أحسن القصص

(142 قصّة قرآنيّة)

 

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى، ذو الحجّة 1433هـ // 2012م

 

 

 المقدّمة

 

 (1) ـ فراشة العشق

 (13) ـ تأثير القرآن

 (2) ـ محبّة الله أكبر من محبّة الأمّ

 (14) ـ قضاء طفل

 (3) ـ حكمة لقمان

 (15) ـ طلب العذاب

 (4) ـ نعمة الأخوّة

 (16) ـ جذور الحرمان

 (5) ـ وحدك المغيث

 (17) ـ المدد الغيبيّ

 (6) ـ جاذبيّة القرآن

 (18) ـ آية الأمل

 (7) ـ الإسلام طبيب بلا دواء

 (19) ـ شجرة الجنّة

 (8) ـ نجاة المؤمن

 (20) ـ الأيّام الأولى

 (9) ـ دوّامة النّجاة

 (21) ـ العودة إلى الوطن

 (10) ـ درس في الشّهامة

 (22) ـ أسود الصّباح

 (11) ـ حكم المقتول

 (23) ـ عدم المساومة

 (12) ـ البناء الوبال

 (24) ـ حرب إعلاميّة

 

 


المقدّمة


 

بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف خلق الله محمّد وعلى آله الطّاهرين والأنبياء والمرسلين والشّهداء والصّالحين منذ آدم إلى قيام يوم الدّين.

يقول سبحانه وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111] .

القصّة تعتبر مرآة للإنسان يستطيع من خلالها أن يرى مظهر الإيمان والكفر، والنّصر والهزيمة، والهناء والحرمان، والسّعادة والشّقاء، والعزّة والزّلة، بالنّتيجة كلّ ما له قيمة في حياة البشر وما ليس له قيمة، فهي تعرض كلّ تجارب المجتمعات السّابقة والرّجال العظام، ونشاهد من خلالها ذلك العمر القصير للإنسان، كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر، ولكن ما أكثر العبر وأقلّ الاعتبار، فأُولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة ويستفيدوا منها.

وعلينا أن نفرّق بين الأساطير ـ القصص الخياليّة المصنوعة ذات الإثارة في أوساط الأمم ـ وبين القصص القرآنيّة والواقعيّة، فهي إخبار عن أحوال الأمم الماضية، والنّبوّات السّابقة، والحوادث الواقعيّة، وهي ثلاثة أنواع:

1 ـ قصص الأنبياء.

2 ـ قصص تتعلّق بحوادث غابرة، وأشخاص لم تثبت نبوّتهم، كقصّة طالوت، وابنَيْ آدم ...

3 ـ قصص تتعلّق بالحوادث الّتي وقعت في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كغزوة بدر وأحد ...

 

وللقصّة فوائد عدّة منها:

أ ـ إيضاح أسس الدّعوة إلى الله تعالى.

ب ـ تثبيت قلب الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأمّة على دين الله سبحانه وتعالى، وتقوية ثقة المؤمنين بنصره.

ج ـ تصديق الأنبياء السّابقين وإحياء ذكراهم.

د ـ إظهار صدق النّبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في دعوته.

هـ  مقارعته أهل الكتاب بالحجّة فيما كتموه من البيّنات والهدى.

و ـ أخذ العبرة.

 

بالنّهاية فوائد القصص القرآنيّة كثيرة، وهي حقيقيّة لا خياليّة، ولها أثر في التّربية والتّهذيب، وتنفذ إلى النّفس بسهولة ويسر، ولا يملّ السّامع منها أبدًا، وهذه الخطوة الأولى نحو التّعرّف على مفاهيم القرآن وتعاليمه وقيمه ومبادئه وتشريعاته وحكمه وأهدافه وأسلوبه للتّدبّر والعمل به. يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): « الخطوة الأولى للعمل الكامل بالقرآن هو التّعرّف على مضمونه ».

ونحن في جمعيّة القرآن الكريم قمنا بتنظيم وتنقيح ومتابعة هذا الكتاب (أحسن القصص) ليكون في خدمة أجيالنا ومجتمعنا، سائلين المولى سبحانه لنا ولهم الإستفادة بالتّدبّر والعمل.

 

والحمد لله ربّ العالمين

جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد


 


1- فراشة العشق


 

على مرِّ العصور هناك شخصيّات حُفِرَت أسماؤها على صفحات التّاريخ، وخلّدها الدّهر فهي مضيئة تتلألأ على جبهة الزّمان. لقد خلّد التّاريخ أسماء أولئك المضحّين الّذين قدّموا أرواحهم في سبيل حفظ الإيمان، فتلقّوا سهام البلاء والعذاب بكلّ عشق ومحبّة، وأقبلوا إلى حبال المشانق وحدّ السّيوف وهم يقبّلونها فرحين مسرورين، واحترقوا بنار العذاب مثل الفراشات، فسطعت أسماؤهم كأنّها الكواكب الدّرّية.

من بين هؤلاء الأشخاص (آسية) زوجة فرعون الّتي تحمّلت أنواع العذاب وتجرّعت كأس البلاء، كلّ ذلك في سبيل الإيمان، الإيمان بموسى وربّ موسى وعقيدة موسى (عليه السّلام).

في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، أنّه أرسل إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء، فقال (عليه السّلام): « ليس كما ذكرت، ولكن سأخبرك عنهم، إنَّ الله بعث رجلاً حبشيًّا نبيًّا، وهم حبشة، فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه، وأسروه وأسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حَيْرًا ، ثمّ ملؤوه نارًا، ثمّ جمعوا النّاس فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النّار معه، فجعل أصحابه يتهافتون في النّار، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر فلمّا هجمت هابت ورقّت على ابنها، فناداها الصّبيّ: لا تهابي وارمني ونفسك في النّار، فإنّ هذا والله في الله قليل، فرمت بنفسها في النّار وصبيّها، وكان ممّن تكلّم في المهد»  [1] .

والله تعالى يشير إلى قضيّتهم في القرآن الكريم، يقول تعالى في شأن أولئك الظّلمة المستكبرين: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ [2] .

