المقدمة

 والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

يقول سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1)

القرآن برنامج الهداية الإلهية، والوصفة الطبية الشافية تماماً. فمن لا يتدبر في القرآن، أو أنه يتدبر إلاّ أن قلبه مقفل نتيجة اتباع الهوى والأعمال السيئة التي يقوم بها بحيث لا تنفذ معه أي حقيقة الى قلبه يعتبر عامل مسكنة هذا الفرد وضياعه. بتعبير آخر، فهو كرجل ضل طريقه في الظلمات، فلا سراج في يده، ولا هو يبصر إذ هو أعمى، فلو كان معه سراج، وكان مبصراً، فإن الاهتداء الى الطريق في أي مكان سهل ويسير.

تؤكد الآيات القرآنية المختلفة على حقيقة أن هذا الكتاب السماوي العظيم ليس للتلاوة وحسب، بل إن الهدف النهائي منه هو الذكر، والتدبر في عواقب الأمور، والانذار، واخراج البشر من الظلمات، والشفاء والرحمة والهداية.

يقول عزّ وجلّ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (2)

وقال سبحانه أيضاً: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (3)

ولهذا، فإن القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في قلبها وصميمها لا على هامشها، وعلى الجميع أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كل أوامره، وأن يجعلوا منهاج وطريقة حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

ولا بد أن نشير هنا الى تأكيد علمائنا الأبرار ومراجعنا العظام في الحث على تلاوة القرآن والتدبر فيه والتفكر في آلائه، لا سيما سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي (دام ظله) إذ يقول في إحدى توصياته وارشاداته:

«يجب التدبر في القرآن، أي التفكر في أعماق الآيات وفيما يريده القرآن».

إنطلاقاً من الذي ذكرناه قامت جمعية القرآن الكريم للتوجيه والارشاد بدورها في بيان وتوضيح سورتي (يس والصافات) لتسهيل وتعبيد الطريق أمام كل من يريد أن يتدبر القرآن من أجل الوصول الى التطبيق والعمل. نسأل الباري عزّ وجلّ أن يوفقنا للوصول الى الهداية من خلال ذلك، إنه هو السميع العليم.

والحمد لله رب العالمين

 جمعية القرآن الكريم ، دائرة الدراسات

27/رجب/1430هـ       

 


  فضيلة سورة يس

مكية وآياتها ثلاث وثمانون آية الا آية منها وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} نزلت في المدينة.

هذه السورة من أهم السور القرآنية، الى حد أن الأحاديث لقبتها بـ«قلب القرآن» ففي حديث عن رسول الله (ص) قال: «إن لكل شيء قلباً، وقلب القرآن يس» (4)

وعن الامام الصادق (ع): «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم ومن كل آفة، وإن مات في نومه أدخله الله الجنّة وحضر غسله ثلاثون ألف ملك» (5)

كذلك نقرأ عن الرسول (ص) أيضاً «سورة يس تدعى في التوراة المعمة ! قيل: وما المعمة؟ قال: تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة» (6)

هناك روايات أخرى عديدة بهذا الخصوص، أعرضنا عن ذكرها خوفا من الاطالة ولكن ينبغي ان نعرف أن هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الالفاظ فقط، بل إن عظمة فضيلة هذه السورة إنما هي لعظمة محتواها.. فهو يوقظ من الغفلة ويضع في النفس الايمان، ويولد روح المسؤولية ويدعو الى التقوى، بحيث أن الانسان إذا تفكر في هذه الآية وجعل ذلك التفكر يلقي بظلاله على أعماله، فإنه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

 

محتوى سورة يس:

تتحدث هذه السورة عن أربعة أقسام أساسية:

القسم الأول: يتحدث عن رسالة النبي الأكرم (ص) والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به.

القسم الثاني: يتحدث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضد الشرك، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلام (ص) وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

القسم الثالث: يتحدث عن النكات التوحيدية الملفتة للنظر، وهو عرض معبر عن الآيات والدلائل المشيرة الى عظمة الله في عالم الوجود.

القسم الرابع: يتحدث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثم الجنة والنار.

وفي خلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محركة ومحفزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة: هي أن الانسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة، الحياة والموت، الانذار والبشارة، بحيث تشكل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

 


  الآيات من 1 إلى 27

بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19) وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

 


  اللغة والبيان

مُقْمَحُونَ: المقمح الذي يغض بصره بعد أن يرفع رأسه، يُقال: قمح البعير رأسه إذا رفعه بعد شرب الماء.

فَأَغْشَيْنَاهُمْ: جعلنا على أبصارهم غشاوة.

فَعَزَّزْنَا: تقول عززني بكذا قوّاني به، وهو المعنى المراد به هنا.

تَطَيَّرْنَا: تشاءمنا.

طَائِرُكُمْ: شؤمكم.

أَقْصَى: أبعد.

