أحسن القصص

(142 قصّة قرآنيّة)

 

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى، ذو الحجّة 1433هـ // 2012م

 

 

 (73) ـ حارس النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

 (85) ـ ذريعة النّفاق

 (74) ـ إحياء العظام الرّميم

 (86) ـ إذن دخول الأبّ

 (75) ـ عاقبة رفقة الضّال

 (87) ـ جنّة المطيعين لا الآباء

 (76) ـ نقض بني قريظة للعهد

 (88) ـ بيوت الوحي

 (77) ـ أبواب الخير

 (89) ـ البحث عن كيس الخيش في الصّلاة

 (78) ـ تابوت بني إسرائيل

 (90) ـ دعوة عامّة

 (79) ـ بشارة للمستضعفين

 (91) ـ جزاء محبّي عليّ (عليه السّلام)

 (80) ـ جزاء من يسأل عن حال قومه

 (92) ـ المقيمون الصّامتون

 (81) ـ داوود وجالوت

 (93) ـ حطب جهنّم

 (82) ـ غسيل الملائكة

 (94) ـ الصّبيّ الحكيم

 (83) ـ عفاف العين

 (95) ـ إخراج إبراهيم (عليه السّلام)

 (84) ـ امتحان أهل البيت (عليهم السّلام)

 (96) ـ زيارة الأمير (عليه السّلام)

 

 


73- حارس النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)


 

كان أبو جهل حلف لئن رأى محمّدًا يصلّي ليرضخنّ رأسه فأتاه وهو يصلّي ومعه حجر ليدمغه، فلمّا رفعه انثنت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلمّا عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر من يده، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلّي ليرميه بالحجر فأغشى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتّى نادوه ما صنعت؟ فقال: ما رأيته ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني [158] .

وفي ذلك نزلت الآيات المباركات التّالية: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [159] .


 


74- إحياء العظام الرّميم


 

الله تعالى لم يترك وسيلة إلاّ وقدّمها للإنسان في سبيل هدايته وإيمانه، وقد أعطى دلائل وبراهين لا تقبل الشّك والإنكار في مسألة إثبات المعاد. من أهم هذه الدّلائل خلقة الإنسان نفسه حيث يشير المولى تعالى إلى أن مبدأ خلقة الإنسان من التّراب والطّين.

يقول الإمام الصّادق (عليه السّلام): « جاء أبيّ بن خلف » وهو من المشركين فأخذ عظمًا باليًا من حائط ففتّه ثمّ قال: يا محمّد، إذا كنّا عظامًا ورفاتًا أإنّا لمبعوثون خلقًا، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [160] .


 


75- عاقبة رفقة الضّال


 

كان عقبة بن أبي معيط وأبيّ بن خلف وكانا متخالين، وكان عقبة لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعامًا فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة الرّسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعامًا ودعا النّاس، فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى طعامه، فلمّا قرّبوا الطّعام، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما أنا بآكل من طعامك حتّى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، وبلغ ذلك أبيّ بن خلف، فقال: صبأت يا عقبة، قال: لا والله ما صبأت، ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم، فقال أبيّ: ما كنت براض عنك أبدًا حتّى تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل ذلك عقبة وارتدّ وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا ألقاك خارجًا من مكّة إلاّ علَوْت رأسك بالسّيف، فضرب عنقه يوم بدر صبرًا، وأمّا أبيّ بن خلف فقتله النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد بيده في المبارزة.

قال الضّحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عاد بزاقه في وجهه فأحرق خدَّيْه وكان أثر ذلك فيه حتّى مات [161] .

وقد نزلت فيهما الآيات التّالية: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً [162] .


 


76- نقض بني قريظة للعهد


 

من أهمّ عوامل غزوة بني قريظة ومحاربتهم، أنّهم شاركوا المشركين وساعدوهم في معركة الأحزاب ضدّ الرّسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلمّا انصرف النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع المسلمين عن الخندق، ووضع عنه اللامة واغتسل واستحمّ تبدّى له جبرائيل (عليه السّلام)، فقال له: عذيرك من محارب ألا أراك قد وضعت عنك اللامة وما وضعناها بعد، فوثب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فزعًا فعزم على النّاس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتّى يأتوا قريظة، فلبس النّاس السّلاح فلم يأتوا بنو قريظة حتّى غربت الشّمس واختصم النّاس، فقال بعضهم: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عزم علينا أن لا نصلّي حتّى نأتي قريظة فإنّما نحن في عزمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فليس علينا إثم، وصلّى طائفة من النّاس احتسابًا وتركت طائفة منهم الصّلاة حتّى غربت الشّمس فصلّوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابًا فلم يعنف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واحدًا من الفريقَيْن، ثمّ إنّه بعث عليًّا بن أبي طالب (عليه السّلام) على المقدم ودفع إليه اللّواء وأمره أن ينطلق حتّى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل، وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على آثارهم، فمرّ على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفًا، فقالوا: مرّ بنا دحيّة الكلبيّ على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ليس ذلك بدحيّة ولكنّه جبرائيل (عليه السّلام) أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرّعب، قالوا وسار عليٌّ (عليه السّلام) حتّى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرجع حتّى لقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالطّريق، فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله، فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا، فلمّا دنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حصونهم، قال: يا إخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً، وحاصرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمسًا وعشرين ليلة حتّى أجهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرّعب، وكان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان، فلمّا أيقنوا أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر (اليهود) قد نزل بكم من الأمر، ما ترَوْن؟ وإنّي عارض عليكم خلالاً ثلاثًا فخذوا أيّها شئتم، قالوا: ما هنّ؟ قال: نبايع هذا الرّجل ونصدّقه فوالله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل وأنّه الّذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم، فقالوا: لا نفارق حكم التّوراة أبدًا ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم عليّ هذا فهلمّوا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد رجالاً مصلّتين بالسّيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمّنا حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلاً يهمّنا وإن نظهر لنجدنّ النّساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم؟ قال: فإذا أبيتم عليّ هذه فإنّ اللّيلة ليلة السّبت وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فعلّنا نصيب منهم غرّة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيها ما أحدث مَنْ كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ، فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدّهر حازمًا.

