تفسير سورتي التوبة والتحريم

 جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - بيروت - لبنان

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

الجزء الرابع

سورة التحريم

الآيات من 62 إلى 72 44
اللغة والبيان 46
التفسير 46
المنافقون يظهرون أن الحق الى جانبهم 46
خطة خطرة أخرى من المنافقين 47
علامات المنافقين 48
صفات المؤمنين الحقيقيين 49
الآيات من 73 إلى 86 51
اللغة والبيان 53
التفسير 53
جهاد الكفار والمنافقين 53
مؤامرة خطرة 54
إعاقة المنافقين 56
إعاقة المنافقين مرة أخرى 56
أسلوب أشد في مواجهة المنافقين 58
وضيعو الهمة والمؤمنون المخلصون 58
الآيات من 87 إلى 99 59
اللغة والبيان 61
التفسير 61
واقع بعض المتخلفين عن الجهاد 62
المعذورون الذين يذرفون الدموع عشقاً للجهاد 62
لا تصغوا الى أعذارهم وأيمانهم الكاذبة 63
الأعراب قساة 64

 


  الآيات من 62 إلى 72

يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72).

 


  اللغة والبيان

يحادد: المحادة المخالفة.

مخرج: أي مظهر.

نخوض: الخوض في الشيء الدخول فيه.

نسوا الله: تركوا طاعته.

فنسيهم: ترك ثوابهم.

بخلاقكم: الخلاق النصيب.

خضتم: دخلتم في الباطل.

أصحاب مدين: قوم شعيب.

المؤتفكات: جمع مؤتفكة من ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت، والمراد بالمؤتفكات هنا قرى قوم لوط.

العدن: الاقامة والخلود.

الرضوان: مصدر رضي

 


  التفسير

  المنافقون يظهرون أن الحق الى جانبهم

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (٦٢)

أخبر سبحانه بأن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله أن الذي بلغكم عنهم باطل اعتذاراً اليكم وطلباً لمرضاتكم، والله ورسوله احق وأولى بأن يطلبوا مرضاتهما (إن كانو) مصدقين بالله مقرّين بنبوة نبيه محمد (ص).

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (٦٣)

المعنى أنهم يعلمون أن محادة الله ورسوله والمعاداة مع الله ورسوله والإسخاط يوجب خلود النار.

 


  خطة خطرة أخرى من المنافقين

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (٦٤)

كان المنافقون يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر وهمّوا به من تقليب الأمور على النبي (ص)، فأمر الله نبيّه (ص) أن يبلغهم أن الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه بنزول سورة من عنده (قل استهزئوا...) دوموا على نفاقكم وستركم ما تحذرون خروجه فإن الله مخرج ذلك.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (٦٥)

وأقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذي شوهد منهم: ما الّذي شوهد منهم: ما الذي أرادوا به ؟ وكان ظاهره أنهم همّوا بأمر فيك، ليقولنّ: لم يكن قصد سوء ولا بالذي ظننت فاسأت الظن بنا، وإنما كنا نخوض ونلعب لا على سبيل الجد ولكن لعباً (قل) أتعتذرون عن سيّء فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله وآياته ورسوله وهو كفر ؟

 {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (٦٦)

أمر سبحانه أن يقول لهؤلاء المنافقين (لا تعتذرو) بالمعاذير الكاذبة فإنكم بما فعلتموه قد كفرتم بعد أن كنتم مظهري الايمان إن عفا عن قوم منهم إذا تابوا نعذّب طائفة أخرى لم يتوبوا وأقاموا على النفاق.