لقد وُضع المؤمنون في ذلك العصر بين خيار الإيمان والموت من جهة، أو الحياة والكفر من جهة ثانية، فكان الموت عندهم أحلى من العسل لأنّه في سبيل الإيمان. نعم إنّ المؤمن ليبذل روحه في سبيل الحبيب الأزليّ وهو جذلان، كيف لا وأرواح الجميع منه ابتدأت وإليه تنتهي، أَوَليس وجودنا ملك له، أَوَليس كلّ الوجود منه وإليه، ألا يلهج لساننا بذكره في ركوعنا وسجودنا قائلاً: إلهنا نحن نعبدك وحدك لا نشرك بك أحدًا، وهذا الميثاق في أعناقنا لا نحيد عنه ولو فصلت رؤوسنا عن أجسادنا.

إنَّ العاشق الحقيقيّ يمنح كلّ وجوده للمعشوق، وهذه المرأة وطفلها قد تجسّدا في أجمل صورة للإيثار والتّضحية، ومنحا روحَيْهما في سبيل الإيمان، « إنّ هذا والله في الله قليل ».

بهذه الصّرخة من طفل رضيع، كأنّه بصوته البريء يواسي أمّه ويلاطفها ويقول لها: أنا غلامك، لا تخافي، إنّ حضن محبّتي فاتح ذراعَيْه ليضمّك، وحور العين في الجنّة بانتظارك لتؤنسك وتواسيكِ. فما كان من الأمّ إلاّ أن ضمّت ولدها بين ذراعَيْها وحضنته إلى صدرها، فأغمضت جفنَيْها، ورمت بنفسها وطفلها في النّار، وهي هادئة مطمئنّة وكأنّها فراشة تحترق في العشق في سبيل الإيمان.


 


2- محبّة الله أكبر من محبّة الأمّ


 

عندما علم فرعون أنّ طفلاً سيولد من بني إسرائيل، ويكون هلاك فرعون ومملكته وأتباعه على يدَيْه، عمد إلى فصل الرّجال من بني إسرائيل عن نسائهم، ووضع لكلّ امرأة منهم امرأة قبطية تراقبها لكي يتمكّن من قتل كلّ مولود يأتي إلى الدّنيا، وبذلك يحمي ملكه من الدّمار والهلاك.

يقول الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السّلام): « إنّ موسى لمّا حملت به أمّه، لم يظهر حملها إلاّ عند وضعها له، وكان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ وذلك أنّه كان لمّا بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: أنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران، يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون، وفرّق بين الرّجال والنّساء وحبس الرّجال في المحابس، فلمّا وضعت أمّ موسى بموسى (عليه السّلام) نظرت إليه وحزنت عليه واغتمّت وبكت، وقالت: تذبح السّاعة، فعطف الله بقلب الموكّلة بها عليه، فقالت لأمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحدٌ إلاّ أحبّه، وهو قول الله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي [3] فأحبّته القبطيّة الموكّلة به [4] » .

والحقيقة أنّ الله تعالى منذ البداية قدّر أنّ نجاة المستضعفين والمظلومين سوف يكون على يد طفل من نسل يعقوب (عليه السّلام)، وذلك بهلاك فرعون وسلب الحكم منه، لكن ما يلفت الانتباه أنّ هذا الطّفل سوف يتربّى في حضن طاغية جبّار، مثل زهرة تنبت بين حقل من الأشواك [5] .


 


3- حكمة لقمان


 

من يكن في الدّنيا ذليلاً وفي الآخرة شريفًا، خير من أن يكون في الدّنيا شريفًا، وفي الآخرة ذليلاً.

ينقل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: « حقًّا أقول: لم يكن لقمان نبيًّا ».

عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: « لم يكن لقمان نبيًّا، ولكن كان عبدًا كثير التّفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه، ومنّ عليه بالحكمة، كان نائمًا نصف النّهار، إذ جاءه نداء: يا لقمان! هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين النّاس بالحقّ؟ فأجاب الصّوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم علَيَّ فسمعًا وطاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت لا يراهم. لمَ يا لقمان؟ قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها، يغشاه الظّلم من كلّ مكان، إن وُقِيَ فبالحريّ أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة. ومن يكن في الدّنيا ذليلاً، وفي الآخرة شريفًا، خير من أن يكون في الدّنيا شريفًا، وفي الآخرة ذليلاً. ومن يختر الدّنيا على الآخرة، تفته الدّنيا، ولا يصيب الآخرة. فتعجبّت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها. ثمّ كان يؤازر داود بحكمته »، فقال له داود (عليه السّلام): طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾ معناه. وقلنا له اشكر لله تعالى على ما أعطاك من الحكمة ﴿ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ أي: من يشكر نعمة الله، ونعمة من أنعم عليه، فإنّه إنّما يشكر لنفسه لأنَّ ثواب شكره عائد عليه، ويستحقّ مزيد النّعمة، والزّيادة [6] .

يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [7] .


 


4- نعمة الإخوّة


 

قبل الإسلام كان بين الأوس والخزرج حروبًا تطاولت لأكثر من مائة وعشرين سنة، وكانت الأحقاد بين القبيلتَيْن تتناقل من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل، فقد كانوا يتقاتلون ليلهم ونهارهم وكانت الحروب فيما بينهم لا تهدأ، حتّى بعث الله تعالى رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدخلوا في الإسلام وألّف الله بين قلوبهم فزالت تلك الأحقاد، وحلّ مكانها الصّلح والوئام، وأصبحوا بعد العداوة أخوة ببركة الدّين الجديد الإسلام، يقول تعالى: ﴿ ... وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ... [8] .

وكان في اليهود رجل يدعى شمّاس بن قيس، وهو شيخ عظيم الكفر شديد الطّعن على المسلمين، مرّ على نفر من الأوس والخزرج وكانوا معًا في مجلس، فلمّا رأى من ألفتهم ومحبّتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الّذي كان بينهم في الجاهليّة، إمتلأ غيظًا وحقدًا، ولم يستطع رؤية الألفة والمحبّة بينهم، فدعا شابًّا من اليهود أن يجلس بينهم ويذكّرهم بما كان بينهم من الحرب في يوم (بعاث) وما تقوّلوا فيه من الأشعار، ففعل، وتكلّم، وذكّرهم بما كان بينهم في أيّام الجاهليّة، فحرّك فيهم العصبيّة القبليّة، فتنازعوا وتواثبوا، حتّى جرح من كلّ قبيلة نفر، عندما وصل الخبر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نهض مع جماعة من المهاجرين حتّى جاء مجلسهم، فلمّا رأوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هدأوا وندموا على ما صدر من فعلهم، وأدركوا أنّ نزاعهم من طباع الجاهليّة وكيد الشّيطان، لذلك وضعوا سيوفهم جانبًا وندموا على عملهم [9] فعانق بعضهم بعضًا ثمّ انصرفوا، فنزلت الآية الشّريفة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾  [10] .


 


5- وحدك المغيث


 

يوجد على الدّوام في أعماق قلب الإنسان نقطة نورانيّة، عبارة عن: (نور التّوحيد) كامنة فيه، وهي الّتي توصله إلى عالم ما وراء الطّبيعة وتربطه به، وتُعدّ أقرب الطّرق لارتباط البشر بالله (عزّ وجلّ)، لكن عندما تُلْقى الغشاوة على هذا الفؤاد بسبب الآداب والعادات الخرافيّة، والتّلقين الغير صحيح، والتّعاليم الخاطئة والغرور ووفور النّعمة، فإنّ الحوادث وطوفان البلاء يمكنه تمزيق هذه الغشاوة فيتجلّى النّور عندئذٍ ويظهر، ويستيقظ الإنسان من غفلته ويتوّجه إلى العالم الرّوحاني، فيرى خالقه في روحه وقلبه.

يقول تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [11] .

يروى عن الحسن بن عليّ بن محمّد في قول الله (عزّ وجلّ): بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال: هو الله الّذي يتألّه إليه عند الحوائج والشّدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرّجاء من كلّ من دونه، وتقطع الأسباب من جميع من سواه، تقول: بِسْمِ اللهِ، أي أستعين على أموري كلّها بالله، الّذي لا تحقّ العبادة إلاّ له، والمغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي، وهو ما قال رجل للصّادق (عليه السّلام): يا ابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟ فقد أكثر علَيَّ المجادلون وحيّروني، فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، فقال: هل كسرت بك، حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئًا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم، قال الصّادق (عليه السّلام): فذلك الشّيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث [12] .


 


6- جاذبيّة القرآن


 

كان اللّيل قد انتصف عندما نهض ثلاثة من رؤوس الشّرك وكبار المشركين (أبو سفيان وأبو جهل والأخنس)، فخرج كلّ واحد منهم خفية وقصدوا بيت الرّسول الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلٌّ على حدة، عندما وصلوا اختار كلّ واحد منهم مخبأً لنفسه وراحوا يسترقون السّمع، فيما كان الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشغولاً بالصّلاة وتلاوة القرآن، فأخذوا يستمعون إلى آيات القرآن، عندما حلّ الفجر وقصدوا أن يرجعوا إلى بيوتهم، صادف أن رجعوا جميعًا من الطّريق ذاته فلقي بعضهم بعضًا، وفضح سرّهم، فقالوا لبعضهم: لا يجب أن يتكرّر هذا الفعل، فإذا علم أحد الجاهلين أو رأى ما فعلناه فسوف يدخله الشّك والتّردّد.

في اللّيلة الثّانية: كرّروا ما فعلوه في اللّيلة السّابقة، وصادف بعضهم بعضًا في طريق العودة، فغضب كلٌّ من صاحبه لتكرار هذا العمل، ثمّ إنّهم أكّدوا على عدم الخروج.

في اللّيلة الثّالثة: كرّروا فعلتهم، والتقى بعضهم بعضًا في الطّريق، لكن هذه المرّة تعاهدوا وأقسموا أن لا يكرّروا الخروج ثمّ انصرفوا.

في صباح اليوم الثّالث: أمسك الأخنس عصاه بيده وخرج قاصدًا بيت أبي سفيان، فقال له: أعلمني ماذا رأيت ممّا سمعته من محمّد؟

فقال أبو سفيان: أقسم بالرّبّ أنّي سمعت أشياء ففهمت بعضها ولم أفهم الأخرى.

قال الأخنس: أقسم بما أقسمت به إنّي أعتقد ما تعتقد.

ثمّ انصرف الأخنس وذهب إلى أبي جهل وسأله عمّا يقول فيما سمعه من محمّد.

فقال: ماذا سمعت؟! الحقيقة أنّنا نحن وأبناء عبد مناف نتفاخر بعضنا على بعض ونتنافس في ذلك، فهم يشبعون الجائع، ونحن كذلك، هم يُرْكِبون من لا رحل ولا عطيّة له ونحن نفعل، ينفقون وننفق، وهكذا يرقب بعضنا بعضًا لكن الآن يدّعون أنّ بينهم نبيّ أرسلته السّماء بالوحي، فكيف يمكننا أن نكون رقباءهم في هذه المسألة؟ فإذا كان الحال كذلك فأقسم أنّا لن نؤمن به ولن نصدّقه [13] .

نعم، إن جاذبيّة القرآن الكريم وكلام الحقّ النّورانيّ يجعل رؤوس الشّرك تنجذب قهرًا لثلاث ليال متتالية لاستراق ما يقول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). لكن التّعصّب والأنانيّة والغرور يعمي العيون ويمنع القلوب من تَقَبُّل الحقيقة والسّير في طريق السّعادة.


 


7- الإسلام طبيب بلا دواء


 

حكي أنّ الرّشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق فقال ذات يوم لعلِيّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطّبّ شيء والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له علِيّ: قد جمع الله الطّب كلّه في نصف آية من كتابه وهو قوله: ﴿ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾ وجمع نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الطّبّ في قوله: « المعدة بيت الدّاء والحمية رأس كلّ دواء واعطِ كلّ بدن ما عوّدتّه »، فقال الطّبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّ [14] .


 


8- نجاة المؤمن


 

يذكر في أمر حزقيل (عليه السّلام) أنّ قوم فرعون وشوا به إلى فرعون وقالوا: أنّ حزقيل يدعو إلى مخالفتك ويعين أعداءك على مضادّتك، فقال لهم فرعون: ابن عمّي، وخليفتي على ملكي، ووليّ عهدي، إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره لنعمتي، وإن كنتم كاذبين فقد استحققتم أشدّ العذاب لإيثاركم الدّخول في مساءته، فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبيّة فرعون الملك وتكفره نعماه، فقال حزقيل: أيّها الملك، هل جرّبت علَيَّ كذبًا قطّ؟ قال: لا، قال: فسلهم من ربّهم؟ قالوا: فرعون. قال: ومن خالقكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال: من رازقكم، الكافل لمعايشكم، والدّافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا. قال حزقيل: أيّها الملك فأشهدك ومن حضرك أنَّ ربُّهم هو ربّي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم، وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربٍّ وخالق ورازق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيّته، وكافر بإلهيّته. يقول حزقيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي، ولم يقل: إنّ الّذي قالوا هم أنّه ربّهم هو ربّي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره، وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقي، فقال لهم فرعون: يا رجال السّوء، ويا طلاّب الفساد في ملكي، ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وعضدي، أنتم المستحقّون لعذابي لإرادتكم فساد أمري، وإهلاك ابن عمّي، والفتّ في عضدي. ثمّ أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدًا، (وفي عضده وتدًا)، وفي صدره وتدًا، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [15] وكان سبب هلاكهم  لمّا وشوا به إلى فرعون ليهلكوه ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ وهم الّذين وشوا بحزقيل إليه، لمّا أوتد فيهم الأوتاد، ومشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط.

عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) أنّه قال: « عجبت لمن فزع من أربع، كيف لا يفزع إلى أربع؟... إلى قوله: وعجبت لمن مُكر به، كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [16] فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ [17] .


 


9- دوّامة النّجاة


 

عندما فتح الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، عفا عن الجميع ما عدا أربعة، وأصدر أمرًا بقتلهم أينما وجدوا، لأنّهم لم يرتدعوا عن ارتكاب كلّ ما يؤذي الإسلام والمسلمين، فارتكبوا الجرائم والجنايات بحقّ المؤمنين.

من هؤلاء الأربعة رجل يدعى عكرمة بن أبي جهل، فرّ من شدّة خوفه وخرج من مكّة والتجأ إلى ساحل البحر الأحمر، هناك ركب سفينة وأبحر مع جماعة، في وسط البحر غشيهم موج رهيب وحاط بهم الطّوفان من كلّ جانب، فتمايلت السّفينة وبدت على شفير الغرق، هنالك اجتمع القوم على ظهر السّفينة وقرّروا رمي جميع ما يحملون من الأصنام، ثمّ توجّهوا إلى المولى (عزّ وجلّ) طالبين منه النّجاة، فتمسّكوا بأذيال لطفه سبحانه وعلموا أن لا أحد منجيهم اليوم سواه عزَّ وجلّ.

قال عكرمة: إنّ ما لم يستطع أن ينجينا من هذا الطّوفان في البحر، فلن يستطيع أن ينجينا أيضًا في البر، (يعني بذلك الأصنام) ثمّ إنّه عاهد الله (عزّ وجلّ) إذا أنجاه من هذه المهلكة فإنّه سيذهب إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويضع يده بيده ويُسْلِم، لأنّه يعلم أنّ محمّدًا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجل كريم ورحيم.

بعد مدّة هدأ الطّوفان وانخفض الموج العاتي ونجوا جميعًا من الغرق وذهب عكرمة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأسلم على يدَيْه [18] .

يقول تعالى في هذا الشّأن: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ [19] .


 


10- درس في الشّهامة


 

واحدة من الحروب الصّعبة والشّاقة الّتي خاضها المسلمون، غزوة تبوك حيث واجه المسلمون مشاكل كثيرة، بحيث لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرّجوع ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه. قال الحسن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرّجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم الشّعير المسوّس والتّمر المدوّد والإهالة السّنخة [20] وكان النّفر منهم يخرجون ما معهم من التُّمَيْرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التّمرة فلاكها حتّى يجد طعمها ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التّمرة إلاّ النّواة [21] .

يقول عبد الله إبن عبّاس: كان الطّريق شاقًّا والسّفر مرهقًا، فلا طعام ولا ماء، حتّى هبطنا في منزل، وكادت تزهق أرواحنا من شدّة الحرّ والعطش، فوصل الأمر بنا أن نَحَرَ أحدنا بعيره واستعان بالماء في داخله. في هذه الحال ذهب الأصحاب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد أن نفذ كلّ شيء منهم وكادوا أن يهلكوا، فقالوا له: يا رسول الله نعلم أنّ الله لا يردّ لك دعاءً، فادعو الله حتّى يفرّج عنّا ما نحن فيه. فرفع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يده نحو السّماء ودعا الله سبحانه فنزل المطر بغزارة وجرى سيلاً.

يقول ابن عبّاس فحملنا الماء وانصرفنا، عندما خرجنا من مكان تعسكرنا وجدنا الأرض جافة قاحلة، فعلمنا أنّ المطر قد نزل حيث كنّا فقط [22] .

وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة تخلَّف إلى أن مضى من مسير رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشرة أيام، ثمّ دخل يومًا على امرأتَيْن له في يوم حار في عريشَيْن لهما قد رتّبتاهما وبرّدتا الماء وهيّأتا له الطّعام فقام على العريشَيْن وقال: سبحان الله رسول الله قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخّر في الفتح والرّيح والحرّ والقرّ، يحمل سلاحه على عاتقه، وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيّىء وامرأتَيْن حسناوَيْن ما هذا بالنّصف، ثمّ قال: والله لا أكلّم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشًا حتّى ألحق بالنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأناخ ناضحه واشتدَّ عليه وتزوّد وارتحل وامرأتاه تكلّمانه ولا يكلّمهما، ثمّ سار حتّى إذا دنا من تبوك، قال النّاس: هذا راكب على الطّريق. فقال النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كن أبا خيثمة أولى لك، فلمّا دنا قال النّاس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله، فأناخ راحلته وسلّم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال (عليه السّلام): أولى لك فحدّثه الحديث، فقال له خيرًا ودعا له [23] .

وأبو خيثمة من زمرة مصاديق الآية الشّريفة حيث يقول المولى تعالى: ﴿ لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [24] .


 


11- حكم المقتول


 

