لتحميل الكتاب كاملاً بصيغة HTML

صفات المؤمنين في القرآن الكريم
 

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الطبعة الاولى: شباط 2010م - صفر 1431هـ
 

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

 المقدمة

5

 الدرس الأول: أبرز صفات المؤمنين

7

 الدرس الثاني: صفات عباد الرحمن

16

 الدرس الثالث: بحث آخر في صفات عباد الرحمن

23

 


  المقدمة


والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الحجرات / 14

أخي أخوتي الأعزاء اعلموا أن هناك فرق بين الاسلام والايمان فالاسلام له شكل ظاهري قانوني فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام الاسلام.

أما الايمان فهو أمر واقعي وباطني ومكانه قلب الانسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً.

الاسلام ربما كان عن دوافع متعددة ومختلفة بما فيها الدوافع الماديّة والمنافع الشخصية، إلا أن الايمان ينطلق من دافع معنوي ويسترفد من منبع العلم وهو الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة.

وإذا دققنا في آيات الله عزّ وجلّ نجد أنه يصف المؤمنين مشيراً الى جانبين إحدهما: معنوي وروحاني وباطني، والآخر: عملي وخارجي، مبيناً بذلك خمسة صفات بعبارة موجزة غزيرة المعنى حيث يقول:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) سورة الأنفال

ترى لو أننا طبقنا مضامين هذه الآيات وما سيأتي إنشاء الله – على أنفسنا، فهي التي تمثل صفات المؤمنين بحق، ولم نتكل على هذا وذاك، وأن نخطوا في كل يوم وفي كل مرحلة خطوة جديدة من الايمان، وأن نحس دائماً بالمسؤولية لتكون علاقتنا بالله قوية، وعلاقتنا بخلق الله وعباده قوية كذلك، فننفق ما رزقنا الله في سبيل تقدم المجتمع، أنكون بمثل ما نحن عليه اليوم ؟

وينبغي التذكير بأن الايمان ذو مراحل ودرجات، فقد يكون ضعيفاً في بعض مراحله حتى أنه لا يبدو منه أي شيء عملي مؤثر، وربما يكون ملوثاً بكثير من السيئات.

إلا أن الايمان المتين الراسخ من المحال أن يكون غير بناءً أو لا يصدر منه أثر عملي، وهذا الذي يظنه بعضهم أن العمل ليس جزءاً من الايمان، فلقصور نظرهم الى أدنى مراحل الايمان.

قال الإمام الخامنئي (دام ظله): «ما يمدنا بالإيمان الأبدي، ويثبت قلوبنا وأقدامنا، هو القرآن».


من هو المؤمن في الروايات:

عن أمير المؤمنين (ع) قال: «المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرّفعة ويشنأ السُّمعة، طويل غمّه، بعيد همّه كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلد من الصّلد، وهو أذل من العب» نهج البلاغة ج 4

فالمؤمن أصلد من الصّلد، يخشع له كل شيء، أعز من الكبريت الأحمر وعلامات وخصال أخرى ذكر في الآيات والروايات ونحن في كتابنا هذا إخترنا أربعة عشر درساً للحديث عن صفات المؤمنين، سائلين المولى عزّ وجل الاستفادة منهم والعمل بهم.

والحمد لله رب العالمين

جمعية القرآن الكريم للتوجيه والارشاد

تم بتاريخ 3 جمادي الآخر: 1429 هـ - ق

 


  الدرس الأول: أبرز صفات المؤمنين


 نبدأ بالحديث عن صفات المؤمنين من سورتهم حيث يقول سبحانه:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) سورة المؤمنون


اللغة

اللغو: ما لا فائدة فيه من الكلام.

ما ملكت ايمانهم: المراد بملك اليمين الإماء.

العادون: الذين يتجاوزون الحدود.

الراعون: الحافظون.

الوارثون: الذين يستحقون الجنّة تماماً كما يستحق الوارث ميراث قريب.

الفردوس: الجنة.


التّفسير

صفات المؤمنين البارزة:

اختياراسم المؤمنين لهذه السورة لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، وممّا يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} كلمة «أفلح» مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، والحقيقة أنّ المنتصرين يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً بضمّ الفلاح المادّي والمعنوي، ويكون الإثنان للمؤمنين.

فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرّاً مرفوع الرأس عزيز النفس غير محتاج، ولا يمكن تحقيق كلّ ذلك إلاّ في ظلال الإيمان والتمسّك بالله وبرحمته. أمّا فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب أصدقاء جديرين طاهرين، حياة العزّ والرفعة.