 


  التفسير

  الحروف المقطعة

 (يس) (1)

هذه السورة تبدأ بحروف مقطعة وهي (ياء) و (سين)، ولقد كتبنا عن الحروف المقطعة في تفسير سورة مريم (ع)، ولكن فيما يخص سورة (يس) فتوجد تفسيرات أخرى لهذه الحروف المقطعة. من جملة هذه التفاسير أن هذه الكلمة (يس) تتكون من «ياء» حرف نداء و«سين» أي شخص الرسول الأكرم (ص)، وعليه فيكون المعنى أنه خطاب للرسول (ص) لتوضيح قضايا لاحقة.

وقال الشيخ الطبرسي (قدس سره): روي عن الامام علي (ع): أن كلمة (يس) اسم من أسماء النبي (ص).

وفي رواية عن الامام الصادق (ع) أنه قال: يس اسم رسول الله (ص) والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (7).

وقيل أيضاً: (يس) معناه يا انسان.

وقيل: معناه يا رجل.

وقيل: معناه يا سيد الأولين والآخرين.

 {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ} (2)

لقد أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من الباطل، وقيل سمّاه حكيماً لما فيه من الحكمة فكأنه المظهر للحكمة الناطق بها.

 {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (3)

أي ممن أرسله الله تعالى بالنبوة والرسالة.

 {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4)

على الطريق الذي يؤدي بسالكيه الى كمال العبودية لله سبحانه والقرب منه تعالى ويوصل الى الحق والجنة من خلال تطبيق شريعته الواضحة وحجته الدامغة.

 {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (5)

يعني هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه (الرحيم) بخلقه ولذلك أرسله.

 {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (6)

أي لتخوّف بالقرآن وتحذّر به من معاصي الله قوماً لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى (ع) ومحمد (ص) {فهم غافلون} عما تضمّنه القرآن وعمّا انذر الله به من نزول العذاب.

 {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (7)

أي لقد وجب العذاب على أكثر السابقين حيث ماتوا على الكفر والشرك.

 {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} (8)

الأغلال جمع غل وهو الطوق من الحديد، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيَين.. وإذا شُدت الأيدي بالأغلال الى الأعناق ارتفع الرأس الى فوق، واستحال على المغلول أن يلتفت يمنة ويسرة أو ينظر الى الامام فهو أبداً ينظر الى السماء، وهذا هو المقمح، وكل ذلك لتمردهم على الحق وفسادهم في الأرض.

 


  أسباب النزول

قيل نزل قوله «إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً» في أبي جهل كان حلف لئن رأى محمد (ص) يصلّي ليرضخنّ رأسه فأتاه وهو يصلّي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه انثنت يده الى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد الى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر من يده فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأغشى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع الى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه ما صنعت فقال ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني.

وروي: أن قريشاً اجتمعوا بباب النبي (ص) فخرج اليهم فطرح التراب على رؤوسهم وهم لا يبصرونه، وهناك أسباب أخرى ذكرت إكتفينا بهذا.

 {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (9)

أي يجعلهم الله يوم القيامة بين سدّين من نار: واحد من أمامهم وآخر من خلفهم لا تجدون متقدّماً عنهما ولا متأخراً ولا يبصرون سماء ولا غيرها لأن السدّين قد أعميا أبصارهم.. وهذا العذاب لا يختص بالمشركين، بل يعم كل مجرم وظالم، قال الامام علي (ع): «أما أهل معصيته فأنزلهم شر دار، وغل الأيدي الى الأذقان، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات النيران، وبابٌ قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب».

وإذا حملناه على صفة القوم الذين همّوا بقتل النبي (ص) فالمراد جعلنا بين ايدي أولئك الكفار منعاً ومن خلفهم منعاً فأغشينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي (ص).

 {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (10)

يعني الأمر سيان عندهم يا محمد وعظت أو لم تعظ فإنهم لا يتحركون إلا بوحي من أهوائهم ومصالحهم.

 


  من هم الذين يتقبلون إنذارك

 {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (11)

إنما يستمع إليك وينتفع بإنذارك وتخويفك من اتّبع القرآن إذا تليت عليه آياته وخشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة وأجر كريم.

 {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (12)

المعنى ان الله يبعث الناس غداً من قبورهم، وقد أُحصِيَ عليهم ما فعلوه من خير وشر، وما تركوا من آثار نافعة أو ضارة، وانه يجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

 


  رسولان عززهما الله بثالث

 {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} (13)

قال سبحانه لنبيه (ص) مثّل لهم مثالاً أصحاب قرية إنطاكية حين بعث الله إليهم المرسلين.

 {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} (14)

المعنى: هو أن الله سبحانه أرسل لأهل تلك القرية ثلاثة يدعونهم الى الحق، أما من هم هؤلاء الرسل؟ فإن هناك أخذاً ورداً بين المفسرين، بعضهم قال: هم شمعون ويوحنا وبولس، وبعضهم ذكر أسماء أخرى لهم.

 {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} (15)

كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة والوحي، ويستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئاً من ذاك القبيل.

 {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (16)

إنّما قالوا ذلك بعدما قامت الحجة بظهور المعجزة فلم يقبلوها ووجه الاحتجاج بهذا القول أنهم ألزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا انهم صادقون عن الله ففي ذلك تحذير شديد.