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلاً: اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسلاحهم فجعل في قُبّته وأمر بهم فكُتِّفوا وأوثِقوا وجُعِلوا في دار أسامة وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى سعد بن معاذ فجيء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتليهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتغنم أموالهم وأنّ عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال للأنصار إنّكم ذوو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله (عزّ وجلّ) وفي بعض الرّوايات لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، وأرقعة: جمع رقيع اسم سماء الدّنيا، فقتل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقاتليهم وكانوا فيما زعموا ستّمائة مقاتل، وقيل قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وسبى سبعمائة وخمسين، وروي أنّهم قالوا لكعب بن أسد وهم يُذْهَب بهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إرسالاً: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: أفي كلّ موطن تقولون ألا ترون أنّ الدّاعي لا ينزع ومن يذهب منكم لا يرجع هو والله القتل وأتي بحييّ بن أخطب عدوّ الله، عليه حلّة فقاحيّة قد شقّها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة لئلاّ يُسلَبَها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا بصر برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ولكنّه من يخذل الله يُخْذَل، ثمّ قال: أيّها النّاس إنّه لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثمّ جلس فضرب عنقه، ثمّ قسّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلاً وسلاحًا، قالوا: فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى خيمته الّتي ضربت عليه في المسجد. وروي عن جابر بن عبد الله، قال: جاء جبرائيل (عليه السّلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: من هذا العبد الصّالح الّذي مات فتحت له أبواب السّماء وتحرَّك له العرش؟ فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإذا سعد بن معاذ قد قبض [163] .

وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله: ﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً [164] .

 


77- أبواب الخير


 

عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في غزوة تبوك وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أقربهم منّي فدنوت منه، فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسَّره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصّلاة المكتوبة وتؤدي الزّكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان، قال: وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير، قال: قلت: أجل يا رسول الله، قال: الصّوم جُنّة والصّدقة تكفّر الخطيئة وقيام الرّجل في جوف اللّيل يبتغي وجه الله، ثمّ قرأ هذه الآية: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [165] . وعن بلال، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليكم بقيام اللّيل فإنّه دأب الصّالحين قبلكم وإن قيام اللّيل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسّيئات ومطردة الدّاء عن الجسد [166] .


 


78- تابوت بني إسرائيل


 

ممّا لا شكّ فيه أنّ الانتصار على العدو بحاجة إلى قائد عادل وشجاع وعالم، كذلك فإنّ من أهم عوامل النّصر طاعة النّاس والتفافهم حول القائد وتضحيتهم في سبيل قضاياهم.

عن الباقر (عليه السّلام) أنّ بني إسرائيل بعد موسى (عليه السّلام) عملوا بالمعاصي وغيّروا دين الله وعتَوْا عن أمر ربهم وكان فيهم نبيّ يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه، وروي أنّه ارميا النّبيّ فسلّط الله عليهم جالوت وهو من القبط فأذاهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأخذ أموالهم واستعبد نساءهم ففزعوا إلى نبيّهم وقالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله وكانت النّبوّة في بني إسرائيل في بيت والملك والسّلطان في بيت آخر ولم يجمع الله لهم النّبوّة والملك في بيت واحد فمن ذلك قالوا: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فقال لهم نبيّهم: ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُواْ ، قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ وكان كما قال الله تعالى، ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلَّا قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ ، وقال لهم نبيهم: إن الله ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وكانت النّبوّة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف (عليه السّلام) وكان طالوت من ولد ابن يامين أخي يوسف (عليه السّلام) لأمّه ولم يكن من بيت النّبوّة ولا من بيت المملكة، قال لهم نبيّهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ وكان أعظمهم جسمًا وكان شجاعًا قويًا وكان أعلمهم إلاّ أنّه كان فقيرًا فعابوه بالفقر، فقالوا: لم يؤت سعة من المال. ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ﴾، قال (عليه السّلام): وكان التّابوت الّذي أنزله الله على موسى (عليه السّلام) فوضعته فيه أمّه فألقته في اليمّ وكان في بني إسرائيل يتبرّكون به، فلمّا حضر موسى (عليه السّلام) الوفاة وضع فيه الألواح ودرّعه وما كان عنده من آيات النّبوّة وأودعه يوشع وصيّه فلم يزل التّابوت بينهم، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتّابوت رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النّبيّ وبعث الله طالوت إليهم ملكًا يقاتل معهم ردّ الله عليهم التّابوت كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [167] .

لقد كان بنو إسرائيل يحترمون التّابوت ويقدّسونه، ويعظّمونه ما دام بينهم لكن لمّا عصوا وأظهروا عدم الاحترام للتّابوت، بحيث صار الأولاد يلعبون به في الطّرقات والأزقّة رفعه الله من بينهم، حتّى رجعوا إلى نبيّهم فأطاعوه وطلبوا منهم أن يقاتلوا تحت راية ملك يبعثه الله تعالى إليهم، فأنزل الله تعالى التّابوت فيه سكينة لهم، وذلك بالشّروط الّتي وردت في القصّة القرآنيّة.


 


79- بشارة للمستضعفين


 

إنَّ الله تعالى قد وعد المؤمنين والمستضعفين أن يرثوا الأرض ويحكموها، فينتصر الحقّ على الباطل بإرادة المؤمنين وتوفيق المولى (عزّ وجلّ) وتقام دولة الحقّ والعدالة الإلهيّة على الأرض، كما حصل لجزء منها في بداية الدّعوة المحمّديّة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث فتح الله سبحانه على أيدي المسلمين المؤمنين الفقراء في صدر الإسلام أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزلهم من أسرة الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتّراب. والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحقّ والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضيّة ـ على يد المهديّ (عجّل الله فرجه) أرواحنا له الفداء.

هذه الآيات هي من جملة الآيات الّتي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [168] .

ونقرأ عن أهل البيت (عليهم السّلام) في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظّهور العظيم. فقد ورد في نهج البلاغة عن عليّ (عليه السّلام) قوله: « لتعطفنّ الدّنيا علينا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ .

وفي حديث آخر نقرأ عنه (عليه السّلام) في تفسير الآية المتقدّمة قوله: « هم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبعث الله مهديّهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذلّ عدوّهم ». ونقرأ في حديث آخر عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السّلام) قوله: « والّذي بعث محمّدًا بالحقّ بشيرًا ونذيرًا، إن الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدوّنا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه » أي سننتصر أخيرًا وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحقّ لنا. ومن الطّبيعيّ أنّ حكومة المهديّ (عجّل الله فرجه) العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلاميّة في معايير محدودة قبلها من قِبَل المستضعفين ضدّ المستكبرين، ومتى ما تمّت الظّروف والشّروط لمثل هذه الحكومات الإسلاميّة فإنّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهيّة سيتحقّقان في شأنها، ولا بدّ أن يكون النّصر حليفها بإذن الله [169] .


