نفيه [48]، والإيمان به هو إيمان بالخلق والوجود وبالقدرة التي وسعت كل شيء علماً، وحققت هذا الوجود بالكنوز والأسرار والحقائق التي يقوم العلماء باكتشافها، سواء في الأرض، أم في السماء، فالله تعالى هو الخالق، وهو المصور، وهو البارىء، ومثلما أن وظيفة الفقيه هي اكتشاف الأحكام الإلهية من كتاب التشريع، فإن على العلماء أن يكتشفوا الأحكام والقوانين والحقائق الكامنة في هذا الوجود، ولعل ما أفاده الطباطبائي في تفسيره هو أن العلماء في مناهجهم الوضعية وفي نظرياتهم المادية لم يخلقوا شيئاً، ولم يخرجوا العلم عن كونه وسيلة لاكتشاف حقائق الوجود، وهذا ما لا يُبقي لهم متسعاً كيما يقولوا أن الدين حائل دون اكتشاف الحقيقة، وهو أعظم حقيقة في الوجود بما انطوت عليه من ترشيد وهداية إلى ما هو أقوم في مناهج الحياة [49].

عموماً يمكن القول: إن أثر العقل في منهج الطباطبائي ظاهر فيما اختاره المفسّر من أدلة وبراهين قاطعة دعت الآيات إلى الامتثال لها والاستناد إليها، وهذا ما ظهر جلياً في تفسيره للقرآن، حيث تراه يؤسس لمنهجية فريدة في علم التفسير، إلاّ أن ذلك، كما بينا في دراستنا هذه، لم يحمله على تجاوز محورية السنة القطعية والعقل القطعي، أي الاستغراق بالرأي في التفسير على النحو الذي نجده عند كثير من المفسرين، فهو اختار الظواهر الدينية والحجج العقلية لتبيان معالم منهجيته في علم التفسير، كما ظهر في سائر علوم القرآن عنده، كما أنه لم يخضع تفسيره إلى التاريخ والرواية إلاّ في ضوء التفكير والاستدلال والروايات القطعية المفسّرة للقرآن دونما استغراق في التحليلات الكلامية والفلسفية، وهذا ما جعل تفسيره تفسيراً قرآنياً بامتياز، حيث استطاع الإلتفات بدقة إلى ما يدعو إليه القرآن من تفكر وتعقل وتذكر وتدبّر، وغير ذلك مما يساعد على اكتشاف الأسرار والكنوز والمعارف القرآنية من حيث كونها تعطي القيمة الكبرى للعقل وتجعله مصدراً أساسياً لاكتشاف أصول المعارف الإسلامية وفروعها، وبذلك يكون المفسّر قد التزم بالحجة الظاهرة والباطنة معاً لتظهير منهجية مختلفة في التفسير، وقوام هذه المنهجية هو الظواهر الدينية من حيث هي ظواهر كاشفة عن مراد المولى وإليها يستند العلماء والمفسرون في كتاب الله تعالى، وهو ما يسميه العلماء بحجيّة الظواهر، إضافة إلى العقل الذي مؤداه اكتشاف الحقائق وأصول المعارف، فالأولى بيانات لفظية مستفادة من أبسط الألفاظ، والثانية هي العقل الموصل إلى أصول المعارف، وهناك طريق ثالث يرى المفسّر له أهمية في طريق اتباع الحق، وهو طريق المشاهدة الباطنية، التي تبدأ بتهذيب النفس، وتنتهي بالعلم اللدني الذي لا يناله إلاّ العلماء الذين انفصلوا عن كل شيء سوى الله [50].

وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول: إن أثر العقل في منهج الطباطبائي لا يمكن إيفاؤه حقه في هذه الدراسة لتبيان معالمه الكاملة، إلاّ أن ذلك لم يمنعنا من تسليط الضوء على ما يراه المفسّر من قيمة ودور وأثر للعقل في التفسير، وقد ألمحنا في بحوثنا السابقة عن المفسّر فيما عرضنا له من بحوث في علوم القرآن، حيث تبين لنا أن العقل كان حاكماً على كثير من الرؤى والمواقف التي اختارها المؤلف في بحوثه القرآنية، وخاصة في مبحث المحكم والمتشابه، إضافة إلى مبحث التأويل للقرآن الذي بين فيه المفسّر أن الهدف من إنزال القرآن وتنزيله هو التعقل، كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ما يؤكد نظرية المفسّر في كون إعمال العقل هو شرط ضروري لاكتشاف حقائق القرآن، دون أن يعني ذلك أن المفسّر قد اختار النزعة العقلية المجردة، وإنما هو اختارها بالقدر الذي يسمح له بأن يخرج تفسيراً قرآنياً جديداً وفريداً وفاقاً لما أمر الله به ودعا إلى الاستناد إليه في كتابه العزيز، الذي أعطى الحجيّة بعد القرآن مباشرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأئمة (عليهم السلام) والعقل. وفي ضوء هذا كله يمكن الحديث عن رؤية ومنهجية مكتملة للمفسّر في تفسير القرآن...

اللهمّ أنر قلوبنا بنور الإيمان والمعرفة، الذي جعلته في القرآن لأهل الإيمان، إنّك سميع مجيب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

أُنجز هذا الكتاب يوم ولادة صاحب العصر والزمان (عج)

الواقع في 15 شعبان المعظم/1434 هـ

الشيخ عارف هنديجاني فرد


[1] المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، م.س، ج2، ص47.

[2] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص73.

[3] سورة طه، الآية: 114.

[4] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص73.

[5] الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، (ت: 329)، م.س، ج1، ص15.

[6] البرهان عند الطباطبائي حجة ومقدماته واقعية، وإن لم تكن مشهودة ومسلمة، وهي أمور يدركها الإنسان بداهة مع ما عنده من فطرة إلهية، كما نعلم أن عدد الثلاثة أصغر من عدد أربعة... را: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص94.

[7] آملي، عبد الله، مجموعة مؤلفين، مركز الحضارة، م.س، ص86.

[8] الإمام علي (عليه السلام) ، نهج البلاغة، م.س، الخطبة: 37.

[9] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج1، ص8 ـ 12.

[10] انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، م.س، ج18، كتاب القضاء، باب9، ص52.

[11] سورة النساء، الآية: 82.

[12] يستفاد من بحوث الطباطبائي أن فهم القرآن الكريم غير ممكن من دون الاستناد إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)، لأن الرسول هو المبين لمعارف القرآن، وإن من شأن الفصل بين القرآن وهذه الفئة الحقة أن يكون كليهما غائباً، وهذا ما شرحه تلميذ الطباطبائي الشيخ الآملي بقوله: «وأنه لو كان القرآن الكريم حاضراً في الظاهر، وكانت العترة الطاهرة غائبة، أو كان حضور العترة ظاهراً، وكان القرآن الكريم غائباً، فإن المؤكد هو أن كليهما غائب لثبوت ضرورة المعية وعدم افتراقهما عن بعضهما البعض من خلال شكل الوجود القرآني والعترة، وهذا هو مفاد حديث الثقلين: انظر: آملي، عبد الله، مجموعة مؤلفين، سلسلة أعلام الفكر، مركز الحضارة، م.س، ص83.

[13] سورة المائدة، الآية: 17.

[14] الطباطبائي، م.س، ج5، ص260.

[15] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص74. يقول الطباطبائي: «إن القرآن الكريم يؤيد التفكر العقلي، ويعتبره جزءً من التفكير الديني، والتفكر العقلي بعد أن يصادق على صدق نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجعل الظواهر القرآنية ـ بما فيها الوحي السماوي وأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) من موارد الحجج العقلية... را: م.ع، ص94.

[16] انظر: الفضلي، عبد الهادي، خلاصة علم الكلام، دار التعارف، بيروت، 1988، ص217.

[17] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص74.

[18] سورة العنكبوت، الآية: 45.

[19] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج5، ص260.

[20] يقول الطباطبائي، «لما نقلت فلسفة اليونان في عصر الخلفاء إلى العربية، رام المتكلمون من المسلمين، وقد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية، فتفرقوا بذلك إلى فرقتين الأشاعرة والمعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمن الخلفاء وتسموا بالصوفية والعرفاء وكانوا يزعمون كشف الأسرار والعلم بحقائق القرآن، وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة... ولم يزل الأمر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة، وعند ذلك أخذ العرفاء والفلاسفة في التدليس والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى اشتبه الأمر على الأكثرين..» را: الميزان م.،، ج5، ص264.

