فرائض قرآنيّة

على ضوء نهج البلاغة

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

 بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى

شهر شعبان 1434 هـ. ق. / 2013م

 

 

 

الفصل الثّالث: الصّوم

 الصّوم من العبادات الكبرى

 الصّوم جُنَّة

 ابتغاء مرضاة الله

 الصّوم يسوِّد وجه الشّيطان

 ما هو أفضل من الصّيام

 وقت الإفطار

 الصّيام زكاة البدن

 ليس له من صيامه إلا الظّمأ

 كمال الإخلاص

 عيد الفطر

 الصّوم عبادة

 الصّيام ليس من الطّعام والشّراب وحده

 

 



 

تمهيد

 

الصّوم من العبادات الكبرى

 

يقول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [1].

تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التّربويّة، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.

للصّوم أبعاد متعدّدة وآثار غزيرة ماديّة ومعنويّة في وجود الإِنسان، وأهمّها البعد الأخلاقيّ، التّربويّ.

من فوائد الصّوم الهامّة «تلطيف» روح الإِنسان، و«تقوية» إرادته، و«تعديل» غرائزه.

إنّ الصّوم يحظى من بين العبادات الإسلاميّة بمكانة متميّزة جدًّا وقد وردت حوله روايات عديدة منها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الصّائم في عبادة الله وإن كان نائمًا على فراشه ما لم يغتب مسلمًا [2]، هذه العبادة تتحقّق بأن يمسك الانسان عن الأكل والشّرب وغيرها من المفطرات.. من طلوع الفجر إلى المغرب بقصد الصّوم.

وإليك ما قاله أمير المؤمنين عنها:

 


 

الصّوم جُنّة

 

يقول (عليه السّلام): «... وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ».

 

جُنَّةٌ: بضمّ الجيم، الوقاية.

 

«وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ» قد يرى البعض أنّ الصّوم ليس إلاّ عملاً سلبيًّا.. أجل، ولكن في هذا السّلب حكمة وإيجاب، وهو انتصار الانسان على نفسه، وتمرينه على كبح الشّهوات والأهواء، ولو أطلق الانسان العنان لأهوائه لكانت الحياة نارًا وجحيمًا.

روى (الكافي) عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام): ألا أخبرك بأصل الاسلام وفرعه وذروته وسنامه؟ [3] قلت: بلى، قال: أصله الصّلاة وفرعه الزّكاة وذروته وسنامه الجهاد في سبيل الله، ألا أخبرك بأبواب الخير إنّ الصّوم جنّة [4].

 


 

ابتغاء مرضاة الله

 

وقال (عليه السّلام) عن أصحابه الأوفياء: «مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ».

 

مُرْهُ: بضمّ الميم وسكون الرّاء جمع أمْرَه أي في عينه بياض ونحوه.

خُمْصُ الْبُطُونِ: بطونهم ضامرة.

 

أشار إلى مراتب زهدهم وخوفهم وخشيتهم من الله تعالى فقال «مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ» أراد أنّهم من شدّة بكائهم من خوف الله سبحانه صارت عيونهم فاسدة، ومن كثرة صيامهم ابتغاء لمرضاة الله صارت بطونهم ضامرة، ومن المواظبة على الدّعاء ظلّت شفاههم قليلة النّداوة والنّضارة، ومن المراقبة على التّهجّد والقيام باتت ألوانهم متغيّرة مصفرّة.

 


 

الصّوم يسوّد وجه الشّيطان

 

وقال (عليه السّلام): «وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ».

 

«وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ» الصّلاة تواضع، والتّواضع ضدّ الكبر، وإذن فالصّلاة تصون المصلّي من هذه الرّذيلة.

ثمّ إنّ الصّلاة عهد لله على عبده أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر، وإذا كانت الصّلاة تروّض النّفس والأعضاء بالحركات فإنّ الزّكاة تروّضها بالمال وبذله، ولا شيء أثقل عليها من ذلك «وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ» ومن جرّب وجده الجهاد الأكبر، وهل للنّفس من جهاد وترويض أكثر من الصّبر على الجوع والعطش، وعن الشّاي والدّخان؟.

