فرائض قرآنيّة

على ضوء نهج البلاغة

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

 بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى

شهر شعبان 1434 هـ. ق. / 2013م

 

 

 

 المقدّمة

 الفصل الأوّل: الصّلاة

 تمهيد

 المحافظة على الصّلاة

 الصّلاة في وقتها

 ما هو أفضل من الصّلاة

 الصّلاة عمود الدّين

 مواقيت الصّلاة

 صَلِّ بهم كصلاة أضعفهم

 الصّلاة في يوم جمعة

 التّهجّد في الصّلاة

 قربان كلّ تقيّ

 قبول العبادة

 الخضوع والتّذلّل لله تعالى

 حتّى أصلّي ركعتَيْن

 العيد لمن قبل الله قيامه

 إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

 الصّلاة مزيلة للذّنوب

 انتظار أوقات الصّلاة

 

 

 



 

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين سيّدنا ونبيّنا المبعوث رحمة للعالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الهداة المهديّين.

يقول الله سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ [1].

إذا راجعنا القرآن الكريم نجد مجموعة كبيرة من الأوامر العباديّة - الّتي يقوم بها الانسان بدافع من أمر الله تعالى - سواء الاعتقاديّة كتوحيد الله سبحانه أو البدنيّة كالصّلاة والصّيام والحجّ والجهاد وغير ذلك من الأعمال الّتي تعدّ من العبادات.. ويكون القيام بها عبادة أيضًا.

ولا بدّ أن تكون هذه العبادة خالصة لله سبحانه وحده لأنّه هو المالك الحقيقيّ للموجودات ومنها العباد فهم تحت تصرّفه ومحتاجون إليه سبحانه ومرتبطون به في جميع شؤونهم الوجوديّة.

يقول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [2].

على ضوء ذلك يكون الإنسان بل وجميع الموجودات في عالم الخلق وحتّى الكفّار والمشركون عبيدًا لله تعالى واقعًا وحقيقة وهي مسلّمة وخاضعة أمام إرادة الله وقوانينه الحاكمة على الكون، يقول سبحانه: ﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [3]

ومن هنا نفهم ويتوضّح لنا عبوديّة الإنسان التّكوينيّة لله سبحانه.

ومن هذا الطّريق يمكننا الوصول إلى معنى العبادة التّشريعيّة ووجوب الطّاعة لله سبحانه، باعتبار أنّه مالك لنا فله الحقّ في إصدار القوانين والتّشريعات، وعلى العباد أن يظهروا لله سبحانه غاية الخضوع ونهاية التّذلّل والعبوديّة، وأن يسلِّموا لأوامره ودساتيره تسليمًا مطلقًا وخالصًا.

ومن هنا، يظهر أنّ العبادة والخضوع والتّذلّل وإظهار العبوديّة لغير الله لا يجوز على الاطلاق، كان من كان ذلك الغير، وكان ما كان الشّيء المعبود، وبناءً على ذلك؛ لا يليق غير الله سبحانه للعبادة والمعبوديّة، ولا يستحقّها سواه ولهذا كان جميع الأنبياء يدعون النّاس إلى عبادة الله عزّ وجلّ الواحد وينهون عن عبادة غيره. يقول الله سبحانه في هذا المجال: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) [4].

إذن فالعبادة من خلال الصّلاة والحجّ وغير ذلك لو أُتِيَ بها لغير الله سبحانه كان شركًا أو حرامًا. ونحن في جمعيّة القرآن الكريم سنتكلّم عن أهمّ العبادات الّتي بُنِيَ عليها الإسلام كما ورد في الحديث، عن الباقر (عليه السّلام): «بني الإسلام على خمس: على الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية».

والحديث عن هذه الفرائض القرآنيّة سيكون من خلال كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الّذي يقول: «وَلاَ عِبَادَةَ كَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ»، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ﴿: «كما أنَّ القرآن يُقرأ، كذلك يجب أن يُقرأ كتاب نهج البلاغة، لأنّه الكتاب الثّاني بعده، وهو مكمِّلٌ للقرآن الكريم»، وقد قسّمنا هذا الكتاب: فرائض قرآنيّة على ضوء نهج البلاغة، إلى خمسة فصول وهي:

  • الفصل الأوّل: الصّلاة.

  • الفصل الثّاني: الزّكاة.

  • الفصل الثّالث: الصّوم.

  • الفصل الرّابع: الحجّ.

  • الفصل الخامس: الولاية.

نسأل الله الهداية والدّراية ونعوذ بالله من الغباوة والغواية إنّه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير.

 

جمعيّة القرآن الكريم

للتّوجيه والإرشاد

 


 [1] سورة الإسراء، الآية: 23.

 [2] سورة فاطر، الآية: 15.

 [3] سورة مريم، الآية: 93.

 [4] سورة هود، الآيتان: 1 – 2.

تمهيد

 

 

قال سبحانه: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً [1].

وقال تعالى: ﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ [2].

وقال عزَّ وجلّ: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ .

الصّلاة أوّل ما افترض الله سبحانه على النّاس، وأوّل ما يجب تعلّمه من الفرائض، وأوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم، وأوّل ما يُحاسَب به، إن قُبِلت قبِل ما سواها، وإن رُدّت رُدَّ ما سواها.

الصّلاة عمود الدّين وقوامه ووجهه، وموضعها من الدّين كموضع الرّأس من الجسد، ومَثَلُها مَثَل عمود الفسطاط.

