فرائض قرآنيّة

على ضوء نهج البلاغة

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

 بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى

شهر شعبان 1434 هـ. ق. / 2013م

 

 

 

الفصل الرّابع: الحجّ

 الحجّ أيضًا من العبادات الكبرى

 حَجَّ بَيْتِهِ اَلْحَرَامِ

 يوم النّحر وصِفة الأضحية

 الحجّ والعمرة يغسلان الذّنب

 اخْتبارُ الْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ فِي الحجِّ

 ملازمة إقامة شعائر الحجّ

 وقت الإفاضة

 فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ

 بيوت مكّة وبيعها وإيجارها

 الحجّ جهاد الضّعفاء

 تَقْوِيَةً لِلدِّينِ

 

 



 

تمهيد

 

الحجّ أيضًا من العبادات الكبرى

 

يقول الله سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [1]. فالحجّ من الفرائض والواجبات الإلهيّة الّتي عدّت من أركان الإسلام ..

وللتّأكيد على أهميّة الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة:
﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾  أي إنّ الّذين يتجاهلون هذا النّداء، ويتنكّرون لهذه الفريضة، ويخالفونها لا يضرّون بذلك إلاّ أنفسهم لأنّ الله غنيّ عن العالمين، فلا يصيبه شيء بسبب إعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.

فلفريضة الحجّ أهميّة فائقة إلى درجة أنّ القرآن عبر عن تركها بالكفر. ويؤيّد ذلك ما روي عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال لعليّ (عليه السّلام): «يا عليّ إنّ تارك الحجّ وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ، يا عليّ، من سوَّف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديًّا، أو نصرانيًّا» [2].

إنّ هذه الفريضة الإلهيّة المهمّة ـ مثل بقيّة الفرائض والأحكام الدّينيّة الأُخرى ـ شُرِّعت لصلاح النّاس، وفرضت لفرض تربيتهم، وإصلاح أمرهم وترجع فائدتها إليهم، فلا يعود شيء منها إلى الله سبحانه أبدًا، فهو الغنيّ عنهم جميعًا.

وإليك ما قاله أمير المؤمنين عنها:

 


 

حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ

 

قال الإمام عليّ (عليه السّلام): «وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ، الَّذِي يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ، وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ، جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ، وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ، يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ، جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً، فَرَضَ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ حَجَّهُ، وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾».

 

وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ: أوجب عَلَيْكُمْ.

حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ: الحجّ لغة: القصد أو الزّيارة، وشرعًا: المناسك المعروفة، والحرام هنا: ما يحرم انتهاكه. ووصف بيت الله بالحرام حيث يجب تقديسه، ويحرم هتكه، ولمن لاذ به نوع من الحصانة حتّى الطّير يحرم صيده هناك على المُحِلّ والمُحْرِم.

قِبْلَةً: الجهة الّتي يصلّى نحوها.

وُرُودَ الْأَنْعَامِ: أي كحال الأنعام تزاحمًا عند ورود الماء، وورود الماء: بلوغه.

وَيَأْلَهُونَ: من الوله، وهو لغة: الحزن والوجد، والمراد به هنا الحنين والشّوق.

وُلُوهَ الْحَمَامِ: شدّة الوجد وقيل: العكوف أي المكث والبقاء عند الشّيء، والحمام: الطّير.

وَإِذْعَانِهِمْ: الإذعان، الإقرار والاعتراف.

سُمَّاعاً: جمع سامع.

يُحْرِزُونَ: يصيبون ويجمعون.

مَتْجَرِ: التّجارة أو محلّها.

وَيَتَبَادَرُونَ: يتسارعون.

عَلَماً: العَلَم «بفتح العين واللام»: العلامة.

وَلِلْعَائِذِينَ: جمع عائذ، وهو المستجير والملتجىء.

حَرَماً: هنا ما يحمي الرّجل ويدافع عنه.

وِفَادَتَهُ: الوِفادة: الزّيارة، القدوم.

 

«وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ» أمّا فرض الحجّ ووجوبه فقد ثبت بالكتاب والسّنّة وإجماع المسلمين بل الضّرورة من دين الإسلام.

وأمّا البيت الحرام فهو أوّل بيت وضع للنّاس مباركًا وهدًى للعالمين، وموضعه أوّل بقعة خلقت من الأرض خلقها الله سبحانه من زبد الماء ودحى الأرض من تحتها واختارها على أجزائها وجعلها مطاف الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين والعباد الصّالحين، وفي الكافي عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم فتح مكّة: أنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّماوات والأرض، وهي حرام إلى أن تقوم السّاعة لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار [3].

«الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ» وهذة العبارة صريحة في أنّ القبلة هي نفس البيت لجميع الخلق، ولمّا لم يتمكّن النّائي من تحصيل التّوجّه إلى العين اكتفى في حقّه بمراعاة الجهة، وهو مذهب المتأخّرين من علمائنا، خلافًا للمتقدّمين حيث ذهبوا إلى أنّ البيت قبلة للمسجد والمسجد لأهل الحرم والحرم لمن في الدّنيا، والتّفصيل في الفقه وكونه قبلة للأنام صريح الكتاب مضافًا إلى السّنّة والإجماع، قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾.

«الَّذِي يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ» شبّه (عليه السّلام) ورود الحاجّ على البيت الحرام بورود الأنعام على الماء للشّرب ووجه الشّبه الاجتماع والتّزاحم، ومن ذلك سمّي ببكّة لأنّه من البكّ الّذي هو عبارة عن دفع البعض بعضًا، يقال: بكّه يبكّه بكًّا إذا دفعه وزاحمه.

كما قال الصّادق (عليه السّلام) في رواية العلل: إنّما سمّيت مكّة بكّة، لأنّ النّاس يتباكّون فيها، [4] أي يزدحمون.

«وَيَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ» أي يسرعون إلى «حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ» وكلّ ذلك كناية عن شدّة اشتياق الحجّاج وفرط ميلهم إلى البيت الحرام، قالوا ومن طبْع الحَمَام أنّه يطلب وَكْرَهُ ولو أُرْسِل من ألف فرسخ وربّما اصطيد وغاب عن وطنه عشر حجج فأكثر، ثمّ هو على ثبات عقله حتّى يجد فرصة فيطير إلى وطنه.

«جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ» لأنّ طواف البيت نوع من التّعظيم، وتعظيم البيت تعظيم لله تعالى، ويكون نوعًا من التّذلّل والتّواضع لعظمة الله العظيم الأعظم.

«وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ» واعترافًا لجلالة الله وبه يعرف الطّائع من العاصي والمتواضع من المتكبّر، كما أنّ بعض الزّنادقة كان يعترض على بعض الأئمّة (عليهم السّلام) مستهزئًا بمناسك الحجّ وطواف الحجّاج حول البيت وهرولتهم في المسعى وغير ذلك، فأجابه الإمام (عليه السّلام) بكلام طويل ومنه أن يعرف الفرق بين الطّائع المتعبّد أي الّذي يطيع ويعمل حسب أمر الشّارع، لا اعتمادًا بفهمه واستنادًا بعلمه، وبدون أن يعرف الحكمة في تلك الأفعال.

وحيث أنّ توفيق العبادة رحمة من الله وفضل منه، والله يختصّ برحمته من يشاء ويؤتي فضله من يشاء لهذا فقد أنعم الله تعالى بهذه الرّحمة وهي حجّ البيت على بعض عباده دون بعض «وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ» انتخب من عباده من سمع نداء إبراهيم (عليه السّلام) حينما فرغ من بناء البيت، أمره الله تعالى أن ينادي في النّاس بالحجّ كما قال تعالى: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾، فنادى إبراهيم: «هلمّ إلى الحجّ» فأجابه من أجابه، في أصلاب الرّجال، «لبّيك داعي الله» مرّة ومرّات، فحجّوا كذلك، ومن لم يلبّه لم يحجّ، كما في الخبر.

ويمكن أن يكون المقصود من دعوته هي الآية الشّريفة: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾.

«وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ» لأنّ تصديق كلمته أي أمره بالمجيء إلى بيته وامتثال أمره، فوقفوا فى أماكن قد وقف فيها أنبياء الله، لأنّ الأنبياء أكثرهم قد حجّوا وأنّ البيت كان موجودًا من قبل آدم (عليه السّلام) كما فى الحديث: إنّ آدم لمّا قضى مناسكه، وطاف بالبيت، لقيته الملائكة، فقالت يا آدم: لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.

ولعلّ المقصود من تلك المواقف هي الوقوف بعرفة، أو عند رمي الجمرات أو غيرها، فهي مواقف الأنبياء والمرسلين وإضافة على ذلك أنّ الحجّاج «تَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ» لأنّ ملائكة السّماء كانوا يطوفون حول العرش، ثمّ أمرهم الله تعالى أن يطوفوا حول البيت المعمور، فالطّواف بالبيت تشبيه بالملائكة، وأمّا الثّواب الّذي أعدّه الله تعالى لمن حجّ بيته فلا يُحصى ولو أردنا ذكر الأحاديث الواردة حول الحجّ وثوابه لطال الكلام.

«يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ» شبّه الإمام (عليه السّلام) الحجّ بالتّجارة أو بمحلّها، وشبّه الحجّاج بالتّجار الّذين يحضرون السّوق لجلب المنافع وكسب الأرباح ولقد ورد مثل هذا في القرآن الكريم بقوله عزَّ وجلّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [5] فعبادة الله تعالى تجارة مربحة وربحها الثّواب الأبديّ، والخلاص من النّار والعذاب.

«وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ» أي يتسارعون إلى الأعمال الّتي يغفر الله الذّنوب عندها فيصير الحاجّ كيوم ولدته أمّه، ولا يخفى أنّ الاجتماع الكثير في الحجّ يكون سببًا لانفعال الانسان والخشية من الله تعالى، فتحصل بذلك رقّة وتأثّر فيستغفرون من ذنوبهم، ويطلبون من الله قبول الأعمال والأجر عليها، ولعلّ المقصود من «موعد مغفرته» هو يوم عرفة، كما روي عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ما رُأِيَ الشّيطان في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيض من يوم عرفة، وما ذلك إلاّ لما يرى من نزول الرّحمة وتجاوز الله عن الذّنوب العظام» إذ من الذّنوب ما لا يكفّرها إلاّ الوقوف بعرفة [6].

«جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِينَ حَرَماً» جعل الله الحجّ علامة للاسلام والمسلمين لأنّ غير المسلمين لا يحجّون البيت ولا يؤدّون المناسك والأعمال الواردة، وقد امتاز هذا البيت عن غيره من البيوت وذلك أنّ من أذنب ذنبًا أو جنى جناية، أو أجرم جريمة بحيث يستحقّ التّعزير أو الحدّ أو الرّجم أو القتل، إذا دخل المسجد الحرام أمن، ولا يجوز إخراجه من المسجد بل ولا يجوز إيذاؤه في داخل المسجد، وكذلك كلّ ذي روح لا يجوز إيذاؤه في المسجد حتّى الطّيور بل حتّى القُمَّل، فالمجرم يُضَيَّق عليه أو يمنع عنه الطّعام والشّراب كي يخرج من المسجد فإذا خرج أُخذ، ولعلّ هذا معنى كلامه (عليه السّلام): وللعائذين حرمًا. أي من لاذ بالبيت فقد حرم انتهاكه وإيذاؤه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾.

«فَرَضَ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ حَجَّهُ وَكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» فرض حجّه، وأوجب حقّه، وكتب عليكم وفادته فرض الله الحجّ على المستطيع مرّة واحدة في عمره، وأوجب عليه حقّه، وحقّ الله فرض واجب، يجب امتثاله، وكأنّ الله تعالى يدعو الحاجّ إلى بيته كما يدعو أحدنا الآخر لضيافته فمن لم يُجِبْ دعوة الله وأمره فهو كما قال الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [7] [8].

من خطبة له (عليه السّلام) في ذكر يوم النّحر وصفة الأضحية: «وَمِنْ تَمَامِ الْأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا، وَسَلاَمَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَالْعَيْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَتَمَّتْ وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ، تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ».

 

الْأُضْحِيَّةِ: بضمّ الهمزة وكسرها اتباعًا للحاء والياء المخفّفة والجمع أضاحي ويقال ضحيّة أيضًا والجمع ضحايا كعطيّة وعطايا وهي الشّاة الّتي تضحّي بها أي تذبح بها ضحاة، ومنها سمّي يوم الأضحى للعاشر من ذي الحجّة.

اسْتِشْرَافُ: أي الارتفاع والانتصاب يقال أذن شرفاء أي منتصبة.

عَضْبَاءَ: أي المكسور القرن وقيل القرن الدّاخل.

الْمَنْسَكِ: محلّ النّسك وهو العبادة والمراد به هنا المذبح ويجوز فيه فتح السّين وكسرها.

 

«وَمِنْ تَمَامِ الْأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا، وَسَلاَمَةُ عَيْنِهَا» أراد بذلك أن لا يكون بعض أذنها أو جميعها مقطوعة وأن لا يكون عوراء «فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ» من النّقص «وَالْعَيْنُ» من العور «سَلِمَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَتَمَّتْ» أي أجزئت «وَلَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ» وعرجاء «تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ» محلّ النّسك وهو العبادة والمراد به هنا المذبح.

إعلم أنّ الأضحية مستحبّة مؤكّدة إجماعًا بل يمكن دعوى ضرورة مشروعيّتها وقول الاسكافيّ بوجوبها شاذّ ويدلّ على شدّة الاستحباب مضافًا إلى الاجماع أخبار كثيرة.