يروى عن الإمام الرّضا (عليه السّلام) أنّه قال: « أنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له، ثمّ أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثمّ جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عليه السّلام): سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله؟ قال: ائتوني ببقرة ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [25] الآية ، ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَّنَا مَا هِيَ ﴾ ، قال: ﴿ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ ، أي لا صغيرة ولا كبيرة إلى قوله ﴿ قَالُواْ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾، فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيعها إلاّ بملء مسكها ذهبًا، فجاؤوا إلى موسى (عليه السّلام) فقالوا له، قال: فاشتروها، قال: وقال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعض أصحابه أنَّ هذه البقرة ما شأنها؟ فقال: إنّ فتىً من بني إسرائيل كان بارًّا بأبيه، وأنَّه اشترى سلعة، فجاء إلى أبيه فوجده نائمًا والإقليد تحت رأسه فكَرِهَ أن يوقظه، فترك ذلك واستيقظ أبوه، فأخبره فقال له: أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك عوض لِما فاتك، قال: فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنظروا إلى البرّ ما بلغ بأهله، وقال ابن عبّاس: كان القتيل شيخًا مثريًا قتله بنو أخيه وألقوه على باب بعض الأسباط، ثم ادّعوا عليهم القتل، فاحتكموا إلى موسى (عليه السّلام) فسأل من عنده في ذلك علم؟ فقالوا: أنت نبيّ الله وأنت أعلم منّا، فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة، فأمرهم موسى (عليه السّلام) أن يذبحوا بقرة ويضرب القتيل ببعضها فيحيي الله القتيل فيبيّن من قتله، وقيل قتله ابن عمّه استبطاء لموته فقتله ليرثه، وقيل إنّما قتله ليتزوّج بنته، وقد خطبها فلم ينعم له، وخطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له، فحسده ابن عمّه الّذي لم ينعم له، فقعد له فقتله ثمَّ حمله إلى موسى (عليه السّلام)، فقال: يا نبيّ الله هذا ابن عمّي قد قتل، فقال موسى (عليه السّلام): من قتله؟ قال: لا أدري، وكان القتل في بني إسرائيل عظيمًا فعظم ذلك على موسى (عليه السّلام) وهذا هو المرويّ عن الصّادق (عليه السّلام) [26] .

ولمّا وجدوا البقرة، جاؤوا إلى موسى (عليه السّلام) وقالوا له ذلك، فقال (عليه السّلام): اشتروها فاشتروها وجاؤوا بها، فأمر بذبحها ثمّ أمر أن يضربوا الميّت بذنبها، فلمّا فعلوا ذلك حيي المقتول، وقال: يا رسول الله إنّ ابن عمّي قتلني، دون من ادّعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله [27] .

والقصّة واردة في القرآن الكريم في سورة البقرة، حيث يقول تعالى في ختامها: ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ [28] .


 


12- البناء الوبال


 

روي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج يومًا فرأى قبّة مشرفة، فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذا لرجل من الأنصار، فمكث حتّى إذا جاء صاحبها فسلّم في النّاس، أعرض عنه، وصنع ذلك به مرارًا حتّى عرف الرّجل الغضب والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، وقال: والله إنّي لأنكر نظر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما أدري ما حدث فيّ وما صنعت قالوا خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرأى قبّتك، فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه، فرجع إلى قبّته فسوّاها بالأرض، فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم فلم ير القبّة، فقال: ما فعلت القبّة الّتي كانت ههنا؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: « إنَّ لكلّ بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلاّ ما لا بدَّ منه » [29] .

وفي موضع في القرآن الكريم، نرى أنّ المولى (عزّ وجلّ) ينكر على لسان النّبيّ هود (عليه السّلام) بناء قومه البيوت المرتفعة والقصور الفخمة والتّجمّل في صناعة المنازل، وهذا عمل من يطمع في الخلود: يقول تعالى: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [30] .


 


13- تأثير القرآن


 

كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقعد في الحجرة ويقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة وكان شيخًا كبيرًا مجرّبًا من دهاة العرب وكان من المستهزئين برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: يا أبا عبد الشّمس ما هذا الّذي يقول محمّد أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك، قال: ما هو شعر، ولكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته وأنبيائه ورسله، فقال: أتل علَيَّ منه شيئًا، فقرأ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) « حم السّجدة»، فلمّا بلغ قوله: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ ﴾ ـ يا محمّد ـ يعني قريشًا ـ ﴿ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾، قال: فاقشعرّ الوليد، وقامت كلّ شعرة على رأسه ولحيته، ومرّ إلى بيته، ولم يرجع إلى قريش من ذلك، فمشوا إلى أبي جهل، فقالوا: يا أبا الحكم، إنَّ أبا عبد الشّمس صبا إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا، فغدا أبو جهل إلى الوليد، فقال له: يا عمّ، نكّست رؤوسنا وفضحتنا، وأشمتّ بنا عدوّنا، وصبوت إلى دين محمّد! فقال: ما صبوت إلى دينه، ولكنّي سمعت (منه) كلامًا صعبًا تقشعّر منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال: لا، إنّ الخطب كلام متّصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضًا، قال: أفشعر هو؟ قال لا، أما إنّي قد سمعت أشعار العرب بسيطها ومديدها ورملها ورجزها وما هو بشعر، قال فما هو؟ قال دعني أفكّر فيه. فلمّا كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس، ما تقول فيما قلنا؟ قال: قولوا هو سحر، فإنَّه آخذ بقلوب النّاس، فأنزل الله (عزّ وجلّ) على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [31] [32] .


 


14- قضاء طفل


 

كان يلعب مع أترابه، ولم يتجاوز السّبع سنين، عندما جاء رجلان إلى أبيه داوود (عليه السّلام) ليحكم بينهم في قضيّة.

قال أحدهما: يا نبيّ الله، إنّ غنم أخي وقع في زرعي ليلاً فأكلته (ويقال إنّه لم يكن زرعًا بل كرم عنب وقد بدت عناقيده)، فاحكم بيننا بالحقّ.

فحكم النّبيّ داوود (عليه السّلام) لصاحب الزّرع بأن يأخذ الغنم مقابل ما خسره من الزّرع، عندها خرج صاحب الغنم وهو مغموم محزون يبكي لخسارته غنمه، في الطّريق صادفه سليمان (عليه السّلام) وكان طفلاً لم يتجاوز السّبع سنين، فسأله عن سرّ حزنه وبكائه، فقال: لقد حكم أبوك بكذا وأنا راض لكنّي لا أملك بعد الغنم شيئًا لأطعم عيالي.

فقال سليمان (عليه السّلام): لا تيأس وارجع إلى أبي فقل له فليتأمّل في حكمه، فعاد الرّجل، وقال لداوود ما قاله سليمان (عليهما السّلام).

فطلب داوود سليمان (عليهما السّلام) وقال له: لِمَ أرجعت الرّجل؟ فقال سليمان: يا نبيّ الله أعد النّظر في الحكم وعدّله. فقال: وكيف ذلك؟ فقال سليمان (عليه السّلام): « يُدْفَع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتّى يعود كما كان ويُدْفَع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتّى إذا عاد الكرم كما كان يعود إلى صاحبه وترجع الأغنام إلى صاحبه » [33] .

يقول تعالى في ذلك: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ... [34] .

مسألة: إنّ ما كان يحكم به داوود (عليه السّلام) لم يكن عن اجتهاد لأنّه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالاجتهاد، وما حكم به سليمان (عليه السّلام) كان بوحي من الله تعالى فنسخ به ما كان يحكم به داوود (عليه السّلام) ﴿ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [35] .