 


80- جزاء من يسأل عن حال قومه


 

كان سبب هلاك قارون أنّه لمّا أخرج موسى (عليه السّلام) بني إسرائيل من مصر وأنزلهم البادية، أنزل الله عليهم المنّ والسّلوى وانفجر لهم من الحجر اثنتا عشرة عينًا، بطروا وقالوا: ﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾، قال لهم موسى (عليه السّلام): ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ﴾، فقالوا كما حكى الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا ﴾، ثمّ قالوا لموسى (عليه السّلام): ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾، ففرض الله عليهم دخولها وحرّمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فكانوا يقومون من أوّل اللّيل ويأخذون في قراءة التّوراة والدّعاء والبكاء وكان قارون منهم وكان يقرأ التّوراة ولم يكن فيهم أحسن صوتًا منه وكان يسمّى " المنون " لحسن قراءته وقد كان يعمل الكيميا، فلمّا طال الأمر على بني إسرائيل في التّيه والتّوبة وكان قارون قد امتنع من الدّخول معهم في التّوبة وكان موسى (عليه السّلام) يحبّه فدخل عليه موسى (عليه السّلام)، فقال: يا قارون قومك في التّوبة وأنت قاعد هاهنا ادخل معهم وإلاّ نزل بك العذاب، فاستهان به واستهزأ بقوله فخرج موسى (عليه السّلام) من عنده مغتمًّا فجلس في فناء قصره وعليه جبّة شعر ونعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر بيده العصا، فأمر قارون أن يصبّ عليه رمادًا قد خلط بالماء، فصبّ عليه فغضب موسى (عليه السّلام) غضبًا شديدًا وكان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه وقطر منها الدّم، فقال موسى (عليه السّلام): يا ربّ إن لم تغضب لي فلست لك بنبيّ، فأوحى الله إليه قد أمرت السّماوات والأرض أن تطيعك فمرها بما شئت وقد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر، فأقبل موسى (عليه السّلام) فأومأ إلى الأبواب فانفرجت ودخل عليه، فلمّا نظر إليه قارون علم أنّه قد أوتي، فقال: يا موسى أسالك بالرّحم الّذي بيني وبينك، فقال له موسى يا بن لاوي لا تزدني من كلامك! يا أرض خذيه، فدخل القصر بما فيه في الأرض ودخل قارون في الأرض إلى ركبتيه، فبكى وحلفه بالرّحم، فقال له موسى (عليه السّلام): يا بن لاوي لا تزدني من كلامك، يا أرض خذيه وابتلعيه بقصره وخزائنه [170] .

فلمّا هلك قارون ووكّل الله تعالى به ملكًا يدخله في الأرض كلّ يوم قامة رجل، وكان يونس (عليه السّلام) في بطن الحوت يسبّح الله تعالى ويستغفره فسمع قارون صوته، فقال للملك الموكّل به: انظرني أسمع كلام آدميّ، فأوحى الله إلى الملك: أنظره، فأنظره. ثمّ قال قارون: من أنت؟ قال يونس (عليه السّلام): أنا المذنب الخاطىء يونس بن متّى، قال: فما فعل شديد الغضب في الله في موسى بن عمران؟ قال: هيهات هلك، قال: فما فعل الرّؤوف الرّحيم على قومه هارون بن عمران؟ قال: هلك، قال: فما فعلت كلثم بنت عمران الّتي كانت سمّيت لي؟ قال: هيهات ما بقي من آل عمران أحد، قال قارون: واأسفاه على آل عمران، فشكر الله له ذلك فأمر الله الملك الموكل به أن يرفع عنه العذاب أيام الدّنيا؟ فرفع عنه. فلمّا رأى يونس (عليه السّلام) ذلك: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ فاستجاب له وأمر الحوت فلفظه على ساحل البحر وقد ذهب جلده ولحمه، وأنبت الله شجرة من يقطين فأظلّته من الشّمس فسكن، ثمّ أمر الله الشّجرة فتنحّت عنه ووقعت الشّمس عليه فجزع [171] .


 


81- داوود وجالوت


 

لمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت، أوحى الله سبحانه إلى نبيّ بني إسرائيل أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى (عليه السّلام)، فبعث طالوت إلى أشي ـ وكان أشي (أو آسي) راعيًا وكان له عشر بنين أصغرهم داوود (عليه السّلام) ـ أن احضر وأحضر ولدك فلمّا حضروا دعا واحدًا بعد واحد من ولده فألبسه درع موسى (عليه السّلام) فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه، فقال: لأشي، فهل خلفت من ولدك أحدًا؟ قال نعم أصغرهم تركته في الغنم راعيًا فبعث إليه فجاء به، فلمّا دعاه أقبل ومعه مقلاع، قال: فنادته ثلاث صخرات في طريقه، فقالت: يا داوود خذنا فأخذها في مخلاته، وكان شديد البطش قويًّا في بدنه شجاعًا، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى (عليه السّلام) فاستوت عليه.

ولمّا دخل داوود العسكر سمعهم يعظّمون أمر جالوت، فقال لهم: ما تعظّمون من أمره؟ فوالله لئن عاينته لأقتلنّه، فتحدّثوا بخبره حتّى أدخل على طالوت، فقال: يا فتى وما عندك من القوّة وما جرّبت من نفسك، قال: كان الأسد يعدو على شاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفكّ لِحْيَيْه منها فآخذها من فِيه.

وفصل طالوت بالجنود، وقال لهم نبيّهم: يا بني إسرائيل ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ﴾ في هذه المفازة فمن شرب منه فليس من حزب الله، ومن لم يشرب فهو من حزب الله ﴿ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ ، فلمّا وردوا النّهر أطلق الله تعالى لهم أن يغترف كل واحد منهم غرفة: ﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، فالّذين شربوا كانوا ستّين ألفًا وهذا امتحان امتحنوا به كما قال الله (عزّ وجلّ).

عن الصّادق (عليه السّلام) أنَّه قال: القليل الّذين لم يشربوا ولم يغترفوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً، فلمّا جاوزوا النّهر ونظروا إلى جنود جالوت، قال الّذين شربوا منه: ﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ وقال الّذين لم يشربوا: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾، فجاء داوود (عليه السّلام) فوقف بحذاء جالوت وكان جالوت، على الفيل وعلى رأسه التّاج وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها وجنوده بين يدَيْه، فأخذ داوود (عليه السّلام) من تلك الأحجار حجرًا فرمى به ميمنة جالوت فمرّ في الهواء ووقع عليهم فانهزموا، وأخذ حجرًا آخر فرمى به ميسرة جالوت فانهزموا، فرمى جالوت بحجر فصكّ الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه ووقع على الأرض ميتًا [172] .

وهو قوله تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [173] .