ففى الفقيه قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): استفرهوا [9] ضحاياكم فإنّها مطاياكم على الصّراط [10].

وجاءت أمّ سلمة إلى النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يحضر الأضحى وليس عندي ثمن الأضحية فأستقرض فأضحّي؟ فقال: استقرضي وضحّي فإنّه دين مقضيّ ويغفر لصاحب الأضحية عند أوّل قطرة يقطر من دمه [11].

ومن العلل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قلت له: ما علّة الأضحية؟ فقال: إنّه يغفر لصاحبها عند أوّل قطرة تقطر من دمها في الأرض وليعلم الله عزّ وجلّ من يتّقيه بالغيب قال الله عزّ وجلّ: ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ ثمّ قال: أنظر كيف قبل الله قربان هابيل وردّ قربان قابيل [12].

وروي عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ما من عمل يوم النّحر أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من إراقة دم وأنّها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وأنّ الدّم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع الأرض فطيّبوا بها نفسًا.

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضًا: أنّ لكم بكلّ صرفة من جلدها حسنة، وبكلّ قطرة من دمها حسنة، وأنّها لتوضع في الميزان فابشروا [13].

هناك أحكام خاصّة بالأضحية يراجع فيها الكتب الفقهيّة.

وقال (عليه السّلام): «... وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَاعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ».

وَاعْتِمَارُهُ: اعتمر الرّجل: زار البيت والمعتمر الزّائر ومنه سميّت العمرة عمرة لأنّها زيارة البيت، يقال اعتمر فهو معتمر أي زار وقصد، وفى الشّرع زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة مذكورة في محالّها.

وَيَرْحَضَانِ: يغسلان.

 

«وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَاعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ» أي: يغسلان «الذَّنْبَ» فيزيلانه. روى الكافي عن إسحاق بن عمّار: قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام): إنّي قد وطّنت نفسي على لزوم الحجّ كلّ عام بنفسي أو برجل من أهل بيتي بمالي، فقال: وقد عزمت على ذلك؟ قلت: نعم، قال: إن فعلت فأيقن بكثرة المال [14].

وعن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا يحالف الفقر والحمّى مدمن الحجّ والعمرة [15]. وعن الصّادق (عليه السّلام) تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهما ينفيان الفقر والذّنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد [16].

وعنه (عليه السّلام): الحجّاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النّار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمّه، وصنف يحفظ في أهله وماله فذلك أدنى ما يرجع به الحاجّ [17].

في خطبة له (عليه السّلام) قال فيها:

«أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ: اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صلوات الله عليه إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، بِأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَسْمَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً، ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ وَقُرًى مُنْقَطِعَةٍ، لاَ يَزْكُو بِهَا خُفٌّ، وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ، ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ (عليه السّلام)، وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ، مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلّهِ حَوْلَهُ وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلاَءً عَظِيماً وَامْتِحَاناً شَدِيداً وَاخْتِبَاراً مُبِيناً وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَوُصْلَةً إلَى جَنَّتِهِ وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَرِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ وَلَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَنُورٍ وَضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَلِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَلاَ تُشْوِي أَحَداً لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَلاَ مُقِلاًّ فِي طِمْرِهِ وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ اُنْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَقَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ».

 

نَتَائِقِ: جمع نتيقة أي الأرض المرتفعة ولو نسبيًّا.

مَدَراً: المدر قطع من الطّين اليابس.

قُطْراً: القطر بفتح القاف المطر، وبكسرها ضرب من النّحاس، وبضمها كما هنا الإقليم والنّاحية.

دَمِثَةٍ: سهلة ليّنة.

وَشِلَةٍ: قليلة.

لاَ يَزْكُو: لا ينمو.

خُفٌّ: هو للجمل.

حَافِرٌ: للفرس ونحوه.

ظِلْفٌ: للبقر والغنم.

مَثَابَةً: مجتمع النّاس، أو اسم لمكان الرّجوع، والمثوبة: الثّواب والجزاء. لِمُنْتَجَعِ: المنتجع بفتح الجيم المكان يقصده النّاس طلبًا للمنفعة.

رِحَالِهِمْ: والمراد بالرّحال هنا ما يصحبه المسافر.

تَهْوِي: تسرع أو تحنّ.

ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ: أمانيها.

وَمَهَاوِي: جمع مهوى أي الجوّ.

فِجَاجٍ: الطّريق بين جبلَيْن.

وَيَرْمُلُونَ: يهرولون.

شُعْثاً: الأشعث، المنتشر الشّعر.

السَّرَابِيلَ: كلّ ما يلبس.