 


15- طلب العذاب


 

لمّا قضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مناسكه في آخر حجّة له إلى مكّة والّتي دعيت (حجّة الوداع)، وانصرف راجعًا إلى المدينة، ووصل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن كان معه من الحجيج إلى أرض فيها نبع ماء (غدير خم)، هناك نزل الوحي جبرائيل (عليه السّلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمره من قبل المولى تعالى أن ينصّب عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) إمامًا للأمّة وخليفته من بعده، فأمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يجتمع النّاس، ثمّ صلّى بهم الظّهر، وبعدها قام بهم خطيبًا على أقتاب الإبل، وأعلن في جمع يزيد على 120 ألفًا أنّ علِيًّا (عليه السّلام) أمير المؤمنين ووليّهم، وولايته كولاية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث قال (عليه السلام): «من كنت مولاه فعلِيٌّ مولاه» [36] .

ثم راح القوم والصّحابة يهنّئون أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وانتشر الخبر بين النّاس وفي القرى والمدن، ولمّا وصل الخبر إلى رجل يُدعى (النّعمان بن الحارث الفهريّ) وكان راكبًا على ناقته فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: « أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصّوم والصّلاة والزّكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتّى نصّبت هذا الغلام، فقلتَ: من كنت مولاه فعلِيٌّ مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟! فقال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): والله الّذي لا إله إلاّ هو إنّ هذا من الله، فولّى النّعمان بن الحارث وهو يقول: ﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ سورة الأنفال - الآية 31 ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى [37] : ﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [38] .


 


16- جذور الحرمان


 

عندما هاجر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المدينة، واستقرّ فيها وجد أنّ الكثير من النّاس فيها وخصوصًا التّجّار يُخسرون الميزان عند البيع، حتّى أنّ رجلاً يدعى أبو جهينة كان عنده مكيالان (صاعان) واحد كبير وآخر صغير يكيل للنّاس بهما، فعند الشّراء يستخدم الكبير وعند البيع يستعمل الصّغير. فنزلت الآية الشريفة: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [39] .

بعد تلاوة هذه الآيات على مسامع أهل المدينة قال الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معقّبًا: « خمسٌ بخمس »، فقالوا أيٌّ بأيّ، فقال (عليه السّلام):

1 ـ ما نقض قومٌ العهدَ إلاّ سلّط الله عليهم عدوّهم.

2 ـ وما حكموا بغير ما أنزل الله إلاّ فشا فيهم الفقر.

3 ـ وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت.

4 ـ وما طفّفوا الكيل إلاّ مُنِعوا النّبات وأخذوا بالسّنين.

5 ـ وما منعوا الزّكاة إلاّ حُبس عنهم المطر [40] .


 


17- المدد الغيبيّ


 

يقول حذيفة اليمانيّ: « في حرب الخندق أخذ الخوف والجوع والتّعب منّا كلّ مأخذ ورأينا من الأهوال ما يعلمه الله تعالى. في هذه الأثناء وقع خلاف في معسكر الأعداء بين المشركين واليهود فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « من يذهب إلى معسكر الأعداء ويأتنا بخبرهم، وأنا أضمن له أن يكون معي في الجنّة ».

يقول حذيفة: فوالله لم ينهض أحد من القوم من شدّة الخوف والجوع والتّعب، فلمّا رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك، قال لي: يا حذيفة! إذهب إلى معسكر المشركين وأتنا بالخبر، لكن إيّاك أن تقوم بأيّ عمل حتّى ترجع إلينا، ثمّ إنّي نهضت وتوجّهت نحو مخيّم العدوّ، وفي هذه الحال هبَّت عاصفة مجلجلة وعظيمة، بحيث قلعت الخيام ونشرت الأواني وبعثرت مشاعل النّار وأطفأت قسمًا منها.

عندما اقتربت من معسكرهم سمعت أبا سفيان يقول: يا قريش كلّ واحد منكم ينضمّ إلى جماعته الّذين يعرفهم، لا يندسّنّ غريبٌ بينكم، يقول حذيفة عند ذلك: دخلت في جماعة وسألت أحدهم عن اسمه، فقال: أنا فلان، فقلت: ونعم النّسب، ولكن أحد لم يسأل عن اسمي.

بعد قليل سمعت أبا سفيان يصرخ ويقول: قسمًا بالرّب لا يمكن البقاء هنا، فقد أضعنا الخيول والإبل، وهؤلاء يهود بني قريضة نكثوا عهدهم وخانونا ولم تُبْقِ العاصفة لنا شيئًا ثمّ تقدّم من جواده، وكان موثوق الأرجل، فحلّها ونسي رِجْلاً موثوقة فوقف الحصان على ثلاثة أرجل، لذلك سار وهو مضطرب مختلّ التّوازن.

يقول حذيفة اليمانيّ، في هذه اللّحظات وضعت سهمًا في قوس وصوّبته نحو أبي سفيان أريد قتله لكنّي تذكّرت وصيّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين قال لي لا تُقْدِم على عمل حتّى ترجع إلينا، فانصرفت عن قتله. ثمّ توجّهت عائدًا إلى الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبرته بالقصّة، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « اللّهمّ أنت منزّل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب، اللّهمّ اهزمهم وزلزلهم » [41] .


 


18- آية الأمل


 

دخل جماعة من أهل العراق على محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة فقال: « يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب الله (عزّ وجلّ): ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [42] وإنّا أهل البيت (عليهم السّلام) نقول: أرجى آية في كتاب الله (عزّ وجلّ) ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ وهي والله الشّفاعة ليعطينّها في أهل لا إله إلاّ الله حتّى يقول: ربّ رضيت. وعن الصّادق (عليه السّلام) قال: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على فاطمة (عليها السّلام) وعليها كساء من ثلّة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدّنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [43] . ومن رضا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يدخل أهل بيته الجنّة، وقال الصّادق (عليه السّلام): رضا جدّي أن لا يبقى في النّار موحّد [44] .