الصّلاة خير موضوع، وأفضل الأعمال وأحبّها إلى الله سبحانه وأفضل ما توسّل به المتوسّلون للتّقرّب إليه، وهي معراج المؤمن.

الصّلاة تطرد الشّيطان، وتمنع من البطر والطّغيان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزيل الكبر وأنواع الرّذائل القلبيّة، وتُذهب السّيّئات وتطهّر النّفس.

الصّلاة مفتاح كلّ خير، ينوّر بها الوجه والقلب، وتطمئنّ بها النّفس، وتُستنزل بها الرّحمة، وتُبدّل بها السّيّئات بالحسنات، ويُستعان بها على الجهاد الأكبر والأصغر.

الصّلاة آخر وصيّة الأنبياء لا سيّما خاتمهم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنّه كان من آخر وصاياه: «الصّلاة، الصّلاة وما ملكت أيْمانكم، حتّى جعل نبيّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُلَجلِجها في صدره، وما يفيض بها لسانه».

وإليك ما قاله أمير المؤمنين (عليه السّلام) عنها أوّل من صلّى بعد الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «اللَّهُمَّ إنّي أَوَّلُ مَنْ أنَابَ، وَسَمِعَ وأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إلاَّ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالصَّلاَةِ».

 

«اللَّهُمَّ إني أَوَّلُ مَنْ أنَابَ» أي: أقبل إلى الله «وَسَمِعَ» دعوة النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «وأَجَابَ» وفي (الإرشاد) قال (عليه السّلام): أخبركم بما يكون قبل أن يكون، لتكونوا منه على حذر، ولتنذروا به من اتّعظ واعتبر، كأنّي بكم تقولون إنّ عليًّا يكذب، كما قالت قريش لنبيّها وسيّدها نبيّ الرّحمة، فيا ويلكم أَفَعَلى من أكذب، أَعَلى الله، فأنا أوّل من عبده ووحّده، أم على رسول الله، فأنا أوّل من آمن به وصدّقه ونصره، الخبر [3].

«لَمْ يَسْبِقْنِي إلاَّ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالصَّلاَةِ» عن الصّادق (عليه السّلام): أوّل جماعة كانت، أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يصلّي وأمير المؤمنين (عليه السّلام) معه، إذ مرّ أبو طالب به وجعفر معه قال: يا بُنيّ صِلْ جناح ابن عمّك، فلمّا أحسّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تقدّمهما وانصرف أبو طالب مسرورًا وهو يقول: «إنّ عليًّا وجعفرًا ثقتي عند ملمّ الزّمان والكرب» [4].

 


 

المحافظة على الصّلاة

 

ومن كلام له (عليه السّلام) كان يوصي به أصحابه:

« تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وَتَقَرَّبُوا بِهَا فَإِنَّهَا كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً، أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ، وَتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَقِ، وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ وَقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَلاَ قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَلاَ مَالٍ يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نَصِباً بِالصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَيُصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ ».

 

حَتَّ الْوَرَقِ: عن الشّجر أسقطه، وحتّ الشّيء عن الثّوب: حكّه وأزاله.

الرِّبَقِ: حبل فيه عرى.

بِالْحَمَّةِ: بفتح الحاء وتشديد الميم عين معدنيّة يستشفى بها.

الدَّرَنِ: محرّكة الوسخ.

نَصِباً: تعبًا.

 

«تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ» أي جدّدوا العهد بها وحافظوا عليها في أوقاتها المخصوصة ولا تضيّعوها ولا تغفلوا عنها، لأنّها عماد الدّين، ومعراج المؤمنين، وقربان كلّ تقيّ ومؤمن نقيّ، وأوّل ما يحاسب به العبد إنْ قبلت قبل ما سواها وإنْ رُدَّت رُدَّ ما سواها.

وقد ذمّ الله أقوامًا توانَوْا عنها واستهانوا بأوقاتها فقال: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾  قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رواية الخصال: يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها [5].

«وَحَافِظُوا عَلَيْهَا» أي على أوقاتها ورعاية آدابها وسننها وحدودها ومراسمها وشروطها وأركانها.

فلقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من ترك صلاته متعمّدًا فقد هدم دينه [6].

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا تضيّعوا صلاتكم فإنّ من ضيّع صلاته حشره الله تعالى مع قارون وفرعون وهامان لعنهم الله وأخزاهم وكان حقًّا على الله أن يدخله النّار مع المنافقين، فالويل لمن لم يحافظ على صلاته [7].

وقال أبو جعفر (عليه السّلام): إنّ الصّلاة إذا ارتفعت في أوّل وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة، تقول: حفظتني حفظك الله وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتني ضيّعك الله [8].

وقد أمر الله عزَّ وجلّ بمحافظتها في الكتاب العزيز بقوله: ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾.

قال أمين الإسلام الطّبرسيّ: أي داوموا على الصّلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها، ثمّ خصّ الوسطى تفخيمًا لشأنها فقال: ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾.

فقال الشّيخ في الخلاف: إنّها الظّهر وتبعه جماعة من علمائنا، لأنّها بين صلاتَيْن بالنّهار، ولأنّها فى وسط النّهار، ولأنّها تقع فى شدّة الحرّ والهاجرة وقت شدّة تنازع الإنسان إلى النّوم والرّاحة فكانت أشقّ، وأفضل العبادات أحْمَزُها، وأيضًا الأمر بمحافظة ما كان أشقّ أنسب وأهمّ ولأنّها أوّل صلاة فرضت ولأنّها في السّاعة الّتي يفتح فيها أبواب السّماء فلا تغلق حتّى تصلّي الظّهر ويستجاب فيها الدّعاء.