الشُّعُورِ: الشّعائر، الدّلائل.

وَمَشَاعِرَهُ: أمكنتها.

بُرَّةٍ سَمْرَاءَ: الحنطة، والسّمراء أجودها.

وَأَرْيَافٍ: جمع ريف أي أرض فيها زرع وخصب.

مُحْدِقَةٍ: من أحدقت الرّوضة إذا صارت حديقة.

وَعِرَاصٍ: جمع عرصة، وهي السّاحة.

مُغْدِقَةٍ: فيها ماء.

نَاضِرَةٍ: حسنة وجميلة.

الْأَسَاسُ: بكسر الهمزة جمع أسّ وأساس أي أصل البناء.

مُعْتَلَجَ: الاعتلاج، الالتطام والاختلاط.

 

«أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ: اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ ...» بنى سبحانه البيت الحرام من حجر وطين تمامًا كالبيوت الّتي نسكنها، وألزم بزيارته وحجّه من استطاع إليه سبيلاً... يخضع ويتذلّل، ويستغيث ويستجير، وهذا الإلزام والوجوب كان من زمن سحيق يبتدىء بآدم، وإلى آخر يوم، وإبراهيم (عليه السّلام) أعاد ما بدأه السّابقون. وكان البيت الحرام وما زال في واد غير ذي زرع، لا ثمر ولا مطر، أمّا طريقه فكان بحارًا وجبالاً، والحجّ إليه فيه متاعب ومصاعب تزيد المؤمن ثوابًا، وتميّزه عمّن عصى وتمرّد ... كانوا يمشون أو يركبون الدّواب إلى شاطىء البحر، ثمّ يركبون البحر إلى الصّحراء، يقطعونها على الجمال، ويعانون التّعب والخوف من القتل أو السّلب، ويقاسون الجوع والعطش، والحرّ والبرد.

أمّا اليوم وبعد السّيارة والطّيارة فالحجّ نزهة وسياحة، ولا شيء فيه للثّواب والتّمييز والاختبار إلا النّيّة الخالصة، والتّلبية لدعوة الله وحدها، والشّعور بالتّوجّه والانقطاع إليه تعالى عسى أن يتوب ويغفر. وروي أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشار إلى ذلك بقوله: «يأتي زمان على النّاس يخرج أغنياؤهم إلى بيت الله للسّياحة، وفقراؤهم للتّجارة، وعلماؤهم للسّمعة، وقلّة منهم تخرج لوجه الله». والمراد بالفقراء هنا كلّ من يتّخذ الحجّ وسيلة للرّبح والاتّجار كالمعرّفين الّذين يقودون جماعة من الحجّاج بأجر معلوم، أمّا العلماء فالمراد بهم أصحاب العمائم الّذين ترسلهم الحكومات باسم البعثة لا لشيء إلا للسّمعة كما في الحديث.

إنّ بيت الله الحرام أحجار لا تضرّ ولا تنفع كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل وقال الإمام وغير الإمام من بعد، ولكن هذه الأحجار رمز للإجماع على توحيد الله وعبادته، وشعار لتقديسه وتعظيمه:  ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [18]. وليس الإسلام بدعًا في ذلك، فكلّ الأمم والطّوائف من بني آدم لها رموز وشعائر مطهّرة مقدّسة.

«ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ (عليه السّلام)، وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ» أي أن يحجّوا إلى بيت الله الحرام، وقيل: أنّه كان خيمة يطوف حولها آدم، ثمّ بناها ابنه شيث بالحجر والطّين «فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ» إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً [19]. ومنتجع إشارة إلى المنافع الّتي ذكرها سبحانه حيث قال: ﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ [20].

«تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ» إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [21]. «مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ» إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [22]

«حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلّهِ حَوْلَهُ وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ» على الحاجّ قبل كلّ شيء أن يلبس ثوبَي الاحرام، وهما إزاران يلفّ أحدهما حول وسطه، والثّاني على الظّهر والصّدر والكتفَيْن، ولا خيط يشبك أحدهما بالآخر، وإلى هذا أشار الإمام بقوله: «قد نبذوا السّرابيل ...» ... أمّا إعفاء الشّعور فهو إشارة إلى أنّ المحرم بكسر الرّاء يترك شعره بلا قصّ وحلق ونتف، ثمّ يرفع صوته بالتّلبية والتّهليل والتّكبير، ثمّ يطوف ويسعى، ويصلّي ويستغفر.