 {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (17)

أي ليس يلزمنا إلا أداء الرسالة والتبليغ وإتمام الحجة.

 {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (18)

المعنى ان المكذبين قالوا للرسل: لقد تشاءمنا من دعوتكم، ونحن نخاف أن تعود علينا بتفريق الكلمة، وانقسامنا الى فئتين معكم وعليكم، فسكوتكم خير لنا ولكم وإلا أسكتناكم بالرجم وشدة العذاب.

 {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (19)

أي فقال لهم الرسل: لا مصدر لهذا الخوف والتشاؤم إلاّ أنفسكم التي توسوس إليكم بأن دعوتنا شؤم وشر والشر بأنفسكم وفيما انتم عليه من الشرك والجهل والفساد.

 


  المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف

 {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (20)

لم يشر سبحانه الى اسم هذا الرجل، ومع ذلك قال المفسرون اسمه حبيب النجار، وأيّاً كان اسمه ونسبه فهو من الصالحين بشهادة القرآن، كان قد أمن بالرسل عند ورودهم القرية وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة فلما بلغه أن قومه كذّبوا الرسل وهمّوا بقتلهم جاء يعدو ويشتد (قال يا قوم اتبعوا) الذين أرسلهم الله اليكم وأقرّوا برسالتهم قالوا وإنّما علم هو بنبوتهم لأنهم لما دعوه قال أتأخذون على ذلك أجراً قالوا لا وقيل انه كان به زمانة او جذام فابرأوه فآمن بهم.

 {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (21)

أي قال لهم اتبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاؤكم به من الهدى (وهم) مع ذلك (مهتدون) الى طريق الحق سالكون سبيله قال فلما قال هذا أخذوه ورفعوه الى الملك فقال له الملك أفأنت تتبعهم فقال:

 {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (22)

هذا حكاية لقول المؤمن الناصح، ومعناه أي مانع يمنعني عن عبادة الذي أوجدني من العدم، ثم يبعثنا جميعاً بعد الموت للحساب والجزاء.

 {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} (23)

كيف أعبد أصناماً لا تضر ولا تنفع، ولا تنقذ ولا تشفع، إن أراد الله اهلاكي والاضرار بي لا تدفع ولا تمنع شفاعتهم عني شيئاً ولا يخلصوني من ذلك الهلاك او الضرر والمكروه.

 {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (24)

أي إني إن فعلت ذلك بأن عبدت تلك الأصنام وجعلتها شريكاً لله فإني سأكون في ضلال بعيد.

 {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (25)

أقول كلمة الحق فاسمعوها، وأجابه بها كل مبطل، ولا أبالي بالموت فاصنعوا بي ما تشاءون، وفي الأخبار أن قومه رموه بالحجارة، وفي مجمع البيان نقلاً عن تفسير الثعلبي أن رسول الله (ص) قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: عليّ بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون.

 {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} (26)

الخطاب للعبد الصالح المخلص وهو – كما يفيده السياق – يشير الى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنّة. والمراد بالجنة على هذا: جنّة البرزخ دون جنّة الآخرة قال أمير المؤمنين (ع): والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.

 {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (27)

لقد تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب والجنة ليرغبوا في مثله وليؤمنوا لينالوا ذلك الاكرام ودخول الجنان.

 


  قصة رسل أنطاكية

 (انطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت – على قول البعض – بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

يقول الطبرسي – أعلى الله مقامه – في تفسير مجمع البيان – قالوا بعث عيسى (ع) رسولين من الحواريين الى مدينة انطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان الى عبادة الرحمن.

فقال: أمعكما آية؟

قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ: إن لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين.

قالا: فانطلق بنا الى منزلك نتطلع حاله، فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على ايديهما كثيراً من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر الى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك: ولنا إله سوى آلهتنا؟

 قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك.

قال: قوما حتى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق فضربوهما.

وقال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين الى انطاكية فأتياها ولم يصلا الى ملكها، وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كُذب الرسولان وضُربا، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على اثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكراً فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره الى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: ايها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك الى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون: من أرسلكما الى ها هنا.

قالا: الله الذي خلق كل شيء لا شريك له.

قال: وما آيتكما.

قالا: ما تتمناه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارتا مقلتين يُبصر بهما، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفاً؟

فقال الملك: ليس لي عنك سر، إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع.

ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما.

قالا: إلهنا قادر على كل شيء.

فقال: الملك: إن ها هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه – وكان غائباً – فجاؤا بالميت وقد تغير وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سراً فقام الميت، وقال لهم: إني قد متّ منذ سبعة أيام، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم مما أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجب الملك.

فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك، دعاه الى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون (8).

 



 

 (1) - سورة محمد (ص) /24

 (2) - سورة ابراهيم (ع)/ 1

 (3) - سورة الاسراء / 82

 (4) - مجمع البيان: ج 8 / ص 646

 (5) - مجمع البيان: ج 8 / ص646

 (6) - مجمع البيان: ج 8 / ص646

 (7) - نور الثقلين: ج4 / ص 375

 (8) - مجمع البيان: ج2 / ص 656