مفاهيم قرآنيّة

 

 جمعيّة القرآن الكريم للتّوجيه والإرشاد

بيروت - لبنان

الطّبعة الأولى، صفر 1432هـ // 2012م

 

 

 المعاد في القرآن الكريم 53
 العقل في القرآن الكريم 61
 العلم في القرآن الكريم 73
 الإيمان في القرآن الكريم 85

 

 


المعاد في القرآن الكريم


 

 

يقول الله سبحانه: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ (81) .

يتّفق جميع الأنبياء وجميع الكتب السّماويّة على أنّ حياة الانسان لا تختم بالموت، بل هناك بعد هذا العالم الدّنيويّ عالم آخر ينتقل إليه الإنسان ويرى فيه جزاء أعماله وأفعاله، فهو إمّا صالح وإمّا طالح. فأمّا الصّالحون المحسنون الأبرار الطّيّبون الّذين يحترمون الواجب ويحسنون العمل ويساعدون أبناء جنسهم ويبرّون باليتامى والفقراء والمحرومين وأصحاب الأخلاق الحسنة الرّحماء الصّادقون الأمناء الأوفياء، لا يظلمون أحدًا ولا يؤذون النّاس ويحبّون العدل، ويعملون به، ويدافعون عن حقوق المحرومين والمستضعفين، وربّما يعرّضون أنفسهم لخطر الموت في سبيل الله ويعملون بواجباتهم بالكامل، ويجتنبون ارتكاب كلّ مخالفة بشدّة، هؤلاء ستكون لهم حياة طيّبة وسعيدة، وسوف يعيشون في نعمة، وروح وريحان وجنّات النّعيم.

وأمّا الطّالحون السّيّئون المسيئون الّذين يظلمون الآخرين، ويعتدون على حقوق النّاس، وسيّئو الأخلاق، الكاذبون الخائنون، الّذين لا يعملون بواجباتهم ولا يحترمون وظائفهم ولا يتورّعون عن اختراق أيّ عمل قبيح في سبيل الوصول إلى الجاه والمنصب والمال والثّروة واللّذة والمجون، وهؤلاء العصاة ستكون لهم حياة صعبة شقيّة وسيعيشون في عذاب وألم.

إنّ المعاد وعالم ما بعد الموت من القضايا الضّروريّة في جميع الأديان السّماويّة، وكلّ من يقبل بالأنبياء ويؤمن بهم يجب أن يقبل بالمعاد أيضًا ويؤمن به.

إنّ العقل البشريّ هو الآخر يجب أن يؤمن بوجود عالم آخر ويعتبره ضروريًّا ولازمًا، ونحن هنا سنركّز على الآيات القرآنيّة في إثبات المعاد وعالم الآخرة إن شاء الله تعالى.

 

 

 

المعاد: المصير والمرجع وهو يوم القيامة الّذي يعود فيه الموتى إلى الحياة مرّة أخرى، وينتقلون من عالم البرزخ إلى عالم آخر يُدعى عالم الآخرة، هذا اليوم هو يوم محاسبة أعمال العباد جميعًا بصورة دقيقة.

 

 

 

اعلم أنّ المعاد وإن كان أمرًا قطعيًّا ومسلَّمًا وقد اتّفق عليه جميع الأنبياء وأقيمت على إثباته البراهين لكنّ فريقًا من النّاس كانوا قد أنكروا ذلك ورفضوا القبول به.

يقول المنكرون: عندما يموت الإنسان ويبلى جسمه كيف يعود إلى الحياة مرّة أخرى وكيف يحشر؟

وقد كان الكفّار في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستبعدون ذلك، فقد جاء أحد الكفّار بعظم بالٍ وسحقه بيده ثمّ ذرّه على الأرض بين يدَيْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: ﴿ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾.

فنقل القرآن الكريم هذه القصّة وقال: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (82) .

وأشار في آيات كثيرة إلى نماذج من خلق الموجودات وحتّى الإنسان نفسه لإثبات قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى يقول عزّ وجلّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (83) .

وقال جلّ جلاله: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (84) .

 

 

 

إذا تصفّحنا القرآن الكريم لنطّلع على المعاد يوم القيامة نجد آيات كثيرة تبيّن خصوصيّات ذلك اليوم وتفاصيله وإليكم بعض هذه الآيات على سبيل المثال: بسم الله الرّحمن الرّحيم: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (85) .

فهذه الآيات تفيد بأنّ النّظام الكونيّ ينتهي يومًا ما، وعندها يقوم يوم القيامة وتعلم كلّ نفس ما قدّمت من الأعمال وما خلّفت من آثار.

وقال سبحانه: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (86) فعندما تفقِد الشّمس والنّجوم ضوءها وتوازنها وتندكّ الجبال ويحدث غير ذلك ممّا تتحدّث عنه الآيات تقسم الجماعة البشريّة إلى طوائف وفرق، فهناك الصّالحون وهناك الطّالحون، هناك الأبرار وهناك الأشرار.

وقال عزّ وجلّ: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (87) .

إنّ يوم القيامة يوم رهيب مهول يومٌ يقترن بِدَوِيّ عظيم يترك النّاس حيارى مندهشين كالجراد المتفرّق المتبعثر.

يقول عزّ وجلّ: ﴿ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (88) .

إلى غير ذلك من الآيات الّتي تحكي عن أهوال يوم القيامة وعلاماتها.

 

 

 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (89) .

فوفقًا لما ورد في بعض الرّوايات فإنّ قريشًا أرسلت عدّة أنفار إلى نجران ليسألوا اليهود مسائل مكتوبة ثمّ يلقونها على النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند رجوعهم إليه ظنًّا منهم أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعجز عن إجابتهم، ومن جملة هذه الأسئلة كان هذا السّؤال: متى تقوم السّاعة؟ فلمّا سألوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك السّؤال نزلت الآية وأفحمتهم.

وقال أيضًا سبحانه: ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (90) .

وقال أيضًا جلّ جلاله: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (91) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): بعثت أنا والسّاعة كهاتَيْن - وأشار بإصبعه: السّبابة والوسطى - ثمّ قال: والّذي نفسي بيده إنّي لأجد السّاعة بين كتفَيّ.

 

 

 

قال سبحانه: ﴿ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (92) .