«ابْتِلاَءً عَظِيماً وَامْتِحَاناً شَدِيداً ...» لماذا نبذ السّرابيل، وتشويه المحاسن، والهرولة ذهابًا وإيابًا، والطّواف حول الأحجار بتذلّل وتضرّع؟

لا تسل إنّك عبد مأمور، ولمولاك حقّ التّمحيص والاختبار بالأمر والنّهي، وما عليك إلا أن تطيع، وعلى قدر طاعتك يعرف مقدار حبّك لله، وجزاؤك عنده.

«وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ...» الله على كلّ شيء قدير، وأيضًا هو عليم حكيم، يعلم أنّه لو أعطى الدّنيا لأنبيائه لآمن النّاس بدنياهم لا بنبوّتهم ورسالتهم.. وأيضًا لو جعل بيته الحرام في حدائق وأنهار لكان مقهىً وملهىً، ومسرحًا للشّياطين لا مهبطًا للملائكة المقرّبين، ومسجدًا للعاكفين: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [23].

وقيل: إنّ موقع مكّة في الخريطة الجغرافيّة كموقع القلب من الجسد، لأنّها وسط بين الشّمال والجنوب،  وأنّ نسبة بلاد الغرب إليها قربًا وبعداً كنسبة بلاد الشّرق ... ومهما يكن فإنّ رحلة المسلم إلى مكّة هي رحلة حبّ لله ورسوله، أنّه يحنّ ويهرع إلى مكّة، ويقبّل الحجر الأسود، وهو يرجو أن تمسّ شفتاه نفس المكان الّذي قبّله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويطوف حول البيت، وهو يأمل أن تقع قدماه في نفس المكان الّذي وطأه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) [24].

من وصيّة له (عليه السّلام) للحسن والحسين (عليهما السّلام) لمّا ضربه ابن ملجم لعنه الله، قال (عليه السّلام): «وَاللهَ اللهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لاَ تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا».

 

لَمْ تُنَاظَرُوا: لم ينظر إليكم باحترام.

 

من وصاياه العامّة: ملازمة إقامة شعائر الحجّ في كلّ سنة، ليجتمع جميع المسلمين في هذا المعبد الإسلاميّ العامّ فيتعارفون ويتعاونون ويشدّ بعضهم أزر بعض، فإنّ الحجّ عمود الاجتماع الإسلاميّ فلو ترك تنثلم الوحدة الإسلاميّة ولا يناظر المسلمون.

وقال (عليه السّلام): «وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ، وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى ...».

 

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ» في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام): أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقّد الحمرة الّتي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرّأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الافطار وسقط القرص [25].

وعن الصّادق (عليه السّلام): إذا غابت الحمرة من المشرق فقد غابت الشّمس في شرق الأرض وغربها [26].

«وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى» يعني من عرفات إلى المشعر، في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام) قيل له: متى الإفاضة من عرفات؟ قال: إذا ذهبت الحمرة يعني من الجانب الشّرقيّ [27].

وعنه (عليه السّلام): أنّ المشركين كانوا يفيضون قبل أن تغيب الشّمس فخالفهم النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأفاض بعد غروبها [28].

وعنه (عليه السّلام): وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق وتدري كيف ذاك أنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا ورفع يمينه فوق يساره فإذا غابت ها هنا ذهبت الحمرة، من ها هنا [29].

ومن كتاب له (عليه السّلام) كتبه إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة:

«أَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ وَذَاكِرِ الْعَالِمَ وَلاَ يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلاَّ لِسَانُكَ وَلاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُكَ وَلاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا وَانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَالْمَجَاعَةِ مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ وَالْخَلاَّتِ وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا وَمُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «فَالْعَاكِفُ اَلْمُقِيمُ بِهِ» وَالْبَادِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَحَابِّهِ وَالسَّلاَمُ».

 

الْعَصْرَيْنِ: العصر: آخر النّهار، والعصران: الغداة والعشيّ، أي الّليل والنّهار، وفي مجمع البحرَيْن للشّيخ الطّريحيّ: «جاء في الحديث: حافظ على العصرَيْن، يريد صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنّ الأولى تقع في طرف النّهار والثّانية في طرف الّليل» أي القريبة منه.

وَذَاكِرِ الْعَالِمَ: خض معه في حديث العلم ومسائله.

قِبَلَكَ: بكسر القاف، عندك وجهتك.

ذِيدَتْ: منعت.

وِرْدِهَا: ورد، دخول الغنم والبعير على الماء للشّرب.

الْفَاقَةِ: الفقر.

وَالْخَلاَّتِ: الحاجات.

وَالْبادِ: مخفّف البادي ساكن البادية.

لِمَحَابِّهِ: ما يحبّ.