وروى الجمهور عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلّي الظّهر بالهاجرة ولم يكن يصلّي صلاة أشدّ على أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منها فنزلت الآية [9].

وقال في مجمع البيان: كونها الظّهر هو المرويّ عن الباقر والصّادق (عليهما السّلام) وروي فيه عن عليّ (عليه السّلام) أنّها الجمعة يوم الجمعة والظّهر فى ساير الأيّام [10].

«وَاِسْتَكْثِرُوا مِنْهَا» فإنّها خير موضوع فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر.

وفيه عن الصّدوق بأسناده عن أبي جعفر العطّار قال: سمعت الصّادق جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) يقول: جاء رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أكثر السّجود فإنّه يحطّ الذّنوب كما تحطّ الرّيح ورق الشّجر [11].

«وَتَقَرَّبُوا بِهَا» إلى الله سبحانه فإنّها قربان كلّ تقيّ، بل هي أفضل ما يُتَقَرّب به إليه تعالى.

كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي بأسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم فقال: ما أعلم شيئًا بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلاة، ألا ترى أنّ العبد الصّالح عيسى بن مريم (عليهما السّلام) قال: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [12].

ولمّا أمر بتعاهدها ومحافظتها والتّقرّب بها عقّب (عليه السّلام) ذلك وعلّله بوجوه مرغّبة.

أحدها: قوله ﴿ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾  اقتباس من الآية الشّريفة فى سورة النّساء.

الثّاني: قوله «أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أهْلِ النَّارِ» والاستفهام للتّقرير بما بعد النّفي أو للتّوبيخ والتّقريع، والغرض منه تنبيه المخاطبين على أنّ ترك الصّلاة يوجب دخول النّار وسخط الجبّار ليتحرّزوا من تركها ويحافظوا عليها.

وذلك أنّ أهل النّار «حِينَ سُئِلُوا» أي سألهم أهل الجنّة على ما حكى الله عنهم في سورة المدّثّر بقوله: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [13].

الثّالث: «وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ» أي تسقطها من الرّقاب سقوط الأوراق من الأشجار.

كما وقع التّصريح به في رواية الوسائل من مجالس ابن الشّيخ بأسناده عن سلمان الفارسيّ قال: كنّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فى ظلّ شجرة فأخذ غصنًا منها فنفضه فتساقط ورقه فقال: ألا تسألوني عمّا صنعت؟ فقالوا: أخبرنا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: إنّ العبد المسلم إذا قام إلى الصّلاة تحاطّت خطاياه كما تحاطّت ورق هذه الشّجرة [14]. والتّشبيه في كلامه (عليه السّلام) من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، وكذلك في قوله: «وَتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَقِ» والكلام على القلب والمراد أنّها تطلق أعناق النّفوس أي تفكّها من أغلال الذّنوب إطلاق أعناق البهايم من الأرباق.

ولمّا ذكر إسقاطها للذّنوب أيّده بقوله «وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ» وأشار إلى وجه الشّبه بقوله «فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا» ويطهّر جسده من الأوساخ «فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ» شيء «مِنَ الدَّرَنِ» وكذلك من صلّى الصّلوات الخمس لا يبقى عليه شيء من الذّنوب.

عن الصّادق (عليه السّلام) قال: قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّما مثل الصّلاة فيكم كمثل السَّريّ ـ وهو النّهر ـ على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم والّليلة يغتسل منه خمس مرّات فلم يبق الدّرن على الغسل خمس مرّات، ولم يبق الذّنوب على الصّلاة خمس مرّات [15].

الرّابع: ما أشار إليه بقوله «وَقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا» وقدرها «رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وهو (عليه السّلام) رئيسهم وسيّدهم وأفضلهم وهم «الَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَلاَ قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَلاَ مَالٍ» لعلمهم بأنّ: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ .

«يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ» في وصفهم في سورة النّور: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾  ﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ ﴾  من عطف الخاصّ على العامّ لشمول التّجارة ساير أنواع المكاسب ﴿ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾.

قال ابن عبّاس في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ﴾ إنّ دحيّة الكلبيّ جاء يوم الجمعة من الشّام بالمسيرة فنزل عند أحجار الزّيت ثمّ ضرب بالطّبول ليؤذن الناس بقدومه فتفرق النّاس إليه إلاّ عليّ والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأبو ذر والمقداد وصهيب وتركوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قائمًا يخطب على المنبر، فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقد نظر الله يوم الجمعة إلى مسجدي فلولا هؤلاء الثّمانية الّذين جلسوا في مسجدي لاضطرمت المدينة على أهلها نارًا، وحُصِبوا بالحجارة كقوم لوط، فنزل فيهم: ﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ [16].

الخامس: إنّ في المحافظة على الصّلاة أسوة بالنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلقد «كَانَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نَصِباً بِالصَّلاَةِ» أي تعبًا بها كلّ التّعب.

حتّى روي أنّه كان يصلّي اللّيل كلّه ويعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النّوم فعاتبه الله على ذلك وأنزل عليه ﴿ طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ وأمره بأن يخفّف على نفسه وذكر أنّه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كلّ هذا التّعب.

روى الطّبرسيّ في الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام) قال: لقد قام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك فقال الله عزّ وجلّ: ﴿ طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ بل لتسعد [17].