وبعبارة أخرى إنّ وجود المفاسد في الكِبْر صار علّة ومنشئاً لجعل تلك العبادات، فإنّها لاشتمالها على التّواضع والتّذلّل المنافي للكِبر والمضادّ له أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بها حراسة لهم وحفظًا عن الكبر ومفاسده العظيمة، وحثًّا على التّواضع ومصالحه الخطيرة كما أمر بالحجّ مع ما له من الكيفيّات المخصوصة وباتّباع الرّسل مع ما لهم من الذّلّ والمسكنة.

أمّا اشتمال الصّلاة على التّواضع وتنافيها للتّكبّر فلكون مدارها بأفعالها وأركانها وأجزائها وشرايطها على ذلك.

وأمّا كون ذلك علّة لجعلها وتشريعها فيدلّ عليه صريحًا ما رواه في الفقيه قال:

كتب الرّضا عليّ بن موسى (عليهما السّلام) إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: إنّ علّة الصّلاة أنّها إقرار بالرّبوبيّة لله تعالى، وخلع الانداد وقيام بين يدي الجبّار جلَّ جلاله بالذّل والمسكنة والخضوع والاعتراف والطّلب للإقالة من سالف الذّنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظامًا لله عزّ وجلّ، وأن يكون ذاكرًا غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعًا متذلّلاً راغبًا طالبًا للزّيادة في الدّين والدّنيا، مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله بالّليل والنّهار لئلاّ ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه، فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يدَيْه زجرًا عن المعاصي ومانعًا له من أنواع الفساد [5].

وهذه الرّواية كما دلّت على كون الصّلاة مانعة من الكبر، فكذا دلّت على كونها مانعة من البغي والظّلم وغيرهما من المعاصي جميعًا، وهو نصّ قوله تعالى ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ﴾.

وأمّا اشتمال الزّكاة على التّواضع فلأنّها شكر للنّعمة الماليّة كما أنّ العبادات البدنيّة شكر للنّعمة البدنيّة وظاهر أنّ شكر النّعمة ملازم للتّذلّل ومناف للتّكبّر على المنعم، ومن حيث إنّها مستلزمة للتّعاطف والتّرحّم على الفقراء والضّعفاء والمساكين تلازم الائتلاف بهم وتنافي التّكبّر عليهم أيضًا كما يدلّ على ذلك: ما رواه في الوسائل عن الصّدوق (رحمه الله) بأسناده عن محمّد بن سنان عن الرّضا (عليه السّلام) أنّه كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله:

إنّ علّة الزّكاة من أجل قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء، لأنّ الله عزّ وجلّ كلّف أهل الصّحّة القيام بشأن أهل الزّمانة والبلوى، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾ في أموالكم إخراج الزّكاة وفي أنفسكم توطين الأنفس على الصّبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله عزّ وجلّ، والطّمع في الزّيادة مع ما فيه من الزّيادة والرّأفة والرّحمة لأهل الضّعف والعطف على أهل المسكنة والحثّ لهم على المواساة، وتقوية الفقراء والمعونة لهم على أمر الدّين، وهو موعظة لأهل الغنى وعبرة لهم ليستدلّوا على فقراء الآخرة بهم، وما لهم من الحثّ في ذلك على الشّكر لله تبارك وتعالى لما خوّلهم وأعطاهم، والدّعاء والتّضرّع والخوف من أن يصيروا مثلهم في أمور كثيرة في أداء الزّكاة والصّدقات وصلة الأرحام واصطناع المعروف [6].

وأمّا تضمّن الصّيام للتّذلّل وتنافيه للتّكبّر فلكونه موجبًا لكسر ثورة النّفس الأمّارة وذلّتها، وسببًا لتباعد الشّيطان عنه، واندفاع وسوسته المنبعثة عنها الكبر ويرشد إلى ذلك:

ما رواه في الفقيه قال: وكتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا (عليهما السّلام) إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله:

علّة الصّوم عرفان مسّ الجوع والعطش ليكون ذليلاً مستكينًا مأجورًا محتسبًا صابرًا، ويكون ذلك دليلاً له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشّهوات، واعظًا له في العاجل دليلاً على الآجل ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدّنيا والآخرة [7].