[21] الطباطبائي، الشيعة، في الإسلام، م.س.

[22] للإمام علي، نهج البلاغة، الخطبة: 186.

[23] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج5، ص262.

[24] م.ع، ج5، ص262.

[25] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص74.

[26] المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، م.س، ج2، ص17.

[27] يرى الطباطبائي أن كلام هؤلاء فاسد فقد استعمل فيه الأصول المنطقية، وقد أُريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، ولم يقل القائل بأن القرآن يهدي إلى استعمال أصول المنطق: إنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن نفس الإستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلاّ مثل من يقول: إن القرآن إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين، فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذي هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللسان طريقاً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع وقد استعمله الله تعالى في كتابه والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته، كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقاً معنوياً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التعقل بحسب الطبع وقد استعمله الله تعالى في كتابه، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته. انظر: الميزان، ج5، ص270، 271.

[28] سورة البقرة، الآية: 170.

[29] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص74.

[30] سورة الزمر، الآية: 18.

[31] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج17، ص251.

[32] سورة الملك، الآية: 10

[33] الطباطبائي، الميزان، م.س، ج19، ص258.

[34] إن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة، وليست إلا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهة... كما ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية، لأن الكتاب والسنة القطعية من مصاديق ما دلّ صريح العقل على كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانياً على بطلان ما برهن على حقيقة أولاً، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة، كالحاجة إلى تمييز الآيات والأخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منها، وكالحاجة إلى تمييز الأخبار الصادرة حقاً من الأخبار الموضوعة... انظر: الطباطبائي، الميزان، م.س، ج5، ص263.

[35] انظر: الكليني، أصول الكافي، م.س، ج1، ص27.

[36] م.ع، ص10.

[37] رد الطباطبائي على من زعم أن المنطق لو كان طريقاً موصلاً إلى الحق لم يقع الإختلاف بين أهل المنطق، فبين أن الخطأ إنما وقع في استعمال المنطق وليس في المنطق نفسه، فالمنطق آلة الاعتصام عن الخطأ، وذلك كالسيف فإنه آلة القطع ولكنه لا يقطع إلا عن استعمال صحيح. را: الميزان، ج5، ص256.

[38] يقول الطباطبائي: لقد اشتبه الأمر على بعضهم في تحصيل معنى: وجوب متابعة حكم العقل، فإن أُريد وجوب المتابعة أن الإنسان مضطر على تصديق النتيجة إذا استدل بمقدمات علمية صحيحة مع التصور التام لأطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الإنسان بالوجدان، ولا معنى لأن يسأل العقل عن الحجة بحجيّة حجته لبداهة حجيته، وهذا نظير البديهات، فإن الحجة على كل بديهي إنما هي نفسه، ومعناه أنه مستغن عن الحجة. را: الميزان، م.س، ج5، ص271.

[39] عبد الله، آملي، مجموعة مؤلفين، مركز الحضارة، م.س، ص96.

[40] انظر: دراسات في منهج المفسرين، مركز نون، سلسلة المعارف الإسلامية، بيروت، ط1، 2012، ص157.

[41] بيكون هو فيلسوف انجليزي قاد الثورة العلمية عن طريق فلسفته القائمة على الملاحظة والتجريب، ومن الرواد الذين انتبهوا إلى غياب جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس، وهو من أوائل الذين دعوا إلى تحرير الفكر والاصطباغ بالروح العلمية في العصور الحديثة في كل أوروبا، آمن بالعلم إيماناً مطلقاً، ودعا إلى اعتماد المنهج الاستقرائي الذي يكون الهدف منه ليس الحكمة بل العمل على اعتبار أن العلم هو الذي يثمر أعمالاً، ويؤدي إلى التغيير الحقيقي وليس الدين (ولد عام 1561 ـ وتوفي 1626). انظر: مرسي أبو ذكرى، المقال وتطوره، دار المعارف، 1982، ص44.

[42] سورة البقرة، آيات: 2 ـ 3.