ويلخّص الراغب الاصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأنّ الفلاح الدنيوي في ثلاثة أشياء: البقاء والغنى والعزّ، وأمّا الفلاح الاُخروي ففي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل.

ثمّ تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كلّ شيء على الصلاة فتقول: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.

«خَاشِعُونَ» مشتقّة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصيّة كبيرة، أو حقيقة مهمّة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص في إرتباط مع الله، ويدعوه بتضرّع في حالة تسود جسمه كلّه، فيرى نفسه ذرّة إزاء الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له.

وإن لحظات هذه الصلاة درساً للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه.

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (ص) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلّي قوله: «أمّا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه».(1)

إشارة منه (ص) إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدّون صلاتهم بخشوع حتّى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (ص) «إنّه كان يرفع بصره إلى السّماء في صلاته، فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض».(2)

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع ممّا تذكره الآية {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء، لأنّ «اللغو» يعني الأعمال التافهة غير المفيدة، وكما قال بعض المفسّرين فإنّ اللغو كلّ قول أو عمل لا فائدة فيه، وإذا فسّر البعض اللغو بالباطل.وبعض فسّره بالمعاصي كلّها، وآخر بمعنى الكذب وآخر: السباب أو السباب المتقابل والبعض الآخر قال: إنّه يعني الغناء واللهو واللعب وآخر: إنّه الشرك. فإنّ هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.

وطبيعي أنّ اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط، وإنّما يعني الآراء التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربّه وتشغله بها دون الاُمور المفيدة، إذن فاللغو يتضمّن كلّ هذا، والحقيقة أنّ المؤمنين لم يخلقوا من أجل الإنشغال بآراء باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، كما قال القرآن الكريم.

وتشير الآية الثّالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.

ربّما تكون السورة مكّية، نزلت في وقت لم تشرّع فيه الزكاة بعد بمعناها المعروف، لذلك نجد إختلافاً بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، ولكن الذي يبدو أصوب هو أنّ الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنّما هناك أنواع كثيرة منها مستحبّة، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة، إلاّ أنّ الزكاة المستحبّة كانت موجودة قبل هذا.

وذهب مفسّرون آخرون إلى إحتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي في مكّة لكن دون تحديد، حيث كان الواجب على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بما يتمكّن، إلاّ أنّه أصبح للزكاة اُسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس بيت مال المسلمين، حيث تحدّدت أنصبتها من كلّ محصول ومال. وأصبح لها جباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرّسول (ص).

أمّا ما يراه بعض المفسّرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في «روح المعاني» والراغب الاصفهاني في مفرداته من أنّ الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح، فبعيد، لأنّ القرآن المجيد كلّما ذكر الصلاة مع الزكاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسّرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات.

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفّة بشكل تامّ، وإجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يحفظونها ممّا يخالف العفّة {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}.

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمردّاً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوث بالإنحرافات الكثيرة.

أمّا عبارة {أَزْوَاجِهِمْ} فهي تشمل الزوجين الذكر والاُنثى، ويمكن أن تكون عبارة {غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارة إلى الرأي الخاطىء عند المسيحيين الذي أصبح يشكّل إنحرافاً في عقيدتهم، وهو أنّ أي إتّصال جنسي يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له، حتّى نرى القساوسة الكاثوليك ـ نساءً ورجالا ـ ممّن طلّق الدنيا يحيون عزّاباً ويتصوّرون الزواج بأي شكل كان خلافاً لمنزلة الإنسان الروحية وهذه القضيّة شكلية فحسب، حيث يختار هؤلاء لإشباع غرائزهم سبلا خفيّة متعدّدة. ذكرتها كتبهم.(3)

 

وعلى كلّ حال فإنّ الله لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوّناته المثلى، ثمّ يعتبرها تناقض منزلة الإنسان عنده.

وكون الزوجات حلاًّ للأزواج في علاقتهنّ الجنسيّة باستثناء أيّام العادة الشهرية وأمثالها، لا تحتاج إلى شرح. وكذلك كون الجواري حلالا عندما يكنّ على وفق شروط ذكرتها الكتب الفقهيّة وليس كما يتصوّر البعض أنّ كلّ واحدة منهنّ ودون شرط حلّ لمالكها، وفي الحقيقة لهنّ شروط الزوجة في حالات كثيرة.