 


  علامات المنافقين

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (٦٧)

أي بعضهم من جملة بعض وبعضهم مضاف الى بعض في الاجتماع على النفاق والشرك كما تقول أنا من فلان وفلان مني أي أمرنا واحد وكلمتنا واحدة (يأمرون..) بالشرك والمعاصي (وينهون..) عن الأفعال الحسنة التي أمر الله بها وحثّ عليها ويمسكون أموالهم عن انفاقها في طاعة الله ومرضاته تركوا طاعته فتركهم في النار وترك رحمتهم (إن المنافقين هم..) الخارجون عن الايمان بالله ورسوله وعن طاعته.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (٦٨)

أخبر سبحانه أنّه وعد الذين يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر النار دائمين فيها والعقاب فيها كفاية ذنوبهم كما يقول عذبتك حسب ما فعلت وحسب فلان ما نزل به أي ذلك قدر فعله، أبعدهم من جنته وخيره (ولهم عذاب..) دائم لا يزول.

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (٦٩)

يعني أنتم كالّذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد، بل اشد وأكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون، وأنتم أيضاً أمثالهم في الحبط والخسران، ولذا وعدكم النار الخالدة ولعنكم.

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (٧٠)

ألم يأتِ هؤلاء المنافقين الذين وصفهم خبر من كان قبلهم قوم نوح الذين عمّهم الله سبحانه بالغرق، وعادوهم قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية، وثمود وهم قوم صالح عذبهم بالرجفة، وقوم إبراهيم أهلك ملكهم نمرود وسلب عنهم النعمة، والمؤتفكات وهي القرى المنقلبات على وجهها، قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها (أتتهم رسلهم..) بالحجج والمعجزات والبراهين، فكذبوها فانتهى أمرهم الى الهلاك، ولم يكن من شأن السنة الالهية أن يظلمهم لأنه بيّن لهم الحق والباطل، ولكن عاقبهم باستحقاق إذ كذبوا رسل الله كما فعلتم فأهلكهم بكفرهم وعصيانهم.

 


  صفات المؤمنين الحقيقيين

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (٧١)

لما ذكر سبحانه المنافقين ووصفهم بقبيح خصالهم اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين ويصفهم بضدّ أوصافهم ليصل الكلام بما قبله اتصال النقيض بالنقيض حيث بين تعالى أن بعضهم انصار بعض يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته حتى أن المرأة تهيء أسباب السفر لزوجها إذا خرج وتحفظ غيبة زوجها وهم يد واحدة على من سواهم (يأمرون) بما أوجب الله فعله أو رغّب فيه عقلاً أو شرعاً (وينهون) عمّا نهى الله عن فعله وزهد فيه عقلاً أو شرعاً، ويداومون على فعل الصلاة واخراج الزكاة من أموالهم ووضعها حيث أمر الله تعالى بوضعها فيه ويمتثلون طاعة الله ورسوله ويتبعون إرادتهما ورضاهما (أولئك) الذين هذه صفتهم يرحمهم الله في الآخرة إنه سبحانه قادر على الرحمة والعذاب واضع كل واحد منهما موضعه.

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (٧٢)

وعد سبحانه (المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من..) تحت أشجارها الأنهار والماء، يطيب العيش فيها بناها الله تعالى من اللآلىء والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر لا أذى فيها ولا نصب روي عن النبي (ص) أنه قال: » عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله عزّ وجلّ طوبى لمن دخلك (ورضوان من الله أكبر) أي ورضا الله تعالى عنهم أكبر من ذلك كله، ذلك النعيم الذي وصفت هو النجاح العظيم الذي لا شيء أعظم منه.

 


  الآيات من 73 إلى 86

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86).

 


  اللغة والبيان

الغلظة: الخشونة في المعاملة.

همّوا: همَّ بالشيء إذا أراده، والهم دون العزم إلا أن يبلغ نهاية القوة في النفس.

فأعقبهم: أورثهم.

نجواهم: النجوى الكلام الخفي.

يلمزون: لمزه عابه.

المطوّعين: المطوع، المراد به هنا من يؤدي ما يزيد على الوجوب في أمواله.

جُهدهم: الجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة.

المخلَّفون: جمع مخلّف، وهو المتروك، اي أن الرسول (ص) هو الذي تركهم.