[43] جون ستيورات مل: فيلسوف بريطاني ولد عام 1806، وتوفي عام 1873، وهو أيضاً من أنصار المذهب التجريبي القائم على مفهوم المنفعة، وقف ضد النزعة اليقينية، وكان يجاهر باستمرار أن السعادة هي الغاية المحمودة للوجود البشري. انظر: ستيورات مل، ترجمة هيثم الزبيدي، ط1، 2007، مراجعة وتدقيق فادي حدادين، الدار الأهلية.

[44] سورة فصلت، الآية: 53.

[45] لقد فند الطباطبائي مزاعم الوضعيين والماديين وكل الذين دعوا إلى الاحتكام للحس والتجربة، مبيناً تهافت نظرياتهم، ومن جملة ما قاله: «إن التجربة، وهي تكرار الحس، ليست لوحدها آلة للتمييز بين الخطأ والصواب، بل هي إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب إلى جانب مقدمات عقلية غير حسية وغير تجريبية. وعلى افتراض أن جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل، لكن نفس التجربة لم تثبت بتجربة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، بل العلم بصمته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس والتجربة هو اعتماد على العلم العقلي وجوباً، هذا فضلاً عما بيّنه الطباطبائي في سياق الاستدلال على أصالة العقل في مقابل من يذهب إلى القول بأصالة الحس والتجربة، فهو يرى أن الحس يتعامل مع أعداد محدودة في الجزئيات بتكرار المشاهدة لصياغة القانون العام الذي تتدرج تحته عموم هذه الجزئيات غير كاف إلاّ بنظر عقلي... فمن تكرار المشاهدات الجزئية يمكن الحكم عقلياً بأن جميع المعادن مثلاً تتمدد بالتسخين. وهذا الحكم هو حكم عقلي. را: الميزان، م.س، ج5، ص51..

[46] الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة، م.س، الخطبة: 155.

[47] سورة النمل، الآية: 88.

[48] يجمع العلماء والمفسرون على أن هناك غيبيات في القرآن لا سبيل للعقل إليها، مثل الإيمان بالجن، والملائكة والقيامة، والجنة والنار، وانفلاق البحر، وولادة عيسى (عليه السلام)، والإسراء والمعراج، فهذا كله من الإيمان بالغيب الذي لا مسرح للعقل فيه، وهو لا يثبت أكثر من إمكان وقوعه، ولا مجال للملاحظة والتجربة فيه. فلا محيص، كما يقول الطباطبائي، من الرجوع إلى المنقولات لإثباته في ضوء المنهج النقلي، وفي ضوء هذا يمكن القول إن جميع أفكار الدين تدخل مجال البحث، فبعض في مجال الغيب، وهو مما استقلّ به، وبعض في مجال ما وراء الطبيعة، وبعض في مجال الطبيعة والإنسان، ولكل منهجه الذي يعتمد للدراسة... را: الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث، دار المؤرخ العربي، بيروت، 1992، ص42.

[49] إن من ألطف وأدق ما ذهب إليه المفسّر في إطار مصادر المعرفة، قوله: إن الغيب خلاف الشهادة، وينطبق على ما لا يقع عليه الحس، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي والإيقان بالآخرة، هو الله والإيمان به تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكد على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب. را: الميزان، م.س، ج1، ص49.

[50] الطباطبائي، الشيعة في الإسلام، م.س، ص76 ـ 77.

 

1- القرآن الكريم.

2- الإمام علي (عليه السلام)، نهج البلاغة.

3- القرآن الكريم، المعجم المفهرس، محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1991م.

4- نهج البلاغة، الإمام علي، المعجم المفهرس، وضعه كاظم محمدي، ومحمد دشتي، دار الأضواء، بيروت، 1986م.

5- ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير القرآن، التحرير والتنوير، الدار التونسية، تونس، 1984م.

6- ابن منظور، لسان العرب، بيروت،(لا-ت).

7- الإحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي (840 هـ)، دار سيد الشهداء، قم، 1405 هـ. ق.

8- الاسترآبادي، شرف الدين، تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1409هـ.

9- الآصفي، محمد مهدي، مدرسة النجف وتطور الحركة الإسلامية فيها، مطبعة النعمان، النجف 1384هـ.

10- آل صفا، علي جابر، نظرية المعرفة والادراكات الاعتبارية عند العلامة الطباطبائي، بيروت، دار الهادي، 2001م.