وأشارت الآية الثامنة ـ موضع البحث ـ إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الإلتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة. وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحقّ والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقّها. ويحرسونها ما داموا أحياءاً. ويرثها أبناؤهم الذين تربّوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.

والدليل على عموميّة مفهوم الأمانة هنا، إضافة إلى سعة المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، هو أحاديث عديدة وردت في تفسير الأمانة بأنّها (أمانة الأئمّة المعصومين) أي: ينقلها كلّ إمام إلى وارثه.(4)                                

وأحياناً تفسير الأمانة بأنّها الولاية بشكل عامّ. وممّا يلفت النظر رواية زرارة أحد تلاميذ الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) عن قوله تعالى {أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (5) «أدّوا الولاية إلى أهلها...».(6)

وهكذا يكشف عن أنّ الحكومة وديعة إلهيّة مهمّة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.

 

وهناك تعابير قرآنية عديدة تدلّ على عمومية وشمولية العهد، منها: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}. والجدير بالملاحظة أنّ بعض آيات القرآن عبّرت عن ذلك العهد بأداء الأمانة وعدم خيانتها والمحافظة عليها، و«رعاية الأمانة» التي استعملت في الآية السابقة تضمّ معنى الأداء والمحافظة.

فعلى هذا فانّ التقصير في المحافظة على الأمانة والذي يؤدّي إلى وقوع ضرر أو تعرّضها للخطر، يوجب على الأمين إصلاحها (وبهذا تترتّب ثلاثة واجبات على الأمين: الأداء، والمحافظة، والإصلاح) فلابدّ أن يكون الإلتزام بما تعهّد به المرء والمحافظة عليه. وأداء الأمانة من أهمّ القواعد في النظام الإجتماعي، ودون ذلك يسود التخبّط في المجتمع. ولهذا السبب نرى شعوباً لا تتمسّك عامّتها بالدين، إلاّ أنّها ـ سعياً منها لمنع الإضطراب ـ تفرض على نفسها رعاية العهد والأمانة، وتعتبر نفسها مسؤولة أمام هذين المبدأين ـ في أقلّ تقدير ـ في القضايا الإجتماعية العامّة.

 

وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، بدأت بالصلاة وإنتهت به. لماذا؟ لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية. الصلاة وسيلة ليقظة الإنسان وخير وقاية من الذنوب.

والخلاصة، إنّ الصلاة إن اُقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.

وجدير بالذكر إلى أنّ الآيتين الأُولى والأخيرة تضمنّت كلّ واحدة منها موضوعاً يختلف عن الآخر، فالآية الأُولى تضمنّت الصلاة بصورة مفردة، والأخيرة بصورة جماعية. الأُولى تضمنّت الخشوع والتوجّه الباطني إلى الله. هذا الخشوع الذي يعتبر جوهر الصلاة، لأنّ له تأثيراً في جميع أعضاء جسم الإنسان، والآية الأخيرة أشارت إلى آداب وشروط صحّة الصلاة من حيث الزمان والمكان والعدد، فأوضحت للمؤمنين الحقيقيين ضرورة مراعاة هذه الآداب والشروط في صلاتهم.

بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}.

اُولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. «الفردوس» ـ على قول ـ هي مفردة رومية. وذهب آخرون إلى أنّها عربية، وقيل فارسية بمعنى «البستان». أو بستان خاص إجتمعت فيه جميع تسميتها بالجنّة العالية، وأفضل البساتين.

ويمكن أن تكون عبارة «يَرِثُونَ» إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أنّ الإنسان يبذل جهوداً واسعة ويضحّي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرّب إلى الله، إلاّ أنّ هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأنّ المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقّة.

كما يجب ملاحظة حديث روي عن النّبي الأكرم (ص) «ما منكم من أحد إلاّ وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النّار ورث أهل الجنّة منزله». كما يمكن أن تكون عبارة «يرثون» في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام، وعلى كلّ حال فإنّ هذه المنزلة العالية ـ حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه ـ خاصّة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنّة الآخرين في منازل أقلّ أهميّة من هؤلاء المؤمنين.

 


الخشوع روح الصلاة

إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجّه الباطني إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلّي، هو روح الصلاة. والخشوع ما هو إلاّ توجّه باطني مع تواضع. وعلى هذا يتبيّن أنّ المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة كجسم بلا روح، بل إنّ جميع توجّههم إلى حقيقة الصلاة وباطنها.

وهناك عدد كبير من الناس يودّ بشوق بالغ أن يكون خاشعاً في صلاته، إلاّ أنّه لا يتمكّن من تحقيق ذلك.