بمقعدهم: أي بقعودهم.

فاقعدوا مع الخالفين: أي مع القاعدين أو الباقين، وهم النساء والصبيان والعجزة.

الطّول: بالفتح والتشديد الغنى والقوة.

 


  التفسير

  جهاد الكفار والمنافقين

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (73)

أمر سبحانه النبي (ص) أن يجاهد الكفار بالسيف والقتال واختلفوا في كيفية جهاد المنافقين فقيل ان جهادهم باللسان والوعظ والتخويف وقيل بإقامة الحدود عليهم وقيل بالوعظ والتخويف وقيل بالانواع الثلاثة بحسب الإمكان وأسمعهم الكلام الغليظ ومنزلهم ومقامهم ومسكنهم جهنم، وبئس المرجع والمأوى.

 


  مؤامرة خطرة

 {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (74)

سياق الآية، يشعر بأنهم أتوا بعمل سيء وشفّعوا بقول تفوهوا به عند ذلك، وأن النبي (ص) عاتبهم على قولهم مؤاخذاً لهم فحلفوا بالله ما قالوا، والله سبحانه يكذبهم في الأمرين جميعاً ثم بيّن الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة أن يرجعوا إلى ربهم، وبيّن عاقبة هذه التوبة وعاقبة التولي والإعراض عنها.

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (٧٥)

أي من جملة المنافقين الذين تقدّم ذكرهم (من عاهد الله..) لئن أعطانا من رزقه لنتصدّقن على الفقراء (ولنكونن من الصالحين) بانفاقه في طاعة الله وصلة الرحم ومؤاساة أهل الحاجة والروايات تدل على أن ألايات نزلت في ثعلبة بن حاطب كان من الأنصار و كان محتاجاً فعاهد الله، فلمّا آتاه بخل به.

{فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (٧٦)

أي (فلم) أعطاهم ما اقترحوه ورزقهم ما تمنّوه من الأموال شحّت نفوسهم عن الوفاء بالعهد ومنعوا حق الله منه (وتولو) عن فعل ما أمرهم الله به (وهم معرضون) عن دين الله تعالى.

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (٧٧)

أي فأروثهم البخل والامتناع عن إيتاء الصدقات نفاقاً في قلوبهم يدوم لهم ذلك ولا يفارقهم الى يوم موتهم، وإنما صار هذا البخل والامتناع سبباً لذلك لما فيه من خلف الوعد لله والملازمة والاستمرار على الكذب.

او المعنى: جازاهم الله نفاقاً في قلوبهم الى يوم لقائه وهو يوم الموت، لأنهم أخلفوه ما وعدوه وكانوا يكذبون.

وفيها دلالة على ان الاخلاف والخيانة والكذب من أخلاق أهل النفاق وقد صحّ في الحديث عن النبي (ص) أنه قال: » للمنافق ثلاث علامات إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ».

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (٧٨)

أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم سرّهم أي ما يخفون في أنفسهم، وما يتناجون به بينهم، ويعلم كل ما غاب عن العباد وعن ادراكهم من موجود أو معدوم من كل وجه يصح أن يعلم منه.

 


  إعاقة المنافقين

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (٧٩)

أي الذين يعيبون الذين يتطوعون بالصدقات من المؤمنين الموسرين، والذين لا يجدون من المال إلاّ جهد أنفسهم من الفقراء المعسرين، فيعيبون المتصدقين موسرهم ومعسرهم وغنيهم وفقيرهم ويسخرون منهم، سخر الله منهم ولهم عذاب موجع مؤلم، وروي عن النبي (ص) أنه سئل فقيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال جهد المقلّ.

 {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (٨٠)

صيغته صيغة الأمر والمراد به المبالغة في الاياس من المغفرة بأنه لو طلبها طلب المأمور بها أو تركها ترك المنهي عنها لكان ذلك سواء في أن الله تعالى لا يفعلها وكلمة سبعين كناية عن الكثرة والمبالغة، وحرمان المغفرة لهم بكفرهم بالله ورسوله (والله) لا يلطف بهم، لإصرارهم على كفرهم.