 

كان قثم بن العبّاس واليًا للإمام على مكّة، وهذه الرّسالة الثّانية إلى قثم، ولكنّ موضوعها غير موضوع الأولى. «فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ» حجّ بهم على كتاب الله وسنّة نبيّه، وعلّمهم المناسك وما يجب فعله وتركه «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ» الّتي عاقب فيها الأمم الماضية على البغي والفساد: وخوّفهم بذلك لعلّهم يتّقون «وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ» صباحًا ومساءً، لتستمع إلى مشكلاتهم، وتسعى في حلّها بجهدك ومقدرتك «فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ» أجب عمّا تسأل عنه من حلال الله وحرامه.

«وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ» اقعد للتّدريس في حلقة من التّلاميذ، تعلّمهم الدّين أصولاً وفروعًا.

«وَذَاكِرِ الْعَالِمَ» تدارس معه مسائل الدّين، وشؤون البلاد ومصالحها «وَلاَ يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلاَّ لِسَانُكَ وَلاَ حَاجِبٌ إِلاَّ وَجْهُكَ وَلاَ تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا».. اختلط بهم، وقابلهم وجهًا لوجه، واسمع منهم، واسمعهم مباشرة وبلا واسطة تمامًا كما فعل الأنبياء. ولماذا الحجاب وغلق الأبواب؟

«فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا» إن عرضت الحاجة ومنعت أوّلاً، ثمّ راجعت نفسك وقضيتها فإنّ صاحبها لا يحمدك، ولا يرى لك فضلاً، فالأولى أن تبادر إلى قضائها بمجرّد عرضها عليك، فإنّ الله يضاعف لك الأجر، وصاحبها يضاعف لك الشّكر، لأنّ تعجيل الخير من الخير ومضاعفاته «وَانْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَالْمَجَاعَةِ مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْفَاقَةِ وَالْخَلاَّتِ وَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا».

فأنفقه على المصالح العامّة والمحاويج من أهل البلاد الّتي جمع منها المال، فإنّها أولى من غيرها، فإن تبقّى منه شيء فأرسله إلينا لنوجّهه إلى وجهته.

 


 

بيوت مكّة وبيعها وإيجارها

 

اتّفقت المذاهب الإسلاميّة قولاً واحدًا أنّ مواضع النّسك في مكّة المكرّمة لا تباع ولا تؤجّر كمحلّ السّعي والرّمي، واختلفوا في بيوت مكّة: هل تباع وتؤجّر؟ وعن مالك وأبي حنيفة المنع، وعن الشّافعيّ الجواز، وعن أحمد روايتان. قيل: أصحّهما المنع. وكما اختلف فقهاء السّنّة فيما بينهم اختلف كذلك فقهاء الشّيعة، قال الشّيخ الطّوسي: لا يجوز البيع ولا الايجار تمامًا كما قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشّهيد الثّاني في «المسالك» ما نصّه بالحرف الواحد: «المشهور الجواز، وعليه العمل، وتسمية مكّة مسجدًا مجاز للحرمة والشّرف والمجاورة».

وقال صاحب «الجواهر»، أيضًا بالنّص الحرفيّ: «ومن هنا كان المتّجه الجواز كما هو خيرة جماعة» قال هذا بعد أن مهّد له بأنّه لم يقف على شيء من طرق الشّيعة يدلّ على المنع. ورواية المنع عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سندها عبد الله بن عمرو ابن العاص.

والأرجح هو القول بالجواز وإن سألنا سائل: وماذا تصنع بقول الإمام هنا لعامله: «وَمُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلاَّ يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً» فإنّه ظاهر في المنع وعدم الجواز.

جوابه: لو أنّ الإمام قال هذا وسكت دون أن يستدلّ بقوله تعالى: ﴿ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾  لكان هذا حجّة متّبعة يجب الأخذ بها. أمّا وقد استدلّ بالآية فلا بدّ من صرف الظّاهر عن الحقيقة إلى المجاز، وحمل الأمر على الضّيافة المستحبّة، لأنّ موضوع الكلام مختصّ بالمسجد الحرام، والآية نصّ فيه، وردّ على المشركين الّذين صدّوا النّاس عنه، والتّعبّد فيه، وهذه هي الآية كاملة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [30] ».

والمسجد الحرام شيء، وبيوت مكّة الّتي هو موضوع الكلام شيء آخر، ولا صلة بين الاثنَيْن لا موضوعًا ولا حكمًا، ولا أيّ شيء سوى علاقة الجوار، وهي تصلح للاستحباب لا للوجوب، أي لصرف الظّهور عن الحقيقة، وهي الإلزام، إلى المجاز، وهو الرّجحان [31].