 


82- غسيل الملائكة


 

كانت ليلة حبلى بالوقائع والحوادث، وكانت حمراء غبراء على المسلمين، تطلب الدّماء وأيّ دماء، دماء مثل دماء سيّد الشّهداء حمزة عمّ الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، دماء نزفت من ثغر حبيب الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

إنّها اللّيلة الّتي كان في صبيحتها حرب أحد، حيث جمع النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحابه وجلسوا يتشاورون في شأن المعركة الّتي خلّفت سبعين شهيدًا من المسلمين وأدخلت الحزن والعزاء إلى كلّ بيت في المدينة.

في تلك اللّيلة جاء حنظلة بن أبي عيّاش إلى رسول الرّحمة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاستأذنه أن يقيم عند أهله، وذلك أنَّه تزّوج في تلك اللّيلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [174]  فأقام عند أهله ثمّ أصبح وهو جنب فحضر القتال في أحد واستشهد فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بماء المزن في صحائف فضّة بين السّماء والأرض فكان » « غسيل الملائكة » [175] .


 


83- عفاف العين


 

من الصّفات الّتي مدحها القرآن الكريم والّتي يجب أن يتحلّى بها كلّ رجل وامرأة العفّة والطّهارة، ومن أنواع العفّة أنّ الله تعالى قد أمر الرّجال والنّساء أن يغضّوا أبصارهم عمّا حرّم ويحفظوا فروجهم.

عن أبي عبد الله (عليه السّلام): إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها، وفرّقه فيها: وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرّم الله عليه، وأن يعرض عمّا نهى الله عنه ممّا لا يحلّ له، وهو عمله وهو من الإيمان، فقال تبارك وتعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ﴾، فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن يُنظَر إليه، وقال: ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج أختها، وتحفظ فرجها من أن يُنظَر إليها وقال: كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزّنا إلاّ هذه الآية فإنّها من النّظر.

في جوامع الجامع وعن أمّ سلمة (رضي الله عنها) قالت: كنت عند النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعنده ميمونة فأقبل ابن أمّ مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟.

وعن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النّساء يتقنّعنّ خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدّماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولأخبرنّه، قال: فأتاه، فلمّا رآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل (عليه السّلام) بهذه الآية [176] : ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [177] .


 


84- امتحان أهل البيت (عليهم السّلام)


 

عن موسى بن جعفر، عن أبيه (صلوات الله عليهما) قال: جمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله وسلامه عليهم) وأغلق عليه وعليهم الباب وقال: يا أهلي وأهل الله إنّ الله (عزّ وجلّ) يقرأ عليكم السّلام وهذا جبرائيل معكم في البيت يقول: إنّي قد جعلت عدوّكم لكم فتنة، فما تقولون؟ قالوا: نصبر يا رسول الله لأمر الله وما نزل من قضائه، حتّى نقدم على الله (عزّ وجلّ) ونستكمل جزيل ثوابه، فقد سمعناه يعد الصّابرين بالخير كله، فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى سمع نحيبه من خارج البيت فنزلت الآية: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [178] ، إنّهم سيصبرون أي سيصبرون كما قالوا صلوات الله عليهم [179] .


 


85- ذريعة النّفاق


 

خرجت قريش والعرب ممّن تحزّبوا ضدّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتجمّعوا سنة خمس من الهجرة وساروا إلى العرب واستنفروهم لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوافوا في عشرة آلاف، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة ابن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة والحارث بن عوف في بني مرّة ومسعر بن جبلة الأشجعيّ فيمن تابعه من الأشجع وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد وهما حليفان أسد وغطفان وكتبت قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلميّ فيمن اتبعه من بني سليم مددًا لقريش. فلمّا علم ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ضرب الخندق على المدينة وكان الّذي أشار إليه سلمان الفارسيّ وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يومئذ حر. قال: يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون حتّى أحكموه.

وممّا ظهر من دلائل النّبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ قال: حدّثني أبي عن أبيه قال: خطّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعًا بين عشرة فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسيّ وكان رجلاً قويًّا فقال الأنصار: سلمان منّا، وقال المهاجرون: سلمان منّا، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): سلمان منّا أهل البيت.

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنّعمان بن مقرن وستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعًا، فحفرنا حتّى إذا بلغنا الثّرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة فكسرت حديدنا وشقّت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره عن الصّخرة، فإمّا أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإمّا أن يأمرنا فيه بأمره فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه، فرقى سلمان حتّى أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره عن الصّخرة، وهو مضروب عليه قبّة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتّى ما يحكّ فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمرك، فهبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع سلمان في الخندق وأخذ المعول وضرب بها ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابَتَيْها يعني لابَتَي المدينة ( اللابتان تثنية اللابة وهي الحرّة، وفسّرت بالأرض التي ألبستها الحجارة السود) حتّى لكأنّ مصباحًا في جوف ليل مظلم فكبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تكبيرة فتح فكبّر المسلمون، ثمّ ضرب ضربة أخرى فلمعت برقة أخرى، ثمّ ضرب به الثّالثة فلمعت برقة أخرى. فقال سلمان: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ما هذا الّذي أرى؟ فقال: أمّا الأولى فإنَّ الله (عزّ وجلّ) فتح عليّ بها اليمن وأمّا الثّانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشّام والمغرب وأمّا الثالثة فإنَّ الله فتح عليّ بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك وقالوا: الحمد لله موعد صادق.

قال: وطلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدّثكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنَّه يبصر في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا [180] .

فنزلت الآية الشّريفة تتحدّث عن تلك الواقعة: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [181] .


 


86- إذن دخول الأبّ


 

جميع القوانين الاجتماعيّة تؤكّد على طلب الإذن قبل دخول بيوت الآخرين، فإذا لم يحرز الشّخص إذنًا بالدخول ودخل يُعدّ ذلك تجاوزًا وتعدّيًا على حقوق الآخرين.

والإسلام بتعاليمه السّامية والمتقدّمة يؤكد على مسألة إحراز الإذن بالدّخول بشكل كبير، ومن دقّة الإسلام في هذه المسألة أنّه يطلب من الأشخاص أن لا يدخلوا من غير إذن حتّى على الآباء والأمّهات والأبناء.

روي أنّ رجلاً قال للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أستأذن على أمّي؟ فقال: نعم، قال: إنَّها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال: أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد فاطمة (عليها السّلام) وأنا معه: فلمّا انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت فاطمة (عليها السّلام): عليك السّلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: أدخل يا رسول الله، قال: أدخل أنا ومن معي؟ قالت: يا رسول الله ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك، فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: وعليك السّلام يا رسول الله، قال: أدخل؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك، قال جابر: فدخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودخلت أنا فإذا وجه فاطمة (عليها السّلام) أصفر كأنّه بطن جرادة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما لي أرى وجهك أصفر؟ قالت: يا رسول الله الجوع فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللّهمّ مشبع الجوعة ودافع (ورافع) الضّيعة أشبع فاطمة بنت محمّد، قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدّم ينحدر من قصصها حتّى عاد وجهها أحمر، فما جاعت بعد ذلك اليوم [182] .