وفي الفقيه أيضًا قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأصحابه: ألا أخبركم بشيء إنْ أنتم فعلتموه تباعد الشّيطان منكم كتباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الصّوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصّالح يقطع وتينه، ولكلّ شيء زكاة وزكاة الأبدان الصّيام [8].

ثمّ المراد بمجاهدة الصّيام بذل الجهد له واحتمال مشاقّه ونسبة المفروضات إلى الأيّام من باب المجاز العقليّ والاسناد إلى الزّمان كما في مثل نهاره صائم أي الأيّام المفروض فيها الصّيام.

 


 

ما هو أفضل من الصّيام

 

وقال (عليه السّلام) من وصيّته لابنَيْه الحسن والحسين (عليهما السّلام): «فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ».

 

«صَلاَحُ ذَاتِ البَيْن» الحال الّتي بين الرّجل وأهله أو بين الرّجلَيْن أو القبيلتَيْن، والمراد هنا ما بين المسلمين. والبَيْن: الوصل هنا، كما في قوله: ﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [9]. ويجوز أن يكون الذّات عبارة عن النّفس، كأنّه قال: صلاح نفس الوصل الّذي دبّ إليه الفساد بين النّاس خير من كثرة نوافل الصّلاة والصّوم [10].

 


 

وقت الإفطار

 

وقال (عليه السّلام): «وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ، وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى».

 

«وَصَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ» في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام): أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقّد الحمرة الّتي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرّأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الافطار وسقط القرص [11].

وعن الصّادق (عليه السّلام): إذا غابت الحمرة من المشرق فقد غابت الشّمس في شرق الأرض وغربها [12].

«وَيَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى» يعني من عرفات إلى المشعر. في الكافي عن الصّادق (عليه السّلام) قيل له: متى الإفاضة من عرفات؟ قال: إذا ذهبت الحمرة، يعني من الجانب الشّرقيّ [13].

أي حين وقوع القرص وغيبوبة الشّمس حتّى يفيض الحاجّ من عرفات يوم عرفة، وذلك إذا سقط قرص الشّمس وغاب عن العيون في تلك الآفاق.

 


 

الصِّيَامُ زَكَاةُ الْبَدَنِ

 

وقال (عليه السّلام): «وَلِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ».

 

«وَلِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ» حتّى أنّ زكاة الجاه قضاء حوائج النّاس، وزكاة الأموال تسدّ حاجة المعوزين.

«وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ» للثّبات والصّبر على الجوع والظّمأ. في (العلل) عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابًا إلاّ أوجب الله له سبع خصال أوّلها يذوّب الحرام من جسده [14].

 


 

لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ

 

وقال (عليه السّلام): «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ وَالْعَنَاءُ حَبَّذَا نَوْمُ الْأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ».

 

الْأَكْيَاسِ: هم العقلاء العارفون، يكون نومهم وفطرهم أفضل من صوم الحمقى وقيامهم.

 


 

كمال الإخلاص

 

وقال (عليه السّلام): «وَالصِّيَامَ ابْتِلاَءً لِإِخْلاَصِ الْخَلْقِ».

 

«وَالصِّيَامَ ابْتِلاَءً لِإِخْلاَصِ الْخَلْقِ» لاشتماله على ترك الّلذائذ من المطاعم والمشارب وغيرها وتركها في غاية الصّعوبة، فيكون دليلاً على كمال الإخلاص.

وأيضًا هو أمر عدميّ لا يعلمه إلاّ الله إن لم يخبر صاحبه به، ولذا ورد في الحديث القدسيّ: «الصّوم لي وأنا أجزي به» وفي تاريخ بغداد صام داود الطّائيّ أربعين سنة ما علم به أهله وكان خرّازًا فكان يحمل غذائه معه ويتصدّق به في الطّريق ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنّه صائم.

وفي (العلل) عن الرّضا (عليه السّلام): علّة الصّوم لعرفان مسّ الجوع والعطش ليكون العبد ذليلاً مستكينًا مأجورًا محتسبًا صابرًا، فيكون ذلك دليلاً على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشّهوات واعظًا له في العاجل، دليلاً على الآجل ليعلم مبلغ ذلك من أهل المسكنة في الدّنيا والآخرة [15].