وهو اليوم الّذي يلي النّداء والصّيحة القيامة والبعث والنّشور والخروج من القبور إلى أرض الموقف للحساب وهي من أشدّ السّاعات.

 

 

 

يقول عزّ وجلّ: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (93) .

تشير هذه الآية إلى أنّ كلّ إنسان يحمل عمله من خير أو شرّ كالطّوق في عنقه وهو دليل وشاهد عليها إن كان محسنًا فطائره ميمون وإن ساء فطائره مشؤوم ويخرج له يوم القيامة كتابًا مفتوحًا كتبه الحفظة عليه في أعماله فيعرض عليه ليقرأه ويعلم ماضيه، كأنّه فعله تلك السّاعة، فلذلك قالوا: ﴿ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا (94) .

أيضًا ورد أنّ الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحاسب المؤمن أعطاه كتابه بيمينه وحاسبه فيما بينه وبينه، وإذا أراد بعبدٍ شرًّا حاسبه على رؤوس النّاس وأعطاه كتابه بشماله.

قال عزّ وجلّ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (95) .

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (96) .

أوّلاً: هذه الآية تدور حول المعاد والحياة بعد الموت.

ثانيًا: اختلفت الأقوال فيمن المقصود بهذه الآية: قال بعض إنّه « أرميا » وقال آخرون: إنّه « الخضر » وذكر أنّه « العزير ».

المهمّ هو أخذ العبرة والشّاهد وسنذكر القصّة بشكل مجمل، فالآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النّخرة فلمّا رأى هذا المشهد المروّع قال: كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء الأموات؟ لم يكن تساؤله بالطّبع من باب الشّك والإنكار بل كان من باب التّعجّب، إذ إنّ القرائن الأخرى في الآية تدلّ على أنّه كان أحد الأنبياء وقد تحدّث إليه الله سبحانه، كما أنّ الأحاديث تؤيّد هذا. عند ذلك أماته الله مئة سنة، ثمّ أحياه مرّة أخرى وسأله: كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصّحراء؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سُويعات: يومًا أو أقلّ، فخاطبه الله بقوله: بل بقيت هنا مئة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدّة لم يصبه أيّ تغيّر بإذن الله ولكن لكي تؤمن بأنّك قد أمضيت مئة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الّذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجب نواميس الطّبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثمّ انظر كيف أنّنا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة أخرى فعندما رأى كلّ هذه الأمور أمامه قال: ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي: إنّني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسّمة أمامي.

نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا لمرضاته وأن يدخلنا فسيح جنانه إنّه سميع مجيب والسّلام عليكم ورحمة الله.

 

 


العقل في القرآن الكريم


 

 

يقول الله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (97) يعني أفلا تعلمون بأن تفكّروا فتعلموا أنّ لذلك صانعًا قادرًا عالمًا حيًّا حكيمًا لا يستحقّ الإلهيّة سواه ولا تحسن العبادة إلا له.

وفي هذا السّياق يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (98) .

فبيّن الله سبحانه أنّ من لا ينتفع بتلك الدّلالات ولم يستدلّ بها صار كأنّه لا عقل له، فيكون مثل قوله: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ وقوله تعالى: ﴿ هُدَىً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾.

لقد اعترف القرآن الكريم بكون العقل كاشفًا قطعيًّا عن الحقائق والواقعيّات، فالقرآن الكريم لا يقول: اقبلوا بالعقائد والمعارف الدّينيّة من دون دليل قطّ بل يطلب من النّاس أن يستخدموا عقولهم ويتوصّلوا إلى الحقيقة والواقع بالتّفكير والاستدلال ويؤمنوا عن يقين أنّ القرآن المجيد يدعو النّاس في آيات عديدة إلى التّعقّل والتّدبّر، والتّفكير والتّفقّه، ونشير إلى طائفة من هذه الآيات على سبيل المثال بعد بيان مفهوم العقل.

 

 

 

العقل: ضدّ الحمق، والجمع عقول: وهو نور روحانيّ تدرك به النّفس العلوم الضّروريّة والنّظريّة.

رجلٌ عاقل: وهو الجامع لأمره ورأيه مأخوذ من عقلتُ البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل العاقل الّذي يحبس نفسه ويردّها عن هواها.

أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا حبس ومنع الكلام.

والعقل: القلب، والقلب العقل، وسمّي العقل عقلاً لأنّه يعقل صاحبه عن التّوّرط في المهالك، أيْ يحبسه، وقيل العقل هو التّمييز الّذي به يتميّز الإنسان من سائر الحيوان ويقال: لفلانٍ قلب عقول، ولسانٌ سئول، وقلبٌ عقول: فهم، وعقل الشّيء يعقله عقلاً: فهمه.

والعقل التّثبّت في الأمور.

والمعقول: ما تعقله بقلبك، يقال « ما له حول ولا معقول » أيْ عقل، وعلم معقولاً وغير معقول أيْ عقل وعلم، علم المعقولات: علم يبحث فيه عمّا اختصّ العقل بإدراكه من المدركات.

 

 

 

إعلم أنّ العقل يعدّ من منابع المعارف والأحكام الاسلاميّة وأدلّتها، وأنّ له استقلاليّة في بعض القضايا والأمور فهو يصدر فيها حكمًا قطعيًّا مثل: امتناع اجتماع النّقيضَيْن، وارتفاع النّقيضَيْن، وامتناع اجتماع الضّدَّيْن في موضوع واحد وزمان واحد، وغير ذلك من القضايا العقليّة البديهيّة الّتي تسمّى « بالأوّليّات » وكذا مثل الحكم بأنّ كلّ ممكن مرتبط بعلّة.

إنّ العقل ربّما يتوصّل - من خلال عمليّة التّفكير والاستدلال والبرهنة أيْ ترتيب الصّغرى والكبرى - إلى نتيجة قطعيّة لا يشكّ في حجّيّتها واعتبارها.

إنّ الحياة الإنسانيّة اليوميّة تقوم أساسًا على هذه المدركات والقضايا العقليّة الّتي من دون القبول بها لا يمكن القيام بأيّ عمل، حتّى استخدام الحواسّ والتّجربة، لأنّ الإنسان بعد أن يعترف بمبدأ « العلّيّة » يعمد إلى التّجربة، ويواصلها، فهو حينما يعترف مثلاً - بتأثير الماء في رفع العطش يعمد إلى تحصيل الماء عندما يتعرّض للعطش.