 


87- جنّة المطيعين لا الآباء


 

يقول طاووس الفقية: رأيت الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في الكعبة يطوف من العشاء إلى السّحر ويتعبّد، فلمّا لم ير أحدًا رمق إلى السّماء بطرفه وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسّائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عرصات القيامة، ثمَّ بكى وقال: وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فواسوأتاه غدًا من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين: جوزوا، وللمثقلين: حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟! ثمَّ بكى وأنشأ يقول: أتحرقني بالنّار يا غاية المنى فأين رجائي ثمّ أين محبّتي أتيت بأعمال قباح رديّة (زريّة) وما في الورى خلق جنى كجنايتي ثمَّ بكى وقال: سبحانك تعصى كأنّك لا ترى، وتحلم كأنّك لم تعص، تتودّد إلى خلقك بحسن الصّنيع كأنّ لك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغنيّ عنهم، ثمَّ خرّ إلى الأرض ساجدًا قال طاووس: فدنوت منه وشلت رأسه فوضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خده، فاستوى جالسًا وقال: من الّذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ فقلت له: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون؟ أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزّهراء وجدّك رسول الله! قال: فالتفت إليّ وقال: هيهات هيهات يا (طاووس)، دع عنّي حديث أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدًا حبشيًّا، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان ولدًا قرشيًّا، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ [183] ، والله لا ينفعك غدًا إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح [184] .


 


88- بيوت الوحي


 

جلس قتادة (فقيه أهل البصرة) يومًا في مجلس في حضور الإمام أبي جعفر الصّادق (عليه السّلام)، فقال أبو جعفر (عليه السّلام) لقتادة: من أنت؟ قال: أنا قتادة ابن دعامة البصريّ، فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم. فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): ويحك يا قتادة، إنَّ الله (عزّ وجلّ) خلق خلقًا من خلقه، فجعلهم حججًا على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوّام بأمره، نجباء في علمه، اصطفاهم قبل خلقه، أظلّة عن يمين عرشه، قال: فسكت قتادة طويلاً، ثمَّ قال: أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدَيْ الفقهاء، وقدّام ابن عبّاس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك، فقال له أبو جعفر (عليه السّلام): ويحك أتدري أين أنت؟ بين يدَيْ: ﴿ ... فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [185] ونحن أولئك، فقال له قتادة: صدقت والله، جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة ولا طين [186] .


 


89- البحث عن كيس الخيش في الصّلاة


 

لقد جعل المولى تعالى قمّة النّصر الحقيقيّ في الفلاح والفوز بثواب الله سبحانه والإيمان بوحدانيّته حيث قال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ ثمّ وصف المؤمنين بأوصاف فقال: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ أي خاضعون، متواضعون، متذلّلون، لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم، ولا يلتفتون يمينًا ولا شمالاً.

روي أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال: « أما إنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه »! وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصّلاة يكون بالقلب والجوارح. فأمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمّة لها، والإعراض عمّا سواها، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود. وأمّا بالجوارح فهو غضّ البصر، والإقبال عليها، وترك الالتفات والعبث [187] .

ينقل الشّيخ أبو الفتوح الرّازي في تفسير سورة (المؤمنون) الآية الثّانية فيقول: « كان أبو العبّاس الجواليقيّ خيّاشًا يبيع أكياس الخيش، أعطى يومًا أحدهم كيس خيش ثمّ نسي ذلك الشّخص، ولم يعد يتذكّره، في أحد الأيّام وبينما كان يصلّي تذكّر الشّخص الّذي أعطاه كيس الخيش، عندها رجع إلى دكّانه وقال لصبيّه: لقد تذكّرت لمن أعطيت كيس الخيش، نعم إنَّه فلان.

فقال الصّبيّ لمعلّمه: وكيف تذكّرته؟

قال: أثناء الصّلاة.

فقال الصّبيّ: أيّها المعلّم، كنت تصلّي، أم كنت تبحث عن كيس الخيش؟ عند ذلك رجع أبو العبّاس إلى نفسه وأدرك جهله، فترك عمله وراح يطلب العلم، فأصبح فيما بعد مفسّرًا للقرآن الكريم [188] .


 


90- دعوة عامّة


 

يستفاد من الآيات والرّوايات أن الكعبة المشرّفة كانت موجودة منذ آدم (عليه السّلام)، ثمّ خربت بعد طوفان نبيّ الله نوح (عليه السّلام) ورفعت إلى السّماء، ثم أمر المولى تعالى إبراهيم ببنائها من جديد.

لمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت، أمره الله سبحانه أن يؤذّن في النّاس بالحجّ، فقال: يا ربّ، ما يبلغ صوتي؟ فقال الله: إذن، عليك الأذان وعليّ البلاغ، وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتّى كأنّه أطول من الجبال، فنادى وأدخل إصبعه في أذنه، وأقبل بوجهه شرقًا وغربًا، يقول: « أيّها النّاس كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم » فأجابوه من تحت البحور السّبعة، ومن بين المشرق والمغرب، إلى منقطع التّراب من أطراف الأرض كلّها، ومن أصلاب الرّجال، ومن أرحام النّساء بالتّلبية: لبّيك اللّهمّ لبّيك، أولا ترونهم يأتون يلبّون؟ فمن حجّ من يومئذ إلى يوم القيامة فهم ممّن استجاب الله، وذلك قوله: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يعني نداء إبراهيم على المقام بالحجّ [189] .


 


91- جزاء محبّي عليّ (عليه السّلام)


 

إنّ نجاة البشريّة من العذاب والشّدائد يوم القيامة مرتبط بطاعة الأوامر الإلهيّة، والطّاعة توجب الجزاء الّذي يستحقّه البشر، لكن بشرطها وشروطها، ومن شروط الطّاعة طاعة الرّسل وأئمّة العدل الّذين اختارهم الله تعالى لهذا المنصب، وهم الأئمّة المعصومون (عليهم السّلام).

بناء عليه فإنّ طاعة الإمام المعصوم العادل توجب الفوز والفلاح يوم القيامة، وهذا ما ينطبق على إطاعة الإمام عليّ (عليه السّلام) وأبنائه المعصومين من بعده.

عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: يبعث الله شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من ذنوب وعيوب مبيضّة مسفرة وجوههم، مستورة عوراتهم، آمنة روعتهم، قد سهلت لهم الموارد، وذهبت عنهم الشّدائد، يركبون نوقًا من ياقوت، فلا يزالون يدورون خلال الجنّة، عليهم شراك من نور يتلألأ، توضع لهم الموائد، فلا يزالون يطعمون والنّاس في الحساب، هو قول الله (عزّ وجلّ): ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [190] .

عن النّبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث طويل وفيه يقول لعليّ (عليه السّلام): يا عليّ أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع النّاس ولا تفزعون، ويحزن النّاس ولا تحزنون. فيكم نزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ وفيكم نزلت: ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [191]  [192] .


 


92- المقيمون الصّامتون


 

ذكر المولى تعالى عالم البرزخ في سورة المؤمنون، فقال: ﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [193] ، وقد عبّر عن البرزخ في الرّوايات بعالم القبر وعالم الأرواح وعالم المثال، وهو كما قال عنه الإمام الصّادق (عليه السّلام): « البرزخ القبر وهو الثّواب والعقاب بين الدّنيا والآخرة »، وقال الامام علي بن الحسين (عليهما السّلام): « إنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار ». وقال (عليه السّلام): « أشدّ ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: السّاعة الّتي يعاين فيها ملك الموت، والسّاعة الّتي يقوم فيها من قبره، والسّاعة الّتي يقوم فيها بين يدَي الله، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، ثمّ قال: إن نجوت يا بن آدم عند الموت فأنت أنت وإلاّ هلكت، وإن نجوت يا بن آدم حين توضع في قبرك فأنت أنت وإلاّ هلكت، وإن نجوت حين تحمل النّاس على الصّراط فأنت أنت وإلاّ هلكت، وإن نجوت يا بن آدم حين تقوم لربّ العالمين فأنت أنت وإلاّ هلكت، ثم تلا: ﴿ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ وقال: هو القبر، وإنّ لهم فيه لمعيشة ضنكًا، والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار [194] ».

وقال الامام عليّ (عليه السّلام) وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة: « يا أهل الدّيار الموحشة والمحال المقفرة، والقبور المظلمة. يا أهل التّربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة يا أهل الوحشة أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق، أمّا الدور فقد سكنت، وأمّا الأزواج فقد نكحت، وأمّا الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ (ثمّ التفت إلى أصحابه فقال): أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزّاد التّقوى » [195] .

يقول الأصبغ بن نباته: خرج أمير المؤمنين (عليه السّلام) من الكوفة يومًا، ومرّ حتّى أتى الغريَّيْن فجازه، فلحقناه وهو مستلق على الأرض بجسده، ليس تحته ثوب. فقال له قنبر: يا أمير المؤمنين ألا أبسط ثوبي تحتك؟ قال: لا، هل هي إلاّ تربة مؤمن أو مزاحمته في مجلسه؟ قال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، تربة مؤمن قد عرفناه كانت أو تكون. فما مزاحمته في مجلسه؟ فقال: « يا ابن نباتة، لو كشف لكم لرأيتم (لألفيتم) أرواحًا في هذا الظّهر خلقًا يتزاورون ويتحدثون، إنّ في هذا الظّهر روح كلّ مؤمن، وبوادي برهوت نسمة كلّ كافر [196] .


 


93- حطب جهنّم


 

كانت قريش تعبد الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة والتّمر وقد وصل عدد الأصنام الّتي كانوا يتعبّدونها إلى «360 صنمًا» وقد نصبت في أطراف الكعبة وحولها، فلمّا نزلت الآية المباركة: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [197] ، غضب أهل مكّة ووجدوا منها وجدًا شديدًا، فدخل عليهم عبد الله بن الزّبعريّ وكفّار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أمحمّد تكلّم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم، قال ابن الزّبعريّ: لئن اعترف بها لأخصمنّه، فجمع بينهما فقال: يا محمّد أرأيت الآية الّتي قرأت آنفًا فينا وفي آلهتنا خاصّة أم الأمم (الماضية) وآلهتهم؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم الماضية، إلاّ من استثنى الله فقال ابن الزّبعريّ: خصمتك والله ألست تثنى على عيسى خيرًا وقد عرفت أنّ النّصارى يعبدون عيسى وأمّه، وإنّ طائفة من النّاس يعبدون الملائكة؟ أفليس هؤلاء مع الآلهة في النّار؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا، فضحكت قريش وضحك، وقالت قريش: خصمك ابن الزّبعريّ، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قلتم الباطل أما قلت: إلاّ من استثنى الله وهو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾، وقوله: ﴿ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ يقول: يقذفون فيها قذفًا وقوله: ﴿ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ يعني الملائكة وعيسى بن مريم (عليهما السّلام) [198] .


 


94- الصّبيّ الحكيم


 

خلق الله سبحانه السّماوات والأرض وما فيهما وجعل لكلّ شيء نظامًا خاصًّا وقدرًا محتومًا، وهذا الأمر ينطبق على الإنسان أيضًا، فالرّشد الجسمانيّ والرّوحيّ للإنسان يسير على أساس القوانين الطّبيعيّة الّتي وضعها خالق هذا الإنسان « الله المولى (عزّ وجلّ) »، لكن هذه القوانين والأنظمة ليست مانعًا لإرادة الله سبحانه إذا أراد شيئًا غير الّذي يكون فإرادته سبحانه وتعالى فوق كلّ شيء، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بالمعجزات الخارقة للقوانين الطّبيعيّة، من أجل هداية النّاس وإرشادهم إلى الصّراط المستقيم، فنُطق عيسى بن مريم (عليه السّلام) إنمّا كان معجزة خارقة لنظام النّطق عند البشر، كذلك حكم النّبوّة والحكمة لنبيّ الله يحيى وهو صبيّ وكلّ ذلك بمشيئة المولى وإرادته.

يقول عليّ بن أسباط: رأيت أبا جعفر (عليه السّلام) وقد خرج عليَّ فأجدت النّظر إليه وجعلت أنظر إلى رأسه ورجلَيْه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنَا كذلك حتّى قعد فقال: يا عليّ إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النّبوّة، فقال: ﴿ وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبيّ، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة.

وعن الامام أبي الحسن الرّضا (عليه السّلام) قال: إنّ الصّبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، قال: ما للعب خلقنا فأنزل الله تعالى: ﴿ وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾.