ولتحقيق الخشوع والتوجّه التامّ إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات، أُوصي بما يلي:

نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيراً عظيماً، حتّى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.

الإهتمام بالاُمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسّه، وكلّما تمكّن الإنسان من التخلّص من مشاغله حصل على توجّه إلى الله في العبادة.

إختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا فإنّ الصلاة مع إنشغال البال بغيرها تعدّ مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس أو قبال المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن كانت أبسط بناءً وأقلّ زخرفة واُبّهة، ليكون التوجّه كلّه لله فاطر السموات والأرض.

إجتناب المعاصي عامل مؤثّر في التوجّه إلى الله، لأنّ المعصية والذنب تبعد الشقّة بين قلب المسلم وخالقه.

معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثّر كبير على ذلك.

ويساعد على ذلك أداء المستحبّات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل هو كبقيّة الأعمال الاُخرى يحتاج إلى تمرين متواصل، ويحدث كثيراً أن يحصل الإنسان على قدرة التركيز الفكري في لحظة من لحظات الصلاة، وبمواصلة هذا العمل ومتابعته يحصل على قدرة ذاتية يمكنه بها إغلاق أبواب فكره في أثناء الصلاة إلاّ على خالقه (فتأمّلوا جيداً).

 


  الدرس الثاني: صفات عباد الرحمن


 يتحدث سبحانه وتعالى عن صفات عباد الرحمن فيقول:

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً (67)  سورة الفرقان


اللغة:

هوناً: الهون الرفق واللين والناعم والهادي المتواضع.

يسرفوا: الاسراف مجاوزة الحد.

يقتروا: التقتير التضيق.

قواماً: القوام وسط بينهما.


التّفسير  

الصفات الخاصّة لعباد الرحمن:

هذه الآيات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصّة لعباد الرحمن، إكمالا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله «الرحمن» يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن»؟ ورأينا أن القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين، وجاء الدور الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

تبيّن هذه الآيات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصّة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الإعتقادية، وبعض منها أخلاقي، ومنها ما هو إجتماعي، بعض منها

يتعلق بالفرد، وبعض آخر بالجماعة، وهي أوّلا وآخراً مجموعة من أعلى القيم الإنسانية.

يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}.

إن أول صفة لـ: «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقّة ـ من أسلوب مشيته.

نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

لقد رأينا بأُم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القرآن أيضاً، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أُنوفهم، تُرى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟!

نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعلامة الأُولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.

فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (7) فلنفس هذا السبب أيضاً، وهو أن التواضع روح الإيمان. حقّاً إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود، فسيعلم كم هو ضئيل حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته كالجبال، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة الى الأفلاك العظيمة.

ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليلا على الجهل المطلق!؟

 

نقرأ في حديث رائع عن النّبي (ص)، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوماً ما، فرأى جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة، فقال: رسول الله (ص): أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقاً، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال (ص): «المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!».

الصفة الثّانية لـ «عباد الرحمن» الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}.

السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشيء عن الضعف.

السلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.

والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

نعم، المظهر الآخر من مظاهر عظمتهم الروحية، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق «العبودية لله» الصعب الممتلىء بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون و«مفسدون» وجهلة.

وتتناول الآية الثّانية، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}.

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرّموا على أنفسهم لذة النوم، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك، حيث ذكرُ الله والقيام والسجود بين يدي عظمته عزَّوجلّ، فيقضون شطراً من الليل في مناجاة المحبوب، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.

ورغم أن جملة «يبيتون» دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح، لكن المعلوم أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل، وإن كان المقصود هو كل الليل فإنّ ذلك يكون في بعض الموارد.

كما أن تقديم «السجود» على «القيام» بسبب أهميته، وإن كان القيام مقدّم على السجود عملياً في حال الصلاة.

الصفة الرّابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}. أي شديداً ومستديماً. {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً}.

و مع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم، فإنَّ قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من المسؤوليات، ذلك الخوف الباعث على القوّة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصراً أمام الله.

كلمة «غرام» في الأصل بمعنى المصيبة، والألم الشديد الذي لا يفارق الانسان. ويطلق «الغريم» على الشخص الدائن، لأنّه يلازم الإنسان دائماً من أجل أخذ حقّه.

ويطلق «الغرام» أيضاً على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر، وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها شديد ودائم لا يزول.