 


19- شجرة الجنّة


 

يُروى أنّ رجلاً كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرّجل إذا جاء فدخل الدّار وصعد النّخلة ليأخذ منها التّمر، فربما سقطت التّمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرّجل من النّخلة حتّى يأخذ التّمر من أيديهم فإن وجدها في فيّ (فم) أحدهم أدخل إصبعه حتّى يأخذ التّمرة من فِيه (فمه)، فشكا ذلك الرّجل إلى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبره بما يلقى من صاحب النّخلة، فقال له النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إذهب، ولقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاحب النّخلة، فقال: تعطيني نخلتك المائلة الّتي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنّة، فقال له الرّجل: إنّ لي نخلاً كثيرًا وما فيه نخلة أعجب إليَّ تمرة منها، قال: ثمّ ذهب الرّجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرّجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها، قال نعم: فذهب الرّجل ولقي صاحب النّخلة فساومها منه، فقال له: أشعرت أنّ محمّدًا أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يعجبني تمرتها وإنّ لي نخلاً كثيرًا فما فيه نخلة أعجب إليَّ تمرة منها، فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلاّ أن أعطى ما لا أظنّه أعطى، قال: فما مُناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال الرّجل: جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة ثمّ سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال له: إشهد إن كنت صادقًا فمرَّ عليه أناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين نخلة ثمّ ذهب إلى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: يا رسول الله إنّ النّخلة قد صارت في ملكي فهي لك، فذهب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى صاحب الدّار، فقال له: النّخلة لك ولعيالك، فأنزل الله تعالى ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ السّورة، وعن عطاء قال: اسم الرّجل أبو الدّحداح ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾ هو أبو الدّحداح ﴿ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ﴾ وهو صاحب النّخلة [45] .


 


20- الأيّام الأولى


 

في الأيّام الأولى للإسلام، عندما كان المسلمون يفطرون في شهر رمضان المبارك، كان الأكل محرّمًا باللّيل بعد النّوم (بعد العشاء)، وكان النّكاح حرامًا باللّيل والنّهار في شهر رمضان، فإذا نام أحدٌ بعد الإفطار واستيقظ بعد العشاء، فلا يحلّ له الأكل والشّرب و...

ولمّا كان المسلمون يحفرون الخندق أثناء «معركة الخندق» كان رجل يدعى خوّات بن جبير صائمًا، فلمّا عاد إلى منزله وأراد الإفطار، أبطأت عليه زوجته بالطّعام، فنام قبل أن يفطر من شدّة التّعب، فلمّا انتبه من نومه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه اللّيلة، فلمّا أصبح حضر حفر الخندق، فكان يغمى عليه من شدّة الجوع والعطش والتّعب، فرآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسأله عن حاله، فأخبره بقصّته فرقّ له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)  [46] ، فنزلت الآية المباركة: ﴿ ... وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾  [47] .


 


21- العودة إلى الوطن


 

عندما هاجر الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مكّة إلى المدينة، في الطّريق عندما وصل إلى الجحفة، تذكّر وطنه مكّة، فهاج الشّوق في قلبه إلى مسقط رأسه، فنزل جبرائيل (عليه السّلام) وقال له: أتحبّ أن ترجع إلى موطنك ومسقط رأسك فقال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نعم والله، فقال جبرائيل (عليه السّلام) إنّ المولى يقرؤك السّلام ويقول لك: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ [48] .

لقد خرج الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مكّة يرافقه أحد أصحابه على ناقتَيْن إلى المدينة، لكن عندما تحقّق وعد الله (عزّ وجلّ) ورجع إلى مكّة فاتحًا، دخلها ومعه عشرة آلاف من الصّحابة، من المهاجرين والأنصار من الرّجّالة، وأربع مائة فارس على صهوات جيادهم مجهّزين بالعتاد والسّلاح، يحيطون به ويمنعونه من الأذى.

إنّ وعد الله لعباده المخلصين حقّ، فالمولى يفي بفضله وكرمه للمؤمنين ومن أصدق منه قولاً ووفاءً: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [49] .


 


22- أسود الصّباح


 

وصل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خبرٌ يقول: إنّ اثنا عشر ألف فارس اجتمعوا في منطقة تدعى وادي اليابس، وقد تعاهدوا بأن لا يرجعوا حتّى يقتلوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلِيّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، ويشتّتوا جموع المسلمين، وذلك في العام الثّامن للهجرة.

جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المهاجرين والأنصار وأخبرهم بالأمر، فتجهّزوا وأعدّوا العدّة لغزوهم، فدعا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحد القادة وأرسله إليهم على رأس جيش من المسلمين، لكنّه رجع من دون نتيجة ولم يتوصّل مع الأعداء إلى شيء.

في المرّة الثّانية أمر قائداً آخرًا ومعه جماعة للانطلاق إلى ذلك الجيش المعسكر في أرض " يابس " ومقاتلتهم، فذهب وفاوضهم لكنّه رجع من دون نتيجة.

في المرّة الثّالثة دعا الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) وأمره بأن يسير إليهم على رأس جيش فيقاتلهم، فانطلق عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) إليهم مسرعًا، لكنّه قصد طريقًا غير الّذي قصده الأوّل والثّاني، وكان يتحرّك ليلاً ويسكن نهارًا، حتّى حاصرهم فجرًا، فعرض عليهم الإسلام، فلم يقبلوا، فهاجمهم قبل أن يستبين نور الصّباح، فقتل منهم جماعة عظيمة وأسر نساءهم وأطفالهم وغنم منهم غنائم كبيرة.

في هذه الأثناء، وقبل عودة المجاهدين إلى المدينة نزلت السّورة الشّريفة على الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ﴾.

في صباح ذلك اليوم تقدّم الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليصلّي صلاة الصّبح، فقرأ سورة « العاديات »، بعد الصّلاة سأله أصحابه عن هذه السّورة، وقالوا له: لم نسمع بها قبلاً، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أجل، لقد انتصر علِيّ (عليه السّلام) وهزم جيش المشركين والأعداء، ولقد نزل جبرائيل (عليه السّلام) ليلة أمس بهذه السّورة يبشّرني بنصر جيش المسلمين وهزيمة جيش الكفّار.

بعد عدّة أيّام وصل أمير المؤمنين علِيّ (عليه السّلام) إلى المدينة حاملاً معه بشارات النّصر والغنائم والأسرى، فخرج الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع أصحابه خارج المدينة لاستقبال الجيش المظفّر [50] .