قيل: الشّقاء شايع بمعنى التّعب ومنه أشقى من رايض المهر وسيّد القوم أشقاهم، ولعلّه عدل إليه للاشعار بأنّه أنزل إليه ليسعد.

وقوله «بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ» إشارة إلى أنّه لم يكن مواظبته على الصّلاة شوقًا إلى الجنّة ولا خوفًا من النّار بل قد كان نصبًا بها مع وجود تلك البشارة متحمّلاً كلّ التّعب امتثالاً «لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ» وأمره له بالصّبر عليها في سورة طه حيث قال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتّقوى.

قال في مجمع البيان: معناه وأمر يا محمّد أهل بيتك وأهل دينك بالصّلاة واصبر على فعلها.

قال فى مجمع البيان روى أبو سعيد الخدريّ قال: لمّا نزلت هذه الآية كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأتي باب فاطمة وعليّ تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول: الصّلاة رحمكم الله: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ .

«فَكَانَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَيُصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ» أي يأمر نفسه بالصّبر والتّحمّل على تعبه [18].

 


 

الصَّلاَةُ فِي وَقْتِهَا

 

من عهد له (عليه السّلام) إلى محمّد بن أبي بكر:

«صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَلاَ تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاِشْتِغَالٍ وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ».

 

«صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا» أي المعيّن لأدائها فيه، ولم يقل في وقتها فاللام فيه تخصيص. فإنّ رجلاً سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أوقات الصّلاة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أتاني جبرئيل فأراني وقت الصّلاة حين زالت الشّمس وكانت على حاجبه الأيمن ثمّ أراني وقت العصر فكان ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ صلّى المغرب حين غربت الشّمس ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين غاب الشّفق ثمّ صلّى الصّبح فغلس بها والنّجوم مشتبكة فصلّ لهذه الأوقات، والزم السّنّة المعروفة، والطّريق الواضح. ثمّ انظر ركوعك وسجودك فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أتمّ النّاس صلاةً وأخفّهم عملاً فيه [19].

«وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَلاَ تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاِشْتِغَالٍ» نهاه أن يحمله الفراغ من الشّغل على أن يعجّلها قبل وقتها فإنّها تكون غير مقبولة أو أن يحمله الشّغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم.

«وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ» والتّبع يكون واحدًا وجمعًا، قال تعالى ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً [20] ويجمع على أتباع أيضًا.

 


 

ما هو أفضل من الصَّلاة؟

 

وقال (عليه السّلام) من وصيّته لابنَيْه الحسن والحسين (عليهما السّلام): «فإنّي سمعت جدّكما (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ».

 

صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ: الصّلح بينكم وترك الخصومة وذات ها هنا زائدة مقحمة.

 

يقول «صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ» من وصاياه (عليه السّلام) العامّة: إصلاح ذات البَيْن وترك الخصومة والنّزاع والنّفاق. وصلاح ذات البَيْن أن تصلح بين قوم تفاسدوا وتباعدوا، وتجعل قلوبهم واحدة، وكلمتهم متّحدة ... وهذا العمل أفضل عند الله من جميع الصّلاة والصّيام وكلّ ما كان ويكون من ركوع وسجود، وتهليل وتكبير، لأنّ العبادة أمر خاصّ بين الإنسان وخالقه، أمّا النّزاع والخصام فأثره عامّ حيث يؤدّي حتمًا إلى المظالم والمفاسد، وضعف المجتمع وانحطاطه، وفشله وتخلّفه، وتغلّب الغزاة والطّامعين على البلاد وتحكّمهم بأرواح العباد ومقدّراتهم.

وكان (عليه السّلام) يقول: «لئٍِن أصلح بين اثنَيْن أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارَيْن» ويكفي في أهميّته قولهم (عليهم السّلام): «المصلح ليس بكاذب» مع تسمية الكذب فسوقًا.

وكان الصّادق (عليه السّلام) يقول للمُفضّل: إذا رأيت بين اثنَيْن من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي. وعن ... سائق الحاجّ: مرّ بنا المفضّل وأنا وخَتَني نتشاجر في ميراث، فقال: تعالوا معي إلى المنزل. فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم، وقال: إنّها ليست من مالي ولكن أمرني أبو عبد الله (عليه السّلام) إذا تنازع رجلان منّا أن أصلح بينهما من ماله [21].

 


 

الصّلاة عمود الدّين

 

وقال (عليه السّلام): «وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ».

 

مثل قولهم (عليه السّلام): «الصّلاة عمود الدّين إِنْ قُبِلت قُبِل ما سواها وإِنْ رُدّت رُدّ ما سواها».

قال تعالى حكاية عن عيسى (عليه السّلام): ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [22]، وقال لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ... [23].

وفي الخبر: أحبّ الأعمال إلى الله الصّلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء.

أيضًا: لا تضيّعوا صلاتكم، فإنّ من ضيّع صلاته حُشِر مع قارون وهامان، ويدخل النّار مع المنافقين.

أيضًا: لا تنال شفاعتنا مستخفًّا بالصّلاة.

 


 

مواقيت الصّلاة

 

من كتاب له (عليه السّلام) إلى أمراء البلاد في معنى الصّلاة وفيها يحدّد مواقيتها:

«أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ حَتَّى تَفِيءَ الشَّمْسُ مِنْ مَرْبِضِ الْعَنْزِ وَصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى وَصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَالرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ وَصَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ وَلاَ تَكُونُوا فَتَّانِينَ».

 

مَرْبِضِ الْعَنْزِ: محلّ نوم الشّاة طوله يقرب من ذراعَيْن وعرضه يقرب من ذراع (يقصد حتّى يصير ظلّ كلّ شيء مثله).

وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إلَى مِنًى: وقت الإفاضة من عرفات إلى منى وهو آخر يوم عرفة يبتدء من المغرب الشّرعي.

يَتَوَارَى الشَّفَقُ: هو زوال الحمرة المغربيّة الحادثة بعد غروب الشّمس.

الْغَدَاةَ: أي الصّبح.

وَالرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ: أي إذا كانا تحت السّماء ولم يكن غيم ولا مانع.

 

قوله (عليه السّلام): «أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ» من حيث الدّلوك.

«حَتَّى تَفِيء» أي: ترجع قال الجوهريّ: قال ابن السّكّيت: الظّلّ ما نسخته الشّمس والفيء ما نسخ الشّمس، وقال رؤبه: كلّ ما كانت عليه الشّمس فزالت عنه فهو فيء وظلّ وما لم يكن عليه الشّمس فهو ظلّ.

«الشَّمْسُ» والمراد ظلّها.

«مِنْ» هكذا في (المصريّة) والصّواب: (مثل) كما في (ابن أبي الحديد وابن ميثم والخطّيّة).

«مَرْبِضِ الْعَنْزِ» قال الجوهريّ: (المرابض للغَنَم كالمعاطن للإبل).

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ» في باب وقت الظّهر والعصر من (الكافي)، عن يزيد بن خليفة، قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): ذكر عمر بن حنظلة أنّ أوّل صلاة افترضها الله على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الظّهر وهو قوله تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ... [24] فإذا زالت الشّمس لم يمنعك إلاّ سبحتك (صلاة النّافلة) ثمّ لا تزال في وقت إلى أن يصير الظّلّ قامة وهو آخر الوقت فإذا صار الظّلّ قامة دخل وقت العصر فلم تزل في وقت العصر حتّى يصير الظّلّ قامتَيْن وذلك المساء فقال: صدق [25].

وعنه (عليه السّلام): إذا زالت الشّمس فقد دخل وقت الظّهر إلاّ أنّ بَيْن يدَيْها سبحة وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت [26].

وفي (الفقيه) عن الفضيل وزرارة، وبكير ومحمّد بن مسلم، وبريد العجليّ، عن الباقر والصّادق (عليهما السّلام): وقت الظّهر بعد الزّوال قدمان، ووقت العصر بعد ذلك قدمان [27]. وقال أبو جعفر (عليه السّلام): أنّ حايط مسجد النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان قامة وكان إذا مضى منه ذراع صلّى الظّهر وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر.

ثمّ قال: أتدري لِمَ جعل الذّراع والذّراعان، لمكان النّافلة لك أن تتنفّل من زوال الشّمس إلى أن يمضي ذراع فإذا بلغ فيؤك ذراعًا بدأت بالفريضة وتركت النّافلة وإذا بلغ فيؤك ذراعَيْن بدأت بالفريضة وتركت النّافلة [28].

وفيه، قال أبو جعفر (عليه السّلام) لأبي بصير: ما خدعوك فلا يخدعونك من العصر صلّها والشّمس بيضاء نقيّة فإنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: الموتور أهله وماله من ضيّع صلاة العصر، قيل ما الموتور أهله وماله؟ قال: لا يكون له أهل ولا مال في الجنّة، قيل: وما تضييع العصر؟ قال: يدعها حتّى تصفّر الشّمس أو تغيب [29].

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ» في (الكافي) عن الصّادق (عليه السّلام): أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقّد الحمرة الّتي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرّأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار وسقط القرص [30].

وعن الصّادق (عليه السّلام): إذا غابت الحمرة من المشرق فقد غابت الشّمس في شرق الأرض وغربها [31].

«وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إلَى مِنًى» يعني من عرفات إلى المشعر.

في (الكافي) عن الصّادق (عليه السّلام) قيل له: متى الافاضة من عرفات؟ قال: إذا ذهبت الحمرة يعني من الجانب الشّرقيّ [32].

وعنه (عليه السّلام): وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق وتدري كيف ذاك أنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا، ورفع يمينه فوق يساره فإذا غابت ها هنا ذهبت الحمرة، من ها هنا [33].

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» في (الكافي) عن الصّادق (عليه السّلام): تجب العتمة إذا غاب الشّفق أي الحُمْرة، وعن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لولا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى ثلث الّليل [34].

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَالرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ» في (الكافي) عن الصّادق (عليه السّلام): وقت الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصّبح السّماء، ولا ينبغي تأخير ذلك عمدًا لكنّه وقت لمن شغل أو نسي أو نام [35].

هذا، وقد ذكر تعالى مواقيت الخمس في قوله عزّ وجلّ: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [36] وفي قوله عزّ اسمه: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [37] رُوي أنّ زُرارة سأل الباقر (عليه السّلام): هل سمّى الله الصّلوات الخمس في كتابه؟ فقال: نعم، قال: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ الآية [38]. ودلوك الشّمس زوالها وغسق الّليل انتصافه وفي ما بينهما أربع صلوات وقرآن الفجر الخامسة وقال تعالى: «وأقم الصّلاة .... وزلفًا من الّليل وهي صلاة العشاء الآخرة».