11- آملي، عبدالله، محمد حسين الطباطبائي، مفسراً وفيلسوفاً، دراسات في فكر الطباطبائي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2012م.

12- الأمين، السيد محسن، أعيان الشيعة، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، 1992م.

13- الأوسي، علي، الطباطبائي ومنهجه في تفسير الميزان، طهران، 1985م.

14- جعفر آل محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، مطبعة العرفان، صيدا، 1353هـ.

15- جعفريان، حبيبة، زندكي سيد محمد حسين الطباطبائي (بالفارسية)، انتشارات روايت فتح، طهران، 1384هـ.

16- حاتم، عبد الرحمن، قدوة العارفين، دار الهادي، بيروت، 2001م.

17- الحر العاملي، محمد بن الحسن بن علي بن الحسين، (ت 1104هـ)، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، 1414هـ.

18- حسيني الطهراني، سيد محمد حسين، مهر تابان، مشهد، 1423هـ.

19- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، دار الهلال، النجف الأشرف، 1427هـ.

20- الحيدري، كمال، أصول التفسير والتأويل، مقارنة منهجية بين آراء الطباطبائي وابرز المفسرين، دار فراقد، إيران، 2006م.

21- الحيدري، كمال، دروس في الحكمة المتعالية، شرح كتابة بداية الحكمة، إيران، دار فراقد، 1999م.

22- الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت 1974م.

23- الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.

24- الراغب الأصفهاني، معجم ألفاظ القرآن الكريم، در الفكر للطباعة والنشر، بيروت، (لا - ت).

25- الرفاعي، عبد الجبار، تطور الدرس الفلسفي في الحوزة العلمية، بيروت، دار الهادي، 2005م.

26- الرفاعي، عبد الجبار، مبادئ الفلسفة الإسلامية، دار الهادي، بيروت 2001م.

27- زاهد، عبد الأمير، مقدمات منهجية في تفسير النص القرآني، مطبعة الضياء، النجف الأشرف، 2008م.

28- الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، القاهرة، (لا - ت).

29- الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل، دار المعرفة، بيروت، 1972م.

30- الزمخشري، أساس البلاغة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م.

31- الزمخشري، جارالله محمود بن عمر بن محمد، (ت 538هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، (لا - ت).

32- زيد، مصطفى، النسخ في القرآن الكريم، القاهرة، دار الفكر، 1963م.

33- السبحاني، جعفر، الشمولية عند الطباطبائي، دراسات في فكر الطباطبائي، مركز الحضارة للتنمية، تعريب عباس صافي، بيروت، 2012م.

34- السبحاني، جعفر، المفاهيم التفسيرية في علوم القرآن، بيروت، دار الولاء، 1426هـ.

35- السيوطي، جلال الدين، الإتقان في علم القرآن، تحقيق محمد إبراهيم، القاهرة، الهيئة العامة للآداب، 1975م.

36- الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبدالله دراز، مصر، 1388هـ.

37- الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، جماعة المدرسين، قم، 1419هـ.

38- شبر، عبدالله، تفسير القرآن الكريم، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2009م.

39- الشريف الرضي، تلخيص البيان في مجازات القرآن، دار الأضواء، بيروت، 1986م.

40- الشريف الرضي، حقائق التأويل في متشابه التنزيل، دار المهاجر، بيروت، 1406هـ.

41- الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، (ت 413هـ) تحقيق حسن دركاهي، دار المفيد، بيروت، 1993م.

42- الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل في كتاب الله المنزل، مؤسسة الأعلمي، 2007م.

43- الصالح، صبحي، مباحث في علوم القرآن، دار العلم للملايين، بيروت، 1999م.

44- الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، دار التعارف، بيروت، 1990م.

45- الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية، دار التعارف، بيروت، 1993م.

46- الصدوق، الحسين بن موسى بن بابويه، معاني الأخيار(ت 381هـ)، تحقيق على أكبر الغفاري، انتشارات إسلامي، 1361هـ.

47- الطباطبائي، محمد حسين، أسس الفلسفة والمذهب الواقعي، تعريب محمد عبد المنعم الخاقاني، بيروت، دار التعارف، 1988م.

48- الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة، ترجمة: جعفر سبحاني، مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، قم، إيران، 1426هـ.

49- الطباطبائي، محمد حسين، الإنسان والعقيدة، تحقيق الشيخ الربيعي، الشيخ علي الأسدي، قم، 2005م.

50- الطباطبائي، محمد حسين، الشيعة في الإسلام، مركز بقية الله الأعظم، بيروت، ط1، 1999م.

51- الطباطبائي، محمد حسين، القرآن في الإسلام، دار الزهراء، بيروت، 1398هـ.

52- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1983م.

53- الطباطبائي، محمد حسين، رسالة التشييع، قم، مؤسسة أم القرى، 1418هـ.

54- الطباطبائي، محمد حسين، نظرية السياسة والحكم في الإسلام، الدار الإسلامية، بيروت، 1982م.

55- الطبرسي، ابي علي الفضل ابن الحسين، مجمع البيان في تفسير القرآن، انتشارات بيدار، إيران، 1406هـ.

56- الطبري، محمد جرير، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي، بيروت، (لا - ت).

57- الطهراني، الشيخ آغا بزرك، طبقات أعلام الشيعة، نقباء البشر في القرن الرابع عشر، مشهد، دار المرتضى للنشر، 1404هـ.

58- الطهراني، محمد حسين، الشمس الساطعة، تعريب عباس نور الدين وعبد الرحمن مبارك، بيروت، دار المحجة البيضاء، م1997.

59- الطوسي، أبو جعفر، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق احمد العاملي، النجف، 1364هـ.

60- العطار، داود، موجز في علوم القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1995م.

61- العياشي، محمد بن مسعود، تفسير القرآن، انتشارات، ميدار، (لا -ت).

62- الفضلي، عبد الهادي، أصول البحث، دار المؤرخ العربي، بيروت، 1992م.

63- الفضلي، عبد الهادي، خلاصة علم الكلام، دار التعارف، بيروت، 1988م.

64- الفيض الكاشاني، الحق المبين، الناشر: سازمان جاب دانشكاه، (لا - ت).

65- القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القرآن، صححه وعلق عليه طيب الموسوي، دار الكتاب، قم، إيران(لا - ت).

66- كليبكاني، علي رباني، إيضاح الحكمة، ترجمة وشرح بداية الحكمة، بالفارسية، طهران، 1999م.

67- الكليني، محمد بن يعقوب، أصول الكافي، موسوعة روائية، (ت 329هـ)، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365هـ.

68- كوربان، هنري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت، 1983م.

69- المازندراني، محمد بن علي بن شهراشوب، متشابه القرآن ومختلفه، انتشارات بيدار، قم، 1410هـ.

70- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1990م.

71- محمد الغروي، مع علماء النجف الأشرف، بيروت، دار الثقلين، 1999م.

72- مسلم، مصطفى، مباحث في إعجاز القرآن، دار القلم، دمشق، 2008م.

73- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1990م.

74- معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، 1984م.

75- المعجم الوسيط، إخراج: إبراهيم مصطفى، وأحمد حسن الزيات، مصر، 1960م.

76- معرفة، محمد هادي، التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، إيران، مشهد، 1425هـ.

77- معرفة، محمد هادي، تلخيص التمهيد، دار الميزان، بيروت، 1991م.

78- مغنية، محمد جواد، تفسير الكاشف، دار العلم للملايين، بيروت، 1981م.

79- مغنية، محمد جواد، حول الدراسة في النجف الأشرف، مجلة العرفان، ج49، 1381هـ.

80- المفيد، محمد بن النعمان، أوائل المقالات، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1983م.

81- الملا صدرا، صدر الدين الشيرازي، شرح أصول الكافي، كتاب الحجة، مؤسسة مطالعات، إيران.

82- الملا صدرا، مفاتيح الغيب، صححه محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات، إيران (لا - ت).

83- الواحدي، أبو الحسن على ابن احمد النيسابوري، أسباب النزول، القاهرة، 1373هـ.

84- اليازجي، ناصيف، العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، بيروت،(لا - ت).

85- يوسف البحراني، الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، (ت 1186هـ)، تحقيق محمد تقي الأيرواني، جماعة المدرسين، قم.