وقال (عليه السّلام): «الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ ...».

 

«وَالْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ» في الكافي عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الحجّ أحد الجهادَيْن وهو جهاد الضّعفاء ونحن الضّعفاء أمَا إنّه ليس أفضل من الحجّ إلاّ الصّلاة، وفي الحجّ ههنا صلاة وليس في الصّلاة حجّ، لا تدع الحجّ وأنت تقدر عليه أمَا ترى أنّه يشعث فيه رأسك ويقشف فيه جلدك وتمتنع فيه من النّظر إلى النّساء وإنّا نحن ههنا قريب ولنا مائة قرى متّصلة ما نبلغ الحجّ حتّى يشقّ علينا، فكيف أنتم في بعد البلاد؟ وما من ملك ولا سوقة يصل إلى الحجّ إلاّ بمشقّة في تغيير مطعم أو مشرب أو ريح أو شمس لا يستطيع ردّها وذلك قوله تعالى: ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [32] [33].

وعن الثّمالي، قال رجل لعليّ بن الحسين (عليه السّلام): تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجّ ولينه؟ فقال (عليه السّلام) له: ويحك أمَا بلغك ما قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجّة الوداع لمّا وقف بعرفة إنّ ربّكم تطوّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفورًا لكم [34].

وروى الفقيه أنّ الرّجل قال له (عليه السّلام): آثرت الحجّ وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ... [35] فقال (عليه السّلام): فاقرأ ما بعدها: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ... ﴾  إلى آخر الآية، فإذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم يومئذ أفضل من الحجّ [36].

وعن الرّضا (عليه السّلام) قيل له: بلغنا أنّه قيل لبعض آبائك: في بلادنا موضع رباط يقال له قزوين وعدوّ يقال له الدّيلم، فهل من جهاد أو رباط؟ فقال: عليكم بهذا البيت فحجّوه، أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله ينتظر أمرنا فإن أدركه كان كمن شهد بدرًا مع النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن لم يدركه كان كمن قام مع قائمنا في فسطاطه هكذا وهكذا وجمع بين سبابتَيْه فقال (عليه السّلام): هو على ما ذكر [37].

وقال (عليه السّلام): «... وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ».

 

«وَالْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ» أي لأهل الدّين حيث يجتمعون في آن واحد، ومكان واحد، وفي زيّ واحد، وينشدون نشيدًا واحدًا وهو تَقْرِبَةً لِلدِّينِ أيضًا.


 [1] سورة آل عمران، الآية: 97.

 [2] من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 368، باب النّوادر.

 [3] الكافي: ج 4، ص226، ح4.

 [4] علل الشّرائع: ج 2، ص397، ح1.

 [5] سورة الصّفّ، الآيتان: 10 - 11.

 [6] شرح نهج البلاغة (الحائريّ): ج 1، ص106.

 [7] سورة آل عمران، الآية: 97.

 [8] شرح نهج البلاغة: ج 1، ص107.

 [9] دابّة فارهة: نشيطة حادّة قويّة، أي اختاروا الفارهة الجيّدة منها غير المعيوبة.

 [10] الوسائل: ج 14، ص209، ح1.

 [11] من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص214.

 [12] علل الشّرايع: ج 2، ص439، ح2.

 [13] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 4، ص321.

 [14] الكافي: ج 4، ص253، ح5.

 [15] الكافي: ج 4، ص255، ح8.

 [16] الكافي: ج 4، ص255، ح1.

 [17] الكافي: ج 4، ص253، ح6.

 [18] سورة الحجّ، الآية: 32.

 [19] سورة البقرة، الآية: 125.

 [20] سورة الحجّ، الآية: 28.

 [21] سورة إبراهيم، الآية: 37.

 [22] سورة الحجّ، الآية: 27.

 [23] سورة البقرة، الآية: 125.

 [24] في ظلال نهج البلاغة: ج 3، ص132.

 [25] الكافي: ج 4، ص279، ح5.

 [26] الكافي: ج 4، ص279، ح2.

 [27] الكافي: ج 4، ص467، ح1.

 [28] الكافي: ج4، ص467، ح2.

 [29] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج 13، ص171.

 [30] سورة الحجّ، الآية: 25.

 [31] في ظلال نهج البلاغة: ج 4، ص175.

 [32] سورة النّحل، الآية: 7.

 [33] الكافي: ج 4، ص253، ح7.

 [34] الكافي: ج 4، ص259، ح24.

 [35] سورة التّوبة، الآية: 111.

 [36] من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص220.

 [37] بهج الصّباغة في شرح نهج البلاغة: ج 13، ص141.