هذا ينطلق من قانون العلّيّة الّذي يقضي به العقل نفسه.

ومن هنا فإنّ حجّيّة الدّليل العقليّ أمرٌ مسلَّم ومسألة بديهيّة لا تحتاج إلى الاستدلال والبرهنة.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (99) .

روى الثّعلبيّ في تفسيره بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة عن عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا قام من اللّيل استاك ثمّ ينظر إلى السّماء ثمّ يقول: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ إلى قوله ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، وقد اشتهرت الرّواية عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه لمّا نزلت هذه الآيات قال: ويل لمن لاكها بين فكَّيْه ولم يتأمّل ما فيها.

وورد عن الأئمّة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام باللّيل للصّلاة وفي الضّجعة بعد ركعتَيْ الفجر.

لقد بيّن عزّ وجلّ في هذه الآيات دلالات على توحيده وصفاته العلى لذوي البصائر والعقول وذكر أوصاف أولي الألباب وهي بشكل مجمل:

1 - الّذين يذكرون الله في سائر الأحوال.

2 - يتفكّرون في خلق السّماوات والأرض ويتدبّرون في ذلك ليستدلّوا على وحدانيّة الله سبحانه وكمال قدرته وعلمه وحكمته ليعترفوا ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ﴾.

3 - يدعون الله عزّ وجلّ أن يقيهم من عذاب النّار ويغفر ذنوبهم ويمحي عنهم سيّئاتهم وأن يقبضهم إليه في جملة الأبرار ويسألونه الثّواب.

4 - يلبّون نداء الهداية الّذي أطلقه النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

5 - يؤكّدون ثقتهم بالله تعالى وإيمانهم بالمعاد يوم القيامة وأنّه سبحانه لن يخلف وعده.

وفي هذا السّياق يقول سبحانه: ﴿ حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونََ ﴾ (100) .

وقال أيضًا: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (101) .

 

روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: صفة العاقل أن يحلم عمّن جهل عليه ويتجاوز عمّن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق من فوقه في طلب البرّ، وإذا أراد أن يتكلّم تدبّر فإن كان خيرًا تكلّم فغنم وإن كان شرًّا سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهز بها، لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يُعرف بها العاقل (102) .

وعن عليّ (عليه السّلام) وقد سئل عن العاقل قال: هو الّذي يضع الشّيء مواضعه فقيل: فصف لنا الجاهل فقال: قد فعلت.

 

 

 

يقول الله سبحانه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ (103) .

ذكر للحكمة معانٍ كثيرة منها: معرفة أسرار عالم الوجود، ومعرفة حقائق القرآن والوصول إلى الله بالقول والعمل، وأخيرًا معرفة الله، بهذه كلّها تنطوي تحت المعنى الواسع للحكمة.

وإذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير لا الخير المطلق، لأنّ السّعادة والخير المطلق ليسا في العلم وحده بل العلم هم عامل لهما.

﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ ﴾.

التّذكّر هو حفظ العلوم والمعارف في داخل الرّوح.

والألباب جمع لبّ وهو قلب كلّ شيء ومركزه ولهذا قيل للعقل اللّبّ.

تقول هذه الفقرة من الآية أنّ أصحاب العقول هم الّذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكّرونها، لأنّهم يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها السّاطع.

 

 

 

يقول الله سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ (104) .

ومفاده أنّهم طالبوا الحقّ والرّشد فهم يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقًّا، وخوفًا أن يفوتهم شيء منه.

هؤلاء هم ذوو العقول ويستفاد منه أنّ العقل هو الّذي به الاهتداء إلى الحقّ وآيته صفة اتباع الحقّ.

 

 

 

لقد استدلّ القرآن الكريم لإثبات بعض حقائقه ومواضيعه وأتى بالبراهين والحجج لكي يحرّك عقولنا، ويدفعنا إلى التّفكير ويحملنا على التّدبر والنّظر.

ولقد جرت سيرة الرّسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) على البرهنة والاستدلال كذلك.

ولهذا يجب أن لا نتردّد أو نشكّ في حجّيّة الأدلّة العقليّة ولكنّنا مع ذلك لا ندّعي قطّ أنّ الأدلّة العقليّة لا تخطئ أبدًا، بل كما أنّ الحواسّ يجوز عليها الخطأ والاشتباه، كذلك قد يخطئ الإنسان في استدلالاته العقليّة أيضًا.

ولكن يجب أن لا نتّخذ موارد الخطأ دليلاً على عدم حجّيّة الأدلّة العقليّة وكاشفيّتها، بل يجب أن نفتّش عن علل الخطأ ونتجنّبها وعلم « المنطق » هو الّذي يتكفّل هذا الأمر وقد دوّن لهذا الغرض.

وعلى هذا الأساس يمكن إثبات بعض الحقائق عن طريق العقل والتّفكر، وإقامة البراهين العقليّة، والإيمان بها عن يقين: مثل: أصل وجود الله، وصفاته، وأصل المعاد، وحشر الأموات والعقوبات والمثوبات الأخرويّة، ومثل أصل ضرورة بعث النّبيّ، وبعض صفاته.

ففي هذه الموارد يمكن الاستفادة من العقل والأدلّة العقليّة والإيمان بها عن يقين.

ولكن لا يمكن الاستفادة من الأدلّة العقليّة في جميع المعارف: فمثلاً لا يمكن اكتشاف خصوصيّات وتفاصيل القيامة وعالم البرزخ، وصحيفة الأعمال والحساب، والميزان، والصّراط، ونعم الجنّة وعذاب الجحيم عن طريق العقل، بل لا بدّ في مثل هذه الموارد من الرّجوع إلى ما ورد لها في القرآن والأحاديث من وصف ولا يطلب في الإيمان بها أكثر من هذا المقدار.

 

 

 

قال الله سبحانه: ﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (105) .

يعني لو كنّا نسمع سمع من يعي ويفكّر ويعقل عقل من يميّز وينظر ما كنّا من أهل النّار.

وفي الحديث عن ابن عمر أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال إنّ الرّجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصّلاة والصّيام وممّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وما يجزى يوم القيامة إلا على قدر عقله.