 


23- عدم المساومة


 

عندما بُعث النّبيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرّسالة، واجهه المشركون بكلّ الوسائل ليمنعوه من تبليغ الرّسالة، ولم يوفّروا جهدًا ولا حيلة إلاّ استخدموها، حتّى وصل بهم الأمر أن يساوموه على دينه، فجاء نفر من قريش الحارث بن قيس السّهميّ والعاص بن أبي وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزّهريّ والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا: هلمّ يا محمّد فاتّبع ديننا نتّبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فإن كان الّذي جئت به خيرًا ممّا بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الّذي بأيدينا خيرًا ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): معاذ الله أن أشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، فقال: حتّى أنظر ما يأتي من عند ربّي فنزل ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * ﴾ السّورة، فعدل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم ثمّ قرأ عليهم حتّى فرغ من السّورة، فأيسوا عند ذلك فآذوه وآذوا أصحابه [51] .


 


24- حرب إعلاميّة


 

عندما انتهت معركة أحد، أراد أبو سفيان أن ينصرف ومن معه فصعد تلّة وصاح بأعلى صوته: « يا محمّد لنا يوم ولكم يوم ».

فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألا تجيبوه؟، قالوا: « قتلاكم في النّار وقتلانا في الجنّة ».

فقال أبو سفيان: « العزّى لنا ولا عزّى لكم ».

فقال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أجيبوه: « الله مولانا ولا مولى لكم ».

فقال أبو سفيان: « أعلُ هبل ».

فقال الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « الله أعلى وأجلّ ».

ثمّ لمّا رأى أبو سفيان أنّ مبارزته الكلاميّة لم تثمر هاج قائلاً: « إنّ موعدكم بدر الصّغرى على رأس الحول » [52] .

ثمّ طلب أبو سفيان عمر بن الخطّاب ليكلّمه، فأذن له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فقال أبو سفيان: أنشدك بدينك، هل قَتَلْنا محمّد؟ فقال عمر: اللّهمّ لا، وإنّه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت عندي أصدق من « ابن قميئة » [53] .

فلمّا انصرف أبو سفيان ومن معه بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علِيّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، فقال: اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالّذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثمّ لأناجزنّهم، قال علِيّ (عليه السّلام): فخرجت في آثارهم فرأيتهم اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فعلمت أنّهم يقصدون مكّة [54] .

 


[1] تفسير نور الثّقلين، الشّيخ الحويزي، تحقيق وتعليق: السّيّد هاشم الرّسولي المحلّاتي ط4، مؤسّسة اسماعيليان، 1412هـ. قم، ج5، ص 547.

[2] سورة البروج، الآية: 4.

[3] سورة طه، الآية: 39.

[4] نور الثّقلَيْن، مصدر سابق، ص 378 ـ 379.

[5] يمكن الرّجوع إلى التّاريخ لمعرفة كامل القصّة، راجع: قصص الأنبياء، وتاريخ اليعقوبيّ وغيرها من الكتب.

[6] تفسير مجمع البيان، الشّيخ الطّبرسيّ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، ط1، 1995م، ج8، ص 80.

[7] سورة لقمان، الآية: 12.

[8] سورة آل عمران، الآية: 103.

[9] تفسير روح الجنان، ج3، ص 123، كذلك ينظر: عمدة القاري، العينيّ، دار إحياء التّراث العربيّ، بيروت، ج24، ص 78.

[10] سورة آل عمران، الآية: 100.

[11] سورة العنكبوت، الآية: 65.

[12] بحار الأنوار، العلاّمة المجلسيّ، مؤسّسة الوفاء، بيروت، دار إحياء التّراث العربيّ، ط2، 1983م، ج3، ص 41.

[13] راجع: سيرة ابن هشام، ج1، ص 337 ـ 338.

[14] مجمع البيان، ج4، ص 638.

[15] سورة غافر، الآية: 45.

[16] سورة غافر، الآية: 44.

[17] تفسير نور الثّقلين، ج4، ص 521 ـ 522.

[18] راجع روح المعاني، ج21، ص 106.

[19] سورة لقمان، الآية: 32.

[20] كلّ شيء من الأدهان ممّا يؤتدم به: إهالة. وقيل: هو ما أذيب من الألْية والشّحم. وقيل: الدّسم الجامد، والسَّنِخة: المتغيّرة الرّيح (النّهاية).

[21] مجمع البيان، ج5،ص119 ـ 120.

[22] راجع: روح الجنان، ج6، ص 131.

[23] مجمع البيان، ج5، ص 120.

[24] سورة التّوبة، الآية: 117.

[25] سورة البقرة، الآية: 67.

[26] مجمع البيان، ج1، ص 273.

[27] تفسير الميزان، ج1، ص 205.

[28] سورة البقرة، الآية: 73.

[29] مجمع البيان، ج7، ص 310.

[30] سورة الشّعراء، الآيتان: 128 ـ 129.

[31] تفسير القمّيّ، عليّ بن إبراهيم القمّيّ، مطبعة النّجف، ج2، ص 393 ـ 394.

[32] سورة المدّثّر، الآية:11.

[33] راجع: مجمع البيان، ج7، ص 91.

[34] سورة الأنبياء، الآيتان: 78 ـ 79.

[35] مجمع البيان: ج7، ص 91 ـ 92.

[36] ذكر الخوارزميّ في المناقب، ص133، لهذا الحديث أربعًا وأربعين سندًا من كتب أهل السّنة.

[37] مجمع البيان، ج10، ص 530، روح الجنان، ج11، ص 261.

[38] سورة المعارج، الآية: 1.

[39] سورة المطفّفين، الآيات: 1 ـ 6.

[40] راجع: روح الجنان، المواعظ العدديّة، ص 152.

[41] راجع: بحار الأنوار، طباعة طهران، ج20، ص 208.

[42] سورة الزّمر، الآية: 53.

[43] سورة الضّحى، الآية: 5.

[44] مجمع البيان، ج10،ص765.

[45] المصدر نفسه، مجمع البيان، ج10، ص 259 ـ 760.

[46] تفسير البرهان، ج1، ص186، كذلك راجع، مجمع البيان، ج1، ص 502.

[47] سورة البقرة، الآية: 187.

[48] سورة القصص، الآية: 85.

[49] سورة آل عمران، الآية: 9.

[50] راجع: تفسير علي بن إبراهيم، وتفسير نمونه (الأمثل) ، ج27، ص 240.

[51] مجمع البيان، ج10، ص 840.

[52] راجع: مجمع البيان، ج3 ـ كذلك، اقناع الأسماع، المقريزيّ، ج1، ص 171.

[53] إبن قميئة هو من ادّعى أنّه قتل الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معركة أحد.

[54] سيرة ابن هشام، ج3، ص99 ـ 100، وانظر، أعيان الشّيعة، السّيّد محسن الأمين، ج1، ص 258.