وفي (العلل) عن الرّضا (عليه السّلام): إن قيل لم جُعِلت الصّلوات في هذه الأوقات؟ قيل: لأنّها مشهورة معلومة يعرفها الجاهل والعالم غروب الشّمس مشهور معرفتها فوجب عنده المغرب وسقوط الشّفق مشهور فوجوب عنده عشاء الآخرة، وطلوع الفجر مشهور فوجب عنده صلاة الصّبح، وزوال الشّمس مشهور فوجب عنده الظّهر، ولم يكن للعصر وقت مشهور مثل الأربعة فجعل وقتها الفراغ من الظّهر إلى أن يصير الظّلّ من كلّ شيء أربعة أضعافه [39].

«وَصَلُّوا بِهِمْ صَلاَةَ أَضْعَفِهِمْ وَلاَ تَكُونُوا فَتَّانِينَ» وعنه (عليه السّلام): آخر ما فارقت عليه حبيبي أن قال: إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك [40].

مرّ حزم بن أبي كعب الأنصاريّ بمعاذ بن جبل، وهو يؤمّ قومه في صلاة المغرب فقرأ بالبقرة فانصرف حزم فلمّا أتوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: معاذ أبدع حزم، قال حزم: افتتح سورة البقرة فصلّيت ثمّ انصرفت فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا معاذ لا تكن فتّانًا فإنّ خلفك الضّعيف والكبير وذا الحاجة [41].


 

صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ

 

وقال (عليه السّلام) في وصيّته لمالك الأشتر: «وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّراً، وَلاَ مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ، وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً».

 

«وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّراً» بتطويلها، وفي الحديث: «إنّ هذا الدّين متين، فأوْغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عباد الله إلى الله، فتكونوا كالرّاكب المنبتّ لا سفرًا قطع، ولا ظهرًا أبقى» [42]. والمنبت المنقطع في سفره «وَلاَ مُضَيِّعاً» بالخلل والتّقصير «فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ»المرض أو الشّيخوخة «وَلَهُ الْحَاجَة» الّتي لا تتحمّل التّواني والتّأجيل (صلّ بهم كصلاة أضعفهم الخ)..

«فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلاَ مُضَيِّعاً» في الخبر: ينبغي للإمام أن تكون صلاته على صلاة أضعف من خلفه [43]. وكان معاذ يؤمّ في مسجد على عهد النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويطيل القراءة، ومرّ به رجل فافتتح سورة طويلة، فقرأ الرّجل لنفسه وصلّى ثمّ ركب راحلته، فبلغ ذلك النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبعث إلى معاذ، فقال له: إيّاك أن تكون فتّانًا، عليك بالشّمس وضحاها وذواتها.

وكان النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمّ أصحابه يومًا، فسمع بكاء صبيّ، فخفّف الصّلاة [44] .

«وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ» في خبر السّكونيّ عنه (عليه السّلام) قال: آخر ما فارقت عليه حبيبي أن قال: يا عليّ إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك [45] .

 


 

الصَّلاَةُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ

 

وقال (عليه السّلام): « ... وَلاَ تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلاَةَ، إِلاَّ فَاصِلاً فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ ... ».

 

إِلاَّ فَاصِلاً: أي ذاهبًا.

 

«وَلاَ تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلاَةَ» وقبل النّداء إذا سافر فوّت على نفسه فضلاً كثيرًا.. لا يجب التّعطيل في يوم الجمعة، بل ولا يستحبّ أيضًا إلا عند الصّلاة فقط .. وبعدها يستحبّ العمل وطلب الرّزق، وهو تمامًا كالصّلاة وسائر العبادات من حيث الأجر والثّواب، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [46] .

أمر سبحانه بترك العمل عند النّداء للصّلاة والسّعي إلى ذكر الله .. وبعد أداء الصّلاة على وجهها أمر بالسّعي وتحصيل الرّزق وسؤال الله من فضله عن طريق العمل، ومعنى هذا أنّ السّعي يوم الجمعة من أجل الحياة مأمور به تمامًا كسائر الأيّام، بل هو عبادة تمامًا كالسّعي إلى الصّلاة، لأنّ الأمرَيْن معًا جاءا جنبًا إلى جنب في سياق واحد، وكلّ منهما نُسِب إلى الله: «فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ .. وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ». وهنا تكمن عظمة الاسلام وحقيقة الإسلام حيث أمر بالعمل للمادّة والرّوح، لأنّ الإنسان إنسان بهما لا بإحداهما: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [47] .

بنون ومال وعبادة وسعي للحياة وللمعبد، والكلّ من الله ولله، ولا شيء لقيصر.

«إِلاَّ فَاصِلاً فِي سَبِيلِ اللهِ» في الجهاد الواجب.

«أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ» من السّفر الاضطراريّ [48].

 


 

التّهجّد في الصّلاة

 

وقد سمع رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ فقال: «نَوْمٌ عَلَى يَقِينٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاَةٍ فِي شَكٍّ».

 

الحروريّة: فرقة من الخوارج نسبوا إلى حروراء بمدّ وقصر قرية بالنّهروان وكان أوّل اجتماعهم بها.

يتهجّد: التهجّد السّهر في العبادة.

 

«نَوْمٌ عَلَى يَقِينٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاَةٍ فِي شَكٍّ» وفي معناه الحديث المعروف: نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل.

هو نظير قوله (عليه السّلام): «كم من صائم ليس له من صيامه إلاّ الظّمأ، وكم قائم ليس له من قيامه إلاّ السّهر، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم» [49].

الخوارج من عبّاد الأمّة وقرّائها يقومون الّليل ويصومون النّهار ولكن لا معرفة لهم بالإمام، وبهذا النّظر يقول (عليه السّلام): لا يقين لهم فلا ينفع صلاتهم وعباداتهم [50].