ولا رقيب على الصّائم إلاّ الله، ومن لا يخلص لخالقه لا يخلص لنفسه ولا لوطنه وأمّته.

 


 

عيد الفطر

 

وقال (عليه السّلام) في بعض الأعياد: «إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ: لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ».

 

«إِنَّمَا هُوَ عِيدٌ: لِمَنْ قَبِلَ اللهُ صِيَامَهُ» وقبول الصّيام بالكفّ عن جميع المحرّمات لا خصوص المفطرات، وإنّما الكفّ عنها يوجب سقوط القضاء والكفّارة دون القبول.

ففي الخبر: ليس الصّيام من الطّعام والشّراب وحده، إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وباقي جوارحك حتّى شعرك [16].

«وَشَكَرَ قِيَامَهُ» أي: قبل صلاته، ولا تقبل الصّلاة إلاّ بالإقبال فيها على الله، إن كلاًّ فكلّ وإن جزءًا فجزء.

«وَكُلُّ يَوْمٍ لاَ يُعْصَى اللهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ» قال (عليه السّلام): لا تأمن البيات وقد عملت السّيّئات [17].

وقال أيضًا: ولا تبدينّ عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة [18].

وقالوا: ليس العيد لمن لبس الجديد، إنّما العيد لمن سلم من الوعيد، وليس العيد لمن ركب المطايا، إنّما العيد لمن ترك الخطايا، وليس العيد لمن حضر المصلّى، إنّما العيد لمن صام وصلّى.

وفي (الفقيه): نظر الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون، فقال (عليه السّلام) لأصحابه: إنّ الله عزَّ وجلّ خلق شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلّف آخرون فخابوا، فالعجب كلّ العجب من الضّاحك اللاّعب في اليوم الّذي يُثاب فيه المحسنون ويخيب فيه المقصّرون، وأيم الله لو كشف الغطاء لشغل كلّ محسن بإحسانه ومسيء بإساءته [19].

وفي الخبر: إنّ الملائكة ينادون النّاس في أوّل أوقات الصّلاة ويقولون لهم: قوموا وأطفئوا بالصّلاة في أوّل الوقت النّيران الّتي أوقدتموها على ظهوركم [20].

وكما أنّ من أصيب بمصيبة في يوم عيد ليس له فيه سرور كباقي النّاس في العيد، حتّى ورد عن الباقر (عليه السّلام): ما عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلاّ ويجدّد لآل محمّد (عليهم السّلام) فيه حزن: قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم كذلك من أصيب بخطيئة فيه استحقّت العقوبة به [21].

وفي (عيون ابن قتيبة) قال زيد الحميريّ: قلت لثوبان الرّاهب: أخبرني عن لبس النّصارى هذا السّواد ما المعنى فيه؟ قال: هو أشبه بلبس أهل المصائب، قلت: كلّكم معشر الرّهبان أصيب بمصيبة؟ قال: وأيّ مصيبة أعظم من مصيبة الذّنوب؟ قال: فلا أذكر قوله ذاك إلاّ أبكاني [22].

 


 

الصَّوْمُ عِبَادَةٌ

 

وقال (عليه السّلام): «الصَّوْمُ عِبَادَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وخَالِقِهِ، لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُجازِي عَنْهَا غَيْرهُ».

 

عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قال الله عزّ وجلّ: الصّوم لي وأنا أُجزي به [23].

يعني الصّوم عبادة خالصة لي لا يستولي عليه الرّياء والسّمعة لأنّه عمل مستور ليس كسائر الأعمال الّتي يطّلع عليها الخلق هذا، كما رُوِيَ أنّ نيّة المؤمن خير من عمله.

 


 

الصّيام ليس من الطّعام والشّراب وحده

 

وقال (عليه السّلام): «لَيْسَ الصَّوْمُ الْإِمْسَاك عَنْ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ، الصَّوْمُ الْإِمْسَاك عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ سُبْحَانَهُ».

 

عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: إنّ الصّيام ليس من الطّعام والشّراب وحده، إنّما للصّوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتّى يتمّ الصّوم، وهو الصّمت الدّاخل أمَا تسمع ما قالت مريم بنت عمران: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [24] يعني صمت [25].

فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تسابّوا، ولا تشاتموا، ولا تفاتروا [26]، ولا تجادلوا، ولا تنادوا [27]، عن المحرّمات بل المكروهات أيضًا، وقال (عليه السّلام): لا يكن يوم صومك كيوم إفطارك، وقال (عليه السّلام): إنّ الصّيام ليس من الطّعام والشّراب وحدهما فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم عمّا حرّم الله، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تمارُوا ولا تخالفوا (كذبًا بل ولا صدقًا) ولا تسابّوا ولا تشاتموا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تضاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصّلاة والزموا الصّمت والسّكوت والصّبر والصدّق ومجانبة أهل الشّرّ، واجتنبوا قول الزّور والكذب والفري والخصومة وظنّ السّوء والغيبة والنّميمة وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيّامكم - ظهور القائم (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف) من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - منتظرين لما وعدكم الله متزوّدين للقاء الله، وعليكم السّكينة والوقار والخشوع والخضوع وذلّ العبيد الحيرة من مولاها خائفين راجين، ولتكن أنت أيّها الصّائم قد طَهُر قلبك من العيوب وتقدّست سريرتك من الخبث ونظف جسمك من القاذورات وتبرّأت إلى الله ممّن عداه وأخلصت الولاية له وصمت ممّا قد نهاك الله عنه في السّرّ والعلانيَة وخشيت الله حقّ خشيته في سرّك وعلانيَتك، ووهبت نفسك الله في أيّام صومك وفرّغت قلبك له ونصبت نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه، فإذا فعلت ذلك كلّه فأنت صائم لله بحقيقة صومه صانع له ما أمرك، وكلّما أنقصت منها شيئًا فيما بيّنت لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك، وإنّ أبي (عليه السّلام) قال: سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)امرأة تُسابُّ جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بطعام فقال لها: كُلي، فقالت: أنا صائمة يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك إنّ الصّوم ليس من الطّعام والشّراب وإنّما جعل الله ذلك حجابًا عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول، ما أقلّ الصُّوَّم وأكثر الجُوَّع [28].


 [1] سورة البقرة، الآية: 183.

 [2] الوسائل: ج10، ص390، ح12.

 [3] سنام الشّيء: أعلاه.

 [4] الكافي: ج3، ص63، ح3.

 [5] الوسائل: ج4، ص9، ح7.

 [6] الوسائل: ج9، ص13، ح7.

 [7] من لا يحضره الفقيه: ج2، ص74.

 [8] من لا يحضره الفقيه: ج2، ص76.

 [9] سورة الأنعام، الآية: 64.

 [10] منهاج البراعة للرّاونديّ: ج3، ص161.

 [11] الكافي: ج3، ص280، ح4.

 [12] الكافي: ج3، ص279، ح2.

 [13] الكافي: ج4، ص467، ح1.

 [14] علل الشّرائع: ج2، ص379.

 [15] بحار الأنوار: للمجلسيّ، ج75، ص328.

 [16] الكافي: ج4، ص87، ح3.

 [17] الكافي: ج2، ص273، ح21.

 [18] بحار الأنوار: ج73، ص334، ح عليّ بن اسباط.

 [19] من لا يحضره الفقيه: للصّدوق، ج1، ص324، ح83. انتشارات إمام الهدى قمّ.

 [20] التّهذيب: للطّوسيّ، ح1، ص203.

 [21] من لا يحضره الفقيه: للصّدوق، ج1، ص324، رواية 1484.

 [22] عيون الأخبار: لابن قتيبة، ج2، ص297، بتصرّف.

 [23] التّهذيب: ج4، ص 152، ح 420.

 [24] سورة مريم، الآية: 26.

 [25] الوسائل: ج10، ص165، ح13.

 [26] الفترة: الضّعف والانكسار، وفي الوسائل: لا تنابزوا.

 [27] تناد القوم: تنافروا وتخالفوا وتفرّقوا، وفي المخطوط والبحار: ولا تتأذّوا، وفي الوسائل: ولا تبادوا: تباد القوم، تبارزوا وأخذ كلّ منهم بقرنه.

 [28] مفاتيح الجنان: ص268.