 


 إعاقة المنافقين مرة أخرى

 {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (81)

أخبر سبحانه في هذه الآية ان جماعة من المنافقين الذين خلفهم النبي (ص) ولم يخرجهم معه الى تبوك استأذنوه في التأخر فأذن لهم ففرحوا بقعودهم عن الجهاد لمخالفتهم النبي (ص) (وكرهوا ان يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالو) للمسلمين ليصدّوهم عن الغزو، لا تخرجوا الى الغزو سراعاً في هذا الحرّ (قل) يا محمد لهم (نار جهنم) التي وجبت لهم (أشد حر) من هذا الحرّ (لو كانوا يفقهون) أوامر الله تعالى.

 {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (82)

فمن الواجب بالنظر الى ما عملوه وكسبوه ان يضحكوا ويفرحوا قليلاً في الدنيا وأن يبكوا ويحزنوا كثيراً في الآخرة.

 {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} (83)

أي فإن ردّك الله من غزوتك هذه (الى طائفة) من المنافقين الذين تخلفوا عنك (فاستأذنوك للخروج) معك في غزوة اخرى (فقل لن تخرجوا معي أبد) الى غزوة (ولن تقاتلوا معي عدو) ثم بين سبحانه سبب ذلك (انكم رضيتم بالقعود أول مرة) أي عن غزوة تبوك (فاقعدوا مع الخالفين) في كل غزوة.

 


  أسلوب أشد في مواجهة المنافقين

 {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} (84)

نهى سبحانه عن الصلاة لمن مات من المنافقين والقيام على قبره وفي الآية إشارة الى ان النبي (ص) كان يصلّي على موتى المسلمين ويقوم على قبورهم للدعاء.

 {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (85)

الخطاب للنبي (ص) والمراد به الأمة (إنما يريد الله ان يعذبهم بها في الدني) بما يلحقهم فيها من المصائب والغموم (وتزهق انفسهم) أي تهلك بالموت وهم في حال كفرهم.

 


  وضيعو الهمة والمؤمنون المخلصون

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} (86)

المعنى (وإذا أنزلت سورة) من القرآن على رسول الله (ص) بأن آمنوا واخرجوا الى الجهاد مع النبي (ص) طلب الاذن منك في القعود أولوا المال والقدرة والغنى وغيرهم (منهم) أي من المنافقين (وقالو) دعنا مع المتخلفين عن الجهاد من النساء والصبيان.

 


  الآيات من 87 إلى 99

رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99).

 


  اللغة والبيان

الخوالف: النساء لتخلفهن عن الجهاد.

طبع على قلوبهم: ختم عليها.

المعذرون: جمع معذر، وله معنيان: الأول المعتذر من اعتذر، سواء أكان له عذر أم لم يكن، الثاني التعذير، وهو التقصير أي يريك العذر، ولا عذر له.

الأعراب: سكان البادية.

نصحوا: أخلصوا.

نبأنا: عرّفنا.

التربص: الانتظار.

الدائرة: المصيبة.

قُرُبات: جمع قربة، وهي طلب الثواب والكرامة من الله بحسن الطاعة.

المراد بالصلاة آية (99): الدعاء.

 


  التفسير

  واقع بعض المتخلفين عن الجهاد

{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} (87)

أي رضوا لنفوسهم ان يقعدوا مع النساء والصبيان والمرضى والمقعدين (وطبع على قلوبهم) بحيث ماتت قلوبهم (فهم لا يفقهون) أوامر الله ونواهيه ولا يتدبرون الأدلة.

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (88)

 (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم) ينفقونها في سبيل الله ومرضاته (وانفسهم) يقاتلون الأعداء (أولئك لهم الخيرات) من الجنة ونعيمها (وأولئك هم) الظافرون بالوصول الى البغية

{أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (89)

أي هيّأ لهم هذا النعيم والفوز بالجنّة والنجاة من الهلكة الى حال النعمة العظيمة الدائمة.