 

قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ

 

قال (عليه السّلام): «الصَّلاَةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍِّ».

 

قُرْبَانُ: قرب قربانًا من الشّيء: دنا منه «المنجد» [51].

 

«الصَّلاَةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ» في (الكافي) عن الصّادق (عليه السّلام) سئل عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربهم؟ فقال (عليه السّلام): ما أعلم شيئًا بعد المعرفة أفضل من هذه الصّلوات ألا ترى أنّ العبد الصّالح عيسى (عليه السّلام) قال: ﴿ ... وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [52] .

وعنه (عليه السّلام): أحبّ الأعمال إلى الله تعالى الصّلاة وهي: آخر وصايا الأنبياء فما أحسن من الرّجل أن يغتسل أو يتوضّأ فيسبغ الوضوء ثمّ يتنحّى حيث لا يراه أنيس فيشرف عليه وهو راكع أو ساجد إنّ العبد إذا سجد فأطال الصّلاة نادى إبليس. يا ويله أطاع وعصَيْت وسجد وأبَيْت  [53].

وعنه (عليه السّلام): إذا قام العبد إلى الصّلاة نزلت عليه الرّحمة من أعنان السّماء إلى أعنان الأرض وحفّت به الملائكة وناداه ملك لو يعلم هذا المصلّي ما في الصّلاة ما انفتل [54].


 

قبول العبادة

 

وقال (عليه السّلام): «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ حَبَّذَا نَوْمُ الْأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ».

 

السَّهَر: سهر سهرًا، لم ينم ليلاً.

اَلْأَكْيَاسِ: الكياسة تمكين النّفس من استنباط ما هو أنفع فهو كيِّس جمعه: أكياس وكيسى «المنجد». (والأكياس هم العقلاء العارفون، يكون نومهم وفطرهم أفضل من صوم الحمقى وقيامهم).

 

التّوجّه إلى الله تعالى مع الإخلاص روح العبادة، فمن لا يقارن عبادته بحضور القلب والإخلاص لا تؤثّر في نفسه، فصلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تقرّبه إلى حضرة الخالق الأكبر، وصومه لا يصير زكاة لبدنه ولا يكون جُنّة له من النّار، ويشترط في قبول العبادة شروط أُخَر كالولاية والأكل الحلال والاجتناب عن شرب الخمر فإذا فقدت شرائط العبادة لم يبق منها إلاّ التّعب والعناء، والسّهر والظّماء.


 

الخضوع والتّذلّل لله تعالى

 

وقال (عليه السّلام): « ... وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ ... ».

 

«وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ» لأنّها خضوع وخشوع وسجود وركوع ولأنّ في الصّلاة يجعل وجهه وهو أشرف أعضائه على التّراب فيزول الكبر عنه قهرًا.

وفي (العلل) عن الرّضا (عليه السّلام): علّة الصّلاة أنّها إقرار لله بالرّبوبيّة، وخلع الأنداد وقيام بين يدَي الجبّار بالذّلّ والمسكنة والخضوع واعتراف والطّلب للإقالة من سالف الذّنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم خمس مرّات إعظامًا لله تعالى، وأن يكون ذاكرًا غير ناس ولا بطرًا ويكون خاشعًا متذلّلاً راغبًا طالبًا للزّيادة في الدّين والدّنيا مع ما فيه من الانزجار، والمداومة على ذكر الله تعالى بالّليل والنّهار لئلاّ ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه فيبطر ويطغى فيكون في ذكره لربّه وقيامه بين يدَيْه زاجرًا له عن المعاصي ومانعًا من أنواع الفساد [55].


 

حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ

 

وقال (عليه السّلام): «مَا أَهَمَّنِي ذَنْبٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ، حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَسْأَلَ اللهَ الْعَافِيَةَ».

 

«مَا أَهَمَّنِي ذَنْبٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ، حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» نفي الأهميّة عن ذنب يصلّي بعده ركعتَيْن لوجهَيْن:

1 - إمكان التّوبة عن هذا الذّنب بسبب بقاء الحياة، وغرضه (عليه السّلام) الحثّ على الاستفادة من هذه المهلة والمسارعة إلى التّوبة.

2 - إنّ توفيق صلاة ركعتَيْن والعمل بها موجب لتكفير الذّنب ومحو أثره عن القلب، ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ .

وليس هذا إغراء في فعل الذّنوب مع العزم على التّوبة، بل تحذيرًا من المعصية خوفًا من مفاجأة الموت قبل التّوبة وطلب المغفرة، وحثًّا للمذنبين على الإسراع إلى الإنابة قبل فوات الأوان «وَأَسْأَلَ اللهَ الْعَافِيَةَ» لأنّ ترك الذّنب أهون من طلب العفو، وقال من قال: «ما كان أغناها عن الحالَيْن».


 

العيد لمن قبل الله قيامه

 

وقال (عليه السّلام) في بعض الأعياد: «إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ، وكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ».

 

في بعض الأعياد: أي الفطر بقرينة ذكر الصّيام والقيام فيه.

العيد يوم موضوع لتزاور الأحباب وتبادل الأفراح وإقامة حفلات السّرور ولبس الثّياب الفاخرة والمظاهرة بالمفاخر والمآثر الشّعبيّة، وقد جعل الله يوم الفطر عيدًا لاحتفال النّاس بالصّلاة والدّعاء ويوم الأضحى لإقامة الشّعائر في المشاعر فقال (عليه السّلام): مغزى الأعياد الإسلاميّة التّقرّب إلى الله تعالى فمن قبل صيامه وقيامه فقد فاز بالعيد وكان عيده سعيدًا، وبهذا الاعتبار كلّ يوم لا يرتكب المؤمن معصية فهو عيد له وسعيد عليه.