ولعل الفرق بين «مستقراً» و«مقاماً» أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم «مقام»، ومكان مؤقت للمؤمنين، أي «مستقر»، وبهذا الترتيب يكون قد أُشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم.

ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.

ومن المحتمل أيضاً أن تكون «مستقراً» و«مقاماً» كلاهما لمعنىً واحد، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم، وهو صحيح في مقابل الجنّة، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً}.(8)

 

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ «عباد الرحمن» التي هي الإعتدال والإبتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال، خصوصاً في مسألة الإِنفاق، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}.

الملفت للإنتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمراً مسلماً لا يحتاج إلى ذكر، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول: إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعاً، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

في تفسير «الإسراف» و«الإقتار» كنقطتين متقابلتين، للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد، وهو أنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد، وفي غير حق، وبلا داع، و«الإِقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

في إحدى الروايات الإِسلامية، ورد تشبيه رائع للإِسراف والإِقتار وحد الإِعتدال، تقول الرّواية: تلا أبو عبد الله (ع) هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}. قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الإِقتار الذي ذكره الله عزَّوجلّ في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى كفَّه كلَّها، ثمّ قال: هذا الإِسراف، ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال: هذا القوام».(9)

كلمة «قوام» (على وزن عوام) لغة بمعنى العدل والإِستقامة والحد والوسط بين شيئين، و«قُوام» (على وزن كتاب): الشيء الذي يكون أساس القيام والإستقرار.


مسألتان:

1 - طريقة مشي المؤمنين

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ التواضع أحد علائم «عباد الرحمن»، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحياناً أن يتوهم البعض في التواضع ضعفاً وعجزاً وخوراً وكسلا، وهذا النمط من التفكير خطير جدّاً.

التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع.

نقرأ في سيرة النّبي (ص) أن أحد أصحابه يقول: «مارأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول اللّه (ص)، كأنّما الأرض تطوى له، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير مكترث».(10)

ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق (ع) في تفسير الآية {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ} أنّه قال: «والرجل يمشي بسجيته التي جُبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر».(11)

وورد في حديث آخر، في حالات النّبي (ص): «قد كان يتكفأ في مشيه كإنّما يمشي في صبب».(12)                       

يعني حينما كان الرّسول الأكرم (ص) يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال، كأنّما يمشي في منحدر.

على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب «عباد الرحمن». 


2 - البخل والإسراف

لا شك أنّ «الإِسراف» واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإِسلام، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات، فالإسراف كان نهجاً فرعونياً: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ}.(13)

والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}.(14)

ومع الإلتفات إلى أنّه أصبح ثابتاً اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست كثيرة جداً نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف، وكل إسراف سيكون سبباً في حرمان أُناس لا ذنب لهم، فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله.

في تفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضاً، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة، فالأصل على أساس النظرة التوحيدية، أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي، ونحن جميعاً مستخلفون من قبله، وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول، ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإِسراف ولم يأذن بالبخل.

 


  الدرس الثالث: بحث آخر في صفات عباد الرحمن


 يتحدث سبحانه عن صفات أخرى فيقول:

وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) سورة الفرقان


 اللغة:

أثاماً: «الاثم» و«آثام» في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الانسان الى المثوبة، ثم أطلقت على كل ذنب، لكنها هنا بمعنى جزاء الذنب.

متاباً: مرجعاً حسناً.


التّفسير

بحث آخر في صفات عباد الرحمن:

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة، فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}.

فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والإجتماعية، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.

الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}.

ويستفاد جيداً من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل، ومحرم إراقة دمائها إلاّ إذا تحققت أسباب ترفع هذا الإِحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبداً: {وَلا يَزْنُونَ}.

إنّهم على مفترق طريقين: الكفر والإيمان، فينتخبون الإيمان، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح، فهم يتخيرون الأمان، وعلى مفترق طريقين: الطهر والتلوث: فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}.

قال بعضهم: إن «إثم» بمعنى الذنب و«آثام» بمعنى عقوبة الذنب (الرازي) فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق.

ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك، ثمّ قتل النفس، ثمّ الزنا، ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية.

ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرم (ص)، قال: سألت رسول الله (ص): أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: قلت: ثمّ أَيُّ؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت: ثمّ أيُّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها.(15)

وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث، ورد عن نوع خاص من القتل والزنا، لكن مع الإنتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا، وما في الرّواية مصداق أوضحٌ لهما.

تتكيء الآية التالية أيضاً على ما سبق، من أن لهذه الذنوب الثّلاثة أهمية قصوى، فيقول تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً}.