وعن الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) قال: إنّ يهوديًّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين (عليه السّلام): فهذا يحيى بن زكريّا يقال: إنّه أوتي الحكم صبيًّا والحلم والفهم، وأنّه كان يبكي من غير ذنب، وكان يواصل الصّوم؟ قال له عليّ (عليه السّلام) لقد كان كذلك، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إنّ يحيى بن زكريّا كان في عصر لا أوثان فيه ولا جاهليّة، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوتي الحكم والفهم صبيًّا بين عبدة الأوثان، وحزب الشّيطان، فلم يرغب لهم في صنم قط ولم ينشط لأعيادهم، ولم ير منه كذب قط (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان أمينًا، صدوقًا، حليمًا، وكان يواصل الصّوم الأسبوع والأقل والأكثر، فيقال له في ذلك، فيقول: إنّي لست كأحدكم، إنّي أظلّ عند ربّي فيطعمني ويسقين، وكان يبكي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى يبتلّ مصلاّه خشية من الله (عزّ وجلّ) من غير جرم، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة [199] .


 


95- إخراج إبراهيم (عليه السّلام)


 

لمّا رأى إبراهيم (عليه السّلام) من أمر عبادة النّمرود وآزر وقومهما للأصنام وعدم الإيمان بالله تعالى الواحد صمَّم أن يحطّم أصنامهم، فعمد إلى طعام فأدخله بيت أصنامهم فكان يدنو من صنم صنم، ويقول له: كل وتكلّم فإذا لم يجبه، أخذ القدّوم فكسر يده ورجله حتّى فعل ذلك بجميع الأصنام، ثمّ علّق القدّوم في عنق الكبير منهم الّذي كان في الصّدر، فلمّا رجع الملك ومن معه من العيد نظروا إلى الأصنام مكسّرة فقالوا: ﴿ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُواْ سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾، وهو ابن آزر فجاؤوا به إلى نمرود، فقال نمرود لآزر: خنتني وكتمت هذا الولد عنّي، فقال: أيّها الملك هذا عمل أمّه وذكرت أنّي أتقوّم بحجّته، فدعا نمرود أمّ إبراهيم (عليه السّلام) فقال: ما حملك على أن كتمتي أمر هذا الغلام حتّى فعل بآلهتنا ما فعل؟ فقالت: أيّها الملك نظرًا منّي لرعيّتك، قال: وكيف ذلك؟ قالت: رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النّسل، فقلت: إن كان هذا الّذي تطلبه دفعته إليك لتقتله وتكف عن قتل أولاد النّاس وإن لم يكن ذلك بقي لنا ولدنا وقد ظفرت به فشأنك، فكفّ عن أولاد النّاس، فصوّب رأيها، ثمّ قال لإبراهيم (عليه السّلام): من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال إبراهيم: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنطِقُونََ ﴾، فقال الصّادق (عليه السّلام): والله ما فعله كبيرهم وما كذب ابراهيم، فقيل « وكيف ذلك؟ قال: إنّما فعله كبيرهم هذا إن نطق وإن لم ينطق فلم يفعل كبيرهم هذا شيئًا، فاستشار نمرود قومه في إبراهيم: ﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ... فحبس إبراهيم (عليه السّلام) وجمع له الحطب حتّى إذا كان اليوم الّذي ألقي فيه نمرود إبراهيم في النّار برز نمرود وجنوده وقد كان بنى لنمرود بناء لينظر منه إلى إبراهيم كيف تأخذه النّار، فجاء إبليس واتّخذ لهم المنجنيق لأنَّه لم يقدر واحد أن يقرب من تلك النّار عن غلوة سهم وكان الطّائر من مسيرة فرسخ يرجع عنها أن يتقارب من النّار، وكان الطّائر إذا مرّ في الهواء يحترق فوضع إبراهيم (عليه السّلام) في المنجنيق وجاء أبوه فلطمه لطمة، وقال له: ارجع عمّا أنت عليه ».

وأنزل الرّبّ (عزّ وجلّ) ملائكته إلى السّماء الدّنيا ولم يبق شيء إلاّ طلب إلى ربّه، وقالت الأرض: يا ربّ ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق، وقالت الملائكة: يا ربّ خليلك إبراهيم يحرق، فقال الله (عزّ وجلّ): أما أنّه إن دعاني كفيته؟ وقال جبرائيل (عليه السّلام): يا ربّ خليلك إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره، سلّطت عليه عدوّه يحرقه بالنّار، فقال: اسكت إنّما يقول هذا عبد مثلك يخاف الفوت هو عبدي آخذه إذا شئت فإن دعاني أجبته، فدعا إبراهيم (عليه السّلام) ربّه بسورة الإخلاص « يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد نجّني من النّار برحمتك » فالتقى معه جبرائيل في الهواء وقد وضع في المنجنيق، فقال: يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم: أمّا إليك فلا، وأمّا إلى ربّ العالمين فنعم، فدفع إليه خاتمًا عليه مكتوب لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ألجأت ظهري إلى الله أسندت أمرى إلى الله وفوضت أمري إلى الله، فأوحى الله إلى النّار كوني بردًا فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتّى قال: وسلامًا على إبراهيم وانحطّ جبرائيل وجلس معه يحدّثه في النّار ونظر إليه نمرود، فقال: من اتّخذ إلهًا فليتّخذ مثل إله إبراهيم [200] .

لقد هزّت قصّة حريق إبراهيم (عليه السّلام) ونجاته الإعجازيّة في هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، بحيث فقد نمرود معنويّاته تمامًا، لأنّه لم يعد قادرًا على أن يظهر إبراهيم بمظهر الشّابّ المنافق والمثير للمشاكل، فقد عُرف بين النّاس بأنّه مرشد إلهيّ وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم ـ بكلّ إمكانيّاته وقدرته ـ بمفرده، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذه الحال، ومع ذلك اللّسان المتكلّم والمنطق القويّ، والشّهامة والشّجاعة الّتي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيكون خطرًا على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة، فلا بدّ أن يخرج من تلك الأرض على أيّ حال.

من جهة أخرى، فإنّ إبراهيم (عليه السّلام) كان قد أدّى رسالته في الواقع في تلك البلاد، ووجّه ضربات ماحقة إلى هيكل الشّرك وبنيانه، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد، وبقيت المسألة مسألة وقت لتنمو هذه البذور وتبدي ثمارها، وتقلع جذور الأصنام وعبادتها، وتسحب البساط من تحتها.

إذن، لا بدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضيّة لرسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشّام بصحبة لوط (عليه السّلام) ـ وكان ابن أخ إبراهيم ـ وزوجته سارة، وربّما كان معهم جمع قليل من المؤمنين، كما يقول القرآن الكريم: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ وبالرّغم من أنَّ اسم هذه الأرض لم يرد صريحًا في القرآن، إلاّ أنَّه بملاحظة الآية الأولى من سورة الإسراء: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾، يتّضح أنّ هذه الأرض هي أرض الشّام ذاتها، الّتي كانت من النّاحية الظّاهريّة أرضًا غنيّة مباركة خضراء، ومن الجهة المعنويّة كانت مهدًا لرعاية الأنبياء (عليهم السّلام).