{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (90)

أي جاء المقصّرون الذين يعتذرون وليس لهم عذر وقيل هم المعتذرون الذين لهم عذر وهم نفر من بني غفّار، وقعدت طائفة من المنافقين من غير أن يعتذروا وهم الذين كذبوا الله ورسوله، (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب اليم) وهو القتل والنار.

 


  المعذورون الذين يذرفون الدموع عشقاً للجهاد

 {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (91)

يعني هؤلاء مرفوع عنهم الحرج والمشقة أي الحكم بالوجوب الذي لو وضع كان حكماً حرجياً، وكذا ما يستتبعه الحكم من الذم والعقاب على تقدير المخالفة يرفع عنهم ذلك فيما (إذا نصحوا لله ورسوله) واخلصوا من الغش والخيانة.

 {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} (92)

أي ولا حرج على الفقراء الذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوباً يركبونه وتصلح سائر ما يحتاجون اليه من السلاح وغيره قلت: (لا أجد ما أحملكم عليه تولّو) والحال أن أعينهم تمتلئ وتسكب دموعاً للحزن من أن لا يجدوا "أو لأن لا يجدوا" ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (93)

يعني إنما الطريق بالعقاب والحرج على الذين يطلبون الإذن منك يا رسول الله (ص) في المقام وهم مع ذلك أغنياء متمكنون من الجهاد في سبيل الله (رضوا بأن يكونوا مع) النساء والصبيان ومن لا حراك به (وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون)

 


  لا تصغوا الى أعذارهم وأيمانهم الكاذبة

 {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (94)

أي يعتذر المنافقون اليكم عند رجوعكم من الغزوة اليهم، قل يا محمد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنا لن نصدقكم فيما تعتذرون به لأن الله قد أخبرنا ببعض أخباركم مما يظهر به نفاقكم وكذبكم فيما تعتذرون به، وسيظهر عملكم ظهور شهود لله ورسوله، ثم تردون الى الله الذي يعلم الغيب والشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.

{سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (95)

أي سيقسم هؤلاء المنافقون والمتخلفون أنهم إنما تخلفوا لعذر لتصفحوا عن جرمهم ولا توبخوهم ولا تعنفوهم (فاعرضوا عنهم) إنهم كالشيء المنتن الذي يجب الإجتناب عنه، ومصيرهم ومآلهم ومستقرهم جهنم مكافأة على ما كانوا يكسبونه من المعاصي.

 {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (96)

المراد: إنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرضى الله عنه، أي رضيتم بخلاف رضى الله، ولا ينبغي لمؤمن ان يرضى عما يسخط ربه فهو أبلغ كناية عن النهي عن الرضا عن المنافقين.

 


  الأعراب قساة

 {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (97)

يبين الله تعالى حال سكان البادية وأنهم أشد كفراً ونفاقاً لأنهم لبعدهم عن المدينة والحضارة، وحرمانهم من بركات الإنسانية من العلم والأدب أقسى واجفى، فهم أجدر وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصلية والأحكام الشرعية من فرائض وسنن وحلال وحرام.

 {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (98)

أي ومن سكان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرماً وخسارة وينتظر نزول الحوادث السيئة بكم عليهم دائرة (حادثة) السوء "قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم" والله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

 {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (99)

أي (ومن الاعراب من يؤمن بالله) فيوحده من غير شرك ويؤمن باليوم الآخر فيصدّق الحساب والجزاء ويتخذ إنفاق المال لله وما يتبعه من صلوات الرّسول ودعواته بالخير والبركة، كل ذلك قربات عند الله وتقربات منه إليه، ألا إن هذا الانفاق وصلوات الرسول قربة لهم، والله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب، رحيم بالمؤمنين به والمطيعين له.