 

ويتجسد هنا سؤالان:

الأوّل: لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟

الثّاني: إنّ الكلام هنا عن الخلود في العذاب، في حين أنّ الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب الأوّل من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفراً، فقط، وأمّا قتل النفس والزنا فليسا سبباً للخلود في العذاب.

بحث المفسّرون كثيراً في الإجابة على السؤال الأول، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل، فتكون العقوبات بمجموعها عذاباً مضاعفاً.

فضلا عن أنّ ذنباً ما يكون أحياناً مصدر الذنوب الأُخرى، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لهذا اتّخذ بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على هذا الأصل المعروف أن: «الكفار مكلفون بالفروع كما أنّهم مكلفون بالأصول».

وأمّا في الإجابة على السؤال الثّاني: فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سبباً في الخروج من هذه الدنيا بلا إيمان.

ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في مورد الزنا أيضاً، خاصّة إذا كان الزنا بمحصنة.

ومن المحتمل أيضاً أن «الخلود» في الآية أعلاه يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلاثة معاً، الشرك وقتل النفس والزنا، والشاهد على هذا المعنى: الآية التالية حيث تقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}.

واعتبر بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن «الخلود» هنا بمعنى المدة الطويلة لا الخالدة، لكن التّفسير الأوّل والثّاني أصح.

ومن الملفت للنظر هنا ـ فضلا عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة أُخرى ذكرت أيضاً هي التحقير والمهانة، أي البعد النفسي من العذاب، وقد تكون بذاتها تفسيراً لمسألة مضاعفة العذاب، ذلك لأنّهم يعذبون عذاباً جسدياً وعذاباً روحياً.

لكن القرآن المجيد كما مرِّ سابقاً، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها، ففي، الآية التالية يقول تعالى هكذا: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}.

كما مرّ بنا في الآية الماضية، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب، تركت الآية باب التوبة مفتوحاً أمام هؤلاء الأشخاص، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله، بشرط أن تكون توبته حقيقية، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المُعَوِّض) الذي ورد في الآية، وإلاّ فإن مجرّد الإستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبداً.

المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي: كيف يبدل الله «سيئات» أولئك «حسنات»؟ 


تبديل السيئات حسنات:

هنا عدّة تفاسير، يمكن القبول بها جميعاً:

حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده، وبسبب هذا التحول والإنقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضى، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانياً، فإنّه يكون بعدها عفيفاً وطاهراً، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة، ويضع مكانها حسنات، نقرأ في رواية عن أبي ذر: قال: قال رسول الله (ص): «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه، وتخبأ كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وهو يقرّ ليس بمنكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فإذا أراد الله خيراً قال: اعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟» قال: ورأيتُ رسول الله (ص) ضحك حتى بدت نواجذه، ثمّ تلا: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.

التّفسير الثّالت هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه، وتبدل بآثار الخير، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.

ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعاً، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة، فيقول تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً}.

يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.

لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا، وإن كان حسناً، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلاّ إذا استمدَّ من الدافع الربّاني.

بعض المفسّرين ذكروا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه الآية السابقة أحياناً في بعض الأذهان، وهو: كيف يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟!، فتجيب هذه الآية: حينما يؤوب الإنسان إلى ربه العظيم، فلا عجب في هذا الأمر.

تفسير ثالث ذكر لهذه الآية، وهو أن كلَّ من تاب من ذنبه فإنّه يعود إلى الله، ومثوبته بلا حساب.

وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، لكن التّفسير الأوّل أقرب، خاصّة وأنّه يتفق مع الرّواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الآية.

 




(1)  تفسير الصافي ومجمع البيان.

(2)  مجمع البيان وتفسير الرازي موضع البحث.

(3)  يراجع بهذا المورد قصة الحضارة لويل ديورانت.

(4)  تفسير البرهان: ج1 / ص380.

(5)  النساء 58.

(6)  تفسير البرهان: ج1 / ص380.

(7)  الاسراء/37.

(8)  الفرقان / 76.

(9) - الكافي: كما نقل نور الثقلين: ج4 / ص29.

(10)  في ظلال القرآن ذيل الآية.

(11)  مجمع البيان، ذيل الآية.

(12)  تفسير روح المعاني، ذيل الآية.

(13)  يونس / 83.

(14)  غافر / 43.

(15)  صحيح البخاري او (المسلم) كما نقل مجمع البيان ذيل الآية.