هذا هو مبدأ الإمام ونهجه وقياسه: «ما خير بخير بعده النّار، وما شرّ بشرّ بعده الجنّة» [56] .


 

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

 

وقال (عليه السّلام): «الْفَرْق بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِر الصَّلاَة، فَمَنْ تَرَكَهَا وَادَّعَى الْإِيمَان، كَذَّبَهُ فِعْلُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ».

 

وهذا نظير قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما بَينَ الكُفرِ والإِيمانِ إلاّ تَركُ الصَّلاةِ. فالّذي يدّعي أنّه مؤمن بالله سبحانه ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتَرْكه للطّاعة وللصّلاة يكذّب ما يدّعيه، قال الإمام الصّادق (عليه السّلام): ما أحبّ الله تعالى من عصاه، ثمّ تمثّل: [57]

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقًا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

وقال (عليه السّلام): «الصَّلاَةُ صَابُون الْخَطَايَا».

 

فكما أنَّ الصّابون مطهّر أو مادّة قاتلة للجراثيم كذلك الصّلاة والعبادة مزيلة للذّنوب والخطايا.

 


وقال (عليه السّلام): «مَن لَم يأْخُذ أُهبَةَ الصَّلاةِ قَبلَ وَقتِها فَما وَقَّرَها».

 

الأُهبَة: العُدَّة.

 

كلامه (عليه السّلام) إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ رابطوا الصّلوات أي انتظروها واحدة بعد واحدة.

وقال (عليه السّلام): اختبروا شيعتي بخصلتَيْن: المحافظة على أوقات الصّلاة، والمواساة لإخوانهم بالمال، فإن لم تكونا فاعزب [58] ثمّ أعزب [59].

 


 [1] سورة الإسراء، الآيتان: 78 – 79.

 [2] سورة إبراهيم، الآية: 31.

 [3] الإرشاد: 148.

 [4] بحار الأنوار، ج 34، ص 208.

 [5] الخصال: 621/10.

 [6] بحار الأنوار: ج 79، ص 202.

 [7] جامع الأخبار: 186.

 [8] بحار الأنوار: ج 80، ص25.

 [9] بحار الأنوار: ج 79، ص279.

 [10] مجمع البيان: ج 2، ص .

 [11] أمالي الصّدوق: ج 76، ح11.

 [12] الكافي: باب فضل الصّلاة، ص264.

 [13] سورة المدّثر، الآيات: 42 - 43.

 [14] الوسائل: ج 3، ص30.

 [15] الوسائل: ج 4، ص201.

 [16] بحار الأنوار: ج 86، 195.

 [17] بحار الأنوار: ج 68، ص26.

 [18] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 12، ص330.

 [19] الأمالي المفيد: ص267.

 [20] سورة إبراهيم، الآية: 21.

 [21] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج 11, ص77.

 [22] سورة مريم، الآية: 31.

 [23] سورة طه، الآية: 132.

 [24] سورة الإسراء، الآية: 78.

 [25] الكافي: ج 3، ص275، ح1، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها.

 [26] الكافي: ج 3، ص 277، ح8.

 [27] الفقيه: ج 1، ص 44.

 [28] الفقيه: ج 1، ص 140، ح654.

 [29] الوسائل: ج 4، ص141.

 [30] الكافي: ج 4، ص 185، ح516.

 [31] الوسائل: ج 4، ص161.

 [32] الكافي: ج 4، ص 467، ح2.

 [33] الكافي: ج 3، ص278.

 [34] الكافي: ج 3، ص281، ح13.

 [35] الكافي: ج 3، ص284، ح5.

 [36] سورة الإسراء، الآية: 78.

 [37] سورة هود، الآية: 114.

 [38] الوسائل: ج 1، ص11، ح1.

 [39] علل الشّرائع: ص263.

 [40] نهاية الأحكام: ج 1، ص428.

 [41] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج 13، ص172.

 [42] الكافي: ج 2، ص70، ح1.

 [43] من لا يحضره الفقيه 1: 255 ح 62، 63، 64 بتصرّف يسير.

 [44] شرح ابن أبي الحديد 18: 42.

 [45] شرح ابن ميثم 5: 220.

 [46] سورة الجمعة، الآية: 9 - 10 .

 [47] سورة الكهف، الآية: 46.

 [48] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج 9، ص 48.

 [49] الوسائل: ج 1، ص72، ح161.

 [50] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 21، ص146.

 [51] الكافي: ج 3، ص264، ح4804.

 [52] سورة مريم، الآية: 31.

 [53] الكافي: ج 3، ص264، ح4805.

 [54] الكافي: ج 3، ص265، ح4807.

 [55] علل الشّرائع: ص317، ح2.

 [56] بحار الأنوار: ج 8، ص199.

 [57] بحار الأنوار: ج 67، ص15.

 [58] مستدرك: 163.

 [59] أُعزب: أي مستحقٌّ لأن يقال له: أُعُزب؛ أي إبْعِد، كما يقال: سُحقًا وبُعدًا، أو أقيم الأمر مقام الخير؛ أي هو عازبٌ وبعيد عن الخير؛ ويمكن أن يُقرأ على صيغة أفعل التّفضيل؛ أي هو أبْعد النّاس من الخير، والأوّل أفصح.