وعن أنس بن مالك قال: أثنى قوم على رجل عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كيف عقل الرّجل قالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال: إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر وإنّما يرتفع العباد غدًا في الدّرجات وينالون الزّلفى من ربهم على قدر عقولهم (106) .

وعن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام): قال: لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال: « وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحبّ أمَا إنّي إياك آمر وإيّاك أنهى، (وإياك أعاقب)، وإيّاك أثيب » (107) .

 

 

 

يقول الله سبحانه: ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (108) .

يعني لكي تعقلوا ما أمركم الله تعالى به فتحلّلوا ما حلّله لكم وتحرّموا ما حرّمه عليكم.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (109) .

يعني أمثال القرآن الكريم ما يفهمها إلا من يعلم وجه الشّبه بين المثل والممثّل به وقيل ما يعقل الأمثال إلا العلماء الّذين يعقلون عن الله تعالى.

وروى الواحديّ بالإسناد عن جابر قال: تلا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية وقال: العالم الّذي عقل عن الله فعمل لطاعته واجتنب سخطه.

 

 

 

عن ابن عبّاس قال: قال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « لكلّ شيء آلة وعدّة وإنّ آلة المؤمن وعدّته العقل، ولكلّ شيء مطيّة ومطيّة المرء العقل، ولكلّ شيء دعامة ودعامة الدّين العقل، ولكلّ قوم غاية وغاية العباد العقل، ولكلّ قوم راعٍ وراعي العابدين العقل، ولكلّ تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل، ولكلّ خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل، ولكلّ امرىء عقب ينسب إليه ويذكر به وعقب الصّدّيقين الّذين ينسبون إليه ويذكرون به العقل، ولكلّ سفر فسطاط وفسطاط المؤمنين العقل » (110) .

 

 

 

عن عبد الله بن سنان قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السّلام): رجلاً مبتلى بالوضوء والصّلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله (عليه السّلام): وأيّ عقل وهو يطيع الشّيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشّيطان؟ فقال: سله هو الّذي يأتيه أيّ شيء هو فإنّه يقول لك: من عمل الشّيطان (111) .

 

 

 

قصّة الثّواب على قدر العقل (المقصود منها أخذ العبرة).

روي عن محمّد بن سليمان عن أبيه: قال: قلت لأبي عبد الله الصّادق (عليه السّلام): فلان من عبادته ودينه وفضله كذا وكذا قال: فقال كيف عقله؟ فقلت لا أدري، فقال: إنّ الثّواب على قدر العقل، إنّ رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله عزّ وجلّ في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشّجر طاهرة الماء، وإنّ ملكًا من الملائكة مرّ به، فقال: يا ربّ أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله عزّ وجلّ ذلك، فاستقلّه الملك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسيّ فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغنا مكانك وعبادتك بهذا المكان فجئت لأعبد معك فكان معه يومه ذلك، فلمّا أصبح قال له الملك: إنّ مكانك لنزهة، قال: ليت لربّنا بهيمة، فلو كان لربّنا حمار لرعيناه في هذا الموضع فإنّ هذا الحشيش يضيع، فقال له الملك: وما لربّك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش! فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الملك إنّما أثيبه على قدر عقله (112) .

نختم هذا البحث بقول أمير المؤمنين (عليه السّلام): « رأيت العقل عقلَيْن فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشّمس وضوء العَيْن ممنوع ».

 

 


العلم في القرآن الكريم


 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ (113) .

يعني لا يستوي الّذين يعلمون ما وعد الله سبحانه من الثّواب والعقاب والّذين لا يعلمون ذلك، إعلم أنّه من أراد الوصول إلى جوار الله تعالى والتّوجّه نحوه كما قال سبحانه: ﴿ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ﴾ وكما أشار إليه النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله « سافروا تغنموا » فحقّه أن يجعل أنواع العلوم كزادٍ موضوع في منازل السّفر فيتناول في كلّ منزل قدر البلغة ولا يعرج على تفصّيه واستغراق ما فيه فإنّه لو قضى الإنسان جميع عمره في فنٍّ واحد لم يدرك قعره ولم يسبر غوره وقد نبّهنا الباري سبحانه على ذلك بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ (114) .

وقال أمير المؤمنين (عليه السّلام): العلم كثير فخذوا من كلّ شيء أحسنه، وقال الشّاعر:

قالوا خذ العَيْن من كلّ فقلت لهم

في العَيْن فضل ولكن ناظر العَيْن

وقال بعض الحكماء في ذلك: إنّ الشّجرة لا يشينها قلّة الحمل إذا كانت ثمرتها يانعة، ويجب أن لا يخوض في فنّ حتّى يتناول من الفنّ الّذي قبله بُلغته ويقضي منه حاجته، فازدحام العلم في السّمع مضلّة للفهم، وعليه يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (115) .

أيْ لا إخلالٍ بالتّرتيب والفهم والعمل وكثير من النّاس ثكلوا الوصول بتركهم الأصول. وحق الطّالب أن يكون قصده من كلّ علم يتحرّاه التّبلّغ به إلى ما فوقه حتّى يبلغ به النّهاية، والنّهاية هي معرفة الله سبحانه فالعلوم كلّها خدم لها وهي حرّة، وروي أنّه رُئيت صورة حكمَيْن من الحكماء في بعض مساجدهم وفي يد أحدهما رقعة فيها « إن أحسنت كلّ شيء فلا تظنّن أنّك أحسنت شيئًا حتّى تعرف الله وتعلم أنّه مسبّب الأسباب وموجد الأشياء » وفي يد الآخر « كنت قبل أن أعرف الله أشرب وأظمأ حتّى إذا عرفته رويت بلا شرب » بل قد قال الله تعالى ما قد أشار به إلى ما هو أبلغ من حكمة كلّ حكيم.

﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ (116) .

أيْ اعرفه تمام المعرفة ولم يقصد بذلك أن يقول ذلك قولاً بالّلسان اللّحميّ فذلك قليل الغنا ما لم يكن عن طويّة خالصة ومعرفة حقيقيّة وعلى ذلك قال عليه الصّلاة والسّلام: من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنّة.