وقد وردت بحوث مختلفة في التّفاسير والرّوايات في أنَّ إبراهيم (عليه السّلام) هاجر تلقائيًّا، أم أبعدته سلطات نمرود، أم أنّ الاثنَيْن اشتركا، والجمع بينهما جميعًا هو أنّ نمرود ومن حوله كانوا يرون في إبراهيم خطرًا كبيرًا عليهم، فأجبروه على الخروج من تلك البلاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ إبراهيم (عليه السّلام) كان يرى أنّ رسالته ومهمّته في تلك الأرض قد انتهت، وكان يبحث عن منطقة أخرى للعمل على توسيع دعوة التّوحيد فيها، خاصّة وأنّ البقاء في بابل قد يشكل خطرًا على حياته فتبقى دعوته العالميّة ناقصة. في حديث عن الإمام الصّادق (عليه السّلام): إنّ نمرود أمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله، فحاجّهم إبراهيم (عليه السّلام) عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فحقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم، فاختصموا إلى قاضي نمرود، وقضى على إبراهيم (عليه السّلام) أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود، فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله، وأن يخرجوه، وقال: إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضرّ بآلهتكم [201] .


 


96- زيارة الأمير (عليه السّلام)


 

عن عقبة بن خالد قال: دخلت أنا والمعلّى على أبي عبد الله (عليه السّلام) فقال: يا عقبة، لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلاّ هذا الدّين الّذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينَيْه إلاّ أن يبلغ نفسه إلى هذه وأومأ بيده إلى الوريد، ثمّ اتكأ، وغمزني المعلّى أن سله، فقلت: يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا بلغت نفسه إلى هذه، فأيّ شيء يرى؟ فقال: يرى، فقلت له بضع عشرة مرة: أيّ شيء يرى؟ فقال (في) آخرها: يا عقبة! فقلت: لبّيك وسعديك، فقال: أبيت إلاّ أن تعلم؟ فقلت: نعم ـ يا بن رسول الله ـ إنّما ديني مع دمي فإذا ذهب ديني كان ذلك، فكيف بك، يا بن رسول الله، كلّ ساعة، وبكيت فرقّ لي، فقال: يراهما والله، فقلت: بأبي وأمّي، من هما؟ فقال: رسول الله وعليّ (عليهما السّلام)، يا عقبة، لن تموت نفس مؤمنة أبدًا حتّى يراهما، قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن أيرجع إلى الدّنيا؟ قال: لا مضى أمامه، « إذا نظر إليهما مضى أمامه » فقلت له: يقولان له شيئًا جعلت فداك؟ فقال: نعم، فيدخلان جميعًا على المؤمن فيجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند رأسه، وعليّ (عليه السّلام) عند رجلَيْه، فيكبّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقول: يا وليّ الله، أبشر فإنّي رسول الله، إنّي خير لك ممّا تترك من الدّنيا، ثمّ ينهض رسول الله عليه وآله السّلام، فيقوم عليّ (عليه السّلام) حتّى يكبّ عليه، فيقول: يا وليّ الله، أبشر أنا عليّ بن أبي طالب الّذي كنت تحبّني، (أما) لأنفعنّك، ثمّ قال: أما أنّ هذا في كتاب الله، قلت: جعلت فداك، أين في كتاب الله؟ قال: في يونس [202] : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [203] .


[158] مجمع البيان: ج8 ـ 9، ص 649.

[159] سورة يس، الآيات: 8 ـ 9.

[160] تفسير نور الثّقلَيْن: ج4، ص 394.

[161] تفسير مجمع البيان: 7 ـ 8، ص 260 ـ 261.

[162] سورة الفرقان، الآيات: 27 ـ 29.

[163] تفسير مجمع البيان: 7 ـ 8، ص 551 ـ 553.

[164] سورة الأحزاب، الآية: 26.

[165] سورة السّجدة، الآية: 16.

[166] تفسير البيان: 7 ـ 8، ص 517 ـ 518.

[167] تفسير الصّافي، الفيض الكاشانيّ، ج1، ص 274 ـ 275.

[168] سورة القصص، الآية: 5.

[169] تفسير الأمثل: ج12 ـ ص 175 ـ 176.

[170] تفسير القُمّيّ: ج2، ص 144 ـ 145.

[171] قصص الأنبياء: الجزائريّ، ص 485 ـ 486.

[172] تفسير الصّافي: ج1، ص 278 ـ 279.

[173] سورة البقرة، الآية: 251.

[174] سورة النور، الآية: 62.

[175] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3، ص628.

[176] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3 ـ ص 588.

[177] سورة النّور، الآية: 30.

[178] سورة الفرقان، الآية: 20.

[179] مستدرك سفينة البحار، الشّيخ علي النّمازيّ الشّاهروديّ، ج6، ص 162.

[180] تفسير الميزان، ج16، ص 292 ـ 293.

[181] سورة الأحزاب، الآية: 12.

[182] تفسير نور الثّقلَيْن، ج3، ص 586 ـ 587.

[183] سورة المؤمنون، الآية: 101.

[184] تفسير نور الثّقلَيْن، ج3، ص563 ـ 564.

[185] سورة النور، الآيتان: 36 ـ 37.

[186] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3، ص 609 ـ 610.

[187] تفسير البيان: ج7، ص 176.

[188] راجع: روح الجنان، ص8، ص 124.

[189] تفسير نور الثّقلَيْن، ج3، ص 488.

[190] البرهان في تفسير القرآن: ج9 ص 222. سورة الأنبياء: 101 ـ 102.

[191] سورة الأنبياء، الآية: 103.

[192] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3، ص 460.

[193] سورة المؤمنون، الآية: 100.

[194] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3، ص 553.

[195] نهج البلاغة: خطب الإمام عليّ (عليه السّلام)، ج4، ص 30 ـ 31.

[196] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج10، ص 510.

[197] سورة الأنبياء، الآية: 98.

[198] تفسير القُمّيّ: ج20، ص 10.

[199] تفسير نور الثّقلَيْن: ج3 ـ ص 335 ـ 336.

[200] تفسير القُمّيّ: ج2، ص 71 ـ 73.

[201] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج10، ص 179 ـ 180.

[202] تفسير العيّاشيّ: ج2، ص 125 ـ 126.

[203] سورة يونس، الآيتان: 63 ـ 64.