 

 

 

من صفات الله عزّ وجلّ العَليمُ والعالِمُ والعَلاّم، قال الله عزّ وجلّ: ﴿ وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ﴾ وقال: ﴿ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ وقال: ﴿ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ فهو الله العالِمُ بما كان وما يكونُ قبل كونِهِ، وبما يكونُ ولمّا يكن بعدُ قبلَ أن كان وما يكون ولا يخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السّماء سبحانه وتعالى، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها دقيقها وجليلها، على أتمّ الإمكان.

وعليم فعيل: من أبنية المبالغة ويجوز أن يقال للإنسان الّذي علّمه الله علمًا من العلوم: عليم، كما قال يوسف للملك: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ وقال الله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾، وإنّهم هم العلماء، وكذلك صفة يوسف (عليه السّلام): كان عليمًا بأمر ربّه وأنّه واحدٌ ليس كمثله شيء إلى ما علّمه الله من تأويل الأحاديث الّذي كان يقضى به على الغيب.

فكان عليمًا بما علّمه الله.

والعلم: نقيض الجهل، وهو إدراك صور الأشياء وانطباعها في النّفس. علمَ علمًا الرّجل: حصلت له حقيقة العلم والشّيء: عرفه وتيقّنه وشعر به وأدركه.

العلم التّعليميّ: هو العلم الرّياضيّ كالحساب والمساحة والموسيقى.

العلم العمليّ: هو ما كان متعلّقًا بكيفيّة عمل فتطبّق فيه قواعد الفنون والعلوم ومبادؤها.

علم الفلك: علم يبحث به في مواقع الأجرام الفلكيّة وأبعادها ومادّتها ومدّة دورانها.

العلم اللّدنيّ: هو ما تعلّمه العبد من الله بالوحي من غير واسطة.

العلم النّظريّ: هو خلاف العمليّ، أيْ ما كان غير متعلّق بكيفيّة عمل.

العلوم المدوّنة: هي الّتي دوّنت في الكتب.

العلوم المتعارفة: هي المقدمّات البيّنة بنفسها في العلوم المدوّنة.

العلوم الآليّة: هي آلة لتحصيل غيرها كعلم المنطق.

العلوم العربيّة: هي العلوم المتعلّقة باللّغة العربيّة كالصّرف والنّحو والمعاني والبيان وتسمّى بعلم الأدب.

العلوم الشّرعيّة: هي العلوم المدوّنة الّتي تذكر فيها الأحكام الشّرعيّة العمليّة أو الاعتقاديّة وتسمّى بالعلوم الدّينيّة أيضًا كعلم الكلام والفقه.

العلوم الحقيقيّة: هي العلوم الّتي لا تتغيّر بتغيّر الملل والأديان كعلم الكلام وعلم المنطق.

العلوم الإلهيّة: هي الّتي تبحث عن الوجود المطلق من حيث - هو هو، وعمّا يتعلّق بأمور غير ماديّة كالواجب والممكن والعلّة والمعلول، ويدخل فيها البحث في الأرواح وفي الله، ويسمّى بالعلم الأعلى والفلسفة الأولى وعلم ما بعد الطّبيعة.

علم النّفس: بسيكولوجيا.

علم طبقات الأرض: جيولوجيا.

علم الحياة: بيولوجيا.

علم الاجتماع: سوسيولوجيا.

علم أعضاء البدن: مورفولوجيا.

ولقد أجاد من قال:

العلمُ أنفسُ شيءٍ أنت ذاخره

فلا تكن جاهلاً تستورث النَّدما

تعلّم العلمَ وأجلس في مجالسه

ما خاب قطّ لبيب جالس العلما

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (117) .

المراد أنت تعلم ما غاب وما بطن ونحن أنّما نعلم ما نشاهده، وفي الآية دلالة على إثبات المعاد والحشر والنّشر.

وفي هذا السّياق يقول سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (118) .

فعلم الإنسان بالنّسبة لمجهولاته كقطرة ببحر.

وقال عزّ وجلّ أيضًا: ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (119) .

فدلّ على أنّ هناك علمًا كثيرًا لم يؤت الانسان إلا قليلاً منه، فالله هو المحيط بكلّ خفايا الأمور، ولا يستطيع البشر مهما بلغ وعيهم وفطنتهم إلا أن يفهموا جانبًا من تلك الخفايا والمصالح.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ (120) .

فقد أخذ الله سبحانه ميثاقه من العلماء على أن يبيّنوا الحقّ وينشروا علمهم بين النّاس، وحثّهم على إظهار الحقّ وبيانه ونهى عن إخفائه وكتمانه ثمّ بيّن جزاء الّذين يكتمون آيات الله والحقائق الدّينيّة. وفي الآية دلالة على أنّ كتمان الحقّ مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم الكبائر وأنّ من كتم شيئًا من علوم الدّين وفعل مثل اليهود والنّصارى في كتمان الحقّ فهو مثلهم في عظم الجرم ويلزمه كما لزمهم الوعيد وقد روي عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: من سئل عن علم، يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار.

وفيها أيضًا دلالة على وجوب الدّعاء إلى التّوحيد والعدل لأنّ في كتاب الله تعالى ما يدلّ عليهما تأكيدًا لما في العقول من الأدلّة.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (121) .

معناه فهلاّ خرج إلى الجهاد من كلّ قبيلة جماعة ويبقى مع النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جماعة ليتفقّهوا في الدّين ويتعلّموا القرآن والسّنن والفرائض والأحكام فإذا رجعوا إلى أهلهم ورجع المجاهدون تعلّموا منهم ما تعلّموه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ألا إنّ الله يحبّ بغاة العلم (122) .

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (123) .

في هذه الآية دلالة على أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السّلام) دعَوَا لنبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بجميع شرائط النّبوّة لأنّ تحت التّلاوة الأداء وتحت التّعليم البيان وتحت الحكمة السُّنة، ودعَوَا لأمّته بالّّلطف الّذي لأجله تمسّكوا بكتابه وشرعه فصاروا أذكياء.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (124) .

يعني وما يفهمها إلا من يعلم وجه الشّبه بين المثل والممثّل به وقيل معناه وما يعقل الأمثال إلا العلماء الّذين يعقلون عن الله سبحانه وروى الواحديّ بالإسناد عن جابر قال: تلا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هذه الآية وقال: العالم الّذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.

وفي هذا السّياق يقول عزّ وجلّ: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (125) .

يعني أنّ للقرآن الكريم دلالات واضحات في صدور العلماء وهم النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنون به لأنّهم حفظوه ووعوه ورسخ معناه في قلوبهم.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (126) .

يعني من أوتي العلم يعلمون القرآن أنّه الحقّ لأنّهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه فيعلمون بالنّظر والاستدلال أنّه ليس من قبل البشر، فهؤلاء يقرّون أنّه يهدي إلى الحقّ.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (127) .

هذه موعظة رائعة للنّاس وخصوصًا للعلماء ومنهم علماء الفلك ليتّعظوا من الدّور المهمّ للشّمس والقمر في حياة الإنسان. فقد جعلهما سبحانه آيتَيْن من آياته وفيهما أعظم الدّلالات على وحدانيّته تعالى من وجوه كثيرة منها خلقهما وخلق الضّياء والنّور فيهما ودورانهما وقربهما وبعدهما ومشارقهما ومغاربهما وكسوفهما وفي بثّ الشّمس الشّعاع في العالم وتأثيرها في الحرّ والبرد وإخراج النّبات وطبخ الثّمار وفي تمام القمر وسط الشّهر ونقصانه في الطّرفَيْن ليتميّز أوّل الشّهر وآخره من الوسط كلّ واحد من ذلك نعمة عظيمة من الله سبحانه على خلقه، وهذه الآيات يبيّنها سبحانه ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ فيعطون كلّ آية حظّها من التّأمّل والتّدبّر.

 

 

 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (128) .

يختصّ علم السّاعة والآخرة والقيامة بالله عزّ وجلّ لأنّ ذلك من علم الغيب وقد يخبر سبحانه لأنبيائه وأوصيائه ببعضه.

 

 

 

يقول سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (129) .

بعد ذكر عدد من المحرّمات بيّن الله سبحانه أخيرًا أنّه حرّم القول عليه بغير علم.

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (130) .

عن ابن عبّاس يرفع الله تعالى الّذين أوتوا العلم من المؤمنين على الّذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم ومسابقتهم درجات في الجنّة وقيل درجات في مجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأمر الله سبحانه أن يقرّب العلماء من نفسه فوق المؤمنين الّذين لا يعلمون العلم ليبيّن فضل العلماء على غيرهم، وفي هذه الآية دلالة على فضل العلماء وجلالة قدرهم وقد ورد عن عليّ (عليه السّلام) من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة.

 

 

 

يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (131) .

القصّة باختصار: كان لموسى (عليه السّلام) بعد موته خلفاء من الأنبياء يقيمون أمر الله في بني إسرائيل الواحد تلو الآخر، ومن هؤلاء الخلفاء نبيّ ذكره القرآن، ولم يسمّه، ولكنّه كان في عهد داوود، كما يستفاد من الآيات، وقال كثير من المفسرين إنّه صمويل، وفي ذات يوم أتاه جماعة من بني إسرائيل، وقالوا له: أقم علينا أميرًا نصدر عن رأيه في تدبير الحرب ونقاتل معه في سبيل الله تعالى، فقال لهم نبيّهم - وكان قد سبر أحوالهم - إنّي أتوقّع تخاذلكم إذا كتب عليكم القتال، ودعيتم إلى الجهاد، قالوا كيف نتخاذل، وقد أخرجنا العدوّ من ديارنا، وحال بيننا وبين أبنائنا؟! فاستخار الله نبيّهم فيمن يصلح للقيادة فأوحى الله سبحانه: إنّي قد اخترت عليهم طالوت ملكًا، وقيل إنّه سمّي طالوت لطوله، ولمّا أخبرهم النّبيّ بأنّ الله قد اختار طالوت، قالوا: كيف يكون له الملك علينا وهو غير عريق النّسب، وفارغ اليد من المال؟!.

فقال النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ زعامة الجيش لا تحتاج إلى نسب ونشب، وإنّما تحتاج إلى الشّجاعة، والمعرفة بتصريف الأمور، والله سبحانه قد منح طالوت الكفاءة العلميّة والخلقيّة، والقدرة الجسميّة، وسائر مؤهّلات الزّعامة والرّئاسة، فقالوا: نريد معجزة تدلّ على مكانته هذه، قال: آية ذلك أن يعود إليكم التّابوت، تأتيكم به الملائكة بأمر الله تعالى. قيل: إنّ هذا التّابوت كان فيه بقيّة ألواح موسى وعصاه، وثيابه وشيء من التّوراة، وكان قد سلبهم إيّاه الفلسطينيّون في بعض المعارك الحربيّة، وقيل: بل رفعه الله إلى السّماء بعد وفاة موسى، ولمّا جاء التّابوت بمعجزة من الله سبحانه صحّت عندهم العلامة، وأمروا لطالوت بالسّلطان والقيادة.

وقادهم طالوت إلى جهاد عدوّهم، وأخبرهم بأنّهم سيمرّون على نهر يمتحن به اخلاص المخلصين منهم، فمن كان صابرًا محتسبًا فلا ينهل منه إلا بمقدار ما يأخذه باليد، فمن امتثل فهو المخلص الّذي يوثق به، أمّا الّذي ينهل، حتّى يرتوي فلا معوّل عليه في الحرب والجهاد، ولمّا مرّوا على النّهر عصوا كعادتهم، وشربوا إلا نفرًا قليلاً ثبتوا على الصّدق والإيمان.

ولمّا التقى الجمعان: بنو إسرائيل بقيادة طالوت، والفلسطينيّون بقيادة جالوت خاف أكثر الإسرائيليّين، وقالوا لطالوت: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده. وقال المؤمنون القليلون منهم الّذين لم يشربوا من النّهر ﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ، ودعوا الله سبحانه أن يمنحهم الصّبر والثّبات، والنّصر على العدوّ، فاستجاب لهم ربّهم بعد أن علم منهم العزم والصّدق في النّية، وقتل داوود جالوت، وانهزم العدو شرّ هزيمة، وصار لداوود بقتل جالوت من الصّيت والسّمعة ما ورث به ملك بني إسرائيل، وآتاه الله بعد ذلك النّبوّة، وأنزل عليه الزّبور، وعلّمه صنعة الدّروع، وعلوم الدّين، وفصل الخطاب كما قال تعالى: ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾.

هذا ملخّص ما دلّت عليه الآيات الكريمة، وأمّا العبرة من هذه القصّة وتدبّرها فهي أنّ الّذي تجب له القيادة من يتمتّع بالكفاءة العلميّة والخلقيّة، لا صاحب الحسب والنّسب، والجاه والمال، وأنّ النّصر والغلبة تكون بالصّبر والإيمان، لا بكثرة العدد، وأنّ السّبيل إلى معرفة الطّيّب والخبيث هي التّجربة والابتلاء.

 

 


الإيمان في القرآن الكريم


 

وقال تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ (132) .

الإيمان: عرّفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله: « الإيمان معرفة بالقلب وإقرار بالّلسان وعمل بالأركان » (133) .

 

 

 

لقد نفى الله تعالى في هذه الآية الإيمان عن الأعراب وأوضحه بأنّه لم يدخل في قلوبهم بعد وأثبت لهم الإسلام، ويظهر به الفرق بين الإيمان والإسلام بأنّ الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد والإسلام أمر قائم باللّسان والجوارح فإنّه الاستسلام والخضوع لسانًا بالشّهادة على التّوحيد والنّبوّة وعملاً بالمتابعة العمليّة ظاهرًا سواء قارن الاعتقاد بحقيّة ما شهد عليه وعمل به أو لم يقارن.

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين سُئل ما الإيمان؟: أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنّبيّين والبعث بعد الموت.

 

 

 

1 - التّوكّل على الله سبحانه.

2 - التّفويض إلى الله عزّ وجلّ.

3 - التّسليم لأمر الله تعالى.

4 - الرّضا بقضاء الله تبارك وتعالى.

 

 

 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (134) .

إنّ هذا السّؤال بالطّبع هو سؤال من لا يجد في قلبه أثرًا من نزول القرآن وكأنّه يذعن أنّ قلوب غيره كقلبه فيما يتلقّاه فيتفّحص عمّن أثر في قلبه نزول القرآن كأنّه يرى أنّ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدّعي أنّ القرآن يصلح كلّ قلب سواء كان مستعدًّا مهيّئًا للصّلاح أم لا وهو لا يذعن بذلك وكلّما تليت عليه سورة جديدة ولم يجد في قلبه خشوعًا لله سبحانه ولا ميلاً وحنانًا إلى الحقّ زاد شكًّا فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النّزول عن ذلك حتّى يستقرّ في شكّه ويزيد ثباتًا في نفاقه.

وقد فصّل الله سبحانه أمر القلوب وفرقّ بين قلوب المؤمنين والّذين في قلوبهم مرض فقال: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ وهم الّذين قلوبهم خالية عن النّفاق بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة ﴿ فَزَادَتْهُمْ ﴾ السّورة النّازلة ﴿ إِيمَاناً ﴾ فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّة والحقائق الإلهيّة وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان فالسّورة تزيد المؤمنين إيمانًا فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحًا ﴿ وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾.

 

 

 

« أفضل المؤمنين إيمانًا من إذا سأل أُعطي، وإذا لم يعط استغنى » (135) .

 

 

 

حديث شريف يقول: « علامات المؤمن خمسة » (136) .

أ - الورع في الخلوة.

ب - والصّدقة في القلّة.

ج - والصّبر عند المصيبة.

د - والحلم عند الغضب.

هـ  والصّدق عند الخوف.

 

يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « إنّ أعلى منازل الإيمان درجة واحدة من بلغ إليها فقد فاز وظفر، وهو أن ينتهي بسريرته في الصّلاح إلى أن لا يُبالي لها إذا ظهرت وألا يخاف عقابها إذا أُسترت » (137) .

 

 

 

ورد في حديث شريف أنّ « الإيمان ما كان في القلب » (138) .

 

 

 

يتفاضل النّاس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً فمنهم المجليّ السّباق في حلبة الإيمان ومنهم الواهن المتخلّف ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرّواية الكريمة.

قال حفيد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): « إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السّلّم يصعد منه مرقاة فلا يقولنّ صاحب الاثنَيْن لصاحب الواحد لسْتَ على شيء حتّى ينتهي إلى العاشرة فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره ».

 

 

 

ينقسم الإيمان إلى ثلاثة أنواع: فطريّ، ومستودع، وكسبيّ.

أ - فالفطريّ: هو ما كان هبة إلهيّة، قد فطر عليه الإنسان، كما في الأنبياء والأوصياء (عليهم السّلام)، فإنّهم المثل الأعلى في قوّة الإيمان وسموّ اليقين، لا تخالجهم الشّكوك، ولا تعروهم الوساوس.

ب - المستودع: هو ما كان صوريًّا طافيًا على اللّسان، سرعان ما تزعزعه الشّبه والوساوس كما في حديث شريف: « إنّ العبد يصبح مؤمنًا، ويمسي كافرًا ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا وقوم يعارون الإيمان ثمّ يلبسونه ويُسمّون المعارين ».

وقال (عليه السّلام): « إنّ الله تعالى جبل النّبيّين على نبوّتهم فلا يرتدّون أبدًا وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبدًا وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبدًا ومنهم من أعير الإيمان عارية، فإذا دعا وألحّ في الدّعاء مات على الإيمان ».

وهكذا تعقّب (عليه السّلام) على حديثَيْه السّالفَيْن بحديث ثالث يجعله مقياسًا للتّمييز بين الإيمان الثّابت في المستودع فيقول: « إنّ الحسرة والنّدامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الّذي هو عليه مقيم أنفع له أم ضرّ وحين سأل الرّاوي فبم يُعرف النّاجي من هؤلاء جعلت فداك ».

قال: « من كان فعله لقوله موافقًا، فأثبت له الشّهادة بالنّجاح ومن لم يكن فعله لقوله موافقًا فإنّما ذلك مستودع ».

ج - الكسبي: وهو الإيمان الفطريّ الطّفيف الّذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتّى تكامل وسمى إلى مستوى رفيع وله درجات ومراتب.

 

بعض الواصايا والنّصائح الباعثة على صيانة الجزء الفطريّ من الإيمان وتوفير الكسبيّ منه:

1 - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشّقاة والعصاة فإنّ الصّاحب متأثّر بصاحبه ومكتسب من سلوكه وأخلاقه كما قال الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ».

2 - ترك النّظر والاستماع إلى كتب الضّلال وأقوال المضلِّلين المولعين بتسميم أفكار النّاس وحرفهم عن العقيدة والشّريعة الاسلاميّتَيْن وإفساد قيم الإيمان ومفاهيمه في نفوسهم.

3 - ممارسة النّظر والتّفكّر في مخلوقات الله عزّ وجلّ، وما اتّصفت به من جميل الصّنع ودقّة النّظام، وحكمة التّدبير الباهرة المدهشة ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (139) .

4 - ومن موجبات الإيمان وتوفير رصيده جهاد النّفس وترويضها على طاعة الله تعالى وتجنّب معاصيه لتعمر النّفس بمفاهيم الإيمان وتشرق بنوره الوضّاء فهي كالمال الزّلال، لا يزال شفّافًا رقراقًا ما لم تكدّره الشّوائب فيغدو آنذاك آسنًا قاتمًا لا صفاء فيه ولا جمال، ولولا صدأ الذّنوب وأوضار الآثام الّتي تنتاب القلوب والنّفوس فتُجهّم جمالها وتخبّىء أنوارها لاستنار الأكثرون بالإيمان، وتألّقت نفوسهم بشعاعه الوهّاج ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (140) .

 

 

 

الجواب: روي عن حفيد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّ وجلّ: ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ وقال: ﴿ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً (141) .

ولو كان كلّه واحدًا لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، لاستوت النّعم فيه، لاستوى النّاس وبطل التّفضيل ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة وبالزّيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند الله وبالنّقصان دخل المفرّطون النّار.

 

 

 

روي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يسير في بعض مسيره فقال لأصحابه: يطّلع عليكم من بعض هذه الفجاج شخص ليس له عهد بأنيس منذ ثلاثة أيّام، فما لبثوا أن أقبل أعرابيّ قد يبس جلده على عظمه وغارت عَيْناه في رأسه واخضرّت شفتاه من أكل البقل، فسأل عن النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوّل الرّفاق حتّى لقيه فقال له: أعرض عليّ الإسلام.

فقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأنّي محمّد رسول الله.

قال: أقررت.

قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تصلّي الصّلوات وتصوم شهر رمضان.

قال: أقررت.

قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تحجّ بيت الله الحرام وتؤدّي الزّكاة.

قال: أقررت.

فتخلّف بعير الأعرابيّ ووقف النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسأل عنه فرجع النّاس في طلبه فوجدوه في آخر العسكر قد سقط خفّ بعيره في حفرة من حفر الجرذان فسقط فاندقّ عنق الأعرابيّ وعنق البعير وهما ميّتان، فأمر النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فضربت خيمة فغسّل فيها ثمّ دخل النّبيّ فكفّنه فسمعوا للنّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حركة فخرج وجبينه يترشّح عرقًا وقال: إنّ هذا الأعرابيّ مات وهو جائع وهو ممّن آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فابتدرته الحور العين بثمار الجنّة يحشون بها شدقه، هذه تقول يا رسول الله اجعلني في أزواجه وهذه تقول يا رسول الله اجعلني في أزواجه.

 

 

 

﴿ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾.

 

 


(81) سورة المؤمنون، الآية: 115.

(82) سورة يس، الآيتان: 77 - 81.

(83) سورة الحجّ، الآية: 5.

(84) سورة القيامة، الآيتان: 3 - 4.

(85) سورة الانفطار، الآيات: 1 - 5.

(86) سورة التّكوير، الآيات: 1 - 7.

(87) سورة الزّلزلة، الآيات:1 - 8.

(88) سورة القارعة، الآيات: 1 - 5.

(89) سورة الأعراف، الآية: 187.

(90) سورة الأحزاب، الآية: 63.

(91) سورة الأنبياء، الآية: 1.

(92) سورة ق، الآية: 42.

(93) سورة الاسراء، الآيتان: 13 - 14.

(94) سورة الكهف، الآية: 49.

(95) سورة الانشقاق، الآيات: 7 - 13.

(96) سورة البقرة، الآية: 259.

(97) سورة المؤمنون، الآيات: 78 - 80.

(98) سورة البقرة، الآية: 164.

(99) سورة آل عمران، الآيات: 190 - 194.

(100) سورة الجاثية، الآيات:1 - 5.

(101) سورة النّحل، الآية: 12.

(102) تحف العقول / 28.

(103) سورة البقرة، الآية: 269.

(104) سورة الزّمر، الآية: 18.

(105) سورة الملك، الآية: 10.

(106) أحاديث في الدّين والثّقافة الاجتماعيّة: ج 1، ص 105.

(107) بحار الأنوار/ ج 1، ص 96.

(108) سورة الأنعام، الآية: 151.

(109) سورة العنكبوت، الآية: 42.

(110) أخرجه الكراجكيّ في كنز الفوائد كما في البحار ج 1، ص 95.

(111) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ج1، ص 98.

(112) البحار: ج1، ص 84.

(113) سورة الزّمر، الآية: 9.

(114) سورة الزّمر، الآية: 18.

(115) سورة البقرة، الآية: 121.

(116) سورة الأنعام، الآية: 91.

(117) سورة المائدة، الآية: 109.

(118) سورة البقرة، الآية: 206.

(119) سورة الإسراء، الآية: 85.

(120) سورة البقرة، الآية: 159.

(121) سورة التّوبة، الآية: 122.

(122) الكافي: 1/30/1.

(123) سورة البقرة، الآية: 129.

(124) سورة العنكبوت، الآية: 43.

(125) سورة العنكبوت، الآية: 49.

(126) سورة سبأ، الآية: 6.

(127) سورة يونس، الآية: 5.

(128) سورة الأعراف، الآية: 187.

(129) سورة الأعراف، الآية: 33.

(130) سورة المجادلة، الآية: 11.

(131) سورة البقرة، الآية: 247.

(132) سورة الحجرات، الآية: 14.

(133) البرهان في تفسير القرآن: ج13، ص 165.

(134) سورة التّوبة، الآية: 124.

(135)  ميزان الحكمة: ج1، ص 228.

(136) ألف حديث في المؤمن: ج1، ص 228.

(137) أمثال القرآن: ج 22، ص 6.

(138) ميزان الحكمة: ج1، ص189.

(139) سورة الذّاريات الآيتان:20 - 21.

(140) سورة الشّمس الآيات: 7 - 10.

(141) سورة الكهف